زائر
طب الأسنان الشرعي ودوره عدلياً وجنائياً
إعداد
الدكتور زهير حسون
طبيب أسنانحقوقي
لم يعد طبّ الأسنان مقتصراً على مساعدة المريض بإراحته و إزالة ألمه أو على إعادة التوازن في الناحية الوظيفية لفمه وأسنانه أو الناحية التجميلية لديه، بل تعدّاها ومنذ سنين عديدة إلى حقل الطب العدلي والجنائي وراح بكل ثقة يساهم في تحديد أسباب الأذيّة ونتائجها (تعطيل عن العمل أو عاهات دائمة).
لكنَّ دوره الأساسي برز عندما استطاع تحديد هوية الجثة في وقت عجزت فيه بقية فروع الطب عن ذلك.
وما كارثة تسونامي ببعيدة إذ استطاع طب الأسنان الشرعي التعرف إلى 75% من الجثث، إلّا أنّ دوره هذا ارتبط بأسس ومرتكزات لا بدّ من توافرها مبدئياً وهي سجلّات أو الهويات السنية
للمتعرف عليهم أو المشكوك فيهم.
فما طبّ الأسنان الشرعي؟
هو المظهر العلمي لمجموعة علوم طبّ الأسنان الأساسية التي تطبّق عملياً لإظهار حقائق قانونية بكل ما من شأنه الاعتماد على طبابة الأسنان فشمل بذلك كافة اختصاصاته المسجّلة في نقابة أطباء الأسنان فساعد بذلك على تشخيص الكثير من القضايا العدلية .
بعدما قدّمناه، هل يصلح طبيب الأسنان عموماً أن يكون طبيباً شرعياً ؟
لا بدّ أن يعي أيّ طبيب أسنان أنه قد يقف يوماً أمام المحاكم والقضاء ملبّياً الطلب في إبداء رأيه في أمور عديدة تتوقف عليها حياة شخص ما أو موته، وأنَّ عليه واجبين كفرد من أفراد الهيئة الاجتماعية:
أولهما: كطبيب جراح يشفي ويواسي عند الشدة.
ثانيهما: كخبير تفرض عليه خبرته واجباً مقدّساً لمساعدة القضاء و تحقيق سير العدالة.
فلو فرضنا أن شخصاً صدمته سيارة فسبّبت له إصابات في فمه و فكيه أو في أسنانه، صحيح أن هّم طبيب الأسنان يكون هنا أولاً إنقاذ هذا المريض ومعالجته.
لكن ماذا لو طُلب منه إبداء رأيه في الجرح الذي سبّبه الحادث ، ومدة شفائه ، وعدد أيام تعطيل
المصاب عن العمل، و التشوّه الذي سبّبه أو الذي سيسببه، وكلفة الأعمال الجراحية أو الصناعية أو التعويضية أو التجميلية، وعمّا سيتركه الحادث من عاهات كاملة أو جزئية مؤقتة كانت أم دائمة. كل ما سبق يقتضي أن يكون طبيب الأسنان عارفاً بتشريح الفم والفكين وفحصهما مميّزاً بين الطبيعي وبين المشتبه به ومدى علاقة ذلك بالقانون والشريعة.
هذا ولا تنحصر علاقة طبيب الأسنان الشرعي كما سبق بالأحياء فقط، إذ أن علاقته بالأموات
وطيدة أيضاً وليس أحداً غَيْرُه يستطيع مساعدة العدالة في تحديد هوية شخص تعفّنت جثته أو تفسّخت وذلك استناداً إلى بطاقته السنية ومطابقتها، والأعمال المجراة له في فمه من حشوات
سنية وجسور وأجهزة صناعية جزئية أو كاملة.
لكن كيف يمكن لطب الأسنان أن يلعب هذا الدور؟
الأسنان وتحديد الهوية:
كما هي إمكانية تطابق بصمتين لشخصين مختلفين هي إمكانية أشبه بالمستحيلة إذ أن احتمال تطابقهما 164 مليار فإنّ الأسنان تبدي اختلافاً كبيراً بين شخص وآخر يندر معه أن تتطابق
حيث سُجلت أكثر من 2.5بليون حالة مختلفة في البطاقات السنية.
وإذا ما علمنا أنّ الأسنان مقاومة جداً للعوامل الفيزيائية- فهي تقاوم عوامل التفسّخ بصورة رائعة– ولعوامل الاحتراق لفترة طويلة بسبب بنيتها وموقعها التشريحي– باستثناء الأسنان الأمامية- إذ تستطيع مقاومة درجة حرارة قد تبلغ 500 درجة مئوية.
كيف يمكن رسم الهوية السنية لشخص ما؟
إنَّ الطريقة العملية والعالمية المعتمدة ترقّم الأسنان الدائمة على الشكل التالي:
تقسّم كل قوس سنية (علوية أوسفلية) إلى قسمين يأخذ كل منهما رقماً فنبتدئ بالربع العلوي اليمين
لصاحب العلاقة ليأخذ الرقم(1)بينما يأخذ الربع العلوي الأيسر الرقم(2)وباتجاه عقارب الساعة
يأخذ الربع السفلي الأيسر الرقم(3) بينما يأخذ الرقم(4) الربع الأخير من القوس السنية السفلية.
أما الأسنان فتأخذ الرقم(1) بدءاً من الخط المتوسط الذي ينصّف كل من القوسين السنيين، فالرقم
(1) يعني الثنية ومهما كان موقعها (علوية أو سفلية يمنى كانت أو يسرى) بينما يعني الرقم (8)
الرحى الثالثة أينما كانت. وعليه فعندما نقرأ في بطاقة سنية شخصية:
46
فإنّنا نعني أن المقصود هو الضاحك الأول العلوي الأيسر للشخص المعني. بينما تستمر مسيرة الترقيم لتأخذ في الأسنان اللبنية الأرقام:
65
78
مع مراعاة أن الأسنان اللبنية يختلف عنه في الأسنان الدائمة إذ تزيد الأخيرة عن الأولى بمقدار(12) سناً تبزغ لمرة واحدة وليست بديلاً عن أي منها(اللبنية).
وكما هو الحال في الدائمة فإننا إذا قرأنا:
55
نعلم أن المقصود هو الرحى الثانية العلوية اليسرى اللبنية .
وعلى هذا الأساس فإنه يمكن وبالأرقام تسمية كل من أسنان الفكين بسهولة وذلك حسب موقعها من القوس السنية.
إذ تأخذ كل سن رقماً مزدوجاً يشير اليساري منه الى جزء القوس السنية المقصودة بينما يشير اليميني منه الى موقع السن في هذه القوس.
والآن فما الدلائل السنية التي تساعد على تعيين الهوية ؟
تتعين الهوية بدلائل سنية عديدة منها:
نقص عدد الأسنان (ما كان طبيعياً أو بفعل القلع) والزائد منها، والتشوّهات الخلقية أو المكتسبة (نتيجة عادة أو مهنة) (1) وشكل الوجه، والقوس السنية، وأسنانها وشذوذاتها. وبمطابقة ذلك مع الهوية السنية يمكننا الجزم بهوية صاحب الجثة.
فبعد انهيار النازية وسقوط هتلر وجد الخبراء الروس في قبو الرايخ الثالث جثة محروقة بالكامل مدفونة تحت طبقة رقيقة من التراب، وأكد المؤرخ الروسي الجنرال
تليوكوفسكي بأنها جثة هتلر لكن الشكوك ثارت عندما اكتشفت جثتان جديدتان لهما ملامح تشبه الزعيم،
وعندما طلب إلى الموظفين الألمان التعرّف عليهما لم يستطيعوا، بينما لم يقبل البعض منهم القيام بهذه المهمة، فأمر القائد الروسي بفحص أسنان الجثث الثلاث، فأحضرت كل من كاتي هوسرمان وفريتزاختمان الممرضتان اللتان كانتا تعملان مع بلاشكة (طبيب أسنان هتلر)، وما أن عرضت عليهما أسنان الفك السفلي والجسور المصنوعة له حتى تعرفتا فوراً على هتلر إذ سهل على ما قامتا به مع طبيبهما منذ بضعة أشهر،وبذا تأكّدت هوية هتلر اعتماداً على بطاقته السنية.
العضة السنية ودورها العدلي:
تلعب العضة السنية دوراً هاماً كدليل نفي أو إثبات لهوية المشتبه به.فكثيراً ما طابقت أشكالها شكل عضة ٍعلى جسد ضحية فعرف منها الجاني، أو أبدت اختلافاً واضحاً بينهما فنفت التهمة عن ظنينٍ اتُّهم، إذ قد تكون العضة من الدلائل المهمة المتواجدة على مسرح الجريمة حيث قد تنطبع آثار الأسنان الأمامية على النسيج البشرية، أو مواد خلفها الجاني وراءه،كبعض المواد الغذائية (جبن أو قطع شوكولا) فكانت سبباً في اكتشاف هويته عند مقارنة صور هذه الانطباعات مع صور الأمثلة الجبسية لعضة المشتبه به.
فما النقاط الواجب التدقيق فيها بين الأثر الجرمي والأثر التجريبي؟
على طبيب الأسنان أن يلحظ وبسهولة: طول الأسنان وعرضها، وحجمها، وانفتالها، وانتظامها، وشذوذها، ومكان توضع الحشوات فيها، أوعليها، والأجهزة الصناعية من صفائح وجسور وغيرها.
طبيب الأسنان وتحديد العمر:
يستطيع طبيب الأسنان بخبرته وبالاستعانة بجداول معينة تحديد العمر سواء كان جنيناً أو وليداً أو طفلاً.
وطبيب الفم والأسنان الشرعي يستطيع وبسهولة تحديد العمر حتى السنوات الاثنتي عشرة من العمر (أي سن بزوغ الرحى الثانية الدائمة) من خلال توقيت تشكّل برعم كلّ سن أو زمن بزوغه، ومن خلال صفات الحالة العامة للأسنان، وصفات الأنسجة الداعمة، والمظهر الشعاعي العام لجذور الأسنان وأماكن انغراسها في العظمين الفكيين (الأسناخ).
ولتحديد العمر أهمية خاصة إذ تحدد المسؤولية الجزائية بتحديده فلا يلاحق جزائياً من لم يتم السابعة، بينما يَمْثُل من كان بين السابعة والثانية عشرة من عمره أمام محاكم الأحداث، لتفرض بحقه تدابير الحماية. أما العقوبات المخفّفة فقد رأى الشارع تطبيقها بحق أولئك الذين أتموا الخامسة عشرة من عمرهم. ولم يتمّوا الثامنة عشرة من عمرهم.
الأرحاء الثالثة ودورها في تحديد العمر:
تلعب الأرحاء الثالثة (أضراس العقل) التي لا يتمّ إسنانها قبل سن السابعة عشرة-ولهذا أهميته في قانون العقوبات كما أسلفت, إذ يقع ظهورها بين سٍنّي الـ18-19و قد يمتدّ إلى الخامسة والعشرين. فوجودها يدلّ على أن عمر الشخص يزيد عن 17 سنة، في حين يدل عدم اكتمال جذرها شعاعياً على أن صاحبها لم يبلغ الخامسة والعشرين بعد.
أما في مرحلة الكهولة والشيخوخة فإن تقدير العمر سنياً يعتمد على ظواهر عديدة منها:
سريرياً:
▪ درجة انسحال الأسنان.
▪ تراجع اللثة.
▪ تضيق حجرة اللب أو انعدامها.
▪ انغلاق ذرا الجذور.
▪ نقص ثخانة الرباط السني.
● هذا في الأحياء! فماذا عن تعيين عمر صاحب الجثة أو الرمّـة؟
سبقت الإشارة إلى الوسائل المختلفة في تقدير العمر عن الأحياء، ونقول: إن دراسة الأسنان من حيث نموها وتكلّسها هي الأكثر دلالة على تعيين العمر في المراحل الأولى من الحياة، لكن ذلك ينطبق أيضاً على الأشلاء العظمية.
و قد قام العالم غوستافسن بدراسة التغيرات التي تطرأ على الأسنان وبيّن إمكانية الاستفادة منها في تقدير العمر، فذكر أن من هذه التغيرات:
▪ انسحال الأسنان : وميزّ بينه وبين الانسحال المرضي, وهذا يحتاج إلى خبرة واسعة.
▪ توضّع العاج الثانوي : حيث يؤدّي توضّعه مع تقدّم العمر إلى تضييق الحجرة اللبية.وقال بوجود أسباب مرضية تؤدّي إلى تشكّله (كالنخر وانسحال الأسنان). وطبيب الأسنان يميّز بين الشكلين (الطبيعي والمرضي) بسهولة.
▪ شفوفية الأقسام الذروية للجذر: وهذه تزداد بتقدّم العمر.
▪ انغلاق فوهة الجذر: وهذه بالذات علامة جيدة لتقدير العمر.
وقد وضع هذا العالم معادلات خاصة تمكّن من حساب عمر الشخص الذي يصاب بهذه التبدّلات بعد أن قسّمها إلى عدة درجات تُحسب شدتها بعد تعيين مقدارها بإجراء مقاطع طولية لا تزيد ثخانتها عن0.2ملم.
هذا وقد يلعب طبيب الأسنان دوراً في تحديد الجنس من تفحصه لبقايا وأشلاء وعظام الجمجمة والفكين إن كان صاحبها أنثى أم ذكراً، إذ أن لكل منهما مواصفات خاصة يمكن أن تُميّز أحدهما عن الآخر.
طبيب الأسنان الشرعي ودوره في تحديد عمر الجرح:
يمكن لطبيب الأسنان أن يجيب على ذلك بصورة تقريبية فالجرح جديد إذا لم يكن ملتئماً، وهو حديث إن كانت ندبة التئامه حديثة، وقديم في حالة العكس.
أما إن طلبت منه الدقة فعليه مراعاة مايلي:
▪ التورّم الخفيف حول حواف الجرح:علامة على حدوثه قبل 8-12ساعة.
▪ المادة المصلية المتقيحة قليلاً حول سطح الجرح غير المخاط: تشير إلى حدوثه قبل 2-3يوماً.
▪ ظهور الأزرار اللحمية خلال 5 أيام.
▪ التئام الجرح ويتم من 10إلى 14 يوماً، ما لم يحصل تقيّح يؤخّر شفاءَه.
المظاهر الفموية في الحروق التامة:
هل من دور لطبيب الأسنان الشرعي أو خبير الأسنان إذا ما جابه أحدهما جسد متفحّم أو جثةٌ محترقة؟
نعم! ويتجلى دورهما العدلي في:
1 - يستطيع أي منهما أن يعرف هل تمّ الحريق في حياة صاحب الجثة أم بعد مماته أي أن الحريق
جنائي أم لا!
2 - يعرف أن آثار العنف المتواجدة على الجثة قد حصلت بسبب الحريق وليس قبله ثم أُحرق
الجسد.
وقد ثبُت عدلياً أن العلامات التي تدل على أن الإنسان كان حياً وقد عاش مدةً في بدء الحريق هي:
أ- التفاعل الحيوي للحريق في الفم والبلعوم والحنجرة (احمرار ووجود فقاقيع وكذلك خشكريشة مخاطية محاطة بدوائر التهابية حمراء).
ب- تواجد دخان الاحتراق داخل المجاري التنفسية: إذ لا يمكن تواجدها هنا ما لم يكن الشخص حيّاً أثناء الحريق وتَنَفَّس هذه الذرّات.
ج- تواجد أكسيد الفحم في الدم: ويتمّ التأكّد من ذلك مخبرياً.
وبعد كل ما أوردنا لن يفوتنا أن نذكر أن طبيب الأسنان وحده القادر على تحديد نسبة العجز والتعطيل التي يصاب بهما أعضاءُ تخصصه
." منقول تحت اسم الأمانة العلمية ".
طابت أيامكم
إعداد
الدكتور زهير حسون
طبيب أسنانحقوقي
لم يعد طبّ الأسنان مقتصراً على مساعدة المريض بإراحته و إزالة ألمه أو على إعادة التوازن في الناحية الوظيفية لفمه وأسنانه أو الناحية التجميلية لديه، بل تعدّاها ومنذ سنين عديدة إلى حقل الطب العدلي والجنائي وراح بكل ثقة يساهم في تحديد أسباب الأذيّة ونتائجها (تعطيل عن العمل أو عاهات دائمة).
لكنَّ دوره الأساسي برز عندما استطاع تحديد هوية الجثة في وقت عجزت فيه بقية فروع الطب عن ذلك.
وما كارثة تسونامي ببعيدة إذ استطاع طب الأسنان الشرعي التعرف إلى 75% من الجثث، إلّا أنّ دوره هذا ارتبط بأسس ومرتكزات لا بدّ من توافرها مبدئياً وهي سجلّات أو الهويات السنية
للمتعرف عليهم أو المشكوك فيهم.
فما طبّ الأسنان الشرعي؟
هو المظهر العلمي لمجموعة علوم طبّ الأسنان الأساسية التي تطبّق عملياً لإظهار حقائق قانونية بكل ما من شأنه الاعتماد على طبابة الأسنان فشمل بذلك كافة اختصاصاته المسجّلة في نقابة أطباء الأسنان فساعد بذلك على تشخيص الكثير من القضايا العدلية .
بعدما قدّمناه، هل يصلح طبيب الأسنان عموماً أن يكون طبيباً شرعياً ؟
لا بدّ أن يعي أيّ طبيب أسنان أنه قد يقف يوماً أمام المحاكم والقضاء ملبّياً الطلب في إبداء رأيه في أمور عديدة تتوقف عليها حياة شخص ما أو موته، وأنَّ عليه واجبين كفرد من أفراد الهيئة الاجتماعية:
أولهما: كطبيب جراح يشفي ويواسي عند الشدة.
ثانيهما: كخبير تفرض عليه خبرته واجباً مقدّساً لمساعدة القضاء و تحقيق سير العدالة.
فلو فرضنا أن شخصاً صدمته سيارة فسبّبت له إصابات في فمه و فكيه أو في أسنانه، صحيح أن هّم طبيب الأسنان يكون هنا أولاً إنقاذ هذا المريض ومعالجته.
لكن ماذا لو طُلب منه إبداء رأيه في الجرح الذي سبّبه الحادث ، ومدة شفائه ، وعدد أيام تعطيل
المصاب عن العمل، و التشوّه الذي سبّبه أو الذي سيسببه، وكلفة الأعمال الجراحية أو الصناعية أو التعويضية أو التجميلية، وعمّا سيتركه الحادث من عاهات كاملة أو جزئية مؤقتة كانت أم دائمة. كل ما سبق يقتضي أن يكون طبيب الأسنان عارفاً بتشريح الفم والفكين وفحصهما مميّزاً بين الطبيعي وبين المشتبه به ومدى علاقة ذلك بالقانون والشريعة.
هذا ولا تنحصر علاقة طبيب الأسنان الشرعي كما سبق بالأحياء فقط، إذ أن علاقته بالأموات
وطيدة أيضاً وليس أحداً غَيْرُه يستطيع مساعدة العدالة في تحديد هوية شخص تعفّنت جثته أو تفسّخت وذلك استناداً إلى بطاقته السنية ومطابقتها، والأعمال المجراة له في فمه من حشوات
سنية وجسور وأجهزة صناعية جزئية أو كاملة.
لكن كيف يمكن لطب الأسنان أن يلعب هذا الدور؟
الأسنان وتحديد الهوية:
كما هي إمكانية تطابق بصمتين لشخصين مختلفين هي إمكانية أشبه بالمستحيلة إذ أن احتمال تطابقهما 164 مليار فإنّ الأسنان تبدي اختلافاً كبيراً بين شخص وآخر يندر معه أن تتطابق
حيث سُجلت أكثر من 2.5بليون حالة مختلفة في البطاقات السنية.
وإذا ما علمنا أنّ الأسنان مقاومة جداً للعوامل الفيزيائية- فهي تقاوم عوامل التفسّخ بصورة رائعة– ولعوامل الاحتراق لفترة طويلة بسبب بنيتها وموقعها التشريحي– باستثناء الأسنان الأمامية- إذ تستطيع مقاومة درجة حرارة قد تبلغ 500 درجة مئوية.
كيف يمكن رسم الهوية السنية لشخص ما؟
إنَّ الطريقة العملية والعالمية المعتمدة ترقّم الأسنان الدائمة على الشكل التالي:
تقسّم كل قوس سنية (علوية أوسفلية) إلى قسمين يأخذ كل منهما رقماً فنبتدئ بالربع العلوي اليمين
لصاحب العلاقة ليأخذ الرقم(1)بينما يأخذ الربع العلوي الأيسر الرقم(2)وباتجاه عقارب الساعة
يأخذ الربع السفلي الأيسر الرقم(3) بينما يأخذ الرقم(4) الربع الأخير من القوس السنية السفلية.
أما الأسنان فتأخذ الرقم(1) بدءاً من الخط المتوسط الذي ينصّف كل من القوسين السنيين، فالرقم
(1) يعني الثنية ومهما كان موقعها (علوية أو سفلية يمنى كانت أو يسرى) بينما يعني الرقم (8)
الرحى الثالثة أينما كانت. وعليه فعندما نقرأ في بطاقة سنية شخصية:
46
فإنّنا نعني أن المقصود هو الضاحك الأول العلوي الأيسر للشخص المعني. بينما تستمر مسيرة الترقيم لتأخذ في الأسنان اللبنية الأرقام:
65
78
مع مراعاة أن الأسنان اللبنية يختلف عنه في الأسنان الدائمة إذ تزيد الأخيرة عن الأولى بمقدار(12) سناً تبزغ لمرة واحدة وليست بديلاً عن أي منها(اللبنية).
وكما هو الحال في الدائمة فإننا إذا قرأنا:
55
نعلم أن المقصود هو الرحى الثانية العلوية اليسرى اللبنية .
وعلى هذا الأساس فإنه يمكن وبالأرقام تسمية كل من أسنان الفكين بسهولة وذلك حسب موقعها من القوس السنية.
إذ تأخذ كل سن رقماً مزدوجاً يشير اليساري منه الى جزء القوس السنية المقصودة بينما يشير اليميني منه الى موقع السن في هذه القوس.
والآن فما الدلائل السنية التي تساعد على تعيين الهوية ؟
تتعين الهوية بدلائل سنية عديدة منها:
نقص عدد الأسنان (ما كان طبيعياً أو بفعل القلع) والزائد منها، والتشوّهات الخلقية أو المكتسبة (نتيجة عادة أو مهنة) (1) وشكل الوجه، والقوس السنية، وأسنانها وشذوذاتها. وبمطابقة ذلك مع الهوية السنية يمكننا الجزم بهوية صاحب الجثة.
فبعد انهيار النازية وسقوط هتلر وجد الخبراء الروس في قبو الرايخ الثالث جثة محروقة بالكامل مدفونة تحت طبقة رقيقة من التراب، وأكد المؤرخ الروسي الجنرال
تليوكوفسكي بأنها جثة هتلر لكن الشكوك ثارت عندما اكتشفت جثتان جديدتان لهما ملامح تشبه الزعيم،
وعندما طلب إلى الموظفين الألمان التعرّف عليهما لم يستطيعوا، بينما لم يقبل البعض منهم القيام بهذه المهمة، فأمر القائد الروسي بفحص أسنان الجثث الثلاث، فأحضرت كل من كاتي هوسرمان وفريتزاختمان الممرضتان اللتان كانتا تعملان مع بلاشكة (طبيب أسنان هتلر)، وما أن عرضت عليهما أسنان الفك السفلي والجسور المصنوعة له حتى تعرفتا فوراً على هتلر إذ سهل على ما قامتا به مع طبيبهما منذ بضعة أشهر،وبذا تأكّدت هوية هتلر اعتماداً على بطاقته السنية.
العضة السنية ودورها العدلي:
تلعب العضة السنية دوراً هاماً كدليل نفي أو إثبات لهوية المشتبه به.فكثيراً ما طابقت أشكالها شكل عضة ٍعلى جسد ضحية فعرف منها الجاني، أو أبدت اختلافاً واضحاً بينهما فنفت التهمة عن ظنينٍ اتُّهم، إذ قد تكون العضة من الدلائل المهمة المتواجدة على مسرح الجريمة حيث قد تنطبع آثار الأسنان الأمامية على النسيج البشرية، أو مواد خلفها الجاني وراءه،كبعض المواد الغذائية (جبن أو قطع شوكولا) فكانت سبباً في اكتشاف هويته عند مقارنة صور هذه الانطباعات مع صور الأمثلة الجبسية لعضة المشتبه به.
فما النقاط الواجب التدقيق فيها بين الأثر الجرمي والأثر التجريبي؟
على طبيب الأسنان أن يلحظ وبسهولة: طول الأسنان وعرضها، وحجمها، وانفتالها، وانتظامها، وشذوذها، ومكان توضع الحشوات فيها، أوعليها، والأجهزة الصناعية من صفائح وجسور وغيرها.
طبيب الأسنان وتحديد العمر:
يستطيع طبيب الأسنان بخبرته وبالاستعانة بجداول معينة تحديد العمر سواء كان جنيناً أو وليداً أو طفلاً.
وطبيب الفم والأسنان الشرعي يستطيع وبسهولة تحديد العمر حتى السنوات الاثنتي عشرة من العمر (أي سن بزوغ الرحى الثانية الدائمة) من خلال توقيت تشكّل برعم كلّ سن أو زمن بزوغه، ومن خلال صفات الحالة العامة للأسنان، وصفات الأنسجة الداعمة، والمظهر الشعاعي العام لجذور الأسنان وأماكن انغراسها في العظمين الفكيين (الأسناخ).
ولتحديد العمر أهمية خاصة إذ تحدد المسؤولية الجزائية بتحديده فلا يلاحق جزائياً من لم يتم السابعة، بينما يَمْثُل من كان بين السابعة والثانية عشرة من عمره أمام محاكم الأحداث، لتفرض بحقه تدابير الحماية. أما العقوبات المخفّفة فقد رأى الشارع تطبيقها بحق أولئك الذين أتموا الخامسة عشرة من عمرهم. ولم يتمّوا الثامنة عشرة من عمرهم.
الأرحاء الثالثة ودورها في تحديد العمر:
تلعب الأرحاء الثالثة (أضراس العقل) التي لا يتمّ إسنانها قبل سن السابعة عشرة-ولهذا أهميته في قانون العقوبات كما أسلفت, إذ يقع ظهورها بين سٍنّي الـ18-19و قد يمتدّ إلى الخامسة والعشرين. فوجودها يدلّ على أن عمر الشخص يزيد عن 17 سنة، في حين يدل عدم اكتمال جذرها شعاعياً على أن صاحبها لم يبلغ الخامسة والعشرين بعد.
أما في مرحلة الكهولة والشيخوخة فإن تقدير العمر سنياً يعتمد على ظواهر عديدة منها:
سريرياً:
▪ درجة انسحال الأسنان.
▪ تراجع اللثة.
▪ تضيق حجرة اللب أو انعدامها.
▪ انغلاق ذرا الجذور.
▪ نقص ثخانة الرباط السني.
● هذا في الأحياء! فماذا عن تعيين عمر صاحب الجثة أو الرمّـة؟
سبقت الإشارة إلى الوسائل المختلفة في تقدير العمر عن الأحياء، ونقول: إن دراسة الأسنان من حيث نموها وتكلّسها هي الأكثر دلالة على تعيين العمر في المراحل الأولى من الحياة، لكن ذلك ينطبق أيضاً على الأشلاء العظمية.
و قد قام العالم غوستافسن بدراسة التغيرات التي تطرأ على الأسنان وبيّن إمكانية الاستفادة منها في تقدير العمر، فذكر أن من هذه التغيرات:
▪ انسحال الأسنان : وميزّ بينه وبين الانسحال المرضي, وهذا يحتاج إلى خبرة واسعة.
▪ توضّع العاج الثانوي : حيث يؤدّي توضّعه مع تقدّم العمر إلى تضييق الحجرة اللبية.وقال بوجود أسباب مرضية تؤدّي إلى تشكّله (كالنخر وانسحال الأسنان). وطبيب الأسنان يميّز بين الشكلين (الطبيعي والمرضي) بسهولة.
▪ شفوفية الأقسام الذروية للجذر: وهذه تزداد بتقدّم العمر.
▪ انغلاق فوهة الجذر: وهذه بالذات علامة جيدة لتقدير العمر.
وقد وضع هذا العالم معادلات خاصة تمكّن من حساب عمر الشخص الذي يصاب بهذه التبدّلات بعد أن قسّمها إلى عدة درجات تُحسب شدتها بعد تعيين مقدارها بإجراء مقاطع طولية لا تزيد ثخانتها عن0.2ملم.
هذا وقد يلعب طبيب الأسنان دوراً في تحديد الجنس من تفحصه لبقايا وأشلاء وعظام الجمجمة والفكين إن كان صاحبها أنثى أم ذكراً، إذ أن لكل منهما مواصفات خاصة يمكن أن تُميّز أحدهما عن الآخر.
طبيب الأسنان الشرعي ودوره في تحديد عمر الجرح:
يمكن لطبيب الأسنان أن يجيب على ذلك بصورة تقريبية فالجرح جديد إذا لم يكن ملتئماً، وهو حديث إن كانت ندبة التئامه حديثة، وقديم في حالة العكس.
أما إن طلبت منه الدقة فعليه مراعاة مايلي:
▪ التورّم الخفيف حول حواف الجرح:علامة على حدوثه قبل 8-12ساعة.
▪ المادة المصلية المتقيحة قليلاً حول سطح الجرح غير المخاط: تشير إلى حدوثه قبل 2-3يوماً.
▪ ظهور الأزرار اللحمية خلال 5 أيام.
▪ التئام الجرح ويتم من 10إلى 14 يوماً، ما لم يحصل تقيّح يؤخّر شفاءَه.
المظاهر الفموية في الحروق التامة:
هل من دور لطبيب الأسنان الشرعي أو خبير الأسنان إذا ما جابه أحدهما جسد متفحّم أو جثةٌ محترقة؟
نعم! ويتجلى دورهما العدلي في:
1 - يستطيع أي منهما أن يعرف هل تمّ الحريق في حياة صاحب الجثة أم بعد مماته أي أن الحريق
جنائي أم لا!
2 - يعرف أن آثار العنف المتواجدة على الجثة قد حصلت بسبب الحريق وليس قبله ثم أُحرق
الجسد.
وقد ثبُت عدلياً أن العلامات التي تدل على أن الإنسان كان حياً وقد عاش مدةً في بدء الحريق هي:
أ- التفاعل الحيوي للحريق في الفم والبلعوم والحنجرة (احمرار ووجود فقاقيع وكذلك خشكريشة مخاطية محاطة بدوائر التهابية حمراء).
ب- تواجد دخان الاحتراق داخل المجاري التنفسية: إذ لا يمكن تواجدها هنا ما لم يكن الشخص حيّاً أثناء الحريق وتَنَفَّس هذه الذرّات.
ج- تواجد أكسيد الفحم في الدم: ويتمّ التأكّد من ذلك مخبرياً.
وبعد كل ما أوردنا لن يفوتنا أن نذكر أن طبيب الأسنان وحده القادر على تحديد نسبة العجز والتعطيل التي يصاب بهما أعضاءُ تخصصه
." منقول تحت اسم الأمانة العلمية ".
طابت أيامكم