زائر
الشعور والإحساس والوعي
سواء كنا نتحدث عن أمواج الضوء التي تصطدم بالشبكية , أو أمواج الصوت التي تتذبذب في الأذن الداخلية , أو التأثيرات التي تتعرض لها الخلايا الموجودة في القناة الشمية بالأنف , فإن وابلاً من المعلومات يتساقط علينا باستمرار. وقد أدت عملية التطور مهمتها بحيث إنه عندما تعمل أعضاء الإحساس لدينا بصورة طبيعية , فستكون متكيفة بصورة متقنة لاستقبال هذه المعلومات . لكن الإحساس لا يتعلق بالمستقبلات الموجودة في العينين , والأذنين , والأنف , واللسان , والجلد , باقي أعضاء الإحساس . فنحن لا نحس فعلياً بأي شيء قبل أن تصدر إشارات من هذه الأعضاء وتصل إلى الجزء المعني من الدماغ .
ونحن كبشر لدينا الأجهزة التي تمكننا فقط من التقاط مجموعة منتقاة من المعلومات الخام التي تحيط بنا . ولمساعدتنا في التعرف على العالم من حولنا .
وفي الواقع نحن لا نشم الروائح فعلياً بأنوفنا , ولا نسمع بآذاننا ولا نرى بأعيننا . وإن أردنا الدقة , فنحن نحس بالعالم فقط عندما يترجم كل عضو من أعضاء الجسم المنبهات الخاصة به إلى سيالات كهربائية عصبية ترسل إلى مواضع متخصصة لها في الدماغ . وبطبيعة الحال , إذا أصاب التلف واحداً من أعضائنا الحسية , أو تلف مركز أحد مواضع استقبال السيالات الكهربائية المرسلة من العضو الموجودة في الدماغ , فسيؤثر ذلك على قدرتنا على تجربة هذا الإحساس .
ولكن إذا نحن دققنا أكثر نجد أن كل هذا غير كافي لحدوث الشعور والوعي بالأحاسيس , فواردات الحواس من الأعضاء الحسية إلى مركزها في الدماغ هي بالآلاف إن لم تكن بالملايين , والذي يتم اختياره وإدراكه والوعي به منها هو الذي يدخل أو يتم إدخاله إلى " ساحة الشعور " أو ما يسمى " بسبورة الوعي " وهو جزء صغير جداً من الذي يصل إلى مركز الحس المتعددة .
فالذي يصل من الأعضاء أو الأجهزة الحسية تجري عليه معالجة واختيار وتنظيم , ويمكن أن يجزأ ويعالج في عدة مركز في الدماغ , فالسيالات العصبية الكهربائية الآتية من العينين تجزأ وتذهب إلى عدة مراكز في الدماغ ويعالج كل منها على حدة , ثم تنظم وترسل إلى سبورة الوعي ليتم الشعور والوعي بها .
ويجب أيضاً أن يسمح لها بدخول سبورة الوعي , و إلا لن يتم الشعور بها , فنحن في أحيان كثيرة لا نعي أو لا نشعر بما تم وصوله من سيالات عصبية من العينين إلى الدماغ , نتيجة أمور أهم تجعلنا مدفوعين لوعيها والشعور بها , فحتى أقصى الآلام يمكن أن لا نشعر بها إذا كان هناك ما يهدد حياتنا أو أمور هامة جداً بالنسبة لنا يجب الانتباه إليها وتركيز الشعور والوعي بها .
" الفرق بين الإحساس الخام والإدراك الحسي , إن الإحساس هو ما يتكون لدينا من خبرة نتيجة تنبه الخلايا العصبية الكائنة في إحدى مناطق الدماغ الحسية , في حين أن الإدراك الحسي هو الإحساس مضافاً إليه شيء أكثر , أي تضاف إليه الخبرة الناجمة عن تنبيه الخلايا العصبية الموجودة في المناطق الأخرى في الدماغ .
فالإدراك الحسي , بعبارة أخرى , هو الإحساس المعزز بالذاكرة وبالصور المستمدة من الخبرة الماضية والناشئة عن التداعي . والإدراك الحسي يتأثر كثيراً بما يكون عليه انتباهنا أو تأملنا ورغبتنا وأهدافنا "
من كتاب - المدخل إلى علم النفس الحديث, تأليف ركس نايت ومرجريت نايت-
فالأحاسيس هي أجهزة الإنذار والإعلام لكل ما يتعرض له الكائن الحي من مؤثرات داخلية وخارجية.
إن أية مؤثرات - داخلية أم خارجية- تتعرض لها البنية الحية وتكون بقوة معينة ترد عليها هذه البنية باستجابة , وهذه الاستجابة تكون إما على شكل فعل وحركة أو استجابة كيميائية أو فزيولوجية , أو حسية , أو الاثنتان معاً .
فالإحساس هو نوع من الاستجابة للمؤثرات التي يتعرض لها الكائن الحي وهي استجابة إنذارية أو إعلامية .
وبالنسبة لنا نحن البشر لدينا أجهزة إحساس متطورة جداً ومعقدة , وذلك نتيجة امتلاكنا لجهاز عصبي متطور جداً ودماغ متطور .
فنحن لدينا أحاسيس أولية خام ولها أساس فزيولوجي موروث مجهزين بها عند ولادتنا وهي:
1_ أحاسيس إعلامية – تكون في أول الأمر محايدة- مثل الأحاسيس البصرية والسمعية و الشمية و اللمسية...
2_ أحاسيس الإنذار والتحذير- أحاسيس الألم- مثل الأحاسيس الناتجة عن التعرض للحروق والجروح والمواد المؤذية للجسم, والأحاسيس الدالة على حدوث اختلال في توازن من التوازنات الفزيولوجية للجسم , مثل أحاسيس الجوع والعطش, والبرد والحر ....., وهذه الأحاسيس دافعة وموجهة للفعل والعمل والاستجابة المناسبة.
3_أحاسيس اللذة والراحة والسعادة..... الناتجة عن إرواء أو تحقيق أحد الدوافع , مثل الأحاسيس الناتجة عن تناول الطعام بعد الجوع, أو شرب الماء بعد العطش..... وهذه الأحاسيس هي أيضاً دافعة للفعل والعمل والقيام بالاستجابة المناسبة.
4_أحساسات إعلامية وتحذيرية في نفس الوقت, وفي الواقع تتحول الأحاسيس الإعلامية المحايدة أثناء الحياة إلى أحاسيس تحذير أو ترغيب حسب الظروف المعاشة.
5_ الأحاسيس المرافقة للانفعالات وهي كثيرة ومتنوعة, مثل أحاسيس الحب والغيرة والخوف والحقد والغضب والزهو والفخر... الخ .
وبالإضافة إلى ذلك نجد عند الإنسان بشكل خاص أحاسيس جديدة تكونت نتيجة الحياة الاجتماعية والثقافية.
وتتفاعل هذه الأحاسيس مع بعضها عند حدوثها معاً, فتولد مشاعر ووعي متطوراً ومعقداً, والأحاسيس الأخلاقية والدينية والروحية والفكرية والفنية وباقي الأحاسيس الاجتماعية المتطورة هي مثال على ذلك.
ما هي الطرق التي تدخل بها المؤثرات ,أو التيارات العصبية , ساحة الشعور والوعي؟
هناك أولاً واردات الحواس وهي التيارات العصبية الآتية من المستقبلات الحسية الداخلية مثل الإحساس بالجوع أو العطش, والخوف وأحاسيس الانفعالات الكثيرة الأخرى... , والواردة من مستقبلات المؤثرات الخارجية, مثل النظر والسمع.... وباقي مستقبلات الحواس الأخرى للعالم الخارجي .
وهناك ثانياً واردات الذاكرة وهي التيارات العصبية الآتية من اللحاء وباقي أجزاء الدماغ وهي :
أ_ التداعي نتيجة الإشراط والارتباط أو التتابع الزمني.
ب_ التداعي نتيجة الارتباط للتشابه في التأثيرات أو المعنى- التشابه الذي يسمح بالتعميم-
ج_ الاستدعاء المخطط الإرادي الواعي , أي التفكير والتذكر , نتيجة المعالجات الفكرية الإرادية الواعية.
وكما ذكرنا هناك فرق بين ما ترسله أعضاء الحس أو المستقبلات الحسية , وبين ما يتم ألإحساس والشعور والوعي به فعلياً , وذلك نتيجة تفاعل هذين المصدرين واردات الحواس من جهة والتيارات العصبية الأخرى الواردة من بنيات الدماغ , وأسباب أخرى .
الأحاسيس الناتجة عن المستقبلات الحسية
إن المستقبلات الحسية هي محولات بيولوجية تحول المؤثرات الميكانيكية, والكهربائية , والضوئية , والصوتية , والكيميائية , والحرارية , والبيولوجية..., إلى سيالات أو تيارات كهر بائية عصبية .
وهناك حواس متكيفة مثل اللمس والشم ... وحواس غير متكيفة مثل السمع والبصر , والمستقبلات الحسية كثيرة جداً, والعلاقة بين شدة المنبه و شدة التيارات الكهربائية العصبية علاقة لوغارتمية أي غير خطية.
الأحاسيس تنشأ عند حدوث تغيرات في التأثيرات- هذا بشكل عام- على الكائن الحي , فهي تضخم وتوضح هذه التأثيرات, وبالمقابل تخفف هذه التأثيرات عند ثباتها, فهناك آليات للمقارنة والمفاضلة لواردات الحواس , وعندما يلحظ تبدل في التأثيرات على الحواس تتولد استجابة , وإذا لم يتم كشف أي تغير فالاستجابة تبقى ضعيفة أو معدومة- إن الحواس هي في الأساس مكشاف للتغيرات – , كما أن كافة المنظومات الحسية موجهة بشكل تفاقم الفروق في بيئتنا المحيطة, وتخفف الملامح الثابتة , ويتم تحقيق هذه المقارنة من حيث الأساس عند كافة مستويات المقارنة والتحليل عن طريق إضافة وطرح مدخلات العصبونات الفردية , وتوفر هذه المزاوجة ( المقارنة البسيطة نسبياً ببناء العمليات الإثارية (المثيرة) , والكافة ) , كامل القدرة الإحصائية الضرورية لتحليل الرسالة الحسية إلى ملامحها المكونة لها , وبالتالي تخفض الكمية الإجمالية للمعلومات التي تنقل الرسالة حين مرورها من مستوى إلى مستوى يليه.
" وبغض النظر عن أيها من الحواس هي المعنية , فإن وعينا وإدراكنا للحوادث الخارجية والداخلية هو نتاج من خطوات معالجة لمعلومات ضمن الجهاز العصبي المركزي .
ففي المقام الأول , يقوم مثير ما في شكل تبدل زماني أو مكاني في الطاقة الكهرومغناطيسية أو الميكانيكية أو الكيميائية بصدم مستقبل الحاسة التي تهيأت خصيصاً لكشفه , وفي المستقبل يتم تحويل التبدلات الطاقية - أو ترميزها- في شكل نبضات عصبية بشكل يحفظ المعلومات المتعلقة بالحادثة الإثارية ويتم نقل هذه الرسالة الحسية المتضمنة في الشيفرة العصبية عبر سلسلة محطات متوسطة إلى مستويات عليا من الجهاز العصبي المركزي , حيث تفك رموزها لتشكل أساس إدراكنا الواعي للحادثة الإثارية "
من كتاب " المدخل إلى علم النفس أن تايلور, وليديسلو سلاكن " .
"إحساسنا هو ذكاؤنا الأكثر فورية و عمقاً, فإن تماسه مباشر مع المحيط ويمتد من الصفر إلى اللا نهاية, وشئنا أم أبينا هو دائماً الذي يقرر. إن اختيارنا ينبع دائماً من الداخل , أو بالأحرى يتم الاختيار من داخلنا دون أن يكون لنا حيلة فيه , حتى وإن أردنا بإصرار ما هو عكسه , فلا حول ولا قوة لنا ضد الحياة الداخلية وضد الإحساس الذي يستشعر وينقل الرموز ويراقب ويقرر دون استشارة أي كان , إننا لا نعرف أبداً الأشياء والموجودات بعقلنا, وإنما تبعاً لإحساسنا. والأشياء كلها حيادية, ولكن إحساسنا (يشحنها) بهذه المعاني أو تلك. كافة الناس هم على حق فيما يتعلق بإحساساتهم
من كتاب " علم النفس الجديد وطرقه المدهشة "
المهاد و دوره الهام
" من بين مهام المهاد ضبط وظائف الجسم الهامة للحياة إن كانت شعورية أو لا شعورية- ضبط الضغط الشرياني- توازن سوائل الجسم- محتوى السوائل من الأملاح- التغذية- النشاط المعدي والمعوي- الافرازات للغدد الصم, وله علاقة وثيقة مع الجانب الانفعالي من الإحساسات, مثل اللذة والألم وبالتالي الثواب والعقاب.
فالتنبيه الكهربائي لمناطق معينة يجلب السرور والرخاء للحيوان, وتنبيه مناطق أخرى يسبب ألماً شديداً أو خوفاً أو دفاعاً أو هرباً, هناك مناطق ثواب وعقاب في المخ وفي المهاد المراكز الأساسية, والمراكز الأخرى في اللوزة والحاجز والعقد القاعدية وفي لحاء القاعدي للمخ المتوسط .
إن مراكز الثواب والعقاب تمثل بلا شك أحد أهم الضوابط في نشاط الإنسان , وقد وجد أن الخبرة الحسية التي لا تؤدي إلى أي من الثواب أو العقاب نادراً ما يتم تذكرها على الإطلاق , إن تكرار منبه خلال فترة من الزمن يؤدي إلى انطفاء شبه كامل لاستجابة اللحاء إذا كان هذا المنبه لا يستثير مراكز الثواب أو العقاب فالحيوان يصبح معتاداً على المنبه الحسي, ولكن إذا كان المنبه يؤدي إلى ثواب أو عقاب فإن استجابة اللحاء تصبح تدريجياً أكثر حدة بتكرار المنبه بدلاً من خمود الاستجابة - ويقال في هذه الحالة أن الاستجابة قد تدعمت أو تعززت- وعلى هذا فإن الحيوان يقيم آثار قوية لذكريات الخبرة التي تؤدي إلى الإثابة أو العقاب, فالثواب والعقاب , والعواطف والانفعالات , لهم علاقة كبيرة بالتعلم .
وفرس البحر- قرن آمون أو الحصين- يلعب دوراً في تقرير درجة انتباه الشخص , وله علاقة بالتعلم . يعتقد أنه يلعب دوراً في ربط الخصائص الانفعالية للخبرات الحسية , ثم يقوم بدوره بنقل المعلومات إلى مراكز الثواب والعقاب وغيرها من المراكز, ويقوم بربط الإشارات الحسية المختلفة الواردة بشكل يؤدي إلى استجابة مناسبة من المهاد "
من كتاب (علم النفس الفزيولوجي د. عزت سيد إسماعيل)
تسلسل أهمية الحواس وقوتها عند الولادة.
إن تسلسل أهمية الحواس عند الولادة , يجعل الألم هو الأهم والأوسع , وتأتي بعده في الأهمية حاسة اللمس , واللمس الفمي , والشم , والإحساس بالنعومة والدفء . ولمسات الأم وحنانها هي الأهم بالنسبة للمولود . فالأهمية والتركيز يكون على أحاسيس اللمس والذوق والشم ثم يلي ذلك السمع ثم البصر .
فالسعي للنعومة والدفء وثدي الأم وحنانها , وكذلك السعي لتحاشي أحاسيس ألم الجوع والعطش والانزعاج , هي أساس الاستجابات لدى الوليد.
ثم تأخذ الأحاسيس الصوتية والبصرية وغيرها والتي تكون محايدة المعنى في أول الأمر بالتحول إلى لذيذة ومفرحة أو مؤلمة, تنيجة الاشراطات والترابطات التي تنشأ .
وبعد ذلك تبدأ الأصوات تتحول إلى لغة ويكون لها التأثير الأهم والأوسع وتنافس أحاسيس اللمس وباقي الحواس.
ثم تنشأ أحاسيس الترقب والتوقع, وأحاسيس وانفعالات الحب والغيرة...الخ.
آليات عمل الحواس
إن آليات عمل الحواس والجهاز العصبي هي آليات مكممة محددة وليست احتمالية, فقد كممت بواسطة العتبة , وكمية, ونوعية, ومصدر التيار العصبي .
فالعتبة هي إما أن التفاعل الناتج عن المؤثر يحدث تياراً عصبياً ذو خصائص محددة ثابتة تابعة للمؤثر أو لا يحدث, أي أن تأثير المؤثر على مستقبلات الحواس إما أن يحدث الإثارة وبالتالي ينشأ تيار عصبي ويكون هذا التيار الناتج محدد الكمية والكيفية والمصدر, أولا يحدث .
وكذلك عمل الخلايا العصبية فهي إما أن تثار وتنتج تياراً عصبياً نتيجة ما يصلها من تيارات عصبية أو لا تثار ولا تنتج أي تيار عصبي- وهذا يشبه عمل الكومبيوتر تيار أو لا تيار, صفر أو واحد - .
إن عمل الحواس والجهاز العصبي هو عمل محدد ومكمم فيزيائياً , فليس هناك احتمال في عمل البنيات التحتية أي الكيميائية الفيزيائية لمستقبلات الحواس أو الجهاز العصبي , وهو مثل عمل باقي التفاعلات الفيزيائية أن كانت ميكانيكية أو كهربائية أو غيرها من التفاعلات الفيزيائية, فالإثارة أو التيارات العصبية إما أن تحدث أو لا تحدث , وهي ذات خصائص محددة في كل مرة .
بينما عمل الدماغ في بنياته العليا , في التعرف وبناء الأحكام والتفكير المتقدم , يمكن أن ينتج معرفة احتمالية- ولا مجال لتوضيح ذلك الآن- , فالتعرف و الدلالة على العالم الخارجي والأحكام التي تبنى أثناء المعالجات الفكرية هي تنبؤية احتمالية , وهذا نتيجة عدم التكميم الكامل للبنيات الفكرية , ولكن عندما تكمم بشكل تام كما في البنيات الفكرية الرياضية , عندها تصبح الأحكام غير احتمالية وذات صحة مطلقة .
تشبيه الأحاسيس بنغمات الآلات الموسيقية
إذا كان لدينا عدة عشرات من الآلات الموسيقية المختلفة من حيث طبيعتها وطبيعة الأصوات التي تصدرها, ولكل منها طريقة أو آلية تقرع أو تعزف بها , ويمكن أن يصدر كل منها صوتاً حسب طريقة ومدة العزف , ولكل منها عتبة معينة أو مقدار لازم من القوة والمدة لكي يصدر النغمات فإذا كانت المدة أو القوة قليلة أو الطريقة في العزف غير مناسبة فلن تصدر النغمات, وهناك خصائص و عطالة لكل آلة تحدد طريقة وزمن إصدار النغمات المتكرر فلا يمكن أن يكرر إصدار نغمة قبل مدة معينة وقبل وضع معين , وإننا نستطيع العزف على بعض الآلات بعدة طرق أو وسائل , وتكرار العزف على بعض الآلات يمكن أن يغير من خصائصها, وكذلك قلة العزف يمكن أن يغير من خصائصها, وهناك إمكانية للعزف على أي عدد من الآلات معاً, وهناك إمكانية خاصة وهي إمكانية جعل آلة تعزف عن طريق عمل آلة أخرى أو الآلات أخرى .
كذلك الأحاسيس يمكن اعتبارها آلات عزف وظيفتها أو دورها متنوع , فبعضها للإنذار والتنبيه أو للإعلام أو للتنبؤ, وبعضها للمكافأة واللذة وإحداث الفرح والسرور, وبعضها للألم والأحاسيس غير السارة وغير المرغوبة....الخ.
إن آلية عزف هذه - الآلات الحسية- تكون محددة وثابتة عند البدء باستعمالها- عند الولادة- ولكن بعد الاستعمال الكثير المتكرر تنشأ تداخلات وتأثيرات متبادلة فيما بينها, وتتغير وتتطور وتتعقد آليات العزف, وهذا يحدث باستمرار ولكنه ينتظم أو يميل إلى الانتظام والثبات مع الزمن وطول العمر, وهناك طريقتان لعزف هذه الآلات الحسية :
الأولى وهي الأساسية وتكون عن طريق مستقبلات الحواس.
والثانية تنشأ بعد ذلك نتيجة الحياة وهي العزف عن طريق الذاكرة أو مخزون اللحاء.
ويحدث تداخل وتأثير متبادل بين هاتين الطريقتين وتعملان معاً, فالذاكرة تؤثر على واردات الحواس وكذلك العكس, بالإضافة إلى أن معالجات الدماغ لها تأثير أيضاً .
" إن الحواس لا تشبه القنوات أبداً, بل هي بمثابة أجراس كهربائية. فكما أنه لا شبه بين حركة الأصابع المعتمدة على الزر وقرع الجرس, فكذلك لا شبه بين الإثارة التي تهيج طرف العصب وما يداخل الوعي من إحساسات من ذلك الطرف. إن عين النملة وعين الحرزون وعين الإنسان إذا وضعت ثلاثتهم بمثاقبة مشهد واحد وهيجت على صورة واحدة. أتت أولاها بإحساسات نملة والثانية بإحساسات حرزون والثالثة بإحساسات إنسان: الشأن في ذلك شأن الآلات الموسيقية الوترية التي تجيء ضربة القوس الواحد عليها بصوت يختلف من آلة لآلة,إذاً فلا عجب أن ندرك بحواسنا عالماً يختلف عن العالم الحقيقي "
من كتاب (الفلسفة العامة للدكتور حكمت هاشم)
عزف النغمات الحسية – الوعي -
إن مفاتيح النغمات الحسية موجودة غالبيتها في مستقبلات الحواس في اللحاء , أما النغمات فتحدث أو تطن في الدماغ , والتنظيم الشبكي هو المسؤول والمتحكم والمنظم لهذا العزف, وتشاركه في ذلك باقي بنيات الدماغ وبشكل خاص المهاد والنتوء أللوزي .
فالتنظيم الشبكي يبدأ عمله بعد الولادة- وعلى الأغلب قبل- فيقوم مع مشاركة باقي أجزاء الدماغ بتصنيف وتنظيم واردات مستقبلات الحواس, ويقوم بالتحكم بالانتباه والتركيز على المهم من هذه الواردات ويكف الباقي , ويتقرر المهم- المعنى- بناء على عمل وتقييم باقي بنيات الدماغ و وضع الجسم ككل .
ويقوم اللحاء, وتساعده بعض بنيات الدماغ بتخزين صور أو معلومات عن النغمات التي تعزف- بناء الذاكرة الواعية - ويبدأ اللحاء بعدها في المشاركة في إرسال نغمات من ما يخزن فيه إلى التنظيم الشبكي .
وعندما يتقدم الإنسان بالعمر تتطور قدرات التنظيم الشبكي على التحكم في عزف النغمات الأحاسيس الواردة أو المطلوبة – ألمستدعاة- من اللحاء, وذلك نتيجة الممارسة والتعلم, فالتنظيم الشبكي عندها يستطيع أن يقوم بعزف كم هائل من النغمات ودون مشاركة واردات الحواس, بالتفكير والتصور والتخيل والأحلام , وذلك بالاعتماد على مخزون اللحاء وباقي بنيات الدماغ- العقل ألحوافي وغيره في حالة الأحلام - .
إن النغمات التي يمكن أن تصدر من اللحاء ذات كم هائل ولا يمكن للتنظيم الشبكي استقبال وإذاعة إلا جزءاً صغيراً جداً ومحدوداً , وهو الذي يشكل الذاكرة العاملة أو سبورة الوعي , ويمكن وضع واردات من اللحاء أو من الحواس تكون ذات أهمية متوسطة في الانتظار ريثما ينتهي من معالجة الموجود في ساحة الشعور .
إذاً الذي يقوم باختيار وتنظيم وإدارة ما يضخم ويبث من أحاسيس- أي الوعي- هو التنظيم الشبكي , ويساعده المهاد والنتوء أللوزي والحصين , و العقل الواعي هو ناتج عمل التنظيم الشبكي , وعند تلف أو توقف التنظيم الشبكي ينتهي الوعي .
ففي النوم العميق دون أحلام والغيبوبة ألكاملة أثناء التخدير يكون التنظيم الشبكي مطفأً, ومتوقفاً عن البث وكذلك الوعي .
دور المؤثرات التي تدخل ساحة الوعي أو الشعور وتأثيرها الكبير
إن المؤثرات التي تدخل ساحة الشعور وتعالج فيها تأخذ أهمية استثنائية على باقي المؤثرات الأخرى وبغض النظر عن أهميتها ودورها و وظيفتها الحيوية أو القيمة الفعلية لها , وهذا راجع إلى أن معالجة هذه المؤثرات لا تأخذ بالحسبان باقي المؤثرات الأخرى التي لم تدخل ساحة الشعور , وهذا لأن المعالجة لهذه المؤثرات تكون بطريق غير مباشر, فهي تتم عن طريق الإشراطات والتعلم والتحكم بمنحى المعالجة .
ويمكن أثبات ذلك بالقيام بمعالجة وضعين متكافئين في النتيجة كل على حدة , مثل تقرير أي من الطريقين أفضل للوصول إلى مكان معين بمعالجة كل منهما بمفرده , إننا نجد أحياناً أن كل من الطريقين هو الأفضل, وهذا غير دقيق, فهذا يظهر انحياز النتيجة عند المعالجة في ساحة الشعور , فنحن نصل إلى نتيجة متناقضة هي أن كلاً من الطريقين هو الأفضل. ويمكن تفسير ذلك, بأن واردات الحواس أغلبها لا يدخل ساحة الشعور, فهي تعالج في مناطق الاستقبال لهذه الحواس في العقل الحوفي واللحاء ثم يرسل بعضها إلى ساحة الشعور, وأثناء ذلك ونتيجة الإشراطات والارتباطات المتكونة سابقاً, يحدث أن تعدل وتغير , أي أن واردات الحواس لا تصل إلى ساحة الشعور إلا بعد تعرضها للمعالجة والتعديل, وكذلك يدخل معها بعض المؤثرات- التيارات العصبية الأخرى والتي كانت قد ترابطت معها .
فأي صوت أو صورة أو رائحة أو كلمة..... أي مؤثر حسي لا يصل إلى ساحة الشعور بشكل خام , فهو يتعرض للتعديل والتغيير, ويمكن أن تدخل معه مؤثرات أخرى , وهذا ما ينتج أغلب الأخطاء والتناقضات في المعالجات الفكرية الواعية.
الأحاسيس والانفعالات القوية وتأثيرها على المعالجات الفكرية الدقيقة
إن الأحاسيس وخاصةً القوية والناتجة عن الانفعالات وكذلك الانفعالات, تحدث تأثيرات قوية على كافة بنيات الدماغ, وهذه التأثيرات تعيق أو تشوش أو تطمس الأحاسيس الفكرية الدقيقة والتي تكون غالباً ذات طاقة ضعيفة وهي بحاجة دوماً لرفع طاقتها , بالاعتماد على الأحاسيس المناسبة والتشجيع والمكافأة مثل اللذة الفكرية القوية والانفعال المصاحب لها أثناء إجراؤها.
ولا يمكن معالجة أفكار كثيرة ومتنوعة دون طاقة وقدرة عصبية كافية , فتوفر المخزون الكبير من المعلومات في الذاكرة وتوفر الآليات الفكرية المتطورة لمفاعلة المعلومات غير كاف , فهناك حاجة إلى قوى طاقة وقوى محركة كافية, بالإضافة إلى عدم حدوث تشويشات من باقي الأحاسيس القوية.
فهناك الكثير من العقول التي تملك مخزوناً هائلاً من المعلومات وتملك آليات معالجة فكرية متطورة ولكنها معرضة لضغوط وقوى أحاسيس وانفعالات غير ملائمة , فالآخرون والأوضاع المادية والاجتماعية تعيقهم عن إجراء معالجات فكرية وإنتاج أفكار ومعلومات متطورة . طبعاً هناك القدرة على التكيف مع الأوضاع الصعبة , ولكن يظل مردود تفكير الشخص الحساس والانفعالي يتأثر كثيراً بهذه الأوضاع.
ونحن نجد أن أغلب المفكرين العظام والحساسين جداً قد أنتجوا أفكارهم الهامة أثناء العزلة.
إذاً بما أن التفكير أو المعالجة الفكرية للبنيات الفكرية يعتمد على الإحساس والوعي بهذه الأفكار, فإن أي أحاسيس مرافقة لها سوف تؤثر على نتيجة هذه المعالجة, وخاصة إذا كانت هذه الأحاسيس والانفعالات قوية ومتضاربة معها, فعندها توقف المعالجة الفكرية , أو تسير بشكل غير جيد و خاطئ .
وكل منا لاحظ تأثير الانفعالات والعواطف والأحاسيس القوية على نتيجة تفكيره , ولكن أغلبنا لا يعلم أو لا ينتبه للتأثيرات التي دخلت في تفاعلات المعالجة الفكرية وغيرت النتيجة .
فالأم لن تحكم ضد ابنها في أغلب الحالات مهما كان خطأه واضحاً ومثبتاً فالتبرير له موجود دوماً, وهذا ناتج عن التأثيرات المرافقة , وكذلك عندما أحدهم يكره أو يحب شخصاً أو شيئاً فإن أحكامه أو نتيجة معالجته الفكرية سوف تكون متأثرة بهذا الكره أو الحب, وهناك الكثير من الأمثلة على التأثير الكبير للأحاسيس والانفعالات والعواطف المرافقة للتفكير.
الأحاسيس والحاجة إلى مثير, والتعود والعادة والإدمان على أحاسيس معينة
إن الأساس الفزيولوجي العصبي للتعود على وجبات معينة ، أو ممارسة ألعاب أو طقوس معينة .......الخ ، هو تكرار أحاسيس معينة ، والمحافظة على شكل وطبيعة هذه الأحاسيس ، وعدم الرضا بغيرها , أو إجراء تغيير كبير عليها .
إن الناس يختلفون من ناحية وجود فروق فردية بينهم من حيث المحافظة على السعي لأحاسيس معينة أو التجديد والتغيير والتنوع لهذه الأحاسيس ، نتيجة الاختلافات الفزيولوجية العصبية بسبب الوراثة أو التربية .
فالعادة والإدمان والمحافظة على الأوضاع ، وكذلك نقيضها التجديد والمغامرة والتنويع للأحاسيس , والملل من التكرار والرتابة .....الخ توجد بنسب متفاوتة بين الناس ، فهناك أناس يسعون إلى المحافظة والثبات على أحاسيس معينة وتكرارها ، و أناس آخرون يسعون إلى التجديد المستمر وتحاشي التكرار ويسعون لتنويع أحاسيسهم ، أي هناك من لا يمل ، وهناك من يمل ، وهناك من يمل بسرعة .
فالحاجة إلى مثير - الشهوة للمثير- أو إلى الأحاسيس موجودة لدى الجميع وبنسب متفاوتة ، وهي إما أن تكون تكراراً لأحاسيس معينة ، أو أن تكون تنويعاً وتجديداً وتغييراً .
ويجب أن نلاحظ أن الأساس الفزيولوجي للذكريات وطبيعة تأثيرها المضخم والمحور أحياناً ، له دور في السعي إلى تكرار ممارسة مثيرات معينة ، بالإضافة إلى العادة والتعود التي هي من خصائص آليات عمل الجهاز العصبي ، فالسعي للعودة إلى نفس الأماكن ونفس المثيرات والأحاسيس أو لنفس الأشخاص , والاشتياق إلى المثيرات والأحاسيس التي أحدثوها في الماضي له علاقة بالعادة والتعود ، وله آليته العصبية الخاصة به .
السعي لمشاركة الآخرين نفس الأحاسيس
إن أغلبنا يسعى لنقل أحاسيسه وأفكاره للآخرين , لأن إحداث نفس الطنين الحسي لدى الآخر يؤدي إلى حدوث تغذية عكسية موجبة تقوي هذه الأحساس , فعندما أشاهد منظراً جميلاً أو أسمع صوتاً جميلاً أو أتناول طعاماً شهياً... أسعى إلى من يشاركني هذه الأحاسيس, لأن مشاركة الآخر تعزز وتقوي إحساسي وتزيد من متعتي .
إن هذه الخاصية , زيادة قوة الأحاسيس نتيجة مشاركة الآخرين, ناتجة عن تغذية عكسية موجبة لطنينات الأحاسيس, كما في المجال الفيزيائي , والأحاسيس التي يشعر بها الإنسان يمكن أن تنتقل إلى الآخر بواسطة التعابير والإيحاءات واللغة .
إن كافة الفنون تنمو وتنتشر نتيجة هذه الخاصية, بالإضافة طبعاً إلى العوامل والدوافع الأخرى , المال والشهرة....
علاقة الدوافع بالأحاسيس والانفعالات
إن عمل الدوافع يتحقق من خلال التحكم بالاستجابات الحركية والحسية - وخاصة المفيد والضار , واللذة والألم - فالدافع لآلية معينة أو لسلوك معين ينتج عن طريق التحكم بالاستجابات التي تحصل ومعالجتها .
فظهور دافع الجوع يلاحظ من خلال تغير الاستجابات الخاصة بالطعام وهذا راجع إلى الأوضاع الكيميائية والفزيولوجية للجسم . فانخفاض وارتفاع شدة الاستجابة وتغير الأحاسيس من لذة إلى ألم أو العكس هو ما يظهر الدافع في ساحة الشعور , ولكن ما هي الآلية التي تتحكم بتغير الاستجابات وبتغير الأحاسيس ؟
كيف يحدث خفض أو رفع و تعديل الاستجابات , أو نشوء استجابات جديدة ؟
كيف يحدث تغيير الأحاسيس لنفس المؤثرات ؟
فالحيوان الذي أكل حتى منتهى الشبع يعاف الطعام ويمكن أن يسبب له الألم إذا أجبر عليه بعد أن كان مصدر لذة أثناء الجوع .
إن الأحاسيس الخاصة باللذة والألم- الممتع والمؤلم- بشكل خاص هي التي تتأثر نتيجة إرواء الدوافع . أما الأحاسيس الإخبارية مثل السمع والبصر .... فهي تتأثر ولكن بشكل بسيط أو غير مباشر, وذلك عن طريق زيادة أو خفض التركيز والانتباه على الهام منها ودوره في تحقيق الدافع , فالحيوانات الصيادة ترتفع حساسية حواسها الإخبارية نظر وسمع .... المرتبطة بالصيد عندما تقوم بالصيد بعد شعورها بالجوع , وتعود هذه الحواس إلى طبيعتها بعد الصيد والشبع .
إذاً هناك تحكم في شدة واتجاه الاستجابات والأحاسيس يحدث بآلية معينة ، فهناك تحكم بمقدار ونوعية واتجاه الاستجابة لنفس المؤثرات نتيجة الوضع الكلي للكائن الحي .
فالاستجابات لنفس المؤثرات ليست ثابتة ومحددة بل هي تابعة لوضع الكائن الحي الكلي ، فالنار المؤلمة التي تدفع الإنسان للهرب منها كاستجابة ، يمكن أن يقترب منها ويتعرض لها كاستجابة إذا كان الوضع الكلي يستدعي ذلك كإنقاذ الإنسان لابنه أو ممتلكاته، وذلك نتيجة تكون استجابة أقوى من استجابة الهرب تدفع بذلك الإنسان إلى الاقتراب بدل الابتعاد .
إذاً الإشراط والكف والتحكم بالاستجابات و بناء على المقارنة والتقييم و المفاضلة , لما هو مفيد أو ضار هو ما يقرر سلوك الكائن الحي .
والتعلم والتذكٌر والتفكير يبنى على الإشراط والكف ,الذي هو اشراط جديد . بالإضافة للتقييم والتحكم بالاستجابات والدوافع , ونحن نلاحظ تأثير المعارف و الإعلام على التحكم بالاستجابات ، فالإعلام بكافة أشكاله مسموع, مكتوب , مرئي ..., يهدف إلى التحكم بالاستجابات وبالتالي بالدوافع .
ماذا سيحدث للأحاسيس البشرية وبشكل خاص للوعي ؟
على الأغلب سوف تتوسع مجالاتها وأنواعها وكميتها ، وسوف تنتظم وتتوافق مع المفيد والواجب والضروري لاستمرار وتطور البنيات المتفاعلة ( أغلبها إن لم يكن جميعها ) ولكن أين ستتوضع تلك الأحاسيس ؟
هل ستبقى متوضعة في العقول الفزيولوجية الحية ، أم ستتوضع في العقول الالكترونية ، أم في عقول مشتركة حيوية الكترونية ؟
الاحتمال الأكبر هو الأخير .
ماذا سيحدث للتيارات العصبية الحسية المؤلمة ؟
على الأغلب سوف تعدل وتخفف ، وسيتم السيطرة التامة عليها ، ولكن سوف يحافظ عليها من أجل وظيفتها الهامة (الحماية والإنذار والتوجيه ) ، بالإضافة إلى أنها ضرورية لإنتاج الأحاسيس اللذيذة (ربما يتعدل هذا فيما بعد وتصبح غير ضرورية ) .
سواء كنا نتحدث عن أمواج الضوء التي تصطدم بالشبكية , أو أمواج الصوت التي تتذبذب في الأذن الداخلية , أو التأثيرات التي تتعرض لها الخلايا الموجودة في القناة الشمية بالأنف , فإن وابلاً من المعلومات يتساقط علينا باستمرار. وقد أدت عملية التطور مهمتها بحيث إنه عندما تعمل أعضاء الإحساس لدينا بصورة طبيعية , فستكون متكيفة بصورة متقنة لاستقبال هذه المعلومات . لكن الإحساس لا يتعلق بالمستقبلات الموجودة في العينين , والأذنين , والأنف , واللسان , والجلد , باقي أعضاء الإحساس . فنحن لا نحس فعلياً بأي شيء قبل أن تصدر إشارات من هذه الأعضاء وتصل إلى الجزء المعني من الدماغ .
ونحن كبشر لدينا الأجهزة التي تمكننا فقط من التقاط مجموعة منتقاة من المعلومات الخام التي تحيط بنا . ولمساعدتنا في التعرف على العالم من حولنا .
وفي الواقع نحن لا نشم الروائح فعلياً بأنوفنا , ولا نسمع بآذاننا ولا نرى بأعيننا . وإن أردنا الدقة , فنحن نحس بالعالم فقط عندما يترجم كل عضو من أعضاء الجسم المنبهات الخاصة به إلى سيالات كهربائية عصبية ترسل إلى مواضع متخصصة لها في الدماغ . وبطبيعة الحال , إذا أصاب التلف واحداً من أعضائنا الحسية , أو تلف مركز أحد مواضع استقبال السيالات الكهربائية المرسلة من العضو الموجودة في الدماغ , فسيؤثر ذلك على قدرتنا على تجربة هذا الإحساس .
ولكن إذا نحن دققنا أكثر نجد أن كل هذا غير كافي لحدوث الشعور والوعي بالأحاسيس , فواردات الحواس من الأعضاء الحسية إلى مركزها في الدماغ هي بالآلاف إن لم تكن بالملايين , والذي يتم اختياره وإدراكه والوعي به منها هو الذي يدخل أو يتم إدخاله إلى " ساحة الشعور " أو ما يسمى " بسبورة الوعي " وهو جزء صغير جداً من الذي يصل إلى مركز الحس المتعددة .
فالذي يصل من الأعضاء أو الأجهزة الحسية تجري عليه معالجة واختيار وتنظيم , ويمكن أن يجزأ ويعالج في عدة مركز في الدماغ , فالسيالات العصبية الكهربائية الآتية من العينين تجزأ وتذهب إلى عدة مراكز في الدماغ ويعالج كل منها على حدة , ثم تنظم وترسل إلى سبورة الوعي ليتم الشعور والوعي بها .
ويجب أيضاً أن يسمح لها بدخول سبورة الوعي , و إلا لن يتم الشعور بها , فنحن في أحيان كثيرة لا نعي أو لا نشعر بما تم وصوله من سيالات عصبية من العينين إلى الدماغ , نتيجة أمور أهم تجعلنا مدفوعين لوعيها والشعور بها , فحتى أقصى الآلام يمكن أن لا نشعر بها إذا كان هناك ما يهدد حياتنا أو أمور هامة جداً بالنسبة لنا يجب الانتباه إليها وتركيز الشعور والوعي بها .
" الفرق بين الإحساس الخام والإدراك الحسي , إن الإحساس هو ما يتكون لدينا من خبرة نتيجة تنبه الخلايا العصبية الكائنة في إحدى مناطق الدماغ الحسية , في حين أن الإدراك الحسي هو الإحساس مضافاً إليه شيء أكثر , أي تضاف إليه الخبرة الناجمة عن تنبيه الخلايا العصبية الموجودة في المناطق الأخرى في الدماغ .
فالإدراك الحسي , بعبارة أخرى , هو الإحساس المعزز بالذاكرة وبالصور المستمدة من الخبرة الماضية والناشئة عن التداعي . والإدراك الحسي يتأثر كثيراً بما يكون عليه انتباهنا أو تأملنا ورغبتنا وأهدافنا "
من كتاب - المدخل إلى علم النفس الحديث, تأليف ركس نايت ومرجريت نايت-
فالأحاسيس هي أجهزة الإنذار والإعلام لكل ما يتعرض له الكائن الحي من مؤثرات داخلية وخارجية.
إن أية مؤثرات - داخلية أم خارجية- تتعرض لها البنية الحية وتكون بقوة معينة ترد عليها هذه البنية باستجابة , وهذه الاستجابة تكون إما على شكل فعل وحركة أو استجابة كيميائية أو فزيولوجية , أو حسية , أو الاثنتان معاً .
فالإحساس هو نوع من الاستجابة للمؤثرات التي يتعرض لها الكائن الحي وهي استجابة إنذارية أو إعلامية .
وبالنسبة لنا نحن البشر لدينا أجهزة إحساس متطورة جداً ومعقدة , وذلك نتيجة امتلاكنا لجهاز عصبي متطور جداً ودماغ متطور .
فنحن لدينا أحاسيس أولية خام ولها أساس فزيولوجي موروث مجهزين بها عند ولادتنا وهي:
1_ أحاسيس إعلامية – تكون في أول الأمر محايدة- مثل الأحاسيس البصرية والسمعية و الشمية و اللمسية...
2_ أحاسيس الإنذار والتحذير- أحاسيس الألم- مثل الأحاسيس الناتجة عن التعرض للحروق والجروح والمواد المؤذية للجسم, والأحاسيس الدالة على حدوث اختلال في توازن من التوازنات الفزيولوجية للجسم , مثل أحاسيس الجوع والعطش, والبرد والحر ....., وهذه الأحاسيس دافعة وموجهة للفعل والعمل والاستجابة المناسبة.
3_أحاسيس اللذة والراحة والسعادة..... الناتجة عن إرواء أو تحقيق أحد الدوافع , مثل الأحاسيس الناتجة عن تناول الطعام بعد الجوع, أو شرب الماء بعد العطش..... وهذه الأحاسيس هي أيضاً دافعة للفعل والعمل والقيام بالاستجابة المناسبة.
4_أحساسات إعلامية وتحذيرية في نفس الوقت, وفي الواقع تتحول الأحاسيس الإعلامية المحايدة أثناء الحياة إلى أحاسيس تحذير أو ترغيب حسب الظروف المعاشة.
5_ الأحاسيس المرافقة للانفعالات وهي كثيرة ومتنوعة, مثل أحاسيس الحب والغيرة والخوف والحقد والغضب والزهو والفخر... الخ .
وبالإضافة إلى ذلك نجد عند الإنسان بشكل خاص أحاسيس جديدة تكونت نتيجة الحياة الاجتماعية والثقافية.
وتتفاعل هذه الأحاسيس مع بعضها عند حدوثها معاً, فتولد مشاعر ووعي متطوراً ومعقداً, والأحاسيس الأخلاقية والدينية والروحية والفكرية والفنية وباقي الأحاسيس الاجتماعية المتطورة هي مثال على ذلك.
ما هي الطرق التي تدخل بها المؤثرات ,أو التيارات العصبية , ساحة الشعور والوعي؟
هناك أولاً واردات الحواس وهي التيارات العصبية الآتية من المستقبلات الحسية الداخلية مثل الإحساس بالجوع أو العطش, والخوف وأحاسيس الانفعالات الكثيرة الأخرى... , والواردة من مستقبلات المؤثرات الخارجية, مثل النظر والسمع.... وباقي مستقبلات الحواس الأخرى للعالم الخارجي .
وهناك ثانياً واردات الذاكرة وهي التيارات العصبية الآتية من اللحاء وباقي أجزاء الدماغ وهي :
أ_ التداعي نتيجة الإشراط والارتباط أو التتابع الزمني.
ب_ التداعي نتيجة الارتباط للتشابه في التأثيرات أو المعنى- التشابه الذي يسمح بالتعميم-
ج_ الاستدعاء المخطط الإرادي الواعي , أي التفكير والتذكر , نتيجة المعالجات الفكرية الإرادية الواعية.
وكما ذكرنا هناك فرق بين ما ترسله أعضاء الحس أو المستقبلات الحسية , وبين ما يتم ألإحساس والشعور والوعي به فعلياً , وذلك نتيجة تفاعل هذين المصدرين واردات الحواس من جهة والتيارات العصبية الأخرى الواردة من بنيات الدماغ , وأسباب أخرى .
الأحاسيس الناتجة عن المستقبلات الحسية
إن المستقبلات الحسية هي محولات بيولوجية تحول المؤثرات الميكانيكية, والكهربائية , والضوئية , والصوتية , والكيميائية , والحرارية , والبيولوجية..., إلى سيالات أو تيارات كهر بائية عصبية .
وهناك حواس متكيفة مثل اللمس والشم ... وحواس غير متكيفة مثل السمع والبصر , والمستقبلات الحسية كثيرة جداً, والعلاقة بين شدة المنبه و شدة التيارات الكهربائية العصبية علاقة لوغارتمية أي غير خطية.
الأحاسيس تنشأ عند حدوث تغيرات في التأثيرات- هذا بشكل عام- على الكائن الحي , فهي تضخم وتوضح هذه التأثيرات, وبالمقابل تخفف هذه التأثيرات عند ثباتها, فهناك آليات للمقارنة والمفاضلة لواردات الحواس , وعندما يلحظ تبدل في التأثيرات على الحواس تتولد استجابة , وإذا لم يتم كشف أي تغير فالاستجابة تبقى ضعيفة أو معدومة- إن الحواس هي في الأساس مكشاف للتغيرات – , كما أن كافة المنظومات الحسية موجهة بشكل تفاقم الفروق في بيئتنا المحيطة, وتخفف الملامح الثابتة , ويتم تحقيق هذه المقارنة من حيث الأساس عند كافة مستويات المقارنة والتحليل عن طريق إضافة وطرح مدخلات العصبونات الفردية , وتوفر هذه المزاوجة ( المقارنة البسيطة نسبياً ببناء العمليات الإثارية (المثيرة) , والكافة ) , كامل القدرة الإحصائية الضرورية لتحليل الرسالة الحسية إلى ملامحها المكونة لها , وبالتالي تخفض الكمية الإجمالية للمعلومات التي تنقل الرسالة حين مرورها من مستوى إلى مستوى يليه.
" وبغض النظر عن أيها من الحواس هي المعنية , فإن وعينا وإدراكنا للحوادث الخارجية والداخلية هو نتاج من خطوات معالجة لمعلومات ضمن الجهاز العصبي المركزي .
ففي المقام الأول , يقوم مثير ما في شكل تبدل زماني أو مكاني في الطاقة الكهرومغناطيسية أو الميكانيكية أو الكيميائية بصدم مستقبل الحاسة التي تهيأت خصيصاً لكشفه , وفي المستقبل يتم تحويل التبدلات الطاقية - أو ترميزها- في شكل نبضات عصبية بشكل يحفظ المعلومات المتعلقة بالحادثة الإثارية ويتم نقل هذه الرسالة الحسية المتضمنة في الشيفرة العصبية عبر سلسلة محطات متوسطة إلى مستويات عليا من الجهاز العصبي المركزي , حيث تفك رموزها لتشكل أساس إدراكنا الواعي للحادثة الإثارية "
من كتاب " المدخل إلى علم النفس أن تايلور, وليديسلو سلاكن " .
"إحساسنا هو ذكاؤنا الأكثر فورية و عمقاً, فإن تماسه مباشر مع المحيط ويمتد من الصفر إلى اللا نهاية, وشئنا أم أبينا هو دائماً الذي يقرر. إن اختيارنا ينبع دائماً من الداخل , أو بالأحرى يتم الاختيار من داخلنا دون أن يكون لنا حيلة فيه , حتى وإن أردنا بإصرار ما هو عكسه , فلا حول ولا قوة لنا ضد الحياة الداخلية وضد الإحساس الذي يستشعر وينقل الرموز ويراقب ويقرر دون استشارة أي كان , إننا لا نعرف أبداً الأشياء والموجودات بعقلنا, وإنما تبعاً لإحساسنا. والأشياء كلها حيادية, ولكن إحساسنا (يشحنها) بهذه المعاني أو تلك. كافة الناس هم على حق فيما يتعلق بإحساساتهم
من كتاب " علم النفس الجديد وطرقه المدهشة "
المهاد و دوره الهام
" من بين مهام المهاد ضبط وظائف الجسم الهامة للحياة إن كانت شعورية أو لا شعورية- ضبط الضغط الشرياني- توازن سوائل الجسم- محتوى السوائل من الأملاح- التغذية- النشاط المعدي والمعوي- الافرازات للغدد الصم, وله علاقة وثيقة مع الجانب الانفعالي من الإحساسات, مثل اللذة والألم وبالتالي الثواب والعقاب.
فالتنبيه الكهربائي لمناطق معينة يجلب السرور والرخاء للحيوان, وتنبيه مناطق أخرى يسبب ألماً شديداً أو خوفاً أو دفاعاً أو هرباً, هناك مناطق ثواب وعقاب في المخ وفي المهاد المراكز الأساسية, والمراكز الأخرى في اللوزة والحاجز والعقد القاعدية وفي لحاء القاعدي للمخ المتوسط .
إن مراكز الثواب والعقاب تمثل بلا شك أحد أهم الضوابط في نشاط الإنسان , وقد وجد أن الخبرة الحسية التي لا تؤدي إلى أي من الثواب أو العقاب نادراً ما يتم تذكرها على الإطلاق , إن تكرار منبه خلال فترة من الزمن يؤدي إلى انطفاء شبه كامل لاستجابة اللحاء إذا كان هذا المنبه لا يستثير مراكز الثواب أو العقاب فالحيوان يصبح معتاداً على المنبه الحسي, ولكن إذا كان المنبه يؤدي إلى ثواب أو عقاب فإن استجابة اللحاء تصبح تدريجياً أكثر حدة بتكرار المنبه بدلاً من خمود الاستجابة - ويقال في هذه الحالة أن الاستجابة قد تدعمت أو تعززت- وعلى هذا فإن الحيوان يقيم آثار قوية لذكريات الخبرة التي تؤدي إلى الإثابة أو العقاب, فالثواب والعقاب , والعواطف والانفعالات , لهم علاقة كبيرة بالتعلم .
وفرس البحر- قرن آمون أو الحصين- يلعب دوراً في تقرير درجة انتباه الشخص , وله علاقة بالتعلم . يعتقد أنه يلعب دوراً في ربط الخصائص الانفعالية للخبرات الحسية , ثم يقوم بدوره بنقل المعلومات إلى مراكز الثواب والعقاب وغيرها من المراكز, ويقوم بربط الإشارات الحسية المختلفة الواردة بشكل يؤدي إلى استجابة مناسبة من المهاد "
من كتاب (علم النفس الفزيولوجي د. عزت سيد إسماعيل)
تسلسل أهمية الحواس وقوتها عند الولادة.
إن تسلسل أهمية الحواس عند الولادة , يجعل الألم هو الأهم والأوسع , وتأتي بعده في الأهمية حاسة اللمس , واللمس الفمي , والشم , والإحساس بالنعومة والدفء . ولمسات الأم وحنانها هي الأهم بالنسبة للمولود . فالأهمية والتركيز يكون على أحاسيس اللمس والذوق والشم ثم يلي ذلك السمع ثم البصر .
فالسعي للنعومة والدفء وثدي الأم وحنانها , وكذلك السعي لتحاشي أحاسيس ألم الجوع والعطش والانزعاج , هي أساس الاستجابات لدى الوليد.
ثم تأخذ الأحاسيس الصوتية والبصرية وغيرها والتي تكون محايدة المعنى في أول الأمر بالتحول إلى لذيذة ومفرحة أو مؤلمة, تنيجة الاشراطات والترابطات التي تنشأ .
وبعد ذلك تبدأ الأصوات تتحول إلى لغة ويكون لها التأثير الأهم والأوسع وتنافس أحاسيس اللمس وباقي الحواس.
ثم تنشأ أحاسيس الترقب والتوقع, وأحاسيس وانفعالات الحب والغيرة...الخ.
آليات عمل الحواس
إن آليات عمل الحواس والجهاز العصبي هي آليات مكممة محددة وليست احتمالية, فقد كممت بواسطة العتبة , وكمية, ونوعية, ومصدر التيار العصبي .
فالعتبة هي إما أن التفاعل الناتج عن المؤثر يحدث تياراً عصبياً ذو خصائص محددة ثابتة تابعة للمؤثر أو لا يحدث, أي أن تأثير المؤثر على مستقبلات الحواس إما أن يحدث الإثارة وبالتالي ينشأ تيار عصبي ويكون هذا التيار الناتج محدد الكمية والكيفية والمصدر, أولا يحدث .
وكذلك عمل الخلايا العصبية فهي إما أن تثار وتنتج تياراً عصبياً نتيجة ما يصلها من تيارات عصبية أو لا تثار ولا تنتج أي تيار عصبي- وهذا يشبه عمل الكومبيوتر تيار أو لا تيار, صفر أو واحد - .
إن عمل الحواس والجهاز العصبي هو عمل محدد ومكمم فيزيائياً , فليس هناك احتمال في عمل البنيات التحتية أي الكيميائية الفيزيائية لمستقبلات الحواس أو الجهاز العصبي , وهو مثل عمل باقي التفاعلات الفيزيائية أن كانت ميكانيكية أو كهربائية أو غيرها من التفاعلات الفيزيائية, فالإثارة أو التيارات العصبية إما أن تحدث أو لا تحدث , وهي ذات خصائص محددة في كل مرة .
بينما عمل الدماغ في بنياته العليا , في التعرف وبناء الأحكام والتفكير المتقدم , يمكن أن ينتج معرفة احتمالية- ولا مجال لتوضيح ذلك الآن- , فالتعرف و الدلالة على العالم الخارجي والأحكام التي تبنى أثناء المعالجات الفكرية هي تنبؤية احتمالية , وهذا نتيجة عدم التكميم الكامل للبنيات الفكرية , ولكن عندما تكمم بشكل تام كما في البنيات الفكرية الرياضية , عندها تصبح الأحكام غير احتمالية وذات صحة مطلقة .
تشبيه الأحاسيس بنغمات الآلات الموسيقية
إذا كان لدينا عدة عشرات من الآلات الموسيقية المختلفة من حيث طبيعتها وطبيعة الأصوات التي تصدرها, ولكل منها طريقة أو آلية تقرع أو تعزف بها , ويمكن أن يصدر كل منها صوتاً حسب طريقة ومدة العزف , ولكل منها عتبة معينة أو مقدار لازم من القوة والمدة لكي يصدر النغمات فإذا كانت المدة أو القوة قليلة أو الطريقة في العزف غير مناسبة فلن تصدر النغمات, وهناك خصائص و عطالة لكل آلة تحدد طريقة وزمن إصدار النغمات المتكرر فلا يمكن أن يكرر إصدار نغمة قبل مدة معينة وقبل وضع معين , وإننا نستطيع العزف على بعض الآلات بعدة طرق أو وسائل , وتكرار العزف على بعض الآلات يمكن أن يغير من خصائصها, وكذلك قلة العزف يمكن أن يغير من خصائصها, وهناك إمكانية للعزف على أي عدد من الآلات معاً, وهناك إمكانية خاصة وهي إمكانية جعل آلة تعزف عن طريق عمل آلة أخرى أو الآلات أخرى .
كذلك الأحاسيس يمكن اعتبارها آلات عزف وظيفتها أو دورها متنوع , فبعضها للإنذار والتنبيه أو للإعلام أو للتنبؤ, وبعضها للمكافأة واللذة وإحداث الفرح والسرور, وبعضها للألم والأحاسيس غير السارة وغير المرغوبة....الخ.
إن آلية عزف هذه - الآلات الحسية- تكون محددة وثابتة عند البدء باستعمالها- عند الولادة- ولكن بعد الاستعمال الكثير المتكرر تنشأ تداخلات وتأثيرات متبادلة فيما بينها, وتتغير وتتطور وتتعقد آليات العزف, وهذا يحدث باستمرار ولكنه ينتظم أو يميل إلى الانتظام والثبات مع الزمن وطول العمر, وهناك طريقتان لعزف هذه الآلات الحسية :
الأولى وهي الأساسية وتكون عن طريق مستقبلات الحواس.
والثانية تنشأ بعد ذلك نتيجة الحياة وهي العزف عن طريق الذاكرة أو مخزون اللحاء.
ويحدث تداخل وتأثير متبادل بين هاتين الطريقتين وتعملان معاً, فالذاكرة تؤثر على واردات الحواس وكذلك العكس, بالإضافة إلى أن معالجات الدماغ لها تأثير أيضاً .
" إن الحواس لا تشبه القنوات أبداً, بل هي بمثابة أجراس كهربائية. فكما أنه لا شبه بين حركة الأصابع المعتمدة على الزر وقرع الجرس, فكذلك لا شبه بين الإثارة التي تهيج طرف العصب وما يداخل الوعي من إحساسات من ذلك الطرف. إن عين النملة وعين الحرزون وعين الإنسان إذا وضعت ثلاثتهم بمثاقبة مشهد واحد وهيجت على صورة واحدة. أتت أولاها بإحساسات نملة والثانية بإحساسات حرزون والثالثة بإحساسات إنسان: الشأن في ذلك شأن الآلات الموسيقية الوترية التي تجيء ضربة القوس الواحد عليها بصوت يختلف من آلة لآلة,إذاً فلا عجب أن ندرك بحواسنا عالماً يختلف عن العالم الحقيقي "
من كتاب (الفلسفة العامة للدكتور حكمت هاشم)
عزف النغمات الحسية – الوعي -
إن مفاتيح النغمات الحسية موجودة غالبيتها في مستقبلات الحواس في اللحاء , أما النغمات فتحدث أو تطن في الدماغ , والتنظيم الشبكي هو المسؤول والمتحكم والمنظم لهذا العزف, وتشاركه في ذلك باقي بنيات الدماغ وبشكل خاص المهاد والنتوء أللوزي .
فالتنظيم الشبكي يبدأ عمله بعد الولادة- وعلى الأغلب قبل- فيقوم مع مشاركة باقي أجزاء الدماغ بتصنيف وتنظيم واردات مستقبلات الحواس, ويقوم بالتحكم بالانتباه والتركيز على المهم من هذه الواردات ويكف الباقي , ويتقرر المهم- المعنى- بناء على عمل وتقييم باقي بنيات الدماغ و وضع الجسم ككل .
ويقوم اللحاء, وتساعده بعض بنيات الدماغ بتخزين صور أو معلومات عن النغمات التي تعزف- بناء الذاكرة الواعية - ويبدأ اللحاء بعدها في المشاركة في إرسال نغمات من ما يخزن فيه إلى التنظيم الشبكي .
وعندما يتقدم الإنسان بالعمر تتطور قدرات التنظيم الشبكي على التحكم في عزف النغمات الأحاسيس الواردة أو المطلوبة – ألمستدعاة- من اللحاء, وذلك نتيجة الممارسة والتعلم, فالتنظيم الشبكي عندها يستطيع أن يقوم بعزف كم هائل من النغمات ودون مشاركة واردات الحواس, بالتفكير والتصور والتخيل والأحلام , وذلك بالاعتماد على مخزون اللحاء وباقي بنيات الدماغ- العقل ألحوافي وغيره في حالة الأحلام - .
إن النغمات التي يمكن أن تصدر من اللحاء ذات كم هائل ولا يمكن للتنظيم الشبكي استقبال وإذاعة إلا جزءاً صغيراً جداً ومحدوداً , وهو الذي يشكل الذاكرة العاملة أو سبورة الوعي , ويمكن وضع واردات من اللحاء أو من الحواس تكون ذات أهمية متوسطة في الانتظار ريثما ينتهي من معالجة الموجود في ساحة الشعور .
إذاً الذي يقوم باختيار وتنظيم وإدارة ما يضخم ويبث من أحاسيس- أي الوعي- هو التنظيم الشبكي , ويساعده المهاد والنتوء أللوزي والحصين , و العقل الواعي هو ناتج عمل التنظيم الشبكي , وعند تلف أو توقف التنظيم الشبكي ينتهي الوعي .
ففي النوم العميق دون أحلام والغيبوبة ألكاملة أثناء التخدير يكون التنظيم الشبكي مطفأً, ومتوقفاً عن البث وكذلك الوعي .
دور المؤثرات التي تدخل ساحة الوعي أو الشعور وتأثيرها الكبير
إن المؤثرات التي تدخل ساحة الشعور وتعالج فيها تأخذ أهمية استثنائية على باقي المؤثرات الأخرى وبغض النظر عن أهميتها ودورها و وظيفتها الحيوية أو القيمة الفعلية لها , وهذا راجع إلى أن معالجة هذه المؤثرات لا تأخذ بالحسبان باقي المؤثرات الأخرى التي لم تدخل ساحة الشعور , وهذا لأن المعالجة لهذه المؤثرات تكون بطريق غير مباشر, فهي تتم عن طريق الإشراطات والتعلم والتحكم بمنحى المعالجة .
ويمكن أثبات ذلك بالقيام بمعالجة وضعين متكافئين في النتيجة كل على حدة , مثل تقرير أي من الطريقين أفضل للوصول إلى مكان معين بمعالجة كل منهما بمفرده , إننا نجد أحياناً أن كل من الطريقين هو الأفضل, وهذا غير دقيق, فهذا يظهر انحياز النتيجة عند المعالجة في ساحة الشعور , فنحن نصل إلى نتيجة متناقضة هي أن كلاً من الطريقين هو الأفضل. ويمكن تفسير ذلك, بأن واردات الحواس أغلبها لا يدخل ساحة الشعور, فهي تعالج في مناطق الاستقبال لهذه الحواس في العقل الحوفي واللحاء ثم يرسل بعضها إلى ساحة الشعور, وأثناء ذلك ونتيجة الإشراطات والارتباطات المتكونة سابقاً, يحدث أن تعدل وتغير , أي أن واردات الحواس لا تصل إلى ساحة الشعور إلا بعد تعرضها للمعالجة والتعديل, وكذلك يدخل معها بعض المؤثرات- التيارات العصبية الأخرى والتي كانت قد ترابطت معها .
فأي صوت أو صورة أو رائحة أو كلمة..... أي مؤثر حسي لا يصل إلى ساحة الشعور بشكل خام , فهو يتعرض للتعديل والتغيير, ويمكن أن تدخل معه مؤثرات أخرى , وهذا ما ينتج أغلب الأخطاء والتناقضات في المعالجات الفكرية الواعية.
الأحاسيس والانفعالات القوية وتأثيرها على المعالجات الفكرية الدقيقة
إن الأحاسيس وخاصةً القوية والناتجة عن الانفعالات وكذلك الانفعالات, تحدث تأثيرات قوية على كافة بنيات الدماغ, وهذه التأثيرات تعيق أو تشوش أو تطمس الأحاسيس الفكرية الدقيقة والتي تكون غالباً ذات طاقة ضعيفة وهي بحاجة دوماً لرفع طاقتها , بالاعتماد على الأحاسيس المناسبة والتشجيع والمكافأة مثل اللذة الفكرية القوية والانفعال المصاحب لها أثناء إجراؤها.
ولا يمكن معالجة أفكار كثيرة ومتنوعة دون طاقة وقدرة عصبية كافية , فتوفر المخزون الكبير من المعلومات في الذاكرة وتوفر الآليات الفكرية المتطورة لمفاعلة المعلومات غير كاف , فهناك حاجة إلى قوى طاقة وقوى محركة كافية, بالإضافة إلى عدم حدوث تشويشات من باقي الأحاسيس القوية.
فهناك الكثير من العقول التي تملك مخزوناً هائلاً من المعلومات وتملك آليات معالجة فكرية متطورة ولكنها معرضة لضغوط وقوى أحاسيس وانفعالات غير ملائمة , فالآخرون والأوضاع المادية والاجتماعية تعيقهم عن إجراء معالجات فكرية وإنتاج أفكار ومعلومات متطورة . طبعاً هناك القدرة على التكيف مع الأوضاع الصعبة , ولكن يظل مردود تفكير الشخص الحساس والانفعالي يتأثر كثيراً بهذه الأوضاع.
ونحن نجد أن أغلب المفكرين العظام والحساسين جداً قد أنتجوا أفكارهم الهامة أثناء العزلة.
إذاً بما أن التفكير أو المعالجة الفكرية للبنيات الفكرية يعتمد على الإحساس والوعي بهذه الأفكار, فإن أي أحاسيس مرافقة لها سوف تؤثر على نتيجة هذه المعالجة, وخاصة إذا كانت هذه الأحاسيس والانفعالات قوية ومتضاربة معها, فعندها توقف المعالجة الفكرية , أو تسير بشكل غير جيد و خاطئ .
وكل منا لاحظ تأثير الانفعالات والعواطف والأحاسيس القوية على نتيجة تفكيره , ولكن أغلبنا لا يعلم أو لا ينتبه للتأثيرات التي دخلت في تفاعلات المعالجة الفكرية وغيرت النتيجة .
فالأم لن تحكم ضد ابنها في أغلب الحالات مهما كان خطأه واضحاً ومثبتاً فالتبرير له موجود دوماً, وهذا ناتج عن التأثيرات المرافقة , وكذلك عندما أحدهم يكره أو يحب شخصاً أو شيئاً فإن أحكامه أو نتيجة معالجته الفكرية سوف تكون متأثرة بهذا الكره أو الحب, وهناك الكثير من الأمثلة على التأثير الكبير للأحاسيس والانفعالات والعواطف المرافقة للتفكير.
الأحاسيس والحاجة إلى مثير, والتعود والعادة والإدمان على أحاسيس معينة
إن الأساس الفزيولوجي العصبي للتعود على وجبات معينة ، أو ممارسة ألعاب أو طقوس معينة .......الخ ، هو تكرار أحاسيس معينة ، والمحافظة على شكل وطبيعة هذه الأحاسيس ، وعدم الرضا بغيرها , أو إجراء تغيير كبير عليها .
إن الناس يختلفون من ناحية وجود فروق فردية بينهم من حيث المحافظة على السعي لأحاسيس معينة أو التجديد والتغيير والتنوع لهذه الأحاسيس ، نتيجة الاختلافات الفزيولوجية العصبية بسبب الوراثة أو التربية .
فالعادة والإدمان والمحافظة على الأوضاع ، وكذلك نقيضها التجديد والمغامرة والتنويع للأحاسيس , والملل من التكرار والرتابة .....الخ توجد بنسب متفاوتة بين الناس ، فهناك أناس يسعون إلى المحافظة والثبات على أحاسيس معينة وتكرارها ، و أناس آخرون يسعون إلى التجديد المستمر وتحاشي التكرار ويسعون لتنويع أحاسيسهم ، أي هناك من لا يمل ، وهناك من يمل ، وهناك من يمل بسرعة .
فالحاجة إلى مثير - الشهوة للمثير- أو إلى الأحاسيس موجودة لدى الجميع وبنسب متفاوتة ، وهي إما أن تكون تكراراً لأحاسيس معينة ، أو أن تكون تنويعاً وتجديداً وتغييراً .
ويجب أن نلاحظ أن الأساس الفزيولوجي للذكريات وطبيعة تأثيرها المضخم والمحور أحياناً ، له دور في السعي إلى تكرار ممارسة مثيرات معينة ، بالإضافة إلى العادة والتعود التي هي من خصائص آليات عمل الجهاز العصبي ، فالسعي للعودة إلى نفس الأماكن ونفس المثيرات والأحاسيس أو لنفس الأشخاص , والاشتياق إلى المثيرات والأحاسيس التي أحدثوها في الماضي له علاقة بالعادة والتعود ، وله آليته العصبية الخاصة به .
السعي لمشاركة الآخرين نفس الأحاسيس
إن أغلبنا يسعى لنقل أحاسيسه وأفكاره للآخرين , لأن إحداث نفس الطنين الحسي لدى الآخر يؤدي إلى حدوث تغذية عكسية موجبة تقوي هذه الأحساس , فعندما أشاهد منظراً جميلاً أو أسمع صوتاً جميلاً أو أتناول طعاماً شهياً... أسعى إلى من يشاركني هذه الأحاسيس, لأن مشاركة الآخر تعزز وتقوي إحساسي وتزيد من متعتي .
إن هذه الخاصية , زيادة قوة الأحاسيس نتيجة مشاركة الآخرين, ناتجة عن تغذية عكسية موجبة لطنينات الأحاسيس, كما في المجال الفيزيائي , والأحاسيس التي يشعر بها الإنسان يمكن أن تنتقل إلى الآخر بواسطة التعابير والإيحاءات واللغة .
إن كافة الفنون تنمو وتنتشر نتيجة هذه الخاصية, بالإضافة طبعاً إلى العوامل والدوافع الأخرى , المال والشهرة....
علاقة الدوافع بالأحاسيس والانفعالات
إن عمل الدوافع يتحقق من خلال التحكم بالاستجابات الحركية والحسية - وخاصة المفيد والضار , واللذة والألم - فالدافع لآلية معينة أو لسلوك معين ينتج عن طريق التحكم بالاستجابات التي تحصل ومعالجتها .
فظهور دافع الجوع يلاحظ من خلال تغير الاستجابات الخاصة بالطعام وهذا راجع إلى الأوضاع الكيميائية والفزيولوجية للجسم . فانخفاض وارتفاع شدة الاستجابة وتغير الأحاسيس من لذة إلى ألم أو العكس هو ما يظهر الدافع في ساحة الشعور , ولكن ما هي الآلية التي تتحكم بتغير الاستجابات وبتغير الأحاسيس ؟
كيف يحدث خفض أو رفع و تعديل الاستجابات , أو نشوء استجابات جديدة ؟
كيف يحدث تغيير الأحاسيس لنفس المؤثرات ؟
فالحيوان الذي أكل حتى منتهى الشبع يعاف الطعام ويمكن أن يسبب له الألم إذا أجبر عليه بعد أن كان مصدر لذة أثناء الجوع .
إن الأحاسيس الخاصة باللذة والألم- الممتع والمؤلم- بشكل خاص هي التي تتأثر نتيجة إرواء الدوافع . أما الأحاسيس الإخبارية مثل السمع والبصر .... فهي تتأثر ولكن بشكل بسيط أو غير مباشر, وذلك عن طريق زيادة أو خفض التركيز والانتباه على الهام منها ودوره في تحقيق الدافع , فالحيوانات الصيادة ترتفع حساسية حواسها الإخبارية نظر وسمع .... المرتبطة بالصيد عندما تقوم بالصيد بعد شعورها بالجوع , وتعود هذه الحواس إلى طبيعتها بعد الصيد والشبع .
إذاً هناك تحكم في شدة واتجاه الاستجابات والأحاسيس يحدث بآلية معينة ، فهناك تحكم بمقدار ونوعية واتجاه الاستجابة لنفس المؤثرات نتيجة الوضع الكلي للكائن الحي .
فالاستجابات لنفس المؤثرات ليست ثابتة ومحددة بل هي تابعة لوضع الكائن الحي الكلي ، فالنار المؤلمة التي تدفع الإنسان للهرب منها كاستجابة ، يمكن أن يقترب منها ويتعرض لها كاستجابة إذا كان الوضع الكلي يستدعي ذلك كإنقاذ الإنسان لابنه أو ممتلكاته، وذلك نتيجة تكون استجابة أقوى من استجابة الهرب تدفع بذلك الإنسان إلى الاقتراب بدل الابتعاد .
إذاً الإشراط والكف والتحكم بالاستجابات و بناء على المقارنة والتقييم و المفاضلة , لما هو مفيد أو ضار هو ما يقرر سلوك الكائن الحي .
والتعلم والتذكٌر والتفكير يبنى على الإشراط والكف ,الذي هو اشراط جديد . بالإضافة للتقييم والتحكم بالاستجابات والدوافع , ونحن نلاحظ تأثير المعارف و الإعلام على التحكم بالاستجابات ، فالإعلام بكافة أشكاله مسموع, مكتوب , مرئي ..., يهدف إلى التحكم بالاستجابات وبالتالي بالدوافع .
ماذا سيحدث للأحاسيس البشرية وبشكل خاص للوعي ؟
على الأغلب سوف تتوسع مجالاتها وأنواعها وكميتها ، وسوف تنتظم وتتوافق مع المفيد والواجب والضروري لاستمرار وتطور البنيات المتفاعلة ( أغلبها إن لم يكن جميعها ) ولكن أين ستتوضع تلك الأحاسيس ؟
هل ستبقى متوضعة في العقول الفزيولوجية الحية ، أم ستتوضع في العقول الالكترونية ، أم في عقول مشتركة حيوية الكترونية ؟
الاحتمال الأكبر هو الأخير .
ماذا سيحدث للتيارات العصبية الحسية المؤلمة ؟
على الأغلب سوف تعدل وتخفف ، وسيتم السيطرة التامة عليها ، ولكن سوف يحافظ عليها من أجل وظيفتها الهامة (الحماية والإنذار والتوجيه ) ، بالإضافة إلى أنها ضرورية لإنتاج الأحاسيس اللذيذة (ربما يتعدل هذا فيما بعد وتصبح غير ضرورية ) .