علماء المسلمون في الطب

زائر


أطباء منتدى طبيب

في خلال دراستنا تعرفنا على العديد من العلماء في مجال الطب و الذين لهم دور كبير في تطور الطب و ازدهاره في العديد من المجالات

و لكن لو تمعنا في النظر إلى تلك الاسماء ترى أن الجل الأعظم منها غربي و القليل منها عربي ، و هنا قد يتسائل الشخص أين دور العرب في هذا الفرع المهم من العلوم ؟؟؟

لذلك أحببت وضع هذا الموضوع حتى يقرأ المطلع عن كبار العلماء الذين كان لهم دور كبير في وضع الأسس للعديد من العلوم الطبية ، وأن يرى كيف أبدعوا في ذلك الزمان
حيث سوف أضع في كل يوم معلومات عن طبيب عربي كان له الأثر الواضح في هذا العلم الجليل

المعلومات مأخوذة من كتاب (( قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية )) للدكتور راغب السرجاني

أتمنى أن ينال الموضوع على إعجابكم




 

زائر
ابن النفيس ... مكتشف الدورة الدموية

ابن النفيس.. مكتشف الدورة الدموية






أعلم الناس في عصره، وأعظم وأشهر عالم بوظائف الأعضاء في القرون الوسطى برُمَّتِها، والرائد الذي مَهَّد الطريق أمام وليام هارفي، العالم الفسيولوجي الإنجليزي مكتشف الدورة الدموية الكبرى سنة (1628م).. استطاع اكتشاف الدورة الدموية الصغرى، وأن يصفها لأول مرة ليكون رائدًا لمن أتوا بعده!
وبحقٍّ كان مثالاً للعالِم الورع التقيِّ المنقطع للعلم، وواحدًا من أكبر الأطباء العرب والمسلمين الذين حقَّقُوا اكتشافات عظيمة وجليلة، يفتخر به الطب الإسلامي والحضارة الإسلامية إلى يومنا هذا.
قال عنه السبكي: وأمَّا الطب فلم يكن على وجه الأرض مثله، قيل: ولا جاء بعد ابن سينا مثله. قالوا: وكان في العلاج أعظم من ابن سينا. وقال الإسنوي: كان إمام وقته في فنِّه شرقًا وغربًا بلا مدافعة، أعجوبةً فيه وفي غاية الذكاء.
وكان قد أُشكِل على جالينوس فادَّعى أن في الحاجز الذي بين الجانب الأيمن والجانب الأيسر في القلب ثقوبًا غير منظورة؛ يتسرب فيها الدم من الجانب الواحد إلى الجانب الآخر، وما وظيفة الرئتين إلاَّ أن ترفرفا فوق القلب فتُبَرِّدَا حرارته وحرارة الدم، ويتسرب شيءٌ من الهواء فيها بواسطة المنافذ التي بينهما وبين القلب فيُغَذِّي ذلك القلب والدم.
فجاء هو وعارض هذه النظرية معارضة شديدة، وأثبت بما لا يدع مجالاً للشكِّ أن اليونان لم يفهموا وظيفة الرئتين والأوعية التي بين القلب والرئتين، وأنه فهم وظيفتها وأوعيتها، وتركيب الرئة والأوعية الشَّعْرية التي بين الشرايين والأوردة الرئوية، وشرح الفُرَج الرئوية شرحًا واضحًا، كما فهم أيضًا وظائف الأوعية الإكليلية، وأنها تنقل الدم ليتغذَّى القلب به، ونفى التعليم القائل بأن القلب يتغذَّى من الدم الموجود في البُطَيْنِ الأيمن.
ثم كَرَّر تعاليمه في الدورة الدموية الصغرى وطريقة عملها؛ ذلك أنه كَرَّر هذه التعاليم في خمسة مواضع متفرِّقَة، ذاكرًا آراء ابن سينا، ومكرِّرًا أقوال جالينوس التي اعتمد عليها ابن سينا، ثم عارضها بمنتهى الحماسة.. وكان حقيقًا بعد بأن يصفه جورج سارتون بأنه أوَّل مَن اكتشف الدورة الدموية، ليكون بذلك الرائد لوليام هارفي الذي يُنسب إليه هذا الاكتشاف.
إنه الفقيه الطبيب العلامة علاء الدين علي بن أبي الحزم (607-687 هـ1210-1288م)، القَرْشي (بلدة ما وراء النهر) الدمشقي، الملقب بابن النفيس، وهو سوري وُلِدَ في قرية (قَرْش) بالقرب من دمشق.

نشأة ابن النفيس العالِم:

كغيره من علماء المسلمين بدأ ابن النفيس حياته العلمية بحفظ القرآن الكريم، وكذا درس النحو واللغة، والفقه والأصول والحديث، والمنطق والسيرة وغيرها، ثم وفي سنة (629هـ1231م) وهو في الثانية والعشرين من عمره اتجه إلى دراسة الطب، وذلك بعد أزمة صحية ألمَّت به، وتراه يحكي ذلك فيقول: "قد عرض لنا حميات مختلفة، وكانت سنُّنَا في ذلك الزمان قريبة من اثنتين وعشرين سنة، ومن حين عوفينا من تلك المرضة حَمَلنا سوء ظنِّنَا بأولئك الأطباء (وهم الذين عالجوه) على الاشتغال بصناعة الطب لننفع بها الناس".
وكان تعليمه الطب في دمشق على يد طبيب العيون البارع مهذب الدين عبد الرحمن المشهور باسم الدخوار، وهو أحد كبار الأطباء في التاريخ الإسلامي، وكان في ذلك الوقت كبير الأطباء في البيمارستان النوري العظيم، الذي أنشأه نور الدين محمود واجتذب إليه أمهر أطباء العصر الذين توافدوا عليه من كل مكان، وكان من أساتذته في الطب أيضًا عمران الإسرائيلي، ورضي الدين الرجي.
وكان رفيق دراسته ابن أبي أصيبعة (صاحب طبقات الأطباء)، وقد رحلا معًا إلى القاهرة سنة (633هـ)، وعملا في البيمارستان الناصري الذي شغل فيه ابن النفيس منصب الرئاسة، وعميدًا للمدرسة الطبية الملتحقة به، وشغل ابن أبي أصيبعة منصب رئيس قسم الكحالة.
ولم يكتفِ ابن النفيس بما درسه على أساتذة عظام في البيمارستان النوري، بل إنه انكبَّ أيضًا على كُتب ابن سينا وأبقراط وجالينوس، وغيرهم، وقال البعض: إنه كان يحفظ كتاب القانون في الطب لابن سينا عن ظهر قلب.
كما أنه اهتمَّ أيضًا بدراسة الفلسفة والمنطق والبيان، وتعمَّق في دراسة الفقه، وعلوم الشريعة، حتى إنه أصبح أستاذًا للفقه الشافعي في المدرسة المسرورية بالقاهرة، إلى جانب نبوغه وعبقريته في الطب.

العالم المغمور:

لم يكن ابن النفيس مجهولاً في عصره؛ فقد أطنب في الحديث عنه العمري في مسالك الأبصار، والصفدي في الوافي بالوفيات، وابن أبي أصيبعة في إحدى مخطوطاته (طبقات الأطباء)، إلاَّ أن ابن النفيس لم يأخذ حقَّه من الذيوع والشهرة بما يوازي ويضارع إنتاجه واكتشافاته؛ ولعل ذلك بسبب عدم تقدير أو عدم الإحاطة بهذه الاكتشافات في ذلك الوقت.
وقد تناول ابنَ النفيس من المُحْدَثِينَ من الأجانب لكلير في كتابه (الطب العربي)، والمستشرق الألماني مايرهوف في كثير من مقالاته، ووضع الدكتور بول غليونجي كتابًا وافيًا يُعَدُّ أجمع كتاب عن ابن النفيس.
ويقرر بول في كتابه هذا بأن أوَّل مَن كشف عن ابن النفيس في وقتنا الحاضر، وردَّ إليه اعتباره، هو الطبيب المصري الدكتور محيي الدين التطاوي؛ حيث عثر على نسخة من مخطوطة (شرح تشريح القانون) لابن النفيس في مكتبة برلين، وقام بإعداد رسالة في الدكتوراه عنها، وعني فيها بجانب واحد من جوانب هذا الكتاب العظيم، ألا وهو موضوع: (الدورة الدموية تبعًا للقرْشي)، وذلك سنة (1343هـ1924م)، وقد ذُهل أساتذته والمشرفون على الرسالة، وأصابتهم الدهشة حين اطلعوا على ما فيها، وما كادوا يصدقونه!
ولجهلهم باللغة العربية بعثوا بنسخة من الرسالة إلى الدكتور مايرهوف المستشرق الألماني الذي كان آنذاك يقيم بالقاهرة، وطلبوا رأيه فيما كتبه الباحث، وكانت النتيجة أن أيَّد مايرهوف الدكتور التطاوي، وأبلغ حقيقةَ ما كشفه من جهود ابن النفيس إلى المؤرخ جورج سارتون، فنشر هذه الحقيقة في آخر جزء من كتابه المعروف (تاريخ العلم)، ثم بادر مايرهوف إلى البحث عن مخطوطات أخرى لابن النفيس وعن تراجم له، ونشر نتيجة بحوثه في عدَّة مقالات.. ومنذ ذلك الحين بدأ الاهتمام بهذا العالم الكبير وإعادة اكتشافه!

ابن النفيس والدورة الدموية:

اقترن اسم ابن النفيس باكتشاف الدورة الدموية الصغرى، والتي سجَّلَها بدقَّة في كتابه (شرح تشريح القانون)، إلاَّ أن هذه الحقيقة ظلَّت مختفية قرونًا طويلة، ونُسبت وهمًا إلى الطبيب الإنجليزي وليام هارفي (ت 1068هـ1657م) الذي بحث في دورة الدم بعد وفاة ابن النفيس بأكثر من ثلاثة قرون، وظلَّ الناس يتداولون هذا الوهم حتى أبان عن الحقيقة الدكتور محيي الدين التطاوي في رسالته كما أشرنا سابقًا.
وكان الطبيب الإيطالي ألباجو قد ترجم في سنة (954هـ1547م) أقسامًا من كتاب ابن النفيس (شرح تشريح القانون) إلى اللاتينية، وهذا الطبيب أقام ما يقرب من ثلاثين عامًا في (الرها) وأتقن اللغة العربية؛ لينقل منها إلى اللاتينية، وكان القسم المتعلِّق بالدورة الدموية في الرئة ضمن ما ترجمه من أقسام الكتاب، إلاَّ أن هذه الترجمة فُقدت، واتُّفِقَ أن عالمًا إسبانيًّا ليس من رجال الطب كان يُدعى (سيرفيتوس) كان يدرس في جامعة باريس اطلع على ما ترجمه ألباجو من كتاب ابن النفيس، ونظرًا لاتهام سيرفيتوس في عقيدته، فقد طُرِدَ من الجامعة، وتشرَّد بين المدن، وانتهى به الحال إلى الإعدام حرقًا، هو وأكثر كتبه في سنة (1065هـ1553م).
على أن مِن عَدْلِ الأقدار أن بقيت بعضُ كتبه دون حرق، وكان من بينها ما نقله عن ترجمة ألباجو عن ابن النفيس فيما يخصُّ الدورة الدموية، واعتقد الباحثون أن فضل اكتشافها يعود إلى هذا العالم الإسباني، ومن بعده هارفي حتى سنة (1343هـ1924م) حين صحح الطبيب المصري هذا الوهم، وأعاد الحقَّ إلى صاحبه.
وقد أثار ما كتبه الطبيب التطاوي اهتمام الباحثين، وفي مقدمتهم مايرهوف المستشرق الألماني الذي كتب في أحد بحوثه عن ابن النفيس: "إن ما أذهلني هو مشابهة، لا بل مماثلة بعض الجمل الأساسية في كلمات سيرفيتوس لأقوال ابن النفيس التي تُرجمت ترجمة حرفية... أي أن سيرفيتوس - وهو رجل دين متحرِّر وليس طبيبًا - قد ذكر الدورة الدموية في الرئة بلغة ابن النفيس الذي عاش قبله بما يزيد على القرن والنصف".
ولمَّا اطلع الدوميلي على المتنين قال: "إن لابن النفيس وصفًا للدوران الصغير تُطَابِق كلماته كلمات سيرفيتوس تمامًا، وهكذا فمن الحقِّ الصريح أن يُعزى كشف الدوران الرئيسي إلى ابن النفيس لا إلى سيرفيتوس أو هارفي".
وتُعتبر اكتشاف الدورة الدموية الصغرى واحدة فقط من إسهامات واكتشافات ابن النفيس العديدة؛ فهو - بحسب ما كُتِبَ عنه حديثًا - يُعَدُّ مكتشف الدورتين الصغرى والكبرى للدورة الدموية، وواضع نظرية باهرة في الإبصار والرؤية، وكشف العديد من الحقائق التشريحية، وجمع شتات المعرفة الطبية والصيدلانية في عصره، وقَدَّم للعلم قواعد للبحث العلمي وتصوُّرات للمنهج العلمي التجريبي.


>>>


 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:

زائر
ابن النفيس.. مكتشف الدورة الدموية

مؤلفات ابن النفيس:


خَلَّف ابن النفيس مؤلفاتٍ علميةً عديدةً، نُشِر بعضها وما زال الآخر في غياهب المكتبات وحبيس رفوف المخطوطات لم يَرَ النور بعدُ، ومن مؤلفاته ما يلي:
1- (شرح تشريح القانون): وهو من أهمِّ كُتب ابن النفيس، وقد نشر في القاهرة سنة (1408هـ1988م) بتحقيق الدكتور سلمان قطابة، وتبرز قيمته في وصفه للدورة الدموية الصغرى، واكتشافه أن عضلات القلب تتغذَّى من الأوعية المبثوثة في داخلها لا من الدم الموجود في جوفه، كما تَظهر في الكتاب ثقة ابن النفيس في علمه؛ حيث نقض كلام أعظم طبيبين عرفهما العرب في ذلك الوقت؛ وهما: جالينوس، وابن سينا.

2- (الشامل في الصناعة الطبية): ويُعَدُّ أعظم مؤلفاته، كما يُعتبر أضخم موسوعة طبية يكتبها شخص واحد في التاريخ الإنساني، وقد نجح الدكتور يوسف زيدان في مصر في جمع أجزاء الكتاب المخطوطة، كما تطلع المجمع الثقافي في (أبو ظبي) إلى تلك الموسوعة، وأخذ على عاتقه نشر الكتاب محقَّقًا، حتى خرج إلى النور أوَّلُ أجزائه، وذلك في سنة (1422هـ2001م).
وكان ابن النفيس قد عكف على إعداد هذه الموسوعة وهو ينوي أن يجعلها مرجعًا طبِّيًّا شاملاً، لولا أن وافته المنيَّة بعد أن أعدَّ منها ثمانين جزءًا فقط، وهي تمثِّل صياغةً علمية للجهود العلمية للمسلمين في الطب والصيدلة لخمسة قرون من العمل المتواصل.

3- (الموجز في الطب): ويُعتبر هذا الكتاب مرجعًا لكل من أراد دراسة الطب وممارسة هذه المهنة العظيمة، وقد تناقله العلماء بعضهم من بعض، وكثرت شروحه والتعليقات عليه؛ لما نال من منزلة بين علماء العصور كلها حتى يومنا هذا، ويذكر بول غليونجي في كتابه (ابن النفيس) أن كتاب الموجز في الطب لابن النفيس عبارة عن شرحٍ مختصر جدًّا لكتاب القانون في الطب لابن سينا، تناول كل أجزاء القانون بلغة علمية سهلة؛ ما عدا الجزء الخاصَّ بالتشريح ووظائف الأعضاء، الأمر الذي جعله محبوبًا محبَّة بالغة من الوجهة العلمية لممارسي الطب؛ لذا فإنه صار منتشرًا في جميع أنحاء المعمورة، وكان له تأثير عظيم على أطباء العالم أجمع.
والجدير بالذكر أنه توجد نسخ منه على شكل مخطوط في كل من باريس وأكسفورد وفلورنسا وميونيخ والأسكوريال، ويقع الموجز في الطب في أربعة أجزاء، نال تقدير وإجلال أطباء العالم؛ لذا فقد كثرت ترجمته إلى اللغات الأجنبية وتعدَّدت التعليقات عليه، وقد نشر سنة (1406هـ1985م) في القاهرة بتحقيق عبد المنعم محمد عمر، وكانت قد سبقتها نشرة ماكس مايرهوف ويوسف شاخت ضمن منشورات أكسفورد سنة (1388هـ1968م).

4- (شرح فصول أبقراط): وقد طُبِع في بيروت سنة (1409هـ1988م)، بتحقيق ماهر عبد القادر ويوسف زيدان.

5- (المهذب في الكحل المجرب): ونُشر في الرباط سنة (1407هـ1986م)، بتحقيق ظافر الوفائي ومحمد رواس قلعة جي.

6- (المختصر في أصول علم الحديث): ونشر بالقاهرة سنة (1412هـ1991م) بتحقيق يوسف زيدان.


ولا شكَّ أن لكتب ابن النفيس قيمة كبيرة بالنسبة لتاريخ الطب العربي والغربي على حدٍّ سواء, وإضافة إلى ذلك فإنه ألَّف في السيرة وعلم الحديث والنحو والفلسفة والمنطق، وكان ابن النفيس شجاعًا في عرض آرائه العلمية؛ حيث جاء بعضها مخالفًا لآراء قُطْبَي الطب الكبيرين ابن سينا وجالينوس، وكانت مؤلفاتهما تُسيطر على عقول الأطباء في عصره، وكان من الصعب أن يعلن الطبيب مخالفته لها، حتى وإن كان في شهرة ابن النفيس، إلاَّ أنه فعل ذلك ولم يخشَ شيئًا.
وعن طريقته في التأليف يقول ابن قاضي شهبة: "وكانت تصانيفه يمليها مِنْ حفظه ولا يحتاج إلى مراجعة لتبحُّرِه في الفنِّ، وقال السبكي: صنَّف شرحًا على التنبيه وصنَّف في أصول الفقه وفي المنطق، وكان مشاركًا في فنون".
وقال صاحب الأعلام: "وكانت طريقته في التأليف أن يكتب من حفظه وتجاربه ومشاهداته ومستنبطاته، وقل أن يراجع أو ينقل". ثم تراه يقول آخرًا: "وخلَّف مالاً كثيرًا، ووقف كتبه وأملاكه على البيمارستان المنصوري بالقاهرة"!
وفي أيامه الأخيرة مَرِضَ ابن النفيس مرضًا شديدًا، وقد حاول الأطباء أن يعالجوه بالخمر إلاَّ أنه دفعها عن فمه، وهو يقاسي عذاب المرض قائلاً: "لا ألقى الله تعالى وفي جوفي شيء من الخمر"!



 

زائر
ابن سينا.. موسوعة العلم والعلوم

ابن سينا.. موسوعة العلم والعلوم




ظلَّ الشيخ الرئيس ابن سينا (ت 428هـ1037م) لسبعة قرون متوالية المرجع الرئيسي في علم الطب، وبقي كتابه (القانون) في الطب العمدة في تعليم هذا الفنِّ حتى أواسط القرن السابع عشر في جامعات أوربا! ويُعَدُّ ابن سينا أوَّل من وصف التهاب السَّحايا الأوَّليِّ وصفًا صحيحًا، ووصف أسباب اليرقان، ووصف أعراض حصى المثانة، وانتبه إلى أثر المعالجة النفسانية في الشفاء.
وفي صرح الحضارة الإسلامية برز علماء أعلام وجهابذة عظام، عزَّ تاريخ الإنسانية في القديم والحديث أن يجود بمثلهم؛ ولا غرو فهم أعلام الحضارة، وهم صور رائعة تعكس سمو هذه الحضارة الإسلامية الإنسانية، حتى التصق اسمهم بها؛ فغدا ذِكْرهم ذِكْرًا لهذه الحضارة، وغدت دراسة حياتهم دراسة لها أيضًا!
ومن هؤلاء الجهابذة العظام كان ابن سينا أبو علي الحسين بن عبد الله.. الملقب بالشيخ الرئيس، والمعروف عند الأوربيين باسم (Avienna)، وهو من أعظم علماء المسلمين، ومن أشهر مشاهير العلماء العالميين، وقد احتلَّ مكانًا سامقًا في الفكر والفلسفة والطب؛ فكان فيلسوفًا، وطبيبًا، ورياضيًّا، وفلكيًّا.. بل إنه لم يترك جانبًا من جوانب العلوم النظرية أو التطبيقية إلاَّ وتعرَّض له، تعرُّض العالم المتخصِّص المحقِّق؛ حتى كانت له إسهاماته الفعالة وإبداعاته الفريدة في كل مجالات المعرفة والعلوم!
وُلِدَ ابن سينا قرب بخارى - في أوزبكستان حاليًا- سنة (370هـ980م)، ونشأ نشأة علمية؛ حيث تعهَّده والده بالتعليم والتثقيف منذ طفولته، فأحضر له الأساتذة والمربِّين، حتى شبَّ ابن سينا الطفل محبًّا للقراءة والعلم، والاطلاع الواسع في شتى المعارف والعلوم، وقد بلغ فيها ما لم يبلغه غيره، وكل ذلك وهو دون العشرين سنة!
وقد وصف ابن سينا من سيرته ما يغني غيره عن وصفه فقال: "كان أبي رجلاً من أهل بلخ فسكن بخارى في دولة نوح بن منصور، وتولَّى العمل والتصرف بقرية كبيرة، وتزوَّج بأمي فأولدها أنا وأخي، ثم انتقلنا إلى بخارى، وأحضرت معلم القرآن ومعلم الأدب، وأكملتُ عشرًا من العمر وقد أتيت على القرآن وعلى كثير من الأدب، حتى كان يقضى مني العجب. وكان أبي ممن أجاب دعوة المصريين ويُعَدُّ من الإسماعيلية، وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل وكذلك أخي، فربما تذاكروا وأنا أسمعهم وأدرك ما يقولانه ولا تقبله نفسي، وأخذوا يدعونني إليه، ويُجْرُون على ألسنتهم ذِكْر الفلسفة والهندسة والحساب، وأخذ يوجِّهُني إلى مَنْ يُعَلِّمني الحساب. ثم قَدِمَ بخارى أبو عبد الله الناتلي الفيلسوف فأنزله أبي دارنا، وقَبْلَ قُدُومه كنت أشتغل بالفقه والتردُّد فيه إلى الشيخ إسماعيل الزاهد، وكنتُ من أجود السالكين...".
وقد قرأ ابن سينا كتاب إيساغوجي على الناتلي، ثم أحكم عليه علم المنطق، وإقليدس والمجسطي، وفاقه أضعافًا كثيرة؛ حتى أوضح له منها رموزًا وفهمه إشكالات لم يكن للناتلي يد بها، أمَّا تعلُّم الطب فقد تَعَلَّمَه في أقلِّ مدَّة، حتى فاق فيه الأوائل والأواخر -كما يُعَبِّر ابن خلِّكان- وأصبح فيه عديم القرين، فقيد المثل، وقد اختلف إليه فضلاء هذا الفنِّ وكبراؤه؛ يقرءون عليه أنواعه والمعالجات المقتبسة من التجربة، وسنُّه إذ ذاك نحو ست عشرة سنة!
وفي لفتة إنسانية فإن ابن سينا لما نبغ في الطب قام بعلاج المرضى تأدُّبًا وبالمجَّان، لا تكسُّبًا أو لجمع المال؛ وذلك حبًّا للخير والاستفادة بالعلم، وقد واتته فرصة عظيمة عندما نجح في علاج الأمير نوح بن منصور وهو في السابعة عشر من عمره، ذلك الأمر الذي عجز عنه مشاهير الأطباء، فنال بذلك شهرة عظيمة، كما جعل أمراء هذا البيت يُنْعِمُون عليه، ويفتحون له دور كتبهم؛ ليعبَّ منها علمًا غزيرًا لم يتوفر ولم يتحصَّل لغيره، وعمره لم يأتِ بعدُ الثامنة عشر!
وبعد العشرين من عمره انصرف ابن سينا إلى التأليف والكتابة والاشتغال بالفلسفة والطب، حتى إذا ما وصل إلى سن الثانية والعشرين كان أشهر أطباء عصره، وقد أسند إليه منصب رئيس وزراء شمس الدولة أمير ولاية همذان، ثم خدم الأمير علاء الدين في أصفهان، ولم يكن لاشتغاله بتدبير الدولة أي أثر على إنتاجه ودراساته.


ابن سينا.. منهج فريد:


في بحوثه ودراساته كان لابن سينا منهج مغاير لِمَا كان عليه العلماء السابقون، وبخاصَّة علماء وأساطين الفكر اليوناني؛ فقد نزع إلى الاستقلال في الرأي، والتحرُّر من أي فكرة لا يُؤَدِّي إليها نظرٌ عقلي، وقد أدَّاه ذلك إلى ألاَّ يتقيَّد بآراء مَنْ سبقه، بل يبحث ويدرس ويُعمل العقل والمنطق والخبرة التي اكتسبها، فإن أوصلته هذه كلها إلى تلك الآراء الصحيحة أخذ بها، وإن أوصلته إلى غير ذلك نبذها وبيَّن فسادها.
وبذلك فإن ابن سينا خالف أرسطو وأفلاطون، وغيرهما من فلاسفة اليونان في كثير من الآراء؛ فلم يتقيَّد بها، بل أخذ منها ما ينسجم مع تفكيره، وزاد على ذلك كله بقوله بأن: الفلاسفة يخطئون ويصيبون كسائر الناس، وهم ليسوا معصومين من الخطأ والزلل. وهو ما لم يجرؤ على التصريح به الفلاسفة والعلماء في تلك الأزمان.
وأكثر من ذلك أن ابن سينا جعل للتجربة مكانًا عظيمًا ومنزلة سامقة في دراساته وبحوثه، وبالأخصِّ الطبية منها، وقد توصَّل عن طريقها إلى ملاحظات دقيقة ونتائج جديدة مبتكرة، في تشخيص الأمراض واكتشاف العلاج وتحضير الأدوية، وفي ذلك يقول ابن سينا: "تعهَّدت المرضى؛ فانفتح عليَّ من أبواب العلاجات المقتبسة من التجربة ما لا يُوصف..".
وإن هذا المنهج العلمي الذي يعتمد على التجربة هو الذي جعل ابن سينا ينأى بعلم الطب عن السحر والخرافة والشعوذة؛ حيث توصَّل إلى أنه لا بُدَّ أن يكون لكل مرض سبب.
أمَّا أروع ما يميِّز هذا المنهج فكان فيما تجلَّى من اتصال دائم بالله ، وترى ذلك في حديثه حين يقول: "... فكل حُجَّة كنتُ أنظر فيها أُثبت مقدِّمات قياسية، وأُرَتِّبُها في تلك الظهور، ثم نظرتُ فيما عساها تُنْتِج، وراعيتُ شروط مقدِّماته، حتى تحقّق لي حقيقة الحقّ في تلك المسألة، وكلما كنتُ أتحيَّر في مسألة ولم أكن أظفر بالحدِّ الأوسط في قياسٍ تردَّدْتُ إلى الجامع، وصلَّيْتُ وابتهلتُ إلى مبدع الكل، حتى فتح لي المنغلق، وتيسَّر المتعسِّر".


ابن سينا.. ابتكارات سبقت عصرها:


استطاع الشيخ الرئيس ابن سينا - بفضل ما منَّ به الله عليه من العقل والعلم وسعة الاطلاع والولع الشديد بالمعرفة - أن يُقَدِّم للإنسانية أعظم الخدمات والاكتشافات والابتكارات التي فاقت عصرها بالقياس إلى إمكانات ذلك العصر ومدى ما وصلت العلوم فيه آنذاك، وبالأخصِّ في جانب الطب؛ فإليه يرجع الفضل في اكتشاف العديد من الأمراض التي ما زالت منتشرة حتى الآن؛ إذ إنه أول من كشف عن طفيلة (الإنكلستوما)، وسماها في كتابه (القانون في الطب) في الفصل الخامس الخاص بالديدان المعوية: الدودة المستديرة، ووصفها بالتفصيل لأول مرة، وتحدَّث عن أعراض المرض الذي تُسَبِّبه.
وعن هذا الفتح الكبير كتب الأستاذ الدكتور محمد خليل عبد الخالق مقالاً في مجلة الرسالة، جاء فيه: "... قد كان لي الشرف في عام (1921م) أن قمت بفحص ما جاء في كتاب القانون في الطب، وتبيَّن لي أن الدودة المستديرة التي ذكرها ابن سينا هي ما نسميه الآن بالإنكلستوما، وقد أعاد (دوبيني) اكتشافها بإيطاليا عام (1838م)، أي بعد اكتشاف ابن سينا لها بتسعمائة سنة تقريبًا، ولقد أخذ جميع المؤلفين في علم الطفيليات بهذا الرأي في المؤلفات الحديثة، كما أخذت به مؤسسة (روكلفر) الأمريكية التي تعني بجمع كل ما كُتِبَ عن هذا المرض... ولذلك كتبتُ هذا ليطلع عليه الناس ويُضيفوا إلى اكتشافات ابن سينا العديدة هذا الاكتشاف العظيم لمرض هو أكثر الأمراض انتشارًا في العالم الآن..".
ثم إنه تطرَّق إلى بعض أنواع الديدان الطفيلية التي تعيش بعيدًا عن القناة الهضمية؛ مثل: ديدان العين، التي تُفَضِّل منطقة العين، وديدان الفلاريا المسبِّبَة لداء الفيل، فتراه يقول عن الأخير: "هو زيادة في القدم وسائر الرِّجْل على نحو ما يعرض في عروض الدوالي فيغلظ القدم ويكثفه".
كما أنه أول من وصف الالتهاب السحائي، وأول من فرَّق بين الشلل الناجم عن سبب داخلي في الدماغ والشلل الناتج عن سبب خارجي، ووصف السكتة الدماغية الناتجة عن كثرة الدم، مخالفًا بذلك ما استقرَّ عليه أساطين الطب اليوناني القديم، فضلاً عن أنه أوَّل من فرَّق بين المغص المعوي والمغص الكلوي.
وكان ابن سينا صاحب الفضل في علاج القناة الدمعية بإدخال مسبار معقَّم فيها! وابن سينا هو الذي أوصى بتغليف الحبوب التي يتعاطاها المريض، وكشف في دقَّة بالغة عن أعراض حصاة المثانة السريرية، بعد أن أشار إلى اختلافها عن أعراض الحصاة الكُلوية، يقول الدكتور خير الله في كتابه الطب العربي: "ويصعب علينا في هذا العصر أن نُضيف شيئًا جديدًا إلى وصف ابن سينا لأعراض حصى المثانة السريرية".
كما كان لابن سينا باع كبير في مجال الأمراض التناسلية؛ فوصف بدقَّة بعض أمراض النساء؛ مثل: الانسداد المهبلي, والإسقاط، والأورام الليفية. وتحدَّث عن الأمراض التي يمكن أن تُصيب النفساء؛ مثل: النزيف، واحتباس الدم، وما قد يسبِّبه من أورام وحميات حادَّة، وأشار إلى أن تَعَفُّن الرحم قد ينشأ من عسر الولادة أو موت الجنين، وهو ما لم يكن معروفًا من قبلُ.. كما تعرَّض - أيضًا - للذكورة والأنوثة في الجنين, وعزاها إلى الرجل دون المرأة، وهو الأمر الذي أكَّده مؤخَّرًا العلم الحديث.
كما كشف ابن سينا - لأوَّل مرَّة أيضًا - طرق العدوى لبعض الأمراض المعدية كالجدري والحصبة، وذكر أنها تنتقل عن طريق بعض الكائنات الحية الدقيقة في الماء والجو، وقال: "إن الماء يحتوي على حيوانات صغيرة جدًّا لا تُرى بالعين المجرَّدة، وهي التي تسبِّب بعض الأمراض..". وهو ما أكَّده (فان ليوتهوك) في القرن الثامن عشر والعلماء المتأخِّرُون من بعده، بعد اختراع المجهر.
ويُظهر ابن سينا براعة كبيرة ومقدرة فائقة في علم الجراحة؛ فقد ذكر عدَّة طرق لإيقاف النزيف؛ سواء بالربط، أو إدخال الفتائل، أو بالكي بالنار، أو بدواء كاوٍ، أو بضغط اللحم فوق العرق.. كما تحدَّث عن كيفية التعامل مع السِّهام واستخراجها من الجروح، وحذَّر المعالجين من إصابة الشرايين أو الأعصاب عند إخراج السهام من الجروح، كما نبَّه إلى ضرورة أن يكون المعالج على معرفة تامَّة بالتشريح.

>>>


 

زائر
ابن سينا.. موسوعة العلم والعلوم

وإلى جانب كل ما سبق – وهناك غيره كثير - كان ابن سينا على دراية واسعة بطب العيون والأسنان, وكان واضحًا دقيقًا في تحديده للغاية والهدف من مداواة نخور الأسنان حين قال: "الغرض من علاج التآكل منع الزيادة على ما تآكل؛ وذلك بتنقية الجوهر الفاسد منه، وتحليل المادَّة المؤدِّية إلى ذلك...". ونلاحظ أن المبدأ الأساسي لمداواة الأسنان هو المحافظة عليها, وذلك بإعداد الحفرة إعدادًا فنيًّا ملائمًا مع رفع الأجزاء النخرة منها، ثم يعمد إلى ملئها بالمادَّة الحاشية المناسبة لتعويض الضياع المادي الذي تَعَرَّضَتْ له السنُّ؛ ممَّا يُعِيدها بالتالي إلى أداء وظيفتها من جديد.
ودرس ابن سينا الاضطرابات العصبية وتوصَّل إلى بعض الحقائق النفسية والمرضية عن طريق التحليل النفسي، وكان يرى أن العوامل النفسية والعقلية لها تأثير كبير على أعضاء الجسم ووظائفها.
وبالإضافة إلى هذا فإن ابن سينا قد درس وعمل بحوثًا في الزمان والمكان، والحيز، والقوة والفراغ.. وقال بأن: شعاع العين يأتي من الجسم المرئي إلى العين. وعمل تجارب عديدة في الوزن النوعي ووَحدة الوزن النوعي لمعادن كثيرة، كما بحث في الحركة وتناول الأمور المتعلِّقَة بها، وموضع الميل القسري والميل المعاون، وقد خرج الأستاذ مصطفى نظيف إلى أن دراسات ابن سينا في هذا المضمار - بالإضافة إلى دراسات علماء مسلمين آخرين - قد ساهمت في التمهيد لبعض معاني علم الديناميكا الحديث، وأن ابن سينا مع بقية هؤلاء العلماء المسلمين قد أدركوا القسط الأوفر في المعنى المنصوص عليه في القانون الأول من قوانين نيوتن الثلاثة في الحركة، وأوردوا على ذلك نصوصًا صريحة.
ولابن سينا كذلك بحوث نفيسة في المعادن وتكوين الجبال والحجارة، كانت لها مكانة خاصة في علم طبقات الأرض، وقد اعتمد عليها العلماء في أوربا، وبقيت معمولاً بها في جامعاتهم حتى القرن الثالث عشر للميلاد.

ابن سينا.. آثار خالدة:

ترك ابن سينا آثارًا خالدة ونتاجًا غزيرًا، ينبئ عن إسهاماته العظيمة في مسيرة الإنسانية، ومكانته السامقة في تاريخ تَقَدُّم الفكر والعلم؛ فقد وضع ما يزيد على مائة مؤلَّف ورسالة في مختلف مجالات المعرفة والعلوم، عُدَّ بعضها موسوعاتٍ ودوائر معارف.
ولعلَّ كتابه (القانون في الطب) من أهم مؤلفات ابن سينا الطبية وأنفسها، وأكثرها شهرة وانتشارًا في الجامعات والكليات، ويسميه علماء الغرب: (annmediina)، وقد تحدَّث فيه ابن سينا عن علم وظائف الأعضاء، وعلم الأمراض، وعلم الصحة، ومعالجة الأمراض، وعلم الأدوية، والتشريح، وقد ترجمه الغرب إلى لغاتهم، وطُبِعَ خمس عشرة مرَّة، وبقي مُعَوَّلاً عليه في دراسة علم الطب في الجامعات الأوربية طيلة ستة قرون حتى منتصف القرن السابع عشر.
تقول زيغريد هونكه عن هذا الكتاب: "إن كُتب أعاظم الإغريق والإسكندريين ليبهت لونها، ويقلُّ شأنها أمام كتاب القانون لأمير الأطباء الرئيس ابن سينا، ذلك الكتاب الذي كان له أعظم الأثر في بلاد الشرق وبلاد الغرب على حدٍّ سواء قرونًا طويلة من الزمن بشكل لم يكن له أي مثيل في تاريخ الطب إطلاقًا".
ويقول نوبرجر (Nebege) في كتابه عن تاريخ الطب: "إنهم كانوا ينظرون إلى كتاب القانون كأنه وحي معصوم، ويَزيدهم إكبارًا له تنسيقه المنطقي الذي لا يُعاب، ومقدِّماته التي كانت تبدو لأبناء تلك العصور كأنها القضايا المُسَلَّمة والمقرَّرَات البديهية".
ويقول السير (ويليام أوسلر) عن منزلة الكتاب: "أنه كان بمثابة الإنجيل في عالم الطب ما يزيد على سبعة قرون من الزمن".
ومن كتب ابن سينا المهمة أيضًا كتاب (الشفاء)، وهو موسوعة من ثمانية عشر جزءًا؛ في الرياضيات والطبيعة وعلوم الدين والاقتصاد والسياسة والموسيقى، وكتاب (أسباب حدوث الحروف) ويُعَدُّ دراسة لعلم الصوتيات.
ومن تصانيفه المشهورة كذلك: المعاد، وأسرار الحكمة المشرقية، والإشارات، وأسرار الصلاة، وهو في ماهية الصلاة وأحكامها الظاهرة وأسرارها الباطنة، وأرجوزة في الطب، والنبات والحيوان، وأسباب الرعد والبرق، وغيرها كثير.
وقد تُرجمت كتب ابن سينا في الطب إلى اللاتينية ومعظم لغات العالم، وظلَّت زهاء ستة قرون المرجع العالمي في الطب، واستُخْدِمَتْ كأساس للتعليم في جامعات فرنسا وإيطاليا جميعًا، وظلَّت تدرس في جامعة مونبلييه حتى أوائل القرن التاسع عشر.


هذا، وبعد حياة مثمرة حافلة بالعطاء، وبعد أن باتت مؤلفاته وابتكاراته منهجًا يسير عليه الغرب لعديد من القرون في تدريس الطب، وبعد أن ترك بصماته الواضحة على نمو وتقدُّم الفكر والعلم.. توفي ابن سينا في همذان سنة (428هـ1037م)، فرحمة الله عليه.



 

عالم وطبيب مسلم له باع طويله في العلوم الطبيه والتي درست في الجامعات الاوروبيه لفتره طويله من الزمن
مع تحياتي للاخت توزوما
 

زائر


الشكر الجزيل لك دكتور أحمد على الرد و التفاعل

زينت الموضوع بتواجدك وردك الكريم

ملاحظة : أنا ذكر ولست أنثى Fa20

دمت بحفظ المولى
 

زائر
الرازي.. معجزة الطب عبر الأجيال

الرازي.. معجزة الطب عبر الأجيال




لعله من العجيب أن يُذكر إنسانٌ ما على أنه صورة من صور الحضارة؛ فقد تَعَوَّدنا على وصف الحضارة على أنها نتاج أعمال كثيرة وأعداد كثيرة من البشر برعوا معًا في الإبداع في مجال من مجالات الحياة: كالطب أو الهندسة أو المعمار أو غير ذلك.
ولكن الواقع أن الحضارة الإسلامية صنعت رجالاً ونساءً كانوا بحقٍّ صورًا رائعة من صور الحضارة، بحيث تلتصق بهم كلمة الحضارة، فإذا ذكروا فهذه هي الحضارة، وإن درست حياتهم فهذه دراسة للحضارة!

لم يكن الرازي طبيبًا فحسب، ولا معلِّمًا فقط، ولكنه أبدع كذلك في مجالات الأخلاق والقيم والدين، كما أبدع - ولا شكَّ في ذلك - في مجال الإنسانيات، حتى أصبح علمًا من أعلام الفضيلة، كما كان عَلَمًا من أعلام الطب، ولا شكَّ أن هذا الرجل العظيم من أعظم صور الحضارة الإسلامية.
فهو أبو بكر محمد بن زكريا الرازي.. وقد وُلِدَ في مدينة الرَّيّ، وإليها نُسِب، ومدينة الرَّيّ تقع على بُعْدِ ستة كيلو مترات جنوب شرقي طهران، وكان ميلاده في سنة (250هـ 864م)، وكان منذ طفولته محبًّا للعلم والعلماء، فدرس في بلدته (الرَّيّ) العلوم الشرعية والطبية والفلسفية، ولكن هذا لم يُشْبع نَهَمَه لطلب العلم؛ فلم تكن مدينة الرَّيّ - على اتساعها وكثرة علمائها - بالمدينة التي تحوي علوم الأرض في ذلك الوقت؛ ولذلك يمَّم الرازي وجهه شطر عاصمة العلم في العالم في ذلك الوقت، وهي (بغداد) عاصمة الخلافة العباسية، فذهب إليها في شِبه بعثة علمية مكثَّفة، تَعَلَّم فيها علومًا كثيرة، ولكنه ركَّز اهتمامه في الأساس على الطب، وكان أستاذه الأول في هذا المجال هو "علي بن زين الطبري"، وهو صاحب أول موسوعة طبية عالمية (فردوس الحكمة).

ويمثل النصف الثاني من القرن الثالث الهجري والنصف الثاني من القرن التاسع الميلادي أبو بكر الرازي (ت 311هـ 923م) الذي يُعَدُّ عَلَمًا من أعلام الطب في الحضارة الإسلامية، ويُعتبر من أعظم مُعَلِّمي الطب الإكلينيكي، وقد تولَّى تدبير مارستان الرَّيِّ، ثم رئاسة أطباء المارستان المقتدري في بغداد، وهو أول من أدخل المُرَكَّبَات الكيماوية في العلاجات الطبية، وأول من صنف مقالات خاصَّة في أمراض الأطفال، وأول من استعمل أمعاء الحيوان كخيوط في العمليات الجراحية.
كما يُعْتَبَر أول من دوَّن ملاحظاته على مرضاه، ومراتب تَطَوُّر المرض، وأثر العلاج فيه، وأول من وصف الجدري والحصبة، وقال بالعدوى الوراثية، واستخدم الحيوان في تجارِب الأدوية، ومن مؤلَّفاته غير الكتاب المذكور: الحاوي، ورسالة في الجدري والحصبة، والكتاب المنصوري، وكتاب الأسرار، والكتاب الجامع.

ولتمكُّنِه ونتيجة كثرة تجارِبه فقد أطاح بنظريات جالينوس التي ادَّعى فيها أن في الحاجز الذي بين الجانب الأيمن والجانب الأيسر في القلب ثقوبًا غير منظورة يتسرب فيها الدم من الجانب الواحد إلى الجانب الآخر، وما وظيفة الرئتين إلاَّ أن ترفرفا فوق القلب فتبرِّد حرارته وحرارة الدم، ويتسرب شيء من الهواء فيها بواسطة المنافذ التي بينهما وبين القلب فيغذِّي ذلك القلب والدم. فانتقد الرازي هذه الآراء، حتى إنه ألَّف كتابًا خاصًّا للردِّ على جالينوس أعظم أطباء اليونان، وسمَّاه (الشكوك على جالينوس)، وذكر فيه الأخطاء التي وقع فيها جالينوس، والتصويب الذي قام هو به لهذه الأخطاء، وكيف وصل إلى هذه النتائج.

اهتمَّ الرازي أيضًا بالعلوم التي لها علاقة بالطب؛ كعلم الكيمياء والأعشاب، وكذلك علم الفلسفة؛ لكونه يحوي آراء الكثير من الفلاسفة اليونان والذين كانوا يتكلمون في الطب أيضًا، وكان أستاذه الأول في الفلسفة هو (البلخي)، وهكذا أنفق الرازي عدَّة سنوات من عمره في تَعَلُّم كل ما يقع تحت يديه من أمور الطب، حتى تَفَوَّق في هذا المجال تَفَوُّقًا ملموسًا.

ثم عاد الرازي بعد هذا التميز إلى الرَّيّ، فتقلَّد منصب مدير مستشفى مدينة الرَّيّ، وكان من المستشفيات المتقدِّمَة في الإسلام، وذاعت شهرته، ونجح في علاج الكثير من الحالات المستعصية في زمانه، وسمع بأمره الكبير والصغير والقريب والبعيد، حتى سمع به (عضد الدولة بن بويه) كبير الوزراء في الدولة العباسية، فاستقدمه إلى بغداد ليتولَّى منصب رئيس الأطباء في المستشفى العضدي، وهو أكبر مستشفى في العالم في ذلك الوقت، وكان يعمل به خمسون طبيبًا.

والحقُّ أنه لم يكن مستشفى فقط، بل كان جامعة علمية، وكليَّةً للطب على أعلى مستوى، وقد أصبح الرازي فيه مرجعية علمية لا مثيل لها، ليس في بغداد فقط، وإنما في العالم كله، وليس على مدى سنوات معدودة، ولكن لقرون متتالية؛ فكان معجزة الطب عبر الأجيال!

ولعلَّه من المهم جدًّا أن نقف وقفة ونتساءل: كيف وصل الرازي إلى هذا المجد، وإلى هذه المكانة؟
لا بدَّ أن نعلم أن النجاح لا يأتي مصادفة، وأن التفوُّق لا يكون إلاَّ بجهد وتعب وبذل وتضحية، كما أن الإبداع لا يكون عشوائيًّا أبدًا، إنما يحتاج إلى تخطيط وتدريب ومهارة، وهكذا كانت حياة الرازي ~.
لقد بحث الرازي عن العلم في كل مصادره، واجتهد قدر استطاعته في تحصيل كل ما يقع تحت يده من معلومات، ثم أتبع ذلك بتفكير عميق وتجارِب متعددة، ودراسة متأنية، حتى بدأ يُعَدِّل في النظريات التي يقرؤها، وأخذ ينقد ويُحَلِّل، ثم وصل إلى الاختراع والإبداع.

لقد انتشر في زمان الرازي الطب اليوناني، والفارسي، والهندي، والمصري نتيجة اجتهاد العلماء في ترجمة كتب تلك الأمم، فقرأها الرازي جميعًا، لكنه لم يكتفِ بالقراءة بل سلك مسلكًا رائعًا من أرقى مسالك العلم وهو الملاحظة والتجربة والاستنتاج.

فقد كان الطب اليوناني هو أهم طب في تلك الفترة، ولكنه كان يعتمد في الأساس على النظريات غير المجرَّبة، وكان كل أطباء اليونان يعتمدون هذه الطريقة حتى عُرِفُوا بفلاسفة الطب، فهم لم يُخضعوا نظرياتهم لواقع الحياة إلاَّ قليلاً، ولا يُستثنَى من ذلك أحدٌ من أطباء اليونان حتى العمالقة منهم أمثال جالينوس وأبقراط! ولكن الرازي قال كلمته المشهورة التي تعتبر الآن قانونًا من قوانين العلم بصفة عامة، والطب بصفة خاصة، قال: "عندما تكون الواقعة التي تواجهنا متعارضة والنظرية السائدة يجب قبول الواقعة، حتى وإن أخذ الجميع بالنظرية تأييدًا لمشاهير العلماء.."!

فهو يذكر أنه ليس لعالم مشهور أو غير مشهور أن يُقَرِّرَ نظرية تتعارض مع المشاهدة الفعلية والتجربة الحقيقية والواقعة الحادثة، بل تُقَدَّم الملاحظة والتجربة؛ وبذلك يُبْنَى الاستنتاج على ضوء الحقائق لا الافتراضات الجدلية.

ما أروعه حقًّا من مبدأ! وما أبدعها من طريقة!
ولذلك نجد أن الرازي كثيرًا ما انتقد آراء العلماء السابقين نتيجة تجارِبه المتكرِّرَة، بل إنه ألَّف كتابًا خاصًّا للردِّ على جالينوس أعظم أطباء اليونان وسمَّى الكتاب (الشكوك على جالينوس)، وذكر في هذا الكتاب الأخطاء التي وقع فيها جالينوس، والتصويب الذي قام هو به لهذه الأخطاء، وكيف وصل إلى هذه النتائج.
وكان الرازي حريصًا على سؤال المريض عن كل ما يَتَعَلَّق بالمرض تقريبًا من قريب أو بعيد، وكان يقول: "إن الطبيب ينبغي ألاَّ يدع مُساءَلة المريض عن كل ما يمكن أن يقوله عن علَّته". وهذه أول خطوة في التعامل مع المريض في الطب الحديث، وهي معرفة تاريخ المرض والأمور المحتملة التي قد تكون سبَّبت المرض، ثم يقوم الرازي بالكشف على المريض وقياس الحرارة والنبض، وإذا استلزم الأمر أن يُدخل المريض المستشفى فإنه يضعه تحت الملاحظة الدقيقة المستمرَّة؛ لتسجيل كل معلومة قد تكون مفيدة في كشف سبب المرض، أو في وصف العلاج، وقد كان الرازي من الدقَّة إلى درجة أذهلت من قرأ تعليقاته على الحالات المرضية التي وصفها.

بل إن الرازي وصل إلى ما هو أروع من ذلك؛ حيث أرسى دعائم الطب التجريبي على الحيوانات، فقد كان يُجَرِّب بعض الأدوية على القرود، فإن أثبتت كفاءة وأمانًا جَرَّبها مع الإنسان، وهذا من أروع ما يكون، ومعظم الأدوية الآن لا يمكن إجازتها إلاَّ بتجارِب على الحيوانات كما كان يفعل الرازي ~.
ولقد كان من نتيجة هذا الأسلوب العلمي المتميز للرازي أن وصل إلى الكثير من النتائج المذهلة، وحقق سبقًا علميًّا في كثير من الأمور.

فالرازي هو أول مبتكر لخيوط الجراحة، وقد ابتكرها من أمعاء القطة! وقد ظلَّت تُسْتَعْمَل بعد وفاته لعدة قرون، ولم يَتَوقَّف الجرَّاحون عن استعمالها إلاَّ منذ سنوات معدودة في أواخر القرن العشرين، عند اختراع أنواع أفضل من الخيوط، وهذه الخيوط هي المعروفة بخيوط أمعاء القط (atgt".
والرازي هو أول من صنع مراهم الزئبق.

وهو أول من فرَّق بين النزيف الوريدي والنزيف الشرياني، واستخدام الضغط بالأصابع لإيقاف النزف الوريدي، واستخدم الربط لإيقاف النزيف الشرياني، وهذا عين ما يُستخدم الآن!
وهو أول من وصف عملية استخراج الماء من العيون.
وهو أول من استخدم الأفيون في علاج حالات السعال الجاف.
وهو أول من أدخل المليِّنات في علم الصيدلة.
وهو أول من اعتبر الحمَّى عرضًا لا مرضًا.
وكان ~ يهتمُّ بالتعليق على وصف البول ودم المريض للخروج منهما بمعلومات تفيده في العلاج.
كما نصح بتجنُّبِ الأدوية الكيميائية إذا كانت هناك فرصة للعلاج بالغذاء والأعشاب، وهو عين ما ينصح به الأطباء الآن.

 

زائر
الرازي.. معجزة الطب عبر الأجيال

ولم يكن الرازي مبدعًا في فرع واحد من فروع الطب، بل قَدَّم شرحًا مفصَّلاً للأمراض الباطنية والأطفال، والنساء والولادة، والأمراض التناسلية، والعيون، والجراحة، وغير ذلك.

وقد منحه الله ذكاءً فوق العادة، ويؤكِّد ذلك وسيلته في اختيار المكان المناسب لإنشاء مستشفى كبير في بغداد، فقد اختار أربعة أماكن تصلح لبناء المستشفى، ثم بدأ في المفاضلة بينها، وذلك بوضع قطعة لحم طازجة في الأماكن الأربعة، ثم أخذ يتابع تعفُّن القطع الأربع، ثم حدَّد آخر القطع تَعَفُّنًا، واختار المكان الذي وُضعت فيه هذه القطعة لبناء المستشفى؛ لأنه أكثر الأماكن تميزًا بجوٍّ صحِّيٍّ، وهواء نقي يساعد على شفاء الأمراض.

ولم يكن الرازي مجرَّد طبيب يهتمُّ بعلاج المرض، بل كان معلمًا عظيمًا يهتمُّ بنشر العلم وتوريث الخبرة، وكان ~ يُدَرِّس تلامذته الطب في المدرسة الطبية العظيمة في المستشفى العضدي ببغداد، وكان يعتمد في تدريسه على المنهجين: العلمي النظري، والتجريبي الإكلينيكي؛ فكان يُدَرِّس الكتب الطبية، وبعض المحاضرات، ويدير الحلقات العلمية، وفي ذات الوقت يمرُّ مع طلبته على أسِرَّة المرضى؛ يشرح لهم ويُعَلِّمهم وينقل لهم خبرته، وكان يُدرِّس لهم الطب في ثلاث سنوات، ويبدأ بالأمور النظرية ثم العملية، تمامًا كما يحدث في كليات الطب الآن، وكان في آخر السنوات الثلاث يعقد امتحانًا لطلبة الطب مُكَوَّنًا من جزأين: الجزء الأول في التشريح، والثاني في الجانب العملي مع المرضى، ومن كان يفشل في الجانب الأول (التشريح) لا يدخل الامتحان الثاني، وهذا أيضًا ما نمارسه الآن في كليات الطب.
ولم يكن الرازي يكتفي فقط بالتدريس والتعليم والامتحانات لنقل العلم، بل اهتمَّ بجانب آخر لا يقل أهمية عن هذه الجوانب وهو جانب التأليف، فكان ~ مُكثرًا من التأليف وتدوين المعلومات وكتابة الكتب الطبية، حتى أحصى له ابن النديم في كتابه (الفهرست) 113 كتابًا، و28 رسالة، وهذا عدد هائل، خاصةً وأنها جميعًا في مجال الطب.

وقد كان من أعظم مؤلفات الرازي كتاب (الحاوي في علم التداوي)، وهو موسوعة طبية شاملة لكافَّة المعلومات الطبية المعروفة حتى عصر الرازي، وقد جمع فيه ~ كل الخبرات الإكلينيكية التي عرفها، وكل الحالات المستعصية التي عالجها، وتتجلَّى في هذا الكتاب مهارة الرازي ~، ودقَّة ملاحظاته، وغزارة علمه، وقوة استنتاجه.

وقد تُرجِم هذا الكتاب إلى أكثر من لغة أوربية، وطُبع لأول مرة في بريشيا بشمال إيطاليا سنة (891هـ 1486م)، وهو أضخم كتاب طُبع بعد اختراع المطبعة مباشرة، وكان مطبوعًا في خمسة وعشرين مجلدًا، وقد أُعيدت طباعته مرارًا في البندقية بإيطاليا في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، ويذكر المؤرخ (ماكس مايرهوف) أنه في عام 1500 ميلادية كان هناك خمس طبعات لكتاب الحاوي، مع عشرات الطبعات لأجزاء منه.

ومن كتبه أيضًا "المنصوري"، وقد سماه بهذا الاسم نسبة إلى المنصور بن إسحاق حاكم خراسان، وقد تناول فيه موضوعات طبية متعددة في الأمراض الباطنية والجراحة والعيون، وقد تعمَّد الرازي الاختصار في هذا الكتاب، فجاء في عشرة أجزاء! لذلك رغب العلماء الأوربيون في ترجمته عدَّة مرَّات إلى لغات مختلفة، منها اللاتينية والإنجليزية والألمانية والعبرية، وقد تمَّ نشره لأول مرَّة في ميلانو سنة (886هـ1481م)، وظلَّ مرجعًا لأطباء أوربا حتى القرن السابع عشر الميلادي.

ومن أروع كتبه كذلك كتاب "الجدري والحصبة"، وفيه يُتبيّن أن الرازي أول من فَرَّق بين الجدري والحصبة، ودوَّن ملاحظات في غاية الأهمية والدقة للتفرقة بين المرضين، وقد أُعيدت طباعة هذا الكتاب في أوربا أربع مرات بين عامي (903- 1283هـ 1498- 1869م).
ومن كتبه أيضًا كتاب "الأسرار في الكيمياء"، والذي بقي مدَّة طويلة مرجعًا أساسيًّا في الكيمياء في مدارس الشرق والغرب.

ومن كتبه المهمة كذلك كتاب "الطب الروحاني" الذي ذكر فيه أن غايته من الكتاب هو إصلاح أخلاق النفس، وحضَّ في كتابه هذا على تكريم العقل، وعلى قمع الهوى، ومخالفة الطباع السيئة، وتدريب النفس على ذلك.

إلاَّ أن أهم ما ميَّز الرازي في ذلك كله، هو البُعد الأخلاقي عنده؛ فقد تميَّز ~ بالأمانة العلمية التامَّة في كتاباته؛ فكان لا يذكر أمرًا من الأمور اكتشفه غيره إلاَّ أشار إلى اسم المكتشف الأصلي؛ ولذلك حفلت كتبه بأسماء جالينوس وأبقراط وأرمانسوس، وغيرهم، كما ذكر في كتبه المُحْدَثِين من الأطباء أمثال: يحيى بن ماسويه وحنين بن إسحاق.

وكان الرازي يحضُّ تلامذته على اتباع نهج الكتابة والتأليف، فكان يقول لهم: "إذا جمع الطالب أكبر قدر من الكتب وفهم ما فيها، فإن عليه أن يجعل لنفسه كتابًا يضمنه ما غفلت عنه الكتب التي قرأها".
فهو ينصح كل طلبته أن يسجِّلُوا المعلومات التي يلاحظونها في أثناء دراستهم وعلاجهم للمرضى - والتي لم تُذكر في الكتب السابقة - وبذلك يستفيد اللاحقون بعلمهم وتأليفهم.

ولم يكن الرازي عالمًا فقط، بل كان إنسانًا خلوقًا من الدرجة الأولى؛ فقد اشتهر بالكرم والسخاء، وكان بارًّا بأصدقائه ومعارفه، عطوفًا على الفقراء وبخاصة المرضى، فكان يُنفق عليهم من ماله الخاص، ويجري عليهم أحيانًا الرواتب الثابتة!

وكان يوصي تلامذته أن يكون هدفهم هو إبراء المرضى أكثر من نيل الأجور منهم، ويوصيهم كذلك بأن يكون اهتمامهم بعلاج الفقراء تمامًا كاهتمامهم بعلاج الأمراء والأغنياء، بل إنه من شدَّة اهتمامه بالفقراء ألَّف لهم كتابًا خاصًّا سماه "طب الفقراء"، وصف فيه الأمراض المختلفة وأعراضها ثم وصف طرق علاجها عن طريق الأغذية والأعشاب الرخيصة بدلاً من الأدوية مرتفعة الثمن أو التراكيب النادرة.
ومن شدَّة اهتمامه بالأخلاق الحميدة ألَّف كتابًا خاصًّا بهذا الأمر سماه "أخلاق الطبيب"؛ يشرح فيه العلاقة الإنسانية بين الطبيب والمريض، وبين الطبيب والطبيب، وضمَّنه كذلك بعض النصائح للمرضى في تعاملهم مع الأطباء.

هذا، وقد اعترف القاصي والداني لأبي بكر الرازي بالفضل والمجد والعظمة والعلم والسبق، ولا نقصد بذلك المسلمين فقط، بل اهتمَّ غير المسلمين أيضًا بإنجازات الرازي وابتكاراته.
فنجد فضلاً عن ترجمة كتبه إلى اللغات الأوربية وطبعها أكثر من مرَّة، نجد إشارات لطيفةً وأحداثًا عظيمة تشير إلى أهمية ذلك العالم الجليل، ومن ذلك أن الملك الفرنسي الشهير لويس الحادي عشر، الذي حكم من عام (1461م إلى 1483م)، قد دفع الذهب الغزير لينسخ له أطباؤه نسخة خاصة من كتاب (الحاوي)؛ كي يكون مرجعًا لهم إذا أصابه مرض ما!

ونجد أن الشاعر الإنجليزي القديم (جوفري تشوسر) قد ذكر الرازي بالمدح في إحدى قصائده المشهورة في كتابه (أقاصيص كونتربري)!
ولعل من أوجه الفخار - أيضًا - أنه رغم تطوُّر العلم وتعدُّد الفنون إلاَّ أن جامعة بريستون الأمريكية ما زالت تطلق اسم الرازي على جناح من أكبر أجنحتها، كما تضع كلية الطب بجامعة باريس نصبًا تذكاريًّا للرازي، بالإضافة إلى صورته في شارع سان جيرمان بباريس.
لقد كان الرازي بحقٍّ صورة رائعة من صور الحضارة الإسلامية، قلَّما تتكرَّر في التاريخ، لقد كان طبيبًا وعالمًا، ومعلمًا وإنسانًا، عاش حياته لخدمة الإسلام والعلم والبشرية، ومات عن عمر بلغ ستين عامًا، وكانت وفاته في شعبان (311هـ نوفمبر 923م).

لكن من الصعب أن نقول: إنه مات. فالمرء يُكتَب له الخلود بقدر ما ينفع الناس، وصدق الرسول الكريم عندما ذكر في الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي أنه قال: "إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ.. ". وذكر منها: ".. عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ".

 

زائر
يعطيج الف عافيه على الجهود المبذوله