مقامات العجيلي (المقامة الطبية الأولى‏

زائر
قبل ان نبدأ سلسله مقامات العجيلي
نحب نذكر نبذه عن الكاتب
د. عبد السلام العجيليالاديب السوري الكبير
هو
د. عبد السلام العجيلي (1918-2006) عالج في حياته المديدة مختلف الاجناس الادبية, من الشعر العمودي الى القصة القصيرة والرواية والمقالة والمحاضرة والكتابة الساخرة الضاحكة, وله كتب فيها. وفي مستهل حياته الادبية,

فيما كان طالبا في المعهد الطبي العربي الذي سمي في ما بعد: كلية الطب بجامعة دمشق, راق له أن يكتب (المقامة) متأثرا بما قرأه من مقامات الهمذاني والحريري وحديث عيسى بن هشام للمويلحي, وهكذا كانت المقامة الأولى الطبية التي ننشرها في هذه الصفحة ثم كتب المقامة البرلمانية, والمقامة الصحفية, والمقامة النهدية.. الخ. ثم جمعها ونشرها في كتاب عام ,1963 وأعادت نشرها وزارة الثقافة بدمشق عام 2003 مع مقدمة اضافية للكاتب الكبير محمد كامل الخطيب.‏
 

زائر
المقامة الطبية الأولى‏

حدثنا عبد السلام بن محب:
قال
كنت في معهد الطب, ادرس الامراض وأسرارها, والجراثيم وأضرارها, والطفيليات وأخبارها,
على الاستاذ الذي شاع ذكره في العالمين أي شيوع, وسطع علمه أبهى سطوع..
الدكتور جبرائيل بن بختيشوع,
وبينما نحن في درس من دروس ذلك النطاسي العلامة, والفطحل الفهامة, إذ دخل علينا القاعة فتى مصاب, بمختلف العلل والاوصاب:
من حدبة في ظهره, وسلعة في صدره,
وقرحة في جذموره, وانصباب في تاموره... قد برز لفرط الهزال ظنبوبه, وتغنغر عرقوبه, وأصابه بعد النحول قحول, وبعد الفلوج شلول,
فلما وقع نظر الاستاذ عليه,
أفرغ ليترا من الكحول في يديه, وخطا خطوتين الى الوراء, وثبت نظارتيه فوق عينيه على السواء, ثم أخرج صوته من أنفه أخنا, فبدأ باسم الله وببقراط ثنى, وصاح فيه: من تكون.. أيها المأفون?.
فعطس المريض عطسة قدت من أضلاعه عشرا, وزفر زفرة أحالت الجليد جمرا,
وقال:‏
ما بين مختبر التشريح والنسج أنا القتيل بلا إثم ولا حرج‏
ما زلت في مبحث الاعصاب أدرسها ما بين منعكس منها ومنعرج‏
وفي الظنابيب أنساها وأحفظها لا بارك الله في الظنبوب من سمج‏
حتى بليت بداء لا دواء له:
بالخلب والألب, والتَّنواء, والخّمّج‏
أودى شبابي لم أشعر بلذته ولا تنشقت من طيب الأرج‏
فثار من الاستاذ ثائره وعلا نائره وقال: خل عنك القريض, فما أنت شاعر هنا بل مريض, قل ما الذي تشكو منه وكيف بدا. وكيف أمسى جسمك وكيف غدا?
ما سوابقك الارثية في التكوين, وكيف صحة جدك التاسع والتسعين?
وهل مات خال عم أمك أم لايزال حيا, وكيف كان يأكل اللحم كباباً آنذاك أم شيا?
وأخبرني عن حالتك الراهنة, أصحيحة معدتك أم واهنة? وهل يجيء نفسك ويعود, وأخيرا.. كم في جيبك من النقود?.‏
فارتفع صوت المريض بالعويل,
وقال ما أنا بالغريب عنكم بل زميل.
أنا الذي أذابت دماغه المداواة والامراض, وقرحت فؤاده القلويات والاحماض,
وعششت في عقله كل الجراثيم, وضحى أيامه على مذبح الغين والميم, فاعفوني من السؤال والاستجواب والاستطباب ومضاد الاستطباب, فقد استفحل الداء, وعز الدواء, وسقطت النواجذ والارحاء, فالتفت الاستاذ إلينا, وقال انعموا بهذا المريض عينا.. دونكم إياه فاقرعوه واسمعوه,
وجسوه ومسوه, فاندفعنا إليه كالسيل, وهو ينادي بالثبور والويل, فنزعنا عنه أسماله, وجسسنا كبده وطحاله, وشددناه ومططناه, وأفرجنا عنه وغططناه,
وقرعنا صدره فإذا أضلاع كأصابع البيان, تهتز بمختلف النغمات والالحان, وعضلات كالأوتار,
تدق أنواع البشارف والادوار, وقلب يركض خببا, ويدق عجبا, ويصيح واحربا.‏
فلما فحصناه مرات ومرات, وأيقنا بأنه لم يصبح بعد في الاموات, فتح الاستاذ جرابه, واستخرج كتابه, واستشار دليل الطبيب, فيمن ينجع فيه الدواء ومن يخيب, وبعد تصفح وتقليب, وترجيع وتطريب, التفت إلينا وقال:
يا له من داء عضال! أعطوا هذا المسكين دواء يزيد ضره, ويقصف عمره, ويكفي الناس والطب شره, اكتبوا له قيراطا من السم الهاري, وحبة من الفصفور الناري وخشكنانة من زرنيخ, لا يقول بعدها آخا ولا إيخ. وليأخذ من هذا الدواء جرعة قبل الموت وجرعة بعده, وأنا قمين بأن يبلغ الليلة لحده فأخذ المريض الوصفة وخرج مذعورا,
ولا جزاء ولا شكورا.‏
فصحنا به:
يا هذا إذا عبرت الصراط, فبلغ تحياتنا جالينوس وبقراط, وسلم على الحرث بن كلدة ولقمان الحكيم, وكل طبيب هناك أو عليم! فصاح بنا:
لا, ليس طريقي على الجحيم! وأسرع خائفا منا, كأن وراء ظهره جناً, حتى غبنا عن عينيه وغاب عنّا.‏
***
1942نشرت في مجلة الصباح الدمشقية, في عدد خاص أصدرته الرابطة الثقافية في المعهد الطبي العربي,
وبتوقيع بديع الزمان.‏
1- جبرائيل بن بختيشوع طبيب الخليفة المأمون وأشهر أفراد أسرة بختيشوع المعروفة بممارسة الطب أيام الخلفاء العباسيين.‏
1- السلعة ورم كالغدة بين الجلد واللحم.‏
2- الجذمور اصل الشيء وأوله, وفي الاصطلاح الطبي ما يتبقى من العضو بعد بتر أغلبه.‏
3- التامور غشاء القلب الخارجي.‏
4- الظنبوب قصبة الساق, وللمعري في رسالة الغفران على لسان الجني أبي هدرش:وذادني المرء نوح عن سفينته ضربا الى أن غدا الظنبوب مكسورا‏
5- تغنغر: أصيب بالغنغرينا.‏
6- قحل قحولاً, وقحل الشيخ يبس جلده على عظمه.‏
1- الخلب غشاء الكبد, وهو البريطون, وألب الجرح ألبا برىء أعلاه وأسفله ينغل. والتنواء فرط التحسس. والخمج الفساد وشدة الانتان. وكلها كلمات مستعملة أو معروضة للاستعمال, في الكتب المدرسية لطلاب الطب.‏
1- الغين والميم شارتا الغياب والحضور في ساعات الدروس الجامعية. ولما كان ثمة حد أدنى لعدد الميمات, أعني عدد ساعات الحضور, لا يحق للطالب من دونه من التقدم للفحص السنوي النهائي, فإن الطالب الجامعي حريص على الاستزادة من الميمات في سجله بكل الطرق (انظر فيما يلي المقامة الحقوقية).‏
1- الخبخب لون من عدو الخيل, وفي الاصطلاح الطبي صوت دقات القلب عن المصابين بداء برايت من الآفات الكلوية.‏
1- خشكنانة, من الفارسية خش أي يابس ونانة أي خبز, ما يسمى اليوم بالبسكويت. وفي ترجمة حياة ابن الرومي أن الوزير القاسم دس إليه ابن فراس فأطعمه خشكنانة مسمومة مات بها بعد أيام.‏
2- بقراط أبو الطب وأشهر الاطباء الاقدمين. جالينوس الطبيب اليوناني المشهور. الحرث بن كلدة الثقفي طبيب العرب الذي وفد على كسرى وداوى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.‏