زائر
متعة أن تكون دارسا للطب (من كتابات عمرو مجدي)
هممم.. الملل يسيطر عليّ، أشعر بتلافيف مخي الرمادية تستغيث بي أن أطرق بأصابعي عدة طرقات على أزرار الكيبورد.. كي أخرج تلك الأفكار الحبيسة..
أتخيل الأفكار الحبيسة تتقافز في شجعٍ واضح داخل سجنها الجمجمي، هيه هيه .. كل واحدة من تلك تحاول أن تخرج أولاً .. فأصرخ : بهدوء!
تكف الأفكار عن التصارع الآن، وتبدأ في الوقوف صفاً واحداً كما علمتها دائما، كي تسهل عملية الخروج.. هممم هكذا أستطيع أن أفرج عنكن في سلاسة!!
كتبت قبل ذلك عن "طالب في حالة التباس" .. وهو ما لا يجب أن يفهم على أنه كراهية للطب، ها هو الفصّ المسؤول عن المشاعر في دماغي يصرخ مؤيداً .. نعم نعم هو صادق!
>< جولة في الكلية ><
أن تكون طالباً فهذه متعة، يعرفها من أنهوا دراستهم، وسقطوا في دوامة الحياة العملية، أمّا أن تكون طالباً تدرس الطب فهي متعة أخرى يحسدك عليها زبانية ُجزر الهاواي!
ماشياً في الكلية قاصداً هدفي، تستوقفني سيدة عجوز، تبدو الطيبة المصرية في عينيها، تُبرز ورقة "روشتة" وتقول: ممكن يابني تقولي الأدوية دية أسمائها إيه؟
في فِهم أنظر إليها، لقد فهمت، هي تريد المساعدة، لكن لسان حالها "لا يسألون الناس إلحافاً" .. أنا أعرف هؤلاء من أولئك، أعرف "المسكين" من "المتمسكن" .. أو بمعنى آخر محترفي التسول.. وهي لا يبدو عليها أنها من ذاك النوع القذر، لذلك أخذها من يدها، أخرج من الكلية وأعبر بها الشارع للناحية المقابلة حيث توجد صيدلية مجاورة، أطلب من الصيدلاني الأدوية التي في الروشتة، وأدفع الثمن، وأعطيها لسيدتي العجوز.. "قصة خيالية".. مبروك لقد كتب لي ما يزيد عن أجر اعتكاف 40 يوماً في مسجد الحبيب المصطفى.
الآن أعود أدراجي للكلية، يستوقفني رجل آخر، تبدو عليه أمارات الهمّ، يسألني عن مكان المشرحة، آها .. الآن فهمت، لقد جاء للسؤال عن أحد أقاربه الذين توفاهم الله، لذلك يبدو الحزن ملجماً له، من هنا ، يساراً ثم يساراً مرة أخرى ستجد المشرحة، ولن أنسى أيضا أن أخبره "إنا لله وإنا إليه راجعون" .. وأذكره بقصة أم سلمة حين قالت الدعاء فرزقها الله خيراً من أبي سلمة، وأصبحت أماً للمؤمنين.
الآن أصعد السلم متجها ناحية المشرحة، حيث موعد سكشني، نعم .. التشريح أبو الطب، لكن لماذا أرى بعض الأساتذة والطلبة، لا يتعاملون باحترامٍ كافٍ مع الميت ؟!!
أنتظر حتى يخرج جميع الطلبة من السكشن، ثم أنفرد بأستاذي الجليل، وأتظاهر بأني أسأله عن أمر ما في التشريح، ثم أقول له باسماً: هل تشعر الآن بعد تلك السنوات أن المشرحة جزء من حياتك ؟ فيضحك ويبدأ في الحكي.. كنت أحاول فقط أن أفتح مجالاً للكلام معه، حتى أنفذ منه إلى الموضوع الذي أريد، احترام الموتى، وعدم كشف عوراتهم بلا ضرورة، وعدم رمي أجزاءه الصغيرة من جلدٍ أو شيء يسقط من جسده هنا وهناك في أرض المشرحة.
الآن يبدو عليه شيء من الاقتناع بكلامي.. عامةً اللهم قد بلغت! وهذا ما هو مطلوب مني، سأحاول أن أطبع ورقة عن احترام الميت وقدسيته، وألصقها في عدة أماكن في المشرحة وأوزعها على الأساتذة.. لكن فيما بعد.
>< جولة في نفسي ><
الآن يحين موعد المحاضرة، أدخل لأستمع .. يا للروعة!! هل خلقنا الله هكذا ؟ لماذا تنحرف العين لأعلى عندما نكون نائمين ؟! وكيف نشعر بالعطش عن زيادة تركيز الأملاح في الدم؟ ثم كيف ترتخي عضلات الإنسان أثناء الأحلام حتى لا ينفعل بالحلم ويقوم بتنفيذه وهو لا يشعر ؟! وكيف تعيش البكتيريا على جلودنا وداخل أجسامنا ولا نمرض بل نستفيد!! وكيف نتقيء ما في بطوننا حين نلتهم في شراسة وجبة ملوثة؟ ما الذي أخبر المعدة أن الطعام ملوثاً لكي تنقبض وتخرج تلك القاذورات؟!
حقاً هو "بديع السموات والأرض" .. ثم كيف تتشكل أجسادنا داخل أرحام أمهاتنا بهذه الطريقة!! صدقت يا ربي: "صوركم فأحسن صوركم".
أعود الآن إلى البيت، أغفو قليلاً لكي أستيقظ لأكمل حياتي.. لكني استيقظت مريضا! لقد أصابتني نوبة برد!! كنت أعرف أنها يمكن أن تصيبني اليوم، لأن حلقي كان ملتهباً وغالبا التهاب الحلق يسبق الإصابة بالزكام والرشح.. لكن معرفتي تلك لم تمنع المرض، الآن أشعر بالصغر والحقارة أمام عظيم قدرة الله عليّ.
أتخيل الآن (الأجسام المضادة) داخل دمائي ترتدي دروعها وتحمل سيوفها وتصدر تلك الأصوات الحماسية مثل الهنود الحمر، "واواواواوا ..." هجوووووم!! ثم تهجم على تلك البكتيريا المتطفلة، قائد الجيش حيث يدير الأمر من الغدة الليمفاوية المجاورة يصيح مصدراً الأوامر، نعم هذه البكتيريا الحقيرة هاجمتنا من قبل!! كيف تجرؤ!! فليخرج سلاح فرسان "Ig G" المسؤول عن التعامل مع من هاجمنا من قبل، فهو أدرى بها.
الحمد لله لقد ُحسمت المعركة بسرعة، الآن تأتي تلك الخلايا العملاقة الجشعة Maphages لكي تزيل آثار وبقايا القتلى بابتلاعها لترحل بعيداً!!
>< جولة في المنزل ><
بعد عدة أيام – جالسا أمام الكمبيوتر – تأتي أمي متحاملة على نفسها وتقول لي أنها تشعر بالتعب، أعتقد أن كل مصائب الدنيا يمكن أن تحدث وأنا جالس أمام الكمبيوتر، من قبل حدث زلزالين وأنا جالس أمامه، ربما أموت كذلك أمامه حين يحين موعدي.. لكن ليس هذا مهماً الآن.. المهم أمي.
أي طالب آخر كان سيكتفي بقول "سلامتك يا ماما" .. "وخير يا ست الكل" .. إلخ من عبارات البكش التي نجيدها.. لكن أنا لا .. لن أقول ذلك، ليس لدي وقت، هناك ما هو أهم، أنا "مشروع طبيب" .. لذلك أخرجت جهاز الضغط .. اجلسي هنا يا أمي من فضلك وشمري عن ساعدك.. معلش، يدي باردة لكني مضطر أن أمسك يدك، الآن بعد تثبيت الجهاز، أبدأ في نفخ بالون الضغط، الآن أسمح للهواء بالخروج ببطئ.. داب.. داب .. داب.. الآن أسمع الصوت بوضوح عند المؤشر 160، أسمح للهواء بالخروج بسرعة أكبر، ثم أبطأ، الآن يبدأ الصوت في التراجع، ويختفي عن 100.
أزيل الجهاز من على ساعد أمي، الضغط عالي يا ماما، 160 على 100.. منذ متى تشعرين بالصداع ؟ منذ يومين ؟! إممم، لابد من زيارة طبيب، الساعة الثانية بعد منتصف الليل، لكن ليست مشكلة، هناك مستشفى قريبة، تعالي أذهب معك.. لا ؟! ستنتظري لصباح الغد ؟!
حسناً، أحضرت لي روشتة كان قد سبق للطبيبة التي تتابعها أن كتبت لها على علاج للضغط، نزلت بسرعة واشتريته، لكن أمي من النوع التي لا تأخذ أي دواء إلا بعد قراءة الورقة الملحقة به.. هي ليست طبيبة، لكن فطرة الطبيب تسري في دمائها.. أتذكر أنها شخصت لديّ "الجدري" عندما كنت صغيراً بدون الذهاب لطبيب.. واكتفى الطبيب بتأكيد تشخيصها.
المهم قرأت الروشتة، كانت بالإنجليزية لكن الأمر كان سهلاً، ما فائدة ما ندرسه إذن؟! أتينولول.. من مغلقات مستقبلات "البيتا".. لكن تأثيره ليس فوري، وأعراضه الجانبية كثيرة.. هممم .. لذلك لم تأخذه أمي .. سننتظر للغد حين الذهاب للطبيبة.
>< جولة في المستشفى ><
بعد أعوام سأكون في سنة الامتياز، إنها سنة تمر فيها على كل أقسام المستشفى، سوف ترى من الأمراض والحوادث مالم تره في حياتك، لكن ماهذا .. مصاب في حادث سيارة، نزيف ؟ لا يوجد دماء تناسبه؟ ما فصيلته ؟ ب ؟ إنها نفس فصيلتي .. خذ من دمائي حالا .. هيا أسرع لا داعي للجدال.
في الليل، أسمع المريض يأن في فراشه.. ماذا بك يا أبي؟ تتألم؟ صداع؟ حسناً خذ هذا المسكن إنه ملكي، لكن ليست مشكلة.
هناك عدة مرضى في الحجرة المجاورة، يبدو أنهم يتسامرون لم يناموا.. سأذهب لأشاركهم الحديث إذا سمحو لي، يجب ألا يشعر المريض أن الطبيب يتعامل معه بـ "فوقية" وتعالي.
لكن هناك سيدة تنام هنا، يجب أن أطرق الباب أولا قبل الدخول، إن كوني طبيباً مقيماً لا يسمح لي بقلة الأدب التي يفعلها البعض من عدم احترام خصوصيات المرضى، سواء رجال أو نساء.
هذه السيدة تتألم .. أذهب بسرعة لأرى ما بها.. الوضع خطير .. استدعوا الطبيب حالاً .. لا أستطيع التصرف بخبرتي القليلة .. إن كوني طبيباً لا يخول لي العناد، وإنما عليّ الاعتراف بجهلي.. إنها حياة مريض.
>< جولة في العيادة ><
الآن اسمحوا لي أن أتخيل نفسي طبيبا وقد جلست في العيادة بعد عدة سنوات، ماذا ؟ أسمعك تقول أن المرضى قد ضجوا من الانتظار في الخارج؟؟
نعم نعم، أنا زبائني كثيرون، لكنهم لا يملون الانتظار، هناك بالخارج عدة مجلات مفيدة وكتب ومصاحف أيضا، كما أن هناك تلفاز أغلبية الوقت على قناة "إم بي إس" .. دعك من معنى الكلمة ربما تعرفه لاحقا.. ماذا؟ تريد أن تعرفه الآن ؟ إنه اختصار لـ Msim Bthehd Siety .. إنها القناة العالمية للجماعة.. إحم إحم .. لم تعد المحظورة.
لقد استقطبت الآن معظم الدعاة، عمرو خالد وطارق السويدان وعمرو عبد الكافي، ومحمد حسان .. أما الفرع الإخباري لها فيعمل فيه أحمد منصور وغسان بن جدو وجمانة نمور "بعد ارتدائها الحجاب" وخديجة بن قنة.. إلخ
أما قسم الأفلام في القناة، فشعاره "ساعة لقلبك.. من غير ما تنسى ربك" .. دعك من الفيلم الأول بعنوان "ليلة اغتيال البنا" .. لقد أذيع مراراً من قبل، لكن الزبائن في شغفٍ – وقد يقدم كل واحد منهم دور الكشف للآخر – حتى يتسنى له مشاهدة الفيلم التالي، إنه فيلم كوميدي نافس على جائزة الأوسكار لأحسن ممثلة وأحسن مخرج وأحسن ديكور وأحسن موسيقى تصويرية، بعنوان "الإخوان في البرلمان" .. يحكي تفاصيل مضحكة من عينة "الكوميديا السوداء" عن دورة برلمان من عدة سنوات.. ويسلط الضوء على اصطحاب النواب للمخدات للنوم في البرلمان بينما يظل 88 نائباً إخوانيا يتحدثون ويصرخون.. السيد الجالس أعلاه ينهي الجلسة بكلمة "موافقون" بصوت جهوري لإيقاظ النائمين، فيستيقظ النائمون فزعين ويرفعوا أيديهم، بينما يكتفي بعضهم برفع يده دون إزاحة المخدة من فوق رأسه.
مالِ هذا السكرتير الكسول لم يُدخل إليّ المريض التالي، أخرج من حجرة الكشف، لاكتشف أن الجميع غارقون في الضحك! الآن فهمت! ألم أقل لك أيها الأحمق ألا تشغل هذه قناة الأفلام في العيادة على الإطلاق! أدخل المريض التالي..
يدخل المريض، إنه فتى صغير لقد ذكرني بنفسي حين كنت في عمره، كنت أخشى الأطباء، عندي عقدة الخوف من البالطو الأبيض، إن مثل هذا النوع من المرض النفسي هو نتاج لما يفعله الأباء والأمهات من إخافة أبنائهم "لو عملت كذا .. هوديك للدكتور يديك حقنة" !!
وعندما ذهبت للطبيب – للأسف – تركزت تلك الصورة في ذهني أكثر، لقد تعامل معي في غلظة وقسوة، وكأنه لا يهتم بشيء سوى السماح للمريض التالي بالدخول.
هكذا ينشأ الفتى مرعوباً من سيرة الدكاترة والأطباء، يلعن كليات الطب، وحين يكبر يتحول الخوف إلى شعور بالمعاداة، لا يحب الدواء ولا يحب الذهاب للدكتور حين يمرض.
إممممم.. أنا أحب هذا التحدي، لسوف أصحح فكرة الأطباء في ذهن هذا الفتى حالاً .. أولاً بدأت أدردش معه عن أخبار الكورة، لقد فاز المنتخب أخيراً .. ولكن أي لاعب تحبه أكثر؟ إسحق عثمانوف.. لكني لا أعرف هذا اللاعب.. هل تعرف هذه الأداة التي سأكشف بها عليك ؟ لا لا تقلق .. لقد اخترعها العالم مورجيجن.. لا إنها لا تؤذي .. انظر سأجربها على يدي ..
هكذا بدأ الفتى في نسيان خوفه، وبدأ القلق ينزاح.. انظر هذه السماعة .. أتحب أن نتبادل سماع نبضات قلبينا ؟ هيا جرب أنت أولا .. ما رأيك ؟
الآن، أكتب التشخيص وأعطي لوالده الروشتة، ثم أنحني على الفتى وأعطية قطعة من الشيكولاتة، لكن لا تنس أن تغسل أسنانك بعد أكلها ..
المريض التالي، سيدة وزوجها.. لو سمحت أيها السيد ابق هنا، لا لا تخرج .. لا يجوز.. ما الذي يؤلمك يا سيدتي ؟ آه كتفك ؟ حسناً لا .. لا داعي لرفع القميص، فقط حاولي أن تزيحي القميص عن كتفك قليلا.. آه .. الآن يظهر الانتفاخ في كتفك، معذرة سأحاول الضغط عليه لا تقلقي.. حسنا إنه لا يتحرك .. لذلك ربما يؤلمك حين تحريك مفصل الكتف.. حسناً سنحتاج أشعة وتعالي مرة ثانية غداً.. شفاك الله وعافاك.
الآن أريد العودة للمنزل، لكن هناك مريض جاء متأخراً .. إمم ، حسناً لن أرده خائباً .. أخييراً انتهيت، لكن لا .. يجب أن أتصل بمريض زارني منذ شهر لأطمئن على صحته.
أخيراً عدت للمنزل.. تخيلت عدد الحسنات والعلوم التي اكتسبتها طوال تلك السنين .. عرفت أخيرا متعة الدراسة في كلية الطب!
-----------------------------------------------------
هممم.. الملل يسيطر عليّ، أشعر بتلافيف مخي الرمادية تستغيث بي أن أطرق بأصابعي عدة طرقات على أزرار الكيبورد.. كي أخرج تلك الأفكار الحبيسة..
أتخيل الأفكار الحبيسة تتقافز في شجعٍ واضح داخل سجنها الجمجمي، هيه هيه .. كل واحدة من تلك تحاول أن تخرج أولاً .. فأصرخ : بهدوء!
تكف الأفكار عن التصارع الآن، وتبدأ في الوقوف صفاً واحداً كما علمتها دائما، كي تسهل عملية الخروج.. هممم هكذا أستطيع أن أفرج عنكن في سلاسة!!
كتبت قبل ذلك عن "طالب في حالة التباس" .. وهو ما لا يجب أن يفهم على أنه كراهية للطب، ها هو الفصّ المسؤول عن المشاعر في دماغي يصرخ مؤيداً .. نعم نعم هو صادق!
>< جولة في الكلية ><
أن تكون طالباً فهذه متعة، يعرفها من أنهوا دراستهم، وسقطوا في دوامة الحياة العملية، أمّا أن تكون طالباً تدرس الطب فهي متعة أخرى يحسدك عليها زبانية ُجزر الهاواي!
ماشياً في الكلية قاصداً هدفي، تستوقفني سيدة عجوز، تبدو الطيبة المصرية في عينيها، تُبرز ورقة "روشتة" وتقول: ممكن يابني تقولي الأدوية دية أسمائها إيه؟
في فِهم أنظر إليها، لقد فهمت، هي تريد المساعدة، لكن لسان حالها "لا يسألون الناس إلحافاً" .. أنا أعرف هؤلاء من أولئك، أعرف "المسكين" من "المتمسكن" .. أو بمعنى آخر محترفي التسول.. وهي لا يبدو عليها أنها من ذاك النوع القذر، لذلك أخذها من يدها، أخرج من الكلية وأعبر بها الشارع للناحية المقابلة حيث توجد صيدلية مجاورة، أطلب من الصيدلاني الأدوية التي في الروشتة، وأدفع الثمن، وأعطيها لسيدتي العجوز.. "قصة خيالية".. مبروك لقد كتب لي ما يزيد عن أجر اعتكاف 40 يوماً في مسجد الحبيب المصطفى.
الآن أعود أدراجي للكلية، يستوقفني رجل آخر، تبدو عليه أمارات الهمّ، يسألني عن مكان المشرحة، آها .. الآن فهمت، لقد جاء للسؤال عن أحد أقاربه الذين توفاهم الله، لذلك يبدو الحزن ملجماً له، من هنا ، يساراً ثم يساراً مرة أخرى ستجد المشرحة، ولن أنسى أيضا أن أخبره "إنا لله وإنا إليه راجعون" .. وأذكره بقصة أم سلمة حين قالت الدعاء فرزقها الله خيراً من أبي سلمة، وأصبحت أماً للمؤمنين.
الآن أصعد السلم متجها ناحية المشرحة، حيث موعد سكشني، نعم .. التشريح أبو الطب، لكن لماذا أرى بعض الأساتذة والطلبة، لا يتعاملون باحترامٍ كافٍ مع الميت ؟!!
أنتظر حتى يخرج جميع الطلبة من السكشن، ثم أنفرد بأستاذي الجليل، وأتظاهر بأني أسأله عن أمر ما في التشريح، ثم أقول له باسماً: هل تشعر الآن بعد تلك السنوات أن المشرحة جزء من حياتك ؟ فيضحك ويبدأ في الحكي.. كنت أحاول فقط أن أفتح مجالاً للكلام معه، حتى أنفذ منه إلى الموضوع الذي أريد، احترام الموتى، وعدم كشف عوراتهم بلا ضرورة، وعدم رمي أجزاءه الصغيرة من جلدٍ أو شيء يسقط من جسده هنا وهناك في أرض المشرحة.
الآن يبدو عليه شيء من الاقتناع بكلامي.. عامةً اللهم قد بلغت! وهذا ما هو مطلوب مني، سأحاول أن أطبع ورقة عن احترام الميت وقدسيته، وألصقها في عدة أماكن في المشرحة وأوزعها على الأساتذة.. لكن فيما بعد.
>< جولة في نفسي ><
الآن يحين موعد المحاضرة، أدخل لأستمع .. يا للروعة!! هل خلقنا الله هكذا ؟ لماذا تنحرف العين لأعلى عندما نكون نائمين ؟! وكيف نشعر بالعطش عن زيادة تركيز الأملاح في الدم؟ ثم كيف ترتخي عضلات الإنسان أثناء الأحلام حتى لا ينفعل بالحلم ويقوم بتنفيذه وهو لا يشعر ؟! وكيف تعيش البكتيريا على جلودنا وداخل أجسامنا ولا نمرض بل نستفيد!! وكيف نتقيء ما في بطوننا حين نلتهم في شراسة وجبة ملوثة؟ ما الذي أخبر المعدة أن الطعام ملوثاً لكي تنقبض وتخرج تلك القاذورات؟!
حقاً هو "بديع السموات والأرض" .. ثم كيف تتشكل أجسادنا داخل أرحام أمهاتنا بهذه الطريقة!! صدقت يا ربي: "صوركم فأحسن صوركم".
أعود الآن إلى البيت، أغفو قليلاً لكي أستيقظ لأكمل حياتي.. لكني استيقظت مريضا! لقد أصابتني نوبة برد!! كنت أعرف أنها يمكن أن تصيبني اليوم، لأن حلقي كان ملتهباً وغالبا التهاب الحلق يسبق الإصابة بالزكام والرشح.. لكن معرفتي تلك لم تمنع المرض، الآن أشعر بالصغر والحقارة أمام عظيم قدرة الله عليّ.
أتخيل الآن (الأجسام المضادة) داخل دمائي ترتدي دروعها وتحمل سيوفها وتصدر تلك الأصوات الحماسية مثل الهنود الحمر، "واواواواوا ..." هجوووووم!! ثم تهجم على تلك البكتيريا المتطفلة، قائد الجيش حيث يدير الأمر من الغدة الليمفاوية المجاورة يصيح مصدراً الأوامر، نعم هذه البكتيريا الحقيرة هاجمتنا من قبل!! كيف تجرؤ!! فليخرج سلاح فرسان "Ig G" المسؤول عن التعامل مع من هاجمنا من قبل، فهو أدرى بها.
الحمد لله لقد ُحسمت المعركة بسرعة، الآن تأتي تلك الخلايا العملاقة الجشعة Maphages لكي تزيل آثار وبقايا القتلى بابتلاعها لترحل بعيداً!!
>< جولة في المنزل ><
بعد عدة أيام – جالسا أمام الكمبيوتر – تأتي أمي متحاملة على نفسها وتقول لي أنها تشعر بالتعب، أعتقد أن كل مصائب الدنيا يمكن أن تحدث وأنا جالس أمام الكمبيوتر، من قبل حدث زلزالين وأنا جالس أمامه، ربما أموت كذلك أمامه حين يحين موعدي.. لكن ليس هذا مهماً الآن.. المهم أمي.
أي طالب آخر كان سيكتفي بقول "سلامتك يا ماما" .. "وخير يا ست الكل" .. إلخ من عبارات البكش التي نجيدها.. لكن أنا لا .. لن أقول ذلك، ليس لدي وقت، هناك ما هو أهم، أنا "مشروع طبيب" .. لذلك أخرجت جهاز الضغط .. اجلسي هنا يا أمي من فضلك وشمري عن ساعدك.. معلش، يدي باردة لكني مضطر أن أمسك يدك، الآن بعد تثبيت الجهاز، أبدأ في نفخ بالون الضغط، الآن أسمح للهواء بالخروج ببطئ.. داب.. داب .. داب.. الآن أسمع الصوت بوضوح عند المؤشر 160، أسمح للهواء بالخروج بسرعة أكبر، ثم أبطأ، الآن يبدأ الصوت في التراجع، ويختفي عن 100.
أزيل الجهاز من على ساعد أمي، الضغط عالي يا ماما، 160 على 100.. منذ متى تشعرين بالصداع ؟ منذ يومين ؟! إممم، لابد من زيارة طبيب، الساعة الثانية بعد منتصف الليل، لكن ليست مشكلة، هناك مستشفى قريبة، تعالي أذهب معك.. لا ؟! ستنتظري لصباح الغد ؟!
حسناً، أحضرت لي روشتة كان قد سبق للطبيبة التي تتابعها أن كتبت لها على علاج للضغط، نزلت بسرعة واشتريته، لكن أمي من النوع التي لا تأخذ أي دواء إلا بعد قراءة الورقة الملحقة به.. هي ليست طبيبة، لكن فطرة الطبيب تسري في دمائها.. أتذكر أنها شخصت لديّ "الجدري" عندما كنت صغيراً بدون الذهاب لطبيب.. واكتفى الطبيب بتأكيد تشخيصها.
المهم قرأت الروشتة، كانت بالإنجليزية لكن الأمر كان سهلاً، ما فائدة ما ندرسه إذن؟! أتينولول.. من مغلقات مستقبلات "البيتا".. لكن تأثيره ليس فوري، وأعراضه الجانبية كثيرة.. هممم .. لذلك لم تأخذه أمي .. سننتظر للغد حين الذهاب للطبيبة.
>< جولة في المستشفى ><
بعد أعوام سأكون في سنة الامتياز، إنها سنة تمر فيها على كل أقسام المستشفى، سوف ترى من الأمراض والحوادث مالم تره في حياتك، لكن ماهذا .. مصاب في حادث سيارة، نزيف ؟ لا يوجد دماء تناسبه؟ ما فصيلته ؟ ب ؟ إنها نفس فصيلتي .. خذ من دمائي حالا .. هيا أسرع لا داعي للجدال.
في الليل، أسمع المريض يأن في فراشه.. ماذا بك يا أبي؟ تتألم؟ صداع؟ حسناً خذ هذا المسكن إنه ملكي، لكن ليست مشكلة.
هناك عدة مرضى في الحجرة المجاورة، يبدو أنهم يتسامرون لم يناموا.. سأذهب لأشاركهم الحديث إذا سمحو لي، يجب ألا يشعر المريض أن الطبيب يتعامل معه بـ "فوقية" وتعالي.
لكن هناك سيدة تنام هنا، يجب أن أطرق الباب أولا قبل الدخول، إن كوني طبيباً مقيماً لا يسمح لي بقلة الأدب التي يفعلها البعض من عدم احترام خصوصيات المرضى، سواء رجال أو نساء.
هذه السيدة تتألم .. أذهب بسرعة لأرى ما بها.. الوضع خطير .. استدعوا الطبيب حالاً .. لا أستطيع التصرف بخبرتي القليلة .. إن كوني طبيباً لا يخول لي العناد، وإنما عليّ الاعتراف بجهلي.. إنها حياة مريض.
>< جولة في العيادة ><
الآن اسمحوا لي أن أتخيل نفسي طبيبا وقد جلست في العيادة بعد عدة سنوات، ماذا ؟ أسمعك تقول أن المرضى قد ضجوا من الانتظار في الخارج؟؟
نعم نعم، أنا زبائني كثيرون، لكنهم لا يملون الانتظار، هناك بالخارج عدة مجلات مفيدة وكتب ومصاحف أيضا، كما أن هناك تلفاز أغلبية الوقت على قناة "إم بي إس" .. دعك من معنى الكلمة ربما تعرفه لاحقا.. ماذا؟ تريد أن تعرفه الآن ؟ إنه اختصار لـ Msim Bthehd Siety .. إنها القناة العالمية للجماعة.. إحم إحم .. لم تعد المحظورة.
لقد استقطبت الآن معظم الدعاة، عمرو خالد وطارق السويدان وعمرو عبد الكافي، ومحمد حسان .. أما الفرع الإخباري لها فيعمل فيه أحمد منصور وغسان بن جدو وجمانة نمور "بعد ارتدائها الحجاب" وخديجة بن قنة.. إلخ
أما قسم الأفلام في القناة، فشعاره "ساعة لقلبك.. من غير ما تنسى ربك" .. دعك من الفيلم الأول بعنوان "ليلة اغتيال البنا" .. لقد أذيع مراراً من قبل، لكن الزبائن في شغفٍ – وقد يقدم كل واحد منهم دور الكشف للآخر – حتى يتسنى له مشاهدة الفيلم التالي، إنه فيلم كوميدي نافس على جائزة الأوسكار لأحسن ممثلة وأحسن مخرج وأحسن ديكور وأحسن موسيقى تصويرية، بعنوان "الإخوان في البرلمان" .. يحكي تفاصيل مضحكة من عينة "الكوميديا السوداء" عن دورة برلمان من عدة سنوات.. ويسلط الضوء على اصطحاب النواب للمخدات للنوم في البرلمان بينما يظل 88 نائباً إخوانيا يتحدثون ويصرخون.. السيد الجالس أعلاه ينهي الجلسة بكلمة "موافقون" بصوت جهوري لإيقاظ النائمين، فيستيقظ النائمون فزعين ويرفعوا أيديهم، بينما يكتفي بعضهم برفع يده دون إزاحة المخدة من فوق رأسه.
مالِ هذا السكرتير الكسول لم يُدخل إليّ المريض التالي، أخرج من حجرة الكشف، لاكتشف أن الجميع غارقون في الضحك! الآن فهمت! ألم أقل لك أيها الأحمق ألا تشغل هذه قناة الأفلام في العيادة على الإطلاق! أدخل المريض التالي..
يدخل المريض، إنه فتى صغير لقد ذكرني بنفسي حين كنت في عمره، كنت أخشى الأطباء، عندي عقدة الخوف من البالطو الأبيض، إن مثل هذا النوع من المرض النفسي هو نتاج لما يفعله الأباء والأمهات من إخافة أبنائهم "لو عملت كذا .. هوديك للدكتور يديك حقنة" !!
وعندما ذهبت للطبيب – للأسف – تركزت تلك الصورة في ذهني أكثر، لقد تعامل معي في غلظة وقسوة، وكأنه لا يهتم بشيء سوى السماح للمريض التالي بالدخول.
هكذا ينشأ الفتى مرعوباً من سيرة الدكاترة والأطباء، يلعن كليات الطب، وحين يكبر يتحول الخوف إلى شعور بالمعاداة، لا يحب الدواء ولا يحب الذهاب للدكتور حين يمرض.
إممممم.. أنا أحب هذا التحدي، لسوف أصحح فكرة الأطباء في ذهن هذا الفتى حالاً .. أولاً بدأت أدردش معه عن أخبار الكورة، لقد فاز المنتخب أخيراً .. ولكن أي لاعب تحبه أكثر؟ إسحق عثمانوف.. لكني لا أعرف هذا اللاعب.. هل تعرف هذه الأداة التي سأكشف بها عليك ؟ لا لا تقلق .. لقد اخترعها العالم مورجيجن.. لا إنها لا تؤذي .. انظر سأجربها على يدي ..
هكذا بدأ الفتى في نسيان خوفه، وبدأ القلق ينزاح.. انظر هذه السماعة .. أتحب أن نتبادل سماع نبضات قلبينا ؟ هيا جرب أنت أولا .. ما رأيك ؟
الآن، أكتب التشخيص وأعطي لوالده الروشتة، ثم أنحني على الفتى وأعطية قطعة من الشيكولاتة، لكن لا تنس أن تغسل أسنانك بعد أكلها ..
المريض التالي، سيدة وزوجها.. لو سمحت أيها السيد ابق هنا، لا لا تخرج .. لا يجوز.. ما الذي يؤلمك يا سيدتي ؟ آه كتفك ؟ حسناً لا .. لا داعي لرفع القميص، فقط حاولي أن تزيحي القميص عن كتفك قليلا.. آه .. الآن يظهر الانتفاخ في كتفك، معذرة سأحاول الضغط عليه لا تقلقي.. حسنا إنه لا يتحرك .. لذلك ربما يؤلمك حين تحريك مفصل الكتف.. حسناً سنحتاج أشعة وتعالي مرة ثانية غداً.. شفاك الله وعافاك.
الآن أريد العودة للمنزل، لكن هناك مريض جاء متأخراً .. إمم ، حسناً لن أرده خائباً .. أخييراً انتهيت، لكن لا .. يجب أن أتصل بمريض زارني منذ شهر لأطمئن على صحته.
أخيراً عدت للمنزل.. تخيلت عدد الحسنات والعلوم التي اكتسبتها طوال تلك السنين .. عرفت أخيرا متعة الدراسة في كلية الطب!
-----------------------------------------------------