العلاج الايماني للضغوطات النفسية

زائر
الخلوة العلاجية
زداد حاجة الناس في هذا العصر إلى طرق وأساليب سهلة ومبسطة نابعة من البيئة والتراث يمكن اللجوء إليها عند الشعور بالتوتر والقلق والإحباط، وعند مواجهة الضغوط والمشكلات التى تحتاج إلى الاسترخاء والهدوء وإعادة تنظيم التفكير .. بل وإعادة برمجة العقل حتى يصل الفرد إلى إعادة صياغة وترتيب أفكاره وأهدافه ، وأيضا إلى تخلصه من الاضطرابات النفسية والانفعالات السلبية الناتجة عن ضغوط الحياة ومشاعر الإحباط والفشل واختلال التوازن والقدرة على التوافق النفسي والاجتماعي. ولاشك أن كل إنسان يحتاج – من وقت لآخر – أن يخلو بنفسه ويبتعد قليلاً عن صخب الحياة ومشاكلها ليفكر بهدوء ويعيد تنظيم عالمه الداخلي، وتفحص وتقييم أفكاره وخبراته والمواقف التى تعرض لها ثم يحدد لنفسه خطة عمل ويتخذ القرارات ويحدد لنفسه الخطوات..
و الخلوة العلاجية تتضمن تدريب الشخص على التخلص من الأفكار السلبية الانهزامية المعوقة والمخاوف والوساوس المزعجة والمواقف والذكريات المؤلمة , بحيث يصل إلى درجة أن يأمر ذهنه بالتوقف فوراً عن التفكير فى هذه الأفكار السلبية أو أن يطردها من ذهنه ويحل محلها أفكاراً إيجابية تشحن طاقاته النفسية وتحفزها للانطلاق من جديد فى الاتجاه الصحي السليم وتكمله مشوار الحياة بعزيمة وإرادة لا تلين .
والخلوة العلاجية أسلوب علاجي نابع من ميراثنا الديني والثقافي وقد اثبت فعاليته بل وتفوقه على أساليب العلاج النفسي الأخرى المستوردة من الغرب والتي تخفى فى ثناياها مفاهيم وأفكار لا تتناسب مع طبيعة وظروف الشخصية العربية.
لقد كان الهدف من استخدام أسلوب الخلوة العلاجية هو تحويل النصائح والمواعظ والأفكار الايجابية إلى أفكار نشطة وفعالة بغرسها فى الذهن عن طريق التأمل والتكرار فى حالة من التركيز الذهني العالي وفى جو من الهدوء والاسترخاء يسمح بتحويل هذه المنظومات الأخلاقية والصياغات اللفظية إلى مفاهيم ومعتقدات تدفع الفرد دائماً إلى السلوك المرغوب .
ولقد تأكد من خلال عدد من الدراسات التى قدمتها على مدار سنوات طويلة أن الخلوة العلاجية تفوق على أسلوب التأمل المتسامي Tansendenta Meditatin ، وأسلوب البرمجة العصبية اللغوية NP التى تنتشر فى الغرب حالياً بصورة ملفته للنظر .. وأن نتائجها أقوى وأعمق .
ولقد لاحظت أيضا أن الشخص الذى يعانى من مشكلات أو أمراض نفسية لا يستطيع فى كثير من الحالات الاستفادة من أساليب العلاج الغربية التى تعتمد على حث المريض وتحريضه على الحرية الجنسية على أساس أنها من أهم أسس الصحة النفسية فى المفاهيم الغربية. وذلك بالطبع دون مراعاة لظروف النشأة الدينية والاجتماعية ومنظومة القيم والمفاهيم التى تحكم سلوك المريض الشرقي ، ولذلك فقد نتج عن هذه الأساليب العديد من المضاعفات والانتكاسات لكثير من المرضى الذين يعالجون بها , ولقد عالجت عشرات الحالات التى تدهورت وأصيبت بأعراض وانتكاسات حادة نتيجة علاجها بأساليب وطرق غير مناسبة.. ومما زاد الطين بله وجود عدد من المعالجين بهذه الأساليب من غير المتخصصين وممن تلقوا دورات أو تدريبات قصيرة المدى لا تتعدى فى بعض الأحيان أيام أو أسابيع محدودة .
.. ويمثل الحوار الذاتي أهمية قصوى فى الخلوة العلاجية حيث يعتبر تعديل الحوار الذاتي – ما يقوله الشخص لنفسه - إلى جمل ايجابية حماسية متفائلة من أهم خطوات الخلوة العلاجية حيث يقوم الفرد ببناء وتصميم هذه الجمل والعبارات الايجابية الصحية ويكررها بتركيز ذهني عالي ويجعلها تحل محل الجمل والعبارات السلبية التى يقولها لنفسه ، والتي تتسبب فى التوتر الاكتئاب وهزيمة الذات .
ولا شك أن الخلوة والتأمل هي من الخصائص المميزة للشخصية العربية، وأن الاعتماد على الرعي والزراعة قد أتاح الفرصة للتأمل والانطلاق بالخيال فى أماكن رحبة متسعة لا يقوم النشاط الإنساني فيها على التحديد والضبط والدقة الشديدة التى تتميز بها المجتمعات الصناعية، ولقد أدركت المجتمعات الغربية أهمية تنمية القدرة على التأمل ودوره فى الصحة النفسية بل وفعاليته فى العلاج النفسي .
إن الخلوة تحقق للشخص العربي فرصة سانحة بالاسترخاء الذهني والجسدي الذى يحتاجه فى ظل ظروف وضغوط هذا العصر وهى أيضا فرصة للتدريب على الضبط الذاتي لطرد الافكار السلبية والانهزامية وغرس الافكار الايجابية وإعادة تقييم سلوكياته ومتابعة التدريب عليها وهى فى النهاية يمكن أن ينظر إليها على أنها أسلوب سهل يناسب الشخصية العربية ويساعدها على تثبيت وغرس منظومة القيم والأخلاقيات وتحويلها إلى أنماط سلوكية وعادات راسخة ، ولا اعتقد أن هناك وسيلة أخرى فى ظل التشتت الذى تمليه علينا الفضائيات والثقافات والعادات المثيرة والمبهرة التى تخترق حياتنا من كل اتجاه يمكن أن تقوم بتحويل النسق الوعظي والتعليمات الخطابية والحكم البلاغية إلى سلوكيات عملية إلا من خلال التدريب على إعادة برمجة العقل والتأمل بأسلوب الخلوة العلاجية وهى فى النهاية محاولة لتحويل الثقافة العربية التقليدية بازدواجياتها وما تسببه من صراعات نفسية تستهلك طاقات الفرد فقط فى حدود الخطابة والهتاف بمكارم الأخلاق لحظات الحماس ثم تبخر هذه الشعارات الانفعالية بعد لحظات ونسيانها .
أما عن مفهوم الخلوة فى التراث الديني فهو يشمل العديد من المفاهيم والمعاني منها ترك مشاغل الدنيا والتفرغ لذكر الله ومناجاته وأن يخلو الإنسان بنفسه لكي يتأمل عالمه الداخلي ولكي يتعبد ويحاسب نفسه على أخطائها.. ولكي يزيد نفسه صقلاً وصفاء.
ولقد نصح الرسول – صلى الله عليه وسلام – عقبة بن عامر رضي الله عنه بالخلوة .. قائلاً : "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك.." (رواه أبو داود والترمذي).