يوضح هذا الموضوع الأخطاء الشائعة التي يرتكبها الأهل في تغذية طفلهم بنيّة حسنة ونتائجها وكيف يمكن تلافيها.
إذا أراد الطفل أن يأكل وكم يريد أن يأكل من تشكيلة الطعام التي اخترتها وأحضرتها بكل عناية إلى مائدة الطعام، فهذا أمر يعود إلى الطفل نفسه اتخاذ قرار فيه. حين يتدخل الأهل بهذه النقطة فإنهم يخالفون قواعد التغذية السليمة ولن تكون النتيجة خيرا. تدخّل الأهل لا يساعد أحداً، لكنه يسبب مشاكل عدّة. أقلها توتّر الأهل وتوتّر الطفل أثناء تناول الطعام. الأهل يكافحون والطفل يكافح. إذاً، لم نعد نتحرك ضمن إطار “الجوع” أو “الشبع” بل ضمن إطار “من يربح؟” المعركة. وحين تقول تصرفات الأهل للطفل: ” لا يمكن لك أن تقرر هذا الأمر وحدك”، فإنهم يوضحون له بذلك أنهم لا يثقون بقدرته على تنظيم حاجة بسيطة وهامة وأساسية لديه. ويفقد الطفل ثقته بنفسه. وبذلك لم يعد يعرف كيف يستجيب إلى صوته الداخلي. وإذا ساءت الأمور أكثر، يتسرب إلى الطفل شعور ” بأن شيئاً ما في جسمه خطأ”. ويبدأ بفقدان المحبة لجسمه. يظهر تدخّل الأهل غالباً في دفعهم الطفل إلى أن يأكل أكثر مما يرغب. فهم يقولون: ” يجب أن تأكل، لأنك إن لم تفعل، ستصبح نحيلاً جداً” وأحياناً يظهر بشكل معاكس تماماً حين: “يريد الأهالي أن يأكل الطفل أقل مما يرغب”. فهم يقولون: “لا يجوز لك أن تأكل أكثر، لأنك إن فعلت، ستصبح سميناً جداً.”
ولقد أظهرت الأبحاث أن هذه الطريقة في التربية لها انعكاسات كبرى على سلوك الطفل في بقية مسار حياته وعلى تقبّله للظلم والاضطهاد وجعله إمّعة.
حين يتجاوز الوالدان حدود مهامهما: لا يجوز لك أن تأكل هذا كله
ما الخطأ الفادح الذي يمكن للأهل أن يرتكبوه؟ الجواب: أن يمنعوا الطعام عن طفلهم. إن العبارة: ” لا تأكل كثيراً لأنك سمين جداً”، ليست إلا ضغطاً على الطفل.
نادراً ما يحصل للرضع أو الأطفال الصغار، أن يسحب الأهل الصحن من أمام الواحد منهم لخوفهم أنه لن يتوقف وحده عن تناول الطعام. ولحسن الحظ لم نلتق بأهالي يدأبون على تقديم طعام قليل لأطفالهم الصغار خوفاً من أن يصبح الواحد منهم سميناً. لذا سوف نتحدث في القصة التالية فقط عن موضوع الحلويات وعن تناول الطعام بين الوجبات.
كان عمر مايا أربع سنوات حين قصدت أمها العيادة للاستشارة. كانت مايا تختبر حدودها في كل اتجاه، وكذلك في الطعام. كانت تأكل وهي جالسة مع أسرتها إلى مائدة الطعام قليلاً جداً. وفي معظم الأحيان كانت تتأفف وتبكي بل وفي بعض الحيان كانت ترفض كل شيء. أما مابين الوجبات فالوضع مختلف، لأنها كانت تطلب الطعام دائماً وعدة مرات وبخاصة الحلويات، وتبدو بذلك وكأنها كانت تفكر طيلة اليوم بالطعام. حاولت الأم عن طريق النقاش مع ابنتها تصحيح الوضع ولكن النقاش كان ينتهي غالباً، في البداية على الأقل، برضوخ الأم لرغبات الطفلة. حتى اتضح لها أن وزن ابنتها آخذ في الزيادة لدرجة أن سروالها لم يعد يناسبها. صدمت أم مايا وتصرفت حسب ما يمليه الموقف: لقد توقفت نهائياً عن شراء الحلويات ومنعت تناول الطعام بين الوجبات. لكن ما حدث بعد ذلك جعل أم مايا تفقد صوابها: لقد ضبطت ابنتها مرتين وهي تخبئ علبة البسكويت تحت ثيابها أثناء قيام أمها بشراء احتياجات الأسرة! يا لهول ما حدث! مايا سرقت وهي بعمر أربع سنوات.
كيف حدث ذلك؟ لقد تصرفت أم مايا كما يجب أن تتصرف. يبدو واضحاً أنها تشددت في منع الطعام ومارست بذلك ضغطاً على ابنتها، التي أحست بدورها بالضغط حين لم يقدم لها الطعام إلا أثناء الوجبات الرئيسة الثلاث، دون أي نوع من الحلوى بين الوجبات، لقد كان وقع الأمر ثقيلاً عليها وصارت طيلة الوقت تفكر بالطعام فقط. وكان لا بد لها من طريقة تؤمن بها لنفسها شيئاً من الحلوى. لذا، مدت يدها في المحل وسرقت. ولكن، وتلافياً لما حصل، هل كان الحل ترك الحبل على غاربه وإعطاء مايا الحلويات بدون تحديد لتأكلها؟ طبعاً، لا. لقد وجدنا معاً هذا الحل. تتلقى مايا يومياً طبقاً من الحلوى بعد طعام الغداء، سواءً أكملت وجبة الغداء أم لم تكملها. وأحياناً قدم الكاتو بعد الظهر كوجبة صغيرة. في هذه الحال، لم تقدم الحلوى بعد طعام الغداء. وهكذا، لبّت الأم حاجة ابنتها إلى الحلويات دون أن تفقد الرقابة على الموضوع.
يضاف إلى هذا أمر آخر. تحب مايا الماندارين حباً جماً. وتشتري أمها من هذه الفاكهة كميات وفيرة. سُمح لمايا أن تأكل من الماندارين بين الوجبات بقدر ما تريد. وهذا ما فعلته. فقد أكلت في اليوم الأول 18 قطعة، 10 قطع منها متتالية. لقد كان مهماً لمايا أن تأخذ بقدر ما تريد دون أن يوبخها أحد أو يقول لها: “هذا لايجوز، لقد أصبح سروالك ضيقاً عليك.” وهكذا تجاوبت أم مايا مع ابنتها في أن تأكل من أكلها المفضل بقدر ما تريد، إذ لا حاجة لتحديد كمية الفواكه. وبعد أسبوع أصبحت كمية الماندارين التي تم شراؤها أقل. ووافقت مايا على ذلك. فأربع قطع صارت كافية لها في اليوم. وهكذا تمّ تجاوز الكفاح حول موضوع “الأكل” بنجاح.
لقد تأرجحت أم مايا بين الإسراف والتقتير في وضع الحدود.
توضح قصة مايا أن المنع الشديد والتنازل التام عن الحلويات يسبب ضغطاً وله نتائج وخيمة. وهناك دائماً إمكانية لإيجاد حل يقبله الطفل وتقبله الأم، مما يجعل متابعة الكفاح غير ضروري.
علينا أن نراعي لدى تحديد أوقات الطعام وتنظيم الغذاء ما يلي:
تقسيم وجبة الفطور الصباحي إلى 2/3 الوجبة فطور و1/3 ضحى
تقسيم وجبة الغداء 2/3 الوجبة غداء و1/3 عصراً
و تؤخذ وجبة العشاء بشكل عادي. وهكذا نحدد للطفل ما يتناوله بين الوجبات.
وهذه قصة أخرى حدثتني بها امرأة شابة.
تتذكر ميادة، ولها الآن من العمر أربع وعشرون سنة، أن والدتها لم تمنحها من وقتها ومحبتها ورعايتها إلا القليل. لكنّ أمراً واحداً كان مهماً بالنسبة لها: كانت تريد ابنة نحيلة. لذا، كانت تحرص على ألا تتلقى ابنتها طبقاً ثانياً أثناء تناول الطعام أو طبقاً من الحلوى. وذهبت إلى أبعد من ذلك حين منعتها من أن تفتح البراد جيئةً وذهابا. ولما ضبطتها في إحدى المرات وهي تفتح باب البراد قررت إقفال باب المطبخ. وكانت تلقي على مسامعها دوماً عبارة: “سوف تصبحين سمينة”. ولا تزال ميادة تتذكر كم وجدت هذا التصرف فظيعاً وكم جعلها تشعر بالإحباط. ومما زاد الأمر في نظرها سوءاً أن النقود التي كانت تتلقاها كمصروف جيب كانت قليلة جداً ولا تكفي لتشتري بها شيئاً من الحلوى. إلا أن هذا الوضع تغيّر بعد سن البلوغ. حيث زادت كمية النقود بين يديها وكانت تشتري بها كلها الحلويات وتأكلها وحدها دون أن تخبر أحداً، رغم إحساسها بتأنيب الضمير.
قصة ميادة قصة حزينة جداً تعكس العلاقة بين الأم وابنتها. فهي لم تثق بابنتها ولم تراع احتياجاتها ومارست ضغطاً عليها وسببت لها إحباطاً. لقد فعلت هذا كله بحجبها الطعام عنها. كلما زاد الضغط على ميادة، كلما ازداد تفكيرها بالطعام. وتكافح ميادة حتى الآن ضد نتائج هذه التصرفات: منذ أن انتقلت من بيت أهلها زاد وزنها بشكل فظيع، وحتى اليوم يصعب عليها التوقف عن تناول الطعام حتى بعد إحساسها بالشبع.
ونحن وإن كنا لن نتصرف أبداً في يوم من الأيام بهذه الشدة، ولن نقفل باب المطبخ أو نمنع طفلنا من تلقي طبق آخر من الطعام، إلا أن إغراء التدخل وممارسة الضغط كبير جداً وبخاصة إذا كان طفلك فعلاً سميناً جداً ويصعب عليك مشاهدة الأطباق التي يفرغها وينتابك تأنيب ضمير حين يأكل البوظة أو الشوكولاته أو الحلويات. إن عبارة: “لا يجوز لك أن تأكل أكثر، لأنك ستصبح سميناً” تدور في رأسك مدة قبل التلفظ بها ثم لابد من أن تجد طريقها لتقوليها بفمك لطفلك. مثل هذه العبارة هي سمّ قاتل لثقة طفلك بنفسه.
لكي تفهمي شعور طفلك بإمكانك بسهولة أن تضعي نفسك مكانه. تخيلي أن لديك ضيوفاً أعددت لهم أطيب الحلويات بلا منازع. مددت يدك لتأخذي قطعة ثانية من الحلويات وإذ بزوجك يمسك بيدك قائلاً: “قطعة واحدة تكفي. أتريدين أن تصبحي أشد سمنة مما أنت عليه؟” كيف ستشعرين آنذاك؟ مجروحة؟ محبطة؟ أم غاضبة جداً لدرجة أنك ستردينها له فوراً؟ بعد عبارة مثل هذه العبارة، تنتاب طفلك مشاعر مرعبة كتلك التي انتابتك، ويفكر في الانتقام لنفسه ويثبت لك أنه أقوى منك ويبدأ المعركة ويأكل فعلاً كثيراً وأكثر من السابق.
وما تأثير الحمية التي تضعينها أو يضعها أي شخص آخر؟ لا شيء! إذا فرضت حمية على طفلك كي ينقص وزنه، فكأنك حملت دائماً لافتة كتب عليها: “”لا يجوز لك أن تأكل، لأنك سمين جداً.” الحمية هي ضغط على الشخص لا غير. يستطيع الإنسان الراشد أن يقرر بنفسه إذا أراد أن ينفذ برنامج حمية أم لا. ورغم ذلك، وحتى لدى الراشدين تؤدي الحمية في معظم الأحيان إلى وضع من النزول والصعود في الوزن. فالوزن ينقص ولكن ما أن تنتهي الحمية حتى يزيد الوزن إلى حد أعلى مما كان عليه. وفي حالة واحدة، إذا كان الراشد يملك دافعاً قوياً للنحافة فهناك نسبة صغيرة للنجاح في إنقاص الوزن لوقت طويل. أما أن تفرضي حمية على الطفل ضد رغبته فهو الضغط الشديد بعينه. ولا يمكن أن ينجح الأمر لعدم وجود دافع محرك. وعلى الأغلب تنعكس الأمور فيصبح الشغل الشاغل للطفل هو الطعام ويستغل كل فرصة ليملأ البطن منه. وينسى التنظيم الذاتي ويحس، ومعه الحق، أنه طفل تساء معاملته.
ليس الأمر بأقل سوءاً حين نضع الطفل أمام مهمة اتخاذ القرار بسؤالنا: “هل تريد تطبيق نظام حمية؟” الحقيقة هي أن هذا السؤال مصيدة، إذ تختبئ فيه رسالتان:
1- “من الواجب ألا تأكل، لأنك بدين جداً.”
2- “أنت تحمل وزر كونك سمين جداً، فمن يريد حقاً أن يصبح نحيفاً، يستطيع ذلك.”
لذا فإن السؤال لا يفيد. وبإمكانك مساعدة الطفل فقط حين تقبلين بجسمه كما هو، وحين تعبرين له عن ذلك بقولك: “أحبك هكذا كما أنت.”
عبارة: “لا يجوز أن تأكل، لأنك ستصبح سميناً جدا””، هي ضغط على الطفل. والضغط لا يجدي نفعاً بل يجعل الأوضاع أشد سوءاً.
ماذا تفعلين عوضاً عن ذلك؟ تمسّكي بقواعد التغذية السليمة.
– بإمكانك أن تحضري الحلويات والمشروبات التي تحتوي على السكريات والأغذية الدسمة بشكل محدود ومدروس إلى البيت وأن تضعيها على مائدة الطعام. ولا تفرّقي أبداً بين الطفل “السمين” وبين بقية أفراد الأسرة. وهرم التغذية صالح للجميع.
– يمكنك أن تدعي طفلك يأكل بقدر ما يريد من الخبز والبطاطا والأرز والمعكرونه والفواكه والخضار. وجميعها من قاعدة الهرم والطبقة الأولى فيه. المهم أن يحدد هو الكمية حتى وإن بدت لك كبيرة جداً.
– يمكنك أن تحددي أوقات وجبات الطعام الرئيسة وأوقات الوجبات الصغيرة.
– بإمكانك أن تحددي القواعد السارية المفعول لدى الجلوس إلى المائدة. بإمكانك أن تسعي لأن يبقى طفلك دوماً نشيطاً.
– إذا زاد وزن طفلك بشكل كبير في وقت قصير، قد تكون هناك مشكلة وراء هذا الأمر. بإمكانك البحث لمعرفة السبب، ربما تستطيعين مساعدته وإيجاد الحل.
“يجب أن تأكل أكثر!”
تبين من نتائج استبيان للرأي أجري في عيادة طبيب للأطفال، أن 20% من أهالي الأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين عام إلى خمسة أعوام من العمر، يمثلون الرأي القائل: “طفلي يأكل قليلاً.” هناك خطوة واحدة وصغيرة تفصل بين هذا القول وبين التدخل. هل تجدين أنت أيضاً طفلك “نحيلاً جداً ؟” ما الحل الأقرب الذي يتبادر إلى الذهن ليزيد وزن الطفل سوى محاولة أن يأكل أكثر؟ ولكن كيف يمكنك تحقيق ذلك دون ممارسة الضغط؟ الجواب: هذا غير ممكن. لأننا أمام خيارين: إما تتيحين لطفلك إمكانية تحديد الكمية التي يأكلها بنفسه، مهما قلّت، أو أنك تتدخلين وتمارسين ضغطك عليه بقولك: “يجب أن تأكل أكثر، لأنك نحيل جداً.” يملك الأهل إمكانات كثيرة لمخالفة قواعد التغذية السليمة وجعل الطفل يأكل أكثر مما يرغب.
الضغط المتطرف: إكراه الطفل على الطعام
يأخذ الإطعام بالإكراه أشكالاً متعددة، لعل أسوأها إكراه الطفل بإدخال ملعقة الطعام إلى فمه عنوة.
من النتائج السيئة التي تنجم عن مثل هذا التصرف ما حدث لطفلة في الشهر السادس من عمرها كانت ترفض قبول أي شيء بالملعقة. لم تحتمل الأم رفض طفلتها. كانت الطفلة تصرخ وتدير رأسها إلى الجانب الآخر. وفي أحد الأيام، كانت الأم في حالة سيئة، وفقدت السيطرة على نفسها تماماً، وأدخلت الملعقة عنوة في فم الطفلة. وحين هرعت بابنتها إلى العيادة ثبت أن سقف الحلق لدى الطفلة قد تمزق، ونقلت الطفلة فوراً إلى المستشفى.
لا يعني الإطعام بالضغط حتماً إساءة معاملة الطفل إلى أبعد الحدود كما هو الحال في المثال الذي أوردناه. ولكن إطعام الطفل ضد إرادته هو إكراه.
ويغصب بعض الأهل طفلهم على وضع مصاصة زجاجة الحليب مراراً وتكراراً في فمه. هكذا كانت والدة نور تدخل زجاجة الحليب في فم ابنتها بالرغم من رفض الطفلة وبالرغم من أنها كانت تدير رأسها بعيداً. وكانت الأم تكرر ذلك حتى تصبح الزجاجة فارغة.
تثبت بعض الأمهات رأس الطفل بيدها حتى لا يستطيع تحريكه إلى الجهة الأخرى. أو تضغط على الوجنتين كي يفتح الفم. أو تسد أنف الطفل لتدخل الطعام في الفم الذي ينفتح. أو تنتظر حتى يصرخ الطفل فتدخل الطعام داخل فمه. أو تدخل الملعقة إلى أبعد ما يمكن في الحلق، وإذا ما وصل الطعام خلف أصل اللسان، فإن الطفل يصبح غير قادر على دفعه باللسان خارج الفم.
يوجد نوع آخر من الضغط وهو الإكراه البسيط على تناول الطعام. مثلاً: يجب أن يؤكل كل ما في الصحن وإلا لا يسمح للطفل بالقيام عن مائدة الطعام. ويبكي الطفل، ولكن الدموع لا تحل المشكلة. كأن يُلزم الطفل بأكل السبانخ بغض النظر عن الكره الذي يحمله تجاهها. كل منا، ممن اضطر لتناول الطعام تحت الضغط والإكراه، يمكنه أن يتذكر الشعور المزعج الذي لازمه حتى الآن كلما فكر بهذه المواقف.
الضغط الخفي: “أنت لا تأكل ؟ أنت لا تحبني!”
قد تسير التغذية تحت الضغط أو بالإكراه بشكل مخفي أيضاً. ويمكن مقارنتها مع موقف تستطيعين أن تضعي نفسك فيه.
مثال: تخيلي نفسك مدعوة للطعام لدى حماتك. وقد بذلتْ جهداً كبيراً في تحضير قالب من الحلوى. وها هي ذا تنظر إليك أثناء تناول الطعام بعين ملؤها التوقع قائلة: “هل أعجبك مذاقه؟” إنك تكرهين هذا النوع من الحلوى ولكنك لا تريدين أن تخيبي ظنها لأنك تعلمين أن حماتك ستعتبر الأمر إهانة شخصية إذا لم تأكلي من الحلوى. وسوف تستنتج: “إنها لا تأكل من الحلوى التي جهزتها بكل الحب لها، إذاً إنها لا تحبني!” وأنت تجدين هذا الاستنتاج غير معقول ولكنك تعرفين حماتك. لقد وجدت الحل، أطرقت رأسك وكافحت مع نفسك بشجاعة وأخذت قطعة لطبقك ووضعتها في فمك. وقبل أن تعترضي وجدت قطعة ثانية قد وجدت طريقها إلى طبقك. هل تشعرين الآن أنك تحت الضغط؟ ماذا تودين أن تفعلي؟ هل ستفرحين بالمجيء وتناول الطعام مرة أخرى لدى حماتك؟
كثير من الأهالي يتمتعون بصفات هذه الحماة. وتنظر الأم إلى طفلها بعين ملؤها التوقع. وإذا ما رفض حبيب الطعام فإنها تحس بالجرح والإهانة. وتعقب على ذلك بقولها: “أترفض طعامي؟ لقد أعددته بكل الحب لك. إنك لا تقبل محبتي لك. إذاً أنت لا تحبني. هذا أمر مريع.” يحس الطفل في هذه الحالة بأمرين اثنين: التوقع المبالغ به من جانب أمه، وخيبة الأمل التي لا حدود لها إذا لم يأكل شيئاً أو إذا أكل قليلاً من الطعام.
يتصرف حبيب أحياناً بشكل مؤدب ويأكل بكل لطف كل ما قدم له من طعام. حينئذ تسعد الأم وتغالي في مدحه. ولكن في أغلب الأحيان يختلف سلوكه ويمسك عن الطعام لأنه لا رغبة لديه في الأكل. وهذا ما يبديه بشكل واضح جداً. فهو يبعثر الطعام ويعاكس ويصيح ويرغب في القيام والركض هنا وهناك. وإذا أطعمته أمه يدير رأسه أو يضرب الملعقة. هنا تبلغ الأم مرحلة اليأس. وتتصرف حسب وضعها النفسي، فهي إما تفقد أعصابها وتصيح بصوت عال أو تساير ولدها وتتركه يركض في البيت أثناء تناول الطعام.
ورغم ذلك كان وزن الطفل يزيد، وكان نظام الضبط الداخلي لديه يعمل بشكل جيد. فهو يأكل بشكل كاف. إلا أن علاقته مع أمه تعاني من هذا الضغط غير الضروري، وكان كلاهما يعانيان عند كل وجبة طعام تقريباً من التوتر. وبما أن الأم لا تكاد تستطيع أن تفكر بشيء آخر غير الوجبات فإنها كانت متوترة طيلة يومها تقريباً.
يجب أن تستوعب أم حبيب أن محبتها لابنها لا تمر عبر المعدة، وأنها تستطيع أن تكون أماً جيدة حتى حين يأكل ابنها شيئاً قليلاً من الطعام أو لا يأكل شيئاً وأن طفلها يستطيع أن يحدد كمية الطعام التي يحتاج إليها بشكل ممتاز وأن هذا الطفل يلقي بالضغط وراء ظهره ولا يتناول بسببه لقمة واحدة زيادة. وهو في الواقع لا يحتاج إلى ذلك لأن منحني الوزن لديه طبيعي جداً. ولكنه في الوقت ذاته لن يأكل أقل مما يحتاج إليه. لذا، من الممكن أن تستمتع الأم وابنها بوجبة الطعام بدلاً من الإحساس بالتوتر.
وقد يساعد الأمهات المشابهات للأم في مثالنا أن يضعن نصب أعينهن بعض العبارات التي قد تساعد في التحرر مما في داخلهن:
– بنيّ، إذا كنت سليم الجسم ومعافى، سيّان لدي، إن أكلت قليلاً أو كثيراً.
– أنا أحبك، إن كنت سميناً أو نحيلا.
– أنا واثقة من أنك ودون أدنى شك تأخذ ما تحتاج إليه من طعام.
– أنا أتقبلك كما أنت وبغض النظر عما تتقبل مني ولا علاقة للطعام بمحبتي لك.
– حين لا ترغب بتناول شيء من الطعام، لا بأس، لن يخرب الكون.
الضغط عن طريق المكافأة: بدون أكل الخضار لا يوجد حلوى بعد الطعام
“أولاً يجب أن تأكل كل ما في طبقك من طعام، و إلا لا يوجد حلوى بعد الطعام.” هذه العبارة مألوفة ومعروفة وواسعة الانتشار. حين يكون الطفل لطيفاً ويأكل جيداً، يتلقى حلوى بعد الطعام كمكافأة. أما إذا لم يأكل فلن يتلقى الحلوى. يمارس كثير من الأهالي هذا التصرف، وقد اتبعته شخصياً مع طفلتيّ أحياناً، ولكني أعرف الآن أن هذا التصرف لا يفيد في شيء. ترى لماذا؟
أجريت دراسة حول هذا الموضوع. قسّم الأطفال في روضة من رياض الأطفال إلى فئتين. كان أفراد الفئة الأولى يتلقون مكافأة حين يجربون نوعاً محدداً جديداً من الطعام، وأفراد الفئة الثانية لا يتلقون ذلك ولا يجربون أنواعاً جديدة من الطعام. ترى، هل صار أطفال الفئة الأولى يطلبون هذا الطعام من أنفسهم؟ كلا! بل على العكس من ذلك! كانوا لا يريدون أن يسمعوا بهذا الطعام. إن المكافأة لم تلعب دورها كمحفز بل كعنصر ضغط. واتضح أن الضغط يشد إلى الوراء. الحلوى كمكافأة على تناول الطعام هي أيضاً نوع من أنواع الضغط. لا يصدق أهالي كثيرون ذلك. ربما يصبح الأمر أكثر وضوحاً من خلال قصة عمر، لأن أمه فكرت بطريقة خاصة حول هذا الموضوع.
يبلغ عمر من العمر ثلاث سنين. تقول أمه إنه لا يأكل جيدا. تطعمه أمه بيدها بالرغم من أنه يستطيع أن يأكل وحده بشكل جيد. وهو لا يحب الخضار لكنه يحب الحلويات. والشوكولاته هي الأحب له. حين ترغب أمه بإطعامه، يغلق فمه غالباً، لكن أمه تعرف كيف تصل إلى المبتغى. تحضر قطعة من الشوكولاته من الخزانة قائلة: “انظر حبيبي، سأعطيك هذه الشوكولاته حين يصبح الطبق فارغاً تماماً، وإلا فإننا سنذهب إلى الجيران وأعطي الشوكولاته لابنتهم مريم.” طبعاً، لا يريد عمر أبداً أن يحصل هذا. لذا فهو يفتح فمه ويأكل عدة ملاعق من الخضار دون أي مقاومة.
أي منطق هذا! إن مريم ابنة الجيران ذات السنتين والنصف من العمر لا علاقة لها بطبق الخضار الخاص بعمر. إنه ضغط على الطفل لا مراء في ذلك. ولكن ما حال مشاعر عمر؟ إنه يشعر باحتقار شديد للموقف وهو يبتلع الخضار كي يتلقى قطعة الشوكولاته ولا تتلقاها مريم. ويقول في نفسه: “علي أن أبتلع هذه الخضار اللعينة كي أتلقى الشوكولاته. إن أمي ظالمة فأنا أكره الخضار.” وهو غاضب من أمه وعليها. السؤال الذي يطرح نفسه: هل يتعلم عمر بهذه الطريقة تقدير قيمة الخضار في يوم من الأيام بشكل صحيح؟ كلا! هذا النوع من المكافأة يجعل الخضار تستحق الكره كله. كان عليه أن يأكل شيئاً لا يحبه كي يسمح له بأكل شيء يحبه. الموقف كله يبدو له مثيراً للجنون، وإنه لكذلك.
لكن أم عمر كانت مقتنعة بأن عليها المحافظة على هذا الأسلوب. وذلك لسببين:
1- “دون الضغط بحلوى ما بعد الطعام لن يأكل عمر الخضار إطلاقا.”
2- “إذا تلقى عمر الحلوى على كل الأحوال، سيأكل الحلوى ولا شيء غيرها.”
نحن نعلم أن أهالي كثيرين يشاطرون أم عمر الرأي ولا يستطيعون أن يتحرروا من طريقة الضغط بحلوى ما بعد الطعام.
النقطة الأولى التي نود أن نطرحها: لم تحاول أم عمر بشكل كاف مع طفلها دون الضغط بالحلوى. فهي لا تتوقع منه أن يختار من الطعام المتنوع الذي تعرضه له ما يحتاج إليه جسمه. ولكنه في الواقع يستطيع أن يفعل ذلك، لأن نظام الضبط الداخلي لديه يعمل بشكل ممتاز. ربما يحتاج الطفل من الخضار أقل مما تظن أمه. إنه يأكل التفاح بشهية وكذلك الموز ويشرب عصير الفواكه بشكل نظامي. ربما تنفتح نفسه على الخضار بعد فترة. وكلنا نعلم أن الأطفال الصغار متحفظون تجاه الطعام الذي لا يعرفونه. والعلاج الناجع هنا هو الصبر وتقديم الطعام مرة ثانية و ثالثة وليس الضغط، لأن الضغط لا يساعد ويؤدي إلى السير في الاتجاه المعاكس.
والآن إلى النقطة الثانية: راعي دائماً أن تضعي الأطعمة السكرية والدسمة والتي تقع في قمة الهرم الغذائي على المائدة بشكل محدود. وحين يرفض عمر الخضار لا يجوز أن يتلقى بدلاً عنها لوحاً كاملاً من الشوكولاته بل يتلقى فقط القطعة التي أرادت الأم أن تكون حلوى ما بعد الطعام في تلك الوجبة. وهذه القطعة هي جزء من الوجبة مثلها مثل الخضار تماماً. يستطيع عمر أن يختار بنفسه ما يريد أن يأكله مما أعدت أمه من طعام. ويتلقى من الشوكولاته قطعة صغيرة. ويسمح له أن يحصل على قطعته ولكن لا يسمح له بالحصول على أكثر من ذلك. إن حلوى ما بعد الطعام غير ضرورية يومياً حسب ما نرى. من الممكن أن نقدم للطفل الفاكهة بعد الطعام، وأن نترك له تحديد الكمية التي يريد أن يأكلها بغض النظر عما أكل قبل ذلك. فما المانع في أن يتلقى عمر قطعة كبيرة من البطيخ أو حبة كبيرة من التفاح بالرغم من أنه ترك الجزر الخاص به في طبقه ولم يأكله؟
حيل أخرى – ضغوط أخرى: قصص من الواقع
يمارس الأهل وبنيّة حسنة الضغط على أطفالهم من خلال الحيلة. ولكن، حتى الحيل لا تجدي نفعاً على المدى الطويل. الانتقال من “الإطعام بالضغط” إلى “الإطعام بالحيلة” أمر وارد جداً. وفي هذا السياق، يقدم للأطفال الذين لا يأكلون جيداً الحليب أو الطعام المطحون من خلال الزجاجة أثناء النوم.
سمر، طفلة لها من العمر خمسة عشر شهراً. كانت بالكاد تأكل شيئاً أثناء النهار وترفض الملعقة وكذلك ترفض زجاجة الحليب في أغلب الأحيان. ورغم ذلك يزداد وزنها بشكل طبيعي كما يوضح منحني الوزن الخاص بها. كيف تنسجم هذه المعطيات معاً؟ تلقى أهلها النصيحة التالية: “دعوا الطفلة تشرب ليلاً، وبذلك فهي لا تلاحظ شيئاً.” اتبع أهلها النصيحة وأحدثوا في مصاصة زجاجة الحليب ثقباً واسعاً وملئوا الزجاجة بالحليب والغذاء المطحون معه. شربت سمر كل ليلة خمس زجاجات وهي في حالة من النوم غير الكامل, أي ما يعادل 1,5 ليتراً كل ليلة، وهذا كاف للحفاظ على الحياة والنمو. ولكن ضاع على سمر بهذه الطريقة كثير من الأمور: فهي لم تحدد إذا كانت تريد أن تأكل وماذا تريد أن تأكل. وبما أنها تحس بالشبع نهاراً فإنها لم تستطع أن تحتمل وجبات الأسرة إلا بالصراخ. ومن جهة أخرى، ارتبط لديها الشرب مع النوم. وبما أنها كانت تشرب ليلاً، لذا لم يكن من الممكن أن تنام نوماً متواصلاً. و بالاستغناء عن الوجبات الليلية فقط استطاعت سمر أن تهتم بوجبات الأسرة نهاراً.
التغذية الليلية بالزجاجة هي إما عادة غير ملائمة تؤثر على النوم المتصل، أو حيلة، نستطيع بواسطتها أن نمرر الطعام للأطفال دون أن ينتبهوا لذلك – لكن الثمن غالٍ: إنها تمنع التغذية بالطريقة المناسبة للعمر على مائدة الأسرة. كما وإن بقاء بقايا الأطعمة في الفم دون غسيل يجعل الفم بؤرة للتخمّرات المؤذية التي تسبب نخر الأسنان والتي يسبب بلعها اضطرابات ومشاكل هضمية هذا عدا عن مخالفة الناموس الإلهي الذي جعل الليل للنوم والنهار معاشا. كذلك فإن إعطاء الزجاجة لطفل ظهرت أسنانه يجعل شكل الفك مشوها بسبب المص المتواصل طيلة الليل والذي يجعل الطفل بحاجة إلى تقويم الفكين فيما بعد!!
ما الذي يخطر على بال الأهل أيضاً ؟ يحاول بعضهم أن يلهي الطفل:
شخصياً كنت أثناء الطعام أقص على أولادي عمار وآلاء، حين كانت أعمارهم ثلاث وخمس سنين قصة علي بابا والأربعين حرامي. حين كان أحدهما يتوقف عن الطعام كنت أتوقف عن الكلام. كان الأمر في البداية فعلاً مسلياً. ولكن، وبعد وقت قصير، حل التوتر محل التسلية. فقد رفض الأطفال أن يأكلوا ولو لقمة واحدة دون حكاية علي بابا والأربعين حرامي. أما أنا، وبعد أن قصصت هذه القصة 35 مرةً، فلم تعد لدي أي رغبة في التحدث عنها، ولقد كلفني التحرر من هذه العادة وإبعادها عن مائدة الطعام تعباً كثيراً ودموعاً.
عبد الرحمن طفل له من العمر سنتان. كانت أمه تحضر له مجموعة كبيرة من الألعاب إلى طاولة الطعام، وما بين سيارة الإطفاء والدب الصغير كانت تدخل له لقمةً في فمه. أو كانت تقرأ له في الكتب المصورة بينما هي تطعمه. كان والد عبد الرحمن يحاول استخدام طائرة تصدر صوتاً وكلما اقتربت الملعقة من فم الطفل كان يقول: “الطائرة قادمة إلى المطار ! افتحوا البوابة ! استقبلوها !”
تبلغ ياسمين من العمر ثمانية أعوام. وكانت تتلقى الطعام كقطع جاهزة للفم موضوعة على الطبق تأكلها أثناء مشاهدة التلفاز.” وهكذا لم تكن تلاحظ أنها تأكل.” حسب رأي أمها.
رشيد له من العمر ثلاث سنوات كان مسموحاً له خلال تناول الطعام أن يركض ويسير في المطبخ. فإذا ما اقترب من والديه كانا يحاولان إطعامه بعض الطعام. وعبّر الوالدان بقولهما: “نستطيع بهذه الطريقة أن نطعمه بعض الشيء.” ولم يتحسن الوضع. وكان لدى الوالدين الانطباع أن كمية الطعام التي يتناولها رشيد كانت تقل باستمرار ولكنهما راضيان لأنه كان يأكل شيئاً ما.
الجوهرة ذات السنوات الأربع من العمر لها أم تتملكها فكرة إطعام ابنتها. كانت الأم تمارس كل أنواع الضغط التي يمكن التفكير بها. وكانت الجوهرة تقاوم بطريقتها الخاصة: إنها تتقيأ كل شيء دون أن يكلفها ذلك تعباً أو مشقة، مما يسبب لأمها إرباكاً شديداً. لذا كانت تأخذ معها إلى أي مكان تذهبان إليه قطعة من الخبز، وتضع قطعة الخبز في جيبها لتقسمها إلى لقيمات وتدخلها كلما نجحت في تحويل اهتمام ابنتها إلى شيء ما، لقيمة تلو أخرى في فمها دون أن تنتبه الصغيرة إلى ما يجري.
الضغط لا يعطي النتيجة المرجوة
تتسم جميع هذه المحاولات، سواء كانت ضغطاً متطرفاً أو حيلة، بصفة مشتركة وهي أنها لا تجدي نفعاً. هذا يعني أن الضغط لا يعطي النتيجة المرجوة: يقاوم الأطفال الطعام ويكافحون ويحبسون أنفسهم أو يكتشفون التهديد الفعال: “إذاً، لن آكل”، كوسيلة من وسائل الضغط ويستطيعون بذلك تحديد القواعد على المائدة.
لا يلتزم الوالدان بقواعد التغذية السليمة. إنهم يضغطون ويحاولون إدخال الطعام في أفواه أطفالهم مع أن هذا ليس مطلوباً منهم. واجبهم هو: اختيار الطعام ووضعه على الطاولة. وبهذا تنتهي المهمة التي تحددها قواعد اللعبة:
– أنت تحضرين الطعام إلى المائدة ولكنك لا تدخلينه في فم طفلك.
في هذا السياق يناسب أن نذكر قصة الطفلة حصة. القصة ليست عادية لأن حصة طفلة غير عادية وتميل إلى ردود أفعال متطرفة.
في يوم من الأيام حين كانت حصة تأكل الجزر تشردقت بقطعة من الجزرة ولم تحسن بلعها. صحيح أن الوضع لم يصل إلى مرحلة الاختناق بل إلى الإرباك فقط ولكن قطعة كبيرة من الجزرة بقيت في المري. أحست الطفلة بألم شديد، كانت تعاني وتتألم وتعرضت للتعرّق ثم تقيأت. وبعد أسبوع تشردقت بقطعة من الخبز. لم يكن الأمر سيئاً هذه المرة ولكن رد فعلها كان مماثلاً للمرة الأولى. ومنذ ذلك الحين قررت ألا تأكل شيئاً قاسياً تحتاج إلى مضغه. وشيئاً فشيئاً بدأت ترفض كل شيء. لم تعد تأكل إلا غذاءً مطحوناً. وكان الوضع يزداد سوءاً عند مجيء والدها إلى البيت، فقد كانت رغبته، أن تأكل شيئاً ما تحت كل الظروف. كان يعدّ لها زجاجة الحليب الخاصة بالأطفال الصغار ويركض وراءها في البيت كله. وكانت أمها تطحن لها حتى الحساء. ولكن الوضع كان يزداد سوءاً فقد نقص وزن حصة 2 كغ. وكانت في نهاية المطاف ترفض أن تبلع لعابها.
في البداية كان الأمر قابلاً للفهم، فقد كانت لدى حصة مشاكل مع الطعام. ولكن كلما بذل والداها جهداً أكبر لدفعها لتناول الطعام، كلما كان الأمر يزداد سوءاً. وحين بلغ السيل الزبى، وصلت الأم إلى الفكرة المنقذة. كان على حصة أن تجلس لدى كل وجبة إلى مائدة الطعام، وفي كل وجبة كان هناك طبق من الحساء المطحون. حين كانت حصة تبدأ بالبكاء قائلة: “أنا لا أستطيع أن آكل شيئاً “كانت الأم تجيبها بكل محبة ولطف وحنان ولكن بلهجة حازمة: “على المائدة شيء يمكن أن تأكليه.” ولم تكن تزيد على قولها هذا أي كلمة أخرى. لم تمارس أي ضغط. وسارت الأمور طيلة أسابيع على هذا النحو. بدأت حصة في البداية لدى الأصدقاء والأقرباء بتناول الغذاء الصلب. وخطوة خطوة سارت الأمور على هذا النحو في البيت أيضاً. وبعد ذلك صارت تأكل كل شيء. واستعادت الوزن الذي فقدته خلال فترة قصيرة، لا بل زاد وزنها بعض الشيء.
تقع الأم،التي ترزق طفلاً وزنه قليل أو خديجاً، بسهولة فريسة محاولة بذل مجهود كبير وممارسة الضغط لدى تغذية طفلها. صحيح أن هذا التصرف له ما يبرره ولكنه لا يجدي نفعا. لأن كلاً من الطفلين، الطفل ذي الوزن القليل والطفل الخديج، يستطيع أن يحدد بشكل ممتاز الكمية التي يحتاج إليها من الغذاء. وإذا تركنا الأمور تسير بشكلها الطبيعي فمن الثابت علمياً أن الطفل الخديج أو الطفل المولود بوقته ولكن وزنه ضعيف يحصّل رفاقه المولودين معه بوزن عادي بأوزانهم خلال الربع الأول من العام الأول من العمر.
النتيجة التي وصلنا إليها في هذا الموضوع أن الأهل الذين يتجاوزون مهامهم التي تحددها قواعد التغذية السليمة يرتكبون أخطاء تتراوح بين الحد من كمية الطعام المقدم للطفل خوفاً من ازدياد وزنه أو على العكس من ذلك الضغط على الطفل كي يتناول كمية أكبر من الطعام سواء بالإكراه أو التحايل حين تظن الأم خطأ – بسبب محبتها الخاطئة – أن طفلها قليل الأكل أو نحيل جداً ولا يصلون إلى النتيجة المرجوة. وتلافي هذه الأخطاء ممكن بالالتزام بقواعد التغذية السليمة وبزيادة معارف الأهل حول الزيادة الصحيحة علمياً في وزن الطفل حسب العمر والعودة في ذلك إلى طبيب الأطفال.
لا يعرف أهالي كثيرون، بأي درجة من الإتقان يستطيع الأطفال الصغار أن يديروا دفة تناولهم للغذاء، وكم يعمل “الصوت الداخلي” أو “جهاز الضبط الداخلي” لديهم بإتقان! لايجوز أن نكتم هذا الصوت الداخلي بل يجب أن نثق بقدرة الطفل الرائعة ونكملها وهذه هيأفضل تربية “للتغذية السليمة”. وما أروع أن يستوعب الأهل هذا الترابط وأن يكفوا عن القيام بدور غير الدور المنوط بهم في التربية الغذائية.
حين يقصّر الوالدان بأداء مهامهما
الطبخ “حسب الأوامر”: حين يحدد الطفل، ماذا يوضع على مائدة الطعام
ماذا تعني عبارة الطبخ “حسب الأوامر” ؟ تشرح القصة التالية هذه العبارة:
حنان طفلة في الخامسة من العمر، تبدو كأميرة صغيرة. لها عينان جميلتان وشعر متموج رائع. لها نظرة أخاذة، يعجب بها الجميع. كنا في نهاية الأسبوع الماضي في زيارة لدى أسرة حنان وجرت أمامنا المسرحية التالية: كان الطعام على الغداء الدجاج مع البطاطا المقلية والخضار. وجلست حنان معنا إلى مائدة الطعام. وألقت نظرة على الطعام الجاهز على المائدة وقالت متأففة: “ماهذا، أنا لا أحب هذا كله!” وفوراً انتصبت الأم واقفة وقالت: “ماذا ترغبين يا حبيبتي من الطعام ؟” ـ “أريد سباغيتي !” تركت أم حنان طعامها يبرد وأعدت سباغيتي “لحبيبتها”. وما أن وضع السباغيتي على طبق حنان حتى صاحت:”لا يوجد على السباغيتي شيء من الزبدة! وبدون الزبدة لا أحبه.” نهضت أم حنان مرة أخرى ووضعت بعض قطع الزبدة على السباغيتي. والآن أكلت حنان لقمة واحدة من السباغيتي ووجهت الكلام إلى أمها قائلة: “لقد وضعت الكثير من الزبدة على الطعام. لقد أصبح طعم السباغيتي مقرفاً أريد شيئاً آخر.”
ماذا تتوقعين؟ هل أعدت أم حنان طعاماً جديداً حسب أوامر ابنتها ؟ كلا، لم تفعل ذلك. لكنها أحضرت بعض الحلوى من الخزانة كي تكون حبيبتها قد أكلت شيئاً ما.
تطبخ أم حنان غالباً “حسب الأوامر.” وحين لا يناسب الطعام حنان، تتأفف وتتلقى شيئاً آخر. ماذا ينتج عن هذا التصرف؟ التوتر دون شك. حنان تحدد، ماذا يُطبخ وتتأفف وتطلب وتتلقى النقانق الخاصة والحلوى وتتصرف بشكل غير معقول ولا مقبول. والأم تساير هواها. وإذا جربت مرة عدم التجاوب فإن حنان تلعب بورقتها الأخيرة وتقول: “إذاً، لن آكل شيئاً!”ولهذا القول دوماً صداه، لأن أم حنان تستسلم للأمر الواقع وتقول: “إذا كانت لا تحب هذا الطعام، فلا بد من أن تأكل شيئاً ما. ”
ساعة الطعام بالنسبة لنورا أيضاً ذات السنوات السبع من العمر وبالنسبة لأمها هي ساعة توتر. والدة نورا تطبخ أيضاً حسب الأوامر. صحيح أنها لا تطبخ عدة أنواع من الطعام بالتتابع حسب الطلب لكنها تتصرف بطريقة مغايرة. ففي الصباح وقبل أن تذهب نورا إلى المدرسة تسألها أمها: “ماذا أطبخ اليوم للغداء ؟” ويسمح لنورا أن تختار بكل حرية أو أن أمها تعطي بعض المقترحات وتختار نورا أحدها. وحين تعود نورا من المدرسة، تجد الطعام الذي اختارته على الطاولة ساخناً والبخار يتصاعد منه. ورغم ذلك فالقاعدة هي أن يوجد توتر دائماً. نورا ترغب دوماً بالقليل القليل من الطعام. وغالباً ما تقول: “أنا لا أحب هذا الطعام.” ولا تطبخ أم نورا شيئاً آخر ولكنها تغضب في كل مرة إلى أبعد الحدود: ” ماذا يعني هذا الكلام؟ لقد سألتك بشكل خاص! وأنت أردت البطاطا! فكيف تدّعين الآن أنك لا تحبين البطاطا ؟” وهكذا لا يبقى أمام نورا سوى أن تأكل الطعام الموجود على طبقها. ولا يسمح لها بالقيام عن مائدة الطعام قبل إنجاز ذلك.
تتطور لدى الأطفال رغبات غريبة، ملفتة للنظر وغير مبررة حين يقوم الأهل بأقل مما يجب عليهم ويدعون أطفالهم يضعونهم تحت ضغط العبارة السحرية “إذاً لن آكل شيئاً” وبالتالي يعدون من الطعام ما “يطلبه” الطفل.
يذهب الطفل نبيل، ذو الأعوام الثلاثة من العمر، يومياً إلى روضة الأطفال. لكنه لا يزال يتلقى معظم غذائه من الزجاجة يتناول نبيل كل يوم صباحاً ومساءً نصف ليتر من الكورن فليكس المطحونة والمعدّة كالحساء. وعدا عن ذلك لا يأكل سوى الخبز “المقرمش”. ويرفض تناول طعام الغداء في الروضة دائماً على وجه التقريب.
سلطان، ذو العامين من العمر، لا يأكل منذ ستة أشهر سوى حساء الحبوب المطحونة و بالزجاجة. فهو يأخذ محتوى ثماني أو تسع زجاجات في اليوم. وقد تستمر وجبة المساء أحياناً ثلاث ساعات لأنه يشرب كمية تصل إلى محتوى أربع زجاجات متوالية.
نبيل وسلطان يتمتعان، رغم عاداتهما الغريبة في التغذية، بوضع صحي جيد ونمو متوازن ويعمل نظام الضبط الداخلي لديهما بشكل جيد. لحسن الحظ يحتوي الطعام المقدم لهما على نسبة عالية من الحبوب، وهذا يتناسب مع هرم التغذية. ورغم ذلك كانت الوجبات عبئاً كبيراً على جميع المعنيين. لم يكن من الضروري أن يلبوا طلبات الأطفال. فالأهل هم الذين يقررون ماذا يقدم من طعام. وهم الذين يقررون، في أي عمر تصبح التغذية عن طريق الزجاجة غير مناسبة.
تناول الطعام دون ضوابط: حين يحدد الطفل “متى وكيف” يتم تناول الطعام
حين نتصرف على مائدة الطعام دون قواعد وأصول، تنقلب مائدة الطعام إلى مكان للتوتر والفوضى. ترى، ماذا يحصل في الواقع، إذا سمح للأطفال أن يحددوا متى يأكلون وكيف يأكلون؟
حين نسمح للأطفال أن يقرروا متى يأكلون، يستتبع هذا نتائج مزعجة: يتراكض بعض الأطفال دوماً هنا وهناك وزجاجة الشاي أو العصير في أفواههم. أطفال كثيرون يتلقون شيئاً للشرب أو للأكل ليلاً بالرغم من أن عمرهم تجاوز ستة شهور ولم يعودوا بحاجة لذلك. أطفال آخرون يسير الواحد منهم وهو يحمل دائماً بيده شيئاً ما للأكل فلا يحس بالجوع وقت الوجبات الرئيسة لأنه ينجح طيلة النهار في الحصول على الطعام. ولا يخلو الأمر من الحصول على الحلوى أثناء ذلك. وتحمل بعض الأمهات، لدى الذهاب في نزهة قصيرة إلى الحديقة، مهما كانت قصيرة، حقيبة مملوءة بالعلب البلاستيكية التي تحتوي على أشياء للأكل، تحسباً من أن الطفل قد يجوع في كل وقت.
لو أعدت الأم ثلاث وجبات رئيسة على المائدة، ووجبة أو وجبتين صغيرتين بين الوجبات على المائدة أيضاً لانتهت هذه المهزلة بسرعة كبيرة وكان من الممكن إعطاء جواب واضح للطفل، حين يطلب طعاماً خارج أوقات الوجبات، “انتظر قليلاً، سوف نتناول طعام الغداء” (أو الإفطار أو الحلوى أو العشاء). وكلما انتظمت أوقات وجبات الطعام، قلّ التوتر الحاصل نتيجة الجوع فيما بين الوجبات، وحظي الطفل بفرصة للاستفادة بشكل أفضل من الوجبات لتناول الطعام، لأنه لا يوجد طعام بين الوجبات أو في الليل.
ماذا يمكن أن يحصل، إذا حدد الطفل، وليس أهله، كيف يتناول الطعام ؟ توتر على طول الخط! لا يبقى أطفال كثيرون جالسين في مكانهم أصلاً. وأطفال آخرون يأكلون شيئاً ما أثناء مشاهدة التلفاز أو أثناء اللعب بألعابهم ويتركون بقايا الطعام مع الألعاب. وهناك أطفال يشتمون قائلين: “ما هذا، هذه أشياء مقرفة !” هناك صراخ وهناك شجار وهناك تراشق بالطعام. ويصدر الطفل أوامره: “هيا يا أمي، أحضري لي الملح ! ” أو “عليك أن تحضري شيئاً آخر.”
يبدو أحياناً من الصعب التقرير إذا كان الأهل يعملون أكثر من اللازم أو أقل مما يجب عليهم؟ إنهم يعملون أكثر من اللازم حين يضعون الطفل تحت الضغط كي يأكل. وتدخل في هذا الإطار الحيل كإلهاء الطفل بألعابه أو إطعامه أثناء متابعته برامج الأطفال في التلفاز.
ويعملون أقل من اللازم حين يوافقون الطفل ويدعون له مهمة وضع القواعد. وهذا يؤدي إلى النتيجة نفسها: لا يأكل الطفل إلا أثناء اللعب بألعابه الخاصة أو أثناء متابعة برامج التلفاز.
وفي كلتا الحالتين فإن التوتر أمر لابد منه.
كيف يتم تحاشي هذا الصراع ؟ الجواب: يضع الأهل قواعد السلوك، ليس فقط أثناء الطعام، وإن كانت وجبات الطعام هي المكان المحبب للصراع على السلطة بين الأهل والطفل.
الخلاصة في سطور
– يقوم الوالدان بأكثر مما هو مطلوب منهما حين يرغبان بتحديد كمية الطعام الذي يأكله الطفل.
يمارس الوالدان الضغط على الطفل لكنّ الضغط لا يجدي نفعاً.
يسبب الضغط التوتر ويؤدي إلى نتائج عكسية.
– “لا يجوز أن تأكل لأنك سمين جداً”، تعني الضغط،
يمنع الطعام عن الطفل، ويحس الطفل أنه تساء معاملته، ويفكر بالطعام أكثر.
– “يجب أن تأكل أكثر”تعني الضغط أيضاً،
يتم إطعام الطفل بالإكراه أو المكافآت أو الحيل، لكن الطفل لن يأكل أكثر، وغالباً ما يقاوم الطفل ضد الطعام.
– يفعل الوالدان أقل مما يجب عليهما حين يدَعون الطفل يقرر:
ماذا يوضع على المائدة من طعام ومتى يؤكل الطعام وكيف يؤكل.
والنتيجة هي عادات غذائية غير مناسبة وسلوك سيئ أثناء الطعام.