المريض وزواره Visiting a patient ( منقول )

زائر
المريض وزواره Visiting a patient
بقلم: محمد بشير الوظائفي ( كاتب وإذاعي )

قام الدكتور بيتر شتاينكرون – العالم البشري والنفساني – بتجارب طويلة كافح خلالها الموت إلى أن اهتدى واقتنع بأن في كل إنسان دوافع لإفناء ذاته تكمن في نفسه وتعمل لهلاكه دون أن يدري . أي أن في الإنسان غريزتين : غريزة حفظ الذات .. وغريزة قتل الذات . كما لاحظ الدكتور شتاينكرون بأن المرضى في المستشفيات لا يعمل بعضهم بتوصيات الطبيب المعالج ، ويتسبب في كثير من الحالات في استفحال مرضه أو أطالة بقائه في المستشفى .. وأحيانا في فقدان حياته .

فالمريض الملازم للفراش في المستشفى تثقل عليه العزلة والوحدة . فإذا كان مرضه ثقيلا لم يشق عليه أن يرقد مستكينا وقد انقطعت الصلات بينه وبين العالم الخارجي بفراق عافيته حتى إذا عاودته العافية واخذ في المثول للشفاء ، ظهر عليه الضيق والسأم والضجر وأصبحت لديه نفرة من نظام المستشفى الذي لم يألفه . فغدو الممرضات والممرضين ورواحهم ، يساعد على قتل الوقت . والطعام في أوقاته المحددة يساعد على قتل الوقت كذلك . وتناول الدواء في مواعيده والحقن والتدليك وغير ذلك فيه قتل للوقت ، ومع ذلك فأن السأم باق والوقت ثقيل وبطيء ممل .

وزيارة الطبيب – التي كانت لها إبان شدة المرض أهمية كبرى لأنه يتوقف عليها المصير المشكوك فيه ، قد انطفأت أهميتها وذهب بريقها بحصول الاطمئنان . والكتب والمجلات قد ذهبت عنها طلاوتها وألقاها المريض بعيدا عنه دون أن ينظر عناوينها الخلابة أو يقلب صفحاتها المزدانة بالصور والرسوم المختلفة . والإنسان الذي قد رقد في فراش المستشفى أسابيع بعد أسابيع يعلم ما هي ألسنــة القلق التي تأكل القلب وما هي أغطية الفراش التي يجفوها الجسم ويرفض أن يطمئن إليها لأنها تثير كل المواضع الحساسة في جسمه ! لذلك لا عجب حينئذ أن تضيق نفس المريض بالرقاد ويتحسر على الأيام الحلوة الماضية التي كان فيها قائما على الأرض يروح ويجيء ويذهب حيث يشاء قبل مرضه !

وفي المستشفى – عزيزي القارىء يغلب أن توضع لافتة أمام باب غرفة المريض تحمل الكلمتين ( الزيارة ممنوعة ) . وتتولى الممرضة المسئولة تنفيذ هذه التعليمات فلا تسمح بتجاوزها إلا لمدد قصيرة جدا لا تتجاوز الخمس دقائق ولذوي المريض فقط .. وبذلك يحال بين المريض وبين اقرب أصدقائه . وقد سمعنا عن مئات بل آلاف الوفيات في المستشفيات تحدث سنويا نتيجة لسوء استخدام الزيارات ، كحالات المرضى الذين يعالجون من نوبات قلبية . ويبدو في الظاهر أن الإصابة خفيفة – كما يراها المريض نفسه – وبعد ساعات في المستشفى تحت الرعاية المكثفة وبعد نوم عميق يفتح المريض عينيه وهو يشعر انه قد أصبح سليما معافى – هكذا يظن ! ولكن الواقع أن الكشف الطبي الدقيق والاختبارات الأخرى تبين بشكل قاطع أن جدران القلب مصابة بوهن محسوس وربما كان هبوطا عارضا أو قد يكون هبوطا قاضيا ... ويرتب الطبيب العلاج اللازم للمريض بعد أن يطمئن إلى التشخيص ، ويكون من أهم عناصر العلاج الذي ينظمه الطبيب المعالج تلك اللافتة التي توضع على باب الغرفة ( الزيارة ممنوعة ) . فهل ذلك المريض من طراز المستعد للرقاد في استكانة وهدوء ؟ وهل يذعن لتحريم التدخين عليه ؟ وهل يوافق على إلا يتحرك في حين تتولى الممرضة إطعامه كما يرضع الأطفال الصغار ؟ وهل يثور على عزله عن أقاربه وأصدقائه أو يستسلم للعزلة ؟ وغير ذلك من الأسئلة التي لابد أن تميز مريضا عن آخر والتي تشغل ذهن الطبيب المعالج وعليها يتوقف نصيب المريض من الشفاء .

وسرعان ما يتلقى الطبيب الجواب على تساؤلاته بعد يومين اثنين فقط – أي بمجرد مرور الأزمة وأوجاعها ، فيفاجأ بالممرضة تقول له : لقد بدأ يدخن في اليوم الثاني ، وفي اليوم الثالث ضبطته خارجا من دورة المياه ... أي أن المريض خرق جميع النواهي التي هي في مصلحته ، وربما كان ذلك لأنه لم يتعود أن يتلقى الأوامر من الطبيب والممرضات ، فإذا احتج عليه الطبيب محذرا بقوله: ولكن الأمر يتعلق بصحتك وحياتك ... أجابه المريض ساخرا متضجرا : صحتي .. حياتي ؟ هذا عيبكم أيها الأطباء تهولون وتبالغون كأنما لا يكفيكم أن تلقوا الرجل منا على ظهره فتأبون إلا أن تجثموا فوق صدره كي لا يتحرك .

ولو عذرنا مثل ذلك المريض في رغبته في الحركة والخروج والتدخين ، فكيف وهو يقدر ظروف مرضه ويقبل أوامر الطبيب كلها وينفذ نواهيه ثم يقاوم منع الزيارة في نفس الوقت ؟ أن ذلك يحصل من كثيرين من المرضى . ولو كانت لديه ثقة بطبيبه لكان حريا به أن يدرك بأن ذلك المنع لمصلحته حتمته ظروفه الصحية ، وليس مجرد إشباع نزعة قاسية لدى الطبيب المعالج.

وفي حالات أخرى يكون المريض مقتنعا ومستسلما ، إلا أن الأصدقاء والأحباء يأبون إلا التحايل على خرق منع الزيارة . فإذا صمدت الممرضة لجأوا إلى الإلحاح والرجاء كقولهم : انه اعز أصدقائي وقد قطعت مسافة طويلة لكي أراه ولن أمكث إلا خمس دقائق وسيسر بزيارتي .. إلى آخر تلك العبارات ، ولو تساهلت الممرضة – متحملة المسئولية – وأدخلت الزائر العزيز فأن زيارته تطول إلى ما شاء الله . والغريب أن بعض الزوار يبدأون التوافد في اليوم التالي للعملية أو للنوبة القلبية ، ويظلون جالسين يتكلمون في تفاهات كثيرة ، وقد ينزلق بعضهم فيتحدث عن المسكين فلان الذي مات في الأسبوع الماضي بنفس العلة مع أن الأطباء أكدوا أن العملية نجحت وان الشفاء مضمون بأذن الله !!

أن بعض الزوار لا يحضرون من اجل المريض أو تعاطفا معه واهتماما بأمره ، بل لرؤية شخص طريح الفراش تشعر الزائر المحترم باللذة لتمتعه بالحركة والحرية والعافية ، وانه نجا من هذا القضاء الذي أصاب الصديق ، وذلك خير طبعا من أن يكون هو المصاب !

عزيزي القارىء ، أن خير وسيلة تظهر فيها شعورك نحو المريض أن ترسل إليه باقة من الزهور أو كتابا أو مجلة أو حتى بطاقة زيارة . أما الطعام .. فلا ! وأما المبادرة إلى زيارة المريض وهو لا يزال تحت العناية المكثفة وبين أيد أمينة متخصصة فليست في صالح المريض أبدا . ومن المعروف أن الزيارات الطويلة مجهدة جدا للمريض وكثيرا ما تتسبب في وفاته – ربما ليس مباشرة – ولكن بتقليل مقاومته وتأخير ادخار القوة اللازمة في مدة النقاهة والراحة . ولو سمح بالزيارة – بغير إلحاح – فعلينا ومن اجل مصلحة المريض أن لا ندخن في غرفته ، وان لا نجلس على فراشه ، وان لا نظهر الجزع واللهفة ، أو نتحدث عن الموت والمصائب ، وأخيرا عدم إطالة الجلوس بجانب المريض فأن عشر دقائق اشق على المريض من زيارة مدتها عشر ساعات لرجل صحيح ...!