تاريخ المضادات الحيوية يقدم درسًا قاسيًا لما لها من تبعات بسبب الإفراط فيها وسوء استخدامها باعتبارها عقاقير قوية.
تم تصنيع البنسلين للمرة الأولى عام 1928 من أحد أنواع الفطر الشائعة، وبدأ المرضى يستخدمونه في علاج العدوى عام 1942 ، ونظرًا إلى عدم توافره بالكم الكافي؛ أتيح استخدامه في بادئ الأمر للأفراد العسكريين، ثم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية أتيح للعامة؛ حيث كان بمنزلة الدواء المعجزة؛ إذ إنه أنقذ العديد من الأرواح. وعلى مدار السنوات التالية، اكتشف العلماء المزيد من المضادات الحيوية، التي كان معظمها مشتقًّا من فطريات وكائنات مشابهة؛ ففي الطبيعة يتنافس الفطر والبكتيريا على الموارد والبيئة، وتُعتبر المضادات الحيوية هي الدفاعات الكيميائية التي طورها الفطر ضد منافسيه من البكتيريا، وهي إما أن تثبط نمو البكتيريا، وإما أن تقتلها مباشرة.
كان اكتشاف المضادات الحيوية بمنزلة تقدم ثوري في عالم الطب؛ نظرًا إلى ما كان لهذه العقاقير من فاعلية مذهلة في بادئ الأمر، ولو كنا قد استخدمناها بحكمة، وجعلنا استخدامها يقتصر على علاج العدوى البكتيرية الخطيرة، لظلت مفيدة لنا، لكننا بدلًا من ذلك – وأقصد بذلك الأطباء، والممرضات، والصيدلانيين، والمرضى – صرنا نستخدمها من دون تفكير وبشكل جائر؛ ونتيجة ذلك وجّهنا تطور البكتيريا بطرق خطيرة، وسمحنا بنمو كائنات مقاومة ضارية وفتَّاكة، مثل بكتيريا المكورات العنقودية الذهبية المقاومة للميثيسيلين الشهيرة (بكتيريا ستافيلوكوكاس أورياس )، وقد أصبحت مقاومة المضادات الحيوية شائعة جدًّا الآن، حتى إنها صارت تمثل خطرًا كبيرًا على الصحة العامة؛ فقد صارت علاقتنا بالبكتيريا المسببة للأمراض أسوأ كثيرًا مما كانت عليه قبل اكتشاف المضادات الحيوية، وهي كارثة من صنع أيدينا بشكل كامل.
ويتم وصف المضادات الحيوية لمنع تطور العدوى البكتيرية الموثقة أو المشتبه فيها، من بينها العدوى التي تصيب الأذن، والتهاب الحلق البكتيري، والالتهاب الرئوي، وعدوى المسالك البولية، والأمراض المنقولة عن طريق الاتصال الجنسي مثل داء الزهري والسيلان، وداء لايم، وغير هذا من العدوى المزدوجة التي ينقلها كل من القراد، والبثور. وأحيانًا ما توصف المضادات الحيوية في ظل عدم وجود عدوى كإجراء وقائي، على سبيل المثال، لمنع العدوى التي قد تصيب المريض بعد خضوعه لجراحة، كما أن المضادات الحيوية لا تقتل الفيروسات.
ومن بين أشهر أصناف المضادات الحيوية البنسلين، والسيفالوسبورين، والأمينوجليكوزايد، والماكرولايد، والسلفوناميد، والتتراسيكلين، والكوينولون. ويختار الطبيب صنفًا معينًا من أصناف المضادات الحيوية لعلاج العدوى البكتيرية الموثقة أو المشتبه فيها، مع وضع عوامل إضافية في الحسبان مثل عمر المريض، وتاريخه المرضي مع الحساسية، ومعاناته أية حالات مرضية أخرى من عدمها.
ولسوء الحظ، فإنه عند وصف المضاد الحيوي المناسب كذلك، ليست هناك مضادات حيوية خالية من الأضرار الخطيرة, مثلما سنرى في الأجزاء التالية.
مشاكل المضادات الحيوية
مقاومة المضادات الحيوية
تتطور مقاومة المضاد الحيوي عندما تطوِّر البكتيريا القدرة على تحييد أثر الدواء، ومواصلة التضاعف والتكاثر، ومتى ما استُخدم المضاد الحيوي، فإنه يعمل بوصفه أداة انتقائية للبكتيريا، التي في بعض الأحيان يمكنها مقاومته، والعيش وتمرير جيناتها إلى العضو المصاب، وهو ما يمكن أن يحدث بسرعة كبيرة؛ لأن البكتيريا تتكاثر سريعًا، ويمكنها بسهولة أن تمرر طفراتها الجينية لمقاومة المضاد الحيوي إلى الأجيال التالية منها، وكلما استُخدم المضاد الحيوي بصورة مكثفة، حدث هذا بوتيرة أسرع.
يمكن للمقاومة أن تتطور دون تدخل بشري عندما تدافع البكتيريا عن نفسها ضد المضادات الحيوية التي يكوِّنها الفطر والأنواع الأخرى من البكتيريا، لكن مقاومة الجراثيم المتفشية الآن هي على الأغلب بسبب الإفراط في المضادات الحيوية وسوء استخدامها، وتسمح الجينات, على سبيل المثال, للبكتيريا بالعيش والنمو في ظل تعاطي نوع أو أكثر من المضادات الحيوية، ونتيجة قدرة البكتيريا على اكتساب أكثر من نوع من أنواع المقاومة بمرور الوقت، يمكنها أن تكتسب مناعة ضد فئات كاملة من المضادات الحيوية.
وكان الأطباء يصفون المضادات الحيوية بشكل روتيني للعدوى البكتيرية البسيطة، كإجراء وقائي من العدوى التي قد تحدث أو لا، وكعدوى إسهال المسافر، وغير هذا من الأمراض التي تصيب الجهاز الهضمي، وللعلاج طويل المدى – الذي قد يمتد أحيانًا إلى سنوات – للبثور، وحب الشباب، وغيرها من الحالات التي قد تتضمن عدوى بكتيرية أو لا، والأسوأ من ذلك كله الأمراض الفيروسية التي لا يجدي فيها العلاج بالمضادات الحيوية نفعًا. وكثيرًا ما يطلب المرضى بعدوى الجهاز التنفسي العلوي مضادات حيوية عندما لا يشعرون بتحسن سريع في حالتهم، وكثيرًا جدًّا ما ينصاع الأطباء لهذا الطلب؛ حيث يصبح الجسم في هذه الحالة مصنعًا لتوليد الكائنات الدقيقة المقاوِمة التي تخرج إلى العالم لتسبب المشكلات لنا جميعًا، وهي عاقبة تستوجب الندم عندما لا يكون استخدام الدواء مبررًا.
ويمكن للعلاج بالمضادات الحيوية الذي يعزز مقاومة البكتيريا أن يأتي من مصادر أخرى أيضًا؛ حيث يتم رش المحاصيل الزراعية بهذه العقاقير مباشرة باعتبارها مبيدات حشرية، كما يتم استخدامها يوميًّا مع الماشية باعتبارها معززات نمو؛ إذ استهلكت الماشية نحو 14515 طنًّا من المضادات الحيوية عام 2012 ؛ أي أربعة أضعاف الكمية التي استهلكها البشر. وتربية الحيوانات التي يتم علاجها تكون في بيئة مزدحمة، وفي ظل ظروف غير صحية، ثم يتم ذبحها وتصنيعها بكميات ضخمة؛ ومن ثم تهرب البكتيريا المقاومة من المزارع عن طريق المزارعين، وأسرهم، والسماد العضوي الذي يُستخدم لتخصيب المحاصيل، ويمكنها أن تلوث المنتج والمجاري المائية من خلال جريانها. ومن بكتيريا السلمونيلا شائعة الظهور في موارد الولايات المتحدة من اللحوم، أصبحت نسبة 5 % منها مقاومة لخمس فئات أو أكثر من المضادات الحيوية، ويمكن لنسبة 3 % منها الصمود أمام المضاد الحيوي سيفترياكسون (روسيفين)، وهو العلاج الأول حاليًّا لداء السلمونيلات الذي يصيب الأطفال، وتوجد مخلفات المضادات الحيوية في اللحوم والدواجن التي تتم تربيتها بالطرق التقليدية، وفي الحليب، ومشتقاته، والأسماك التي يتم استزراعها في المزارع السمكية. (ومؤخرًا، تعهدت بعض سلاسل مطاعم الوجبات السريعة بأن تشتري فقط اللحوم الحمراء الخالية من المضادات الحيوية، استجابة للقلق المتزايد).
السُّمِّية
تتنوع الآثار السامة للمضادات الحيوية بتنوع الصنف، وتتدرج شدتها من طفيفة إلى مهدِّدة للحياة؛ فقد ينتج عن استخدام مشتقات البنسلين والسيفالوسبورين الطفح الجلدي والإسهال، بينما قد ينتج عن استخدام الأمينوجليكوزايد فقد السمع والفشل الكلوي، وكثيرًا ما ينتج عن الماكرولايد، مثل الإريثرومايسين، غثيان وآلام في المعدة، ويمكن للتتراسيكلين أن يتسبب في تغير لون أسنان الأطفال الصغار، كما يمكن لعقاقير السلفا أن تتسبب في الإصابة بحساسية الجلد من الشمس. كذلك يمكن للكوينولون أن يتسبب في التهاب العينين، وحساسية الجلد من الشمس، والأرق، والإعياء، وتمزق الأوتار في حالات نادرة، إلى جانب احتمالية تسببه في الإصابة بالإسهال نتيجة الإصابة بالبكتيريا المطثية العسيرة.
ردود الأفعال التحسسية
تعتبر الحساسية تجاه المضادات الحيوية من أكثر أنواع حساسية الأدوية شيوعًا بين كل من البالغين والأطفال، وتؤثر ردود الأفعال هذه في شخص تقريبًا من بين كل خمسة عشر شخصًا، ومن أشهر مسببات هذه الحساسية مشتقات البنسلين والسيفالوسبورين. وقد تأخذ حساسية المضادات الحيوية شكل ردود فعل فورية أو مؤجلة، ويتم التعرف على النوع الفوري منها عن طريق تورم الشفتين أو الوجه، والطفح الجلدي، والحكة في الحلق، والقيء، والأخطر من ذلك كله الحساسية المفرطة (الصدمة التحسسية) عرضية الحدوث، وتُعتبر أعراض حساسية المضاد الحيوي المؤجلة متنوعة؛ حيث تشتمل على احمرار الجلد، والطفح الجلدي أو التورم، وقصور أداء عضو من الأعضاء (كالتهاب الكبد أو التهاب الكُلى)، واضطرابات الدم، ويمكن للأشكال الأكثر حدة وخطورة من حساسية المضاد الحيوي المؤجلة أن تشكل تهديدًا على حياة المريض.
وأحيانًا ما تكون للحساسية تجاه المضاد الحيوي ردة فعل على التعرض المفاجئ؛ فقد تناولت دراسة منشورة حالة فتاة كندية أصيبت باحمرار الوجه، والطفح الجلدي، وعدم انتظام التنفس بعد فترة قصيرة من تناول شريحة من شطيرة التوت البري؛ حيث تم إلحاقها بقسم الطوارئ، وأعطيت الإبينفرين وغيره من الأدوية، وتعافت. ثم تحرى فريق من الأطباء السبب الذي أدى إلى إصابة الفتاة بالحساسية، ومع أن المريضة كانت تعاني حساسية الحليب، أوضح التحليل أن الحليب لم يكن ضمن مكونات الشطيرة، كما كانت نتيجة كل التحاليل التي أجريت على كل المكونات الأخرى للشطيرة سلبية، لكن المزيد من التحاليل أظهر وجود نوع من أنواع المضادات الحيوية. وبالفعل اختبر الأطباء حساسية الفتاة من الإستريبتومايسين، وهو مضاد حيوي يُستخدم كمبيد حشري للفواكه، وبالطبع أصيبت الفتاة بالحساسية بالطريقة نفسها التي أصيبت فيها بالحساسية من شطيرة التوت البري. ولا يحظى تشخيص الحساسية تجاه المضادات الحيوية الكامنة في الأغذية باهتمام كافٍ؛ لأن وجودها يكون غير مدوَّن على غلاف المنتج، وإن شك الأطباء في وجودها، ينبغي لهم إرسال عينة من الطعام إلى معمل متخصص لتحليلها.
إلحاق الضرر بالميكروبيوم
يزيد عدد الخلايا البكتيرية بمقدار عشرة أضعاف عدد الخلايا البشرية التي توجد داخل أجسامنا، ويتركز معظمها في الأمعاء، وتساعد هذه البكتيريا على هضم الطعام، واستخلاص الفيتامينات، كما تساعد على تعزيز دفاعاتنا ضد الجراثيم التي يمكنها أن تسبب لنا العدوى، وتؤثر في صحتنا، على المستويين الجسماني والعقلي، بطرق شتى. وتخل المضادات الحيوية بتوازن الميكروبات المعوية في الجسم، ويُعتقد أنها تمنع الجهاز المناعي من التمييز بدقة بين الكائنات النافعة والهجمات الحقيقية للكائنات الضارة. ويمكن لاختلال توازن النبيت الجرثومي المعوي جعل الغشاء المخاطي أكثر قابلية للاختراق، ما يسمح للجزيئات الكبيرة التي تعيش بشكل طبيعي في المعدة بأن تنفذ إلى الدورة الدموية الكبرى؛ الأمر الذي يحفِّز بدوره استجابات مناعية قد تؤدي إلى الإصابة بالحساسية وأمراض المناعة الذاتية.
أقدم فريق بحثي على تغذية مجموعة من الفئران بنوع من الفطريات يشيع وجوده على الجلد البشري، ذلك بعد علاج بعض من هذه الفئران بالمضاد الحيوي، وعادة ما لا يستطيع هذا الفطر العيش داخل جسم الفئران، لكن نتيجة قضاء المضاد الحيوي على البكتيريا المعوية الطبيعية النافعة؛ ترسَّخ الفطر داخل جسم الفئران التي تم علاجها بالمضاد الحيوي (تمامًا مثلما يمكن للعدوى الفطرية المهبلية أن تتطور لدى النساء بعد تعاطيهن المضادات الحيوية). وعلى مدار الأسبوعين التاليين، عرَّض الباحثون كل الفئران لاستنشاق أبواغ فطرية تثير ردة فعل تحسسية؛ حيث أبدت الفئران التي تلقت جرعة المضاد الحيوي ردة فعل أعنف على استنشاق الأبواغ؛ وذلك غالبًا نتيجة استبدال النبيت الجرثومي المعوي لديها. وتشير هذه النتيجة إلى أن التغيرات التي تطرأ على تكوين الميكروبيوم المعوي الذي يلي العلاج بالمضاد الحيوي يمكنها جعلنا أكثر عُرضة لحساسية الجهاز التنفسي وغيرها من أنواع الحساسية، كما ارتبط أيضًا نقص البكتيريا المعوية النافعة بأمراض التهاب الأمعاء، وكذلك بالسرطان.
لقد أوضح مقال نُشر عام 2011 بجريدة نيتشر أن التغيرات التي تطرأ على الميكروبيوم قد تسهِّل انتقال الجراثيم الخطيرة، مع الإشارة إلى أن أحد الأدوار المهمة التي يقوم بها النبيت الجرثومي المعوي الطبيعي هو مقاومة استعمار الكائنات المسببة للأمراض. ولا تسبب المضادات الحيوية تغيرات دائمة في النبيت الجرثومي المعوي فحسب، بل إن الأطفال أيضًا الذين يولدون لأمهات قد تناولن مضادات حيوية في أثناء فترة الحمل – وكذلك نسبة ال 30 % من الأطفال الأمريكيين الذين وُلِدوا بعمليات قيصرية – قد يبدأون حياتهم بميكروبيوم مختل، وهو أمر يدعو إلى القلق؛ فقد ثبت أن نقص التنوع في البكتيريا المعوية النافعة يسهم في الإصابة بعدد أكبر من الأمراض، وتأزم الحالة الصحية. ويمكن لدورة واحدة من المضادات الحيوية أيضًا أن تستبدل النبيت الجرثومي المعوي إلى الأبد؛ حيث أثبتت دراسة علمية أنه بعد علاج مريض مرة واحدة فقط بالمضادات الحيوية الوريدية، أظهرت اختبارات بكتيريا البراز الخاصة به تغيرًا ملحوظًا في تنوع السلالات البكتيرية لديه، بالإضافة إلى وجود البكتيريا المطثية العسيرة ونموها.
وارتبطت التغييرات التي تطرأ على الميكروبيوم نتيجة تعاطي المضادات الحيوية بالسمنة، ويختلف النبيت الجرثومي المعوي لدى المرضى الذين يعانون السمنة بشكل واضح فيما يتعلق بالنوع عن المرضى المصابين بالهزال؛ فالحميات الغذائية قليلة السعرات – التي يتم فيها تقييد كميات الدهون أو الكربوهيدرات – تُحدث تغييرًا في النبيت الجرثومي المعوي، وتزيد من وفرة السلالات البكتيرية التي توجد بشكل أكثر شيوعًا لدى المرضى المصابين بالهزال، ويبدو أن أنواعًا معينة من النبيت الجرثومي المعوي ترتبط بالسمنة؛ لأنها تستمد الطاقة من الغذاء بشكل أكثر فاعلية.
تلف الميتوكوندريا
تُعرف الميتوكوندريا باسم “مصانع الطاقة”، وهي تنتج الطاقة اللازمة للخلايا في النبات والحيوان لتؤدي وظائفها الحيوية. ويُعتقد أنها بكتيريا قديمة تطورت لتصبح جزءًا محوريًّا من الأجهزة الخلوية؛ ومن ثم لا عجب في أن الدراسات العديدة وجدت أنه يمكن للمضادات الحيوية التي يشيع وصفها، مثل الدوكسيسايكلين، والأمبيسيلين، والسيبروفلوكساسين، والليفوفلوكساسين، وفئة كاملة من المضادات الحيوية تُدعى بيتا – لاكتام، أن تؤثر بشكل مقصود في الأداء الوظيفي للميتوكوندريا، حتى إن بعضها يُضعِف الآليات التي تحمي الميتوكوندريا من التلف التأكسدي، والبعض الآخر يستبدل الحمض النووي للميتوكوندريا. ومع أن تبعات الأمر غير واضحة فيما يتعلق بالجسم البشري، فقد لاحظ العلماء اضطرابًا في نمو النباتات الشائعة المنقولة من تربة غير معالجة، وزراعتها في تربة تحتوي على تركيزات مختلفة من المضاد الحيوي دوكسيسايكلين؛ حيث لاحظوا “تأخرًا في النمو، وأحيانًا ما يكون حادًّا” بعد بضعة أيام فقط، حتى في التربة التي تقترب فيها نسبة تركيز المضاد الحيوي من النسب المستخدمة اليوم في بعض الأراضي الزراعية، وقد بدا أن سبب التأخر هو قصور في الأداء الوظيفي للميتوكوندريا.
خيارات الطب التكاملي
إن بعض أكثر المناهج فاعلية في تجنب الإصابة بالأمراض المعدية تبدو سهلة بصورة مخادعة، وتتضمن غسل اليدين بالماء والصابون، والتزام المنزل في الحالات المرضية (أو جلوس الطفل المريض في المنزل)؛ فعزل نفسك حتى تشعر بتحسن لا يقلل فقط من فرصة تعريض الآخرين لالتقاط العدوى منك، بل إنه أيضًا يجعلك تستريح وتتعافى بوتيرة أسرع.
وكثيرًا جدًّا ما تتعرض للميكروبات عندما تلمس عينيك، أو أنفك، أو فمك بعد أن تكون قد لامست سطحًا ملوثًا، ومع أنك قد لا تظن أنك تتلمس وجهك كثيرًا، فإن الباحثين في جامعة كاليفورنيا في بركلي قد اكتشفوا أن الناس يلمسون أعينهم، وأنوفهم، وأفواههم بمعدل 15 مرة في الساعة. لذلك عليك تدليك يديك بالصابون العادي والماء الدافئ مدة عشرين ثانية؛ إذ يعمل هذا على منع التقاطك العدوى، تمامًا كاستخدام معقم اليدين، ويمكنك زيادة المدة إن كانت يداك ملوثتين بالدهون أو ملطختين بالأتربة. وفي الواقع، جرَّمت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية عام 2016 إضافة مضادات بكتيريا كيميائية معينة إلى صابون اليدين بناءً على تخوفات تتعلق بسلامة هذه المنتجات وكفاءتها.
والمبيّضات المستخدمة لتطهير الأسطح لا توفر الحماية الكافية، مثلما كنا نعتقد؛ فقد أجريت دراسة على مجموعة من الأطفال في هولندا، وفنلندا، وإسبانيا كانوا يوجدون باستمرار في نطاقات يتم تنظيفها بالمبيّضات، وكشفت الدراسة ارتفاع معدلات الإصابة بعدوى الجهاز التنفسي؛ كالإنفلونزا، والتهاب الشُّعب الهوائية، والتهاب اللوزتين لديهم بنسب أكبر من الأطفال الذين يعيشون في منازل لا يتم استخدام المطهرات قاتلة العدوى بها. وفي الحقيقة، يعتبر الكثير من الخبراء المبالغة في التطهير خطأً كبيرًا؛ فاستخدام الكيماويات القاتلة للجراثيم في المنزل، ومكان العمل، والأماكن العامة يستهدف الكائنات الأكثر فتكًا، وربما يضعف مناعة الموجودين في المكان، وهي احتمالية ربما تكون مُستمدة من “الفرضية الصحية” التي تقول إن الجهاز المناعي يكتسب قوته وفاعليته من التعرض الدوري للجراثيم في المراحل الأولى من عمر الإنسان؛ ومن ثم يعاني الأطفال الذين نشأوا في بيئات بالغة النظافة من ارتفاع معدلات الحساسية، والربو، وربما يكونون أكثر عرضة لالتقاط العدوى من الأطفال الذين يعيشون في نطاق توجد فيه الحيوانات الأليفة، أو الذين يعيشون في المزارع المفتوحة، أو يلعبون في التراب.
وتقول الأبحاث إن الاعتقاد الذي صدقناه طويلًا، القائل إن كل الميكروبات خطيرة، عارٍ تمامًا من الصحة؛ فالبكتيريا، والفيروسات، والفطريات، والطفيليات أيضًا التي تعيش على أجسادنا وداخلها تحافظ على توازن بعضها مع بعض. وبالطبع يمكن للسماح لأية مجموعة من الميكروبات بأن تتكاثر دون السيطرة عليها، أن يكون أمرًا خطيرًا أو مميتًا كذلك، لكن بينما ظننا مسبقًا أن الحل هو التعقيم – أي استخدام المضادات الحيوية ومطهرات اليدين فيما يتعلق بأجسادنا، واستخدام المبيضات والمواد التي تقضي على الجراثيم فيما يتعلق ببيئتنا – اتضح أن التعرض المستمر لمجموعة من الكائنات المجهرية المتنوعة تنوعًا بيولوجيًّا هو آلية دفاع فعَّالة ضد العدوى، كما يمكنها تقليل خطر الإصابة بالحساسية، وأمراض المناعة الذاتية، وغيرها من المشكلات الصحية، ونستنتج من كل ما نتعلم أن الجسم الذي يزخر بالتنوع الميكروبي هو الأكثر صلابة.
وتُعتبر المعينات الحيوية كائنات مجهرية نافعة؛ لأنه عند التحكم في وجودها بكميات مناسبة، تكون لها فوائد صحية. فعلى سبيل المثال: أجريت دراسة على مجموعة متنوعة من البكتيريا لمعرفة تأثيرها بوصفها معينات حيوية، واشتملت هذه المجموعة على بكتيريا اللاكتوباسيلوس رامنوسوس من نوع GG ، وغيرها من بكتيريا العصية اللبنية ، وبكتيريا البيفيدوباكتريوم ، وفطر السكيراء البولاردية . ونتيجة استعراض إحدى وثلاثين دراسة عشوائية، وُجِد أنه عندما يتم علاج المريض باستخدام مكملات المعينات الحيوية مع المضادات الحيوية، فإن هذا المزيج يقلل من خطر تطوير أعراض تتعلق بالجهاز الهضمي – من بينها الإسهال الناتج عن الإصابة بالبكتيريا المطثية العسيرة – بنسبة 64 %، كما يمكن للاستهلاك الدوري للطعام الغني بالمعينات الحيوية أن يكون مفيدًا أيضًا، ربما بدرجة أكبر من تعاطي المكملات، ومن بين الأطعمة التي تحتوي على المعينات الحيوية مخلل الملفوف، أو ساور كراوت، والكيمتشي الكوري، والقثاء المخللة، وغيرها من الأطعمة التي ينبغي تثليجها، وتحتوي على كائنات حية دقيقة، كالزبادي (الذي يحتوي على أحياء دقيقة)، ومشروب الكفير الهندي، وتوابل الميسو اليابانية. أيضًا تحتوي الفواكه والخضراوات العضوية التي لا تتم تغذيتها بالأسمدة الكيماوية على نبيت جرثومي نافع، وأوضح العديد من الدراسات أن قضاء الوقت بشكل دائم في الغابات يعزز الأداء الوظيفي للجهاز المناعي.
وتتضمن الأطعمة ذات الخصائص الواضحة لتعزيز الجهاز المناعي تلك الأصناف التي تحتوي على مكونات ذات مذاق مر، كالخضراوات الورقية الداكنة، وقشور أنواع معينة من الخضراوات والفاكهة، والقهوة، وكذلك الشيكولاتة الداكنة، وتقوي هذه العناصر الغذائية الوقائية النباتية جهاز المناعة، ليس فيما يتعلق بالقناة الهضمية فقط، ما يساعد على عدم إصابتها بالعدوى المختلفة، بل أيضًا فيما يتعلق بالأذن، والأنف، والحلق؛ ومن ثم زيادة الحماية من نزلات البرد، والتهاب الحلق، والإنفلونزا. ويمكن أيضًا للعسل الخام غير المُعالج تعزيز المناعة لدى الأطفال والبالغين، ومنع الإصابة بعدوى الجروح، وتنبع هذه الفوائد من مركبات البوليفينول الطبيعية وغيرها من المركبات الموجودة في رحيق الزهور، بالإضافة إلى وجود نوع معين من المعينات الحيوية، مثل لاكتوباكيلوس كونكي ، المتوطنة في نحل العسل.
يمكن أيضًا لبعض النباتات رفع مستوى المناعة والمساعدة على الوقاية من العدوى، مثل القتاد ( عشبة الاستراجالوس )، والقنفذية، والخمان ( الخمان الأسود )، مثلما يمكن لأنواع طبية من الفطر, مثل الفطر المقوس المتعدد ( فطر ذيل الديك الرومي )، والفطر الريشي (فطر لينجزي)، وفطر دجاجة الغابة ( جريفولا فروندوزا )، وفطر شيتاكي ( لينتينولا إيدوز ) إحداث التأثير نفسه. كذلك هي الحال بالنسبة إلى الزعتر والمريمية، سواء بالنسبة إلى خلاصتهما أو مزجهما مع العسل، فهما يتمتعان بخصائص مضادة للميكروبات. وقد أثبتت الدراسات التي أجريت على الزيوت الأساسية للكافور، وشجرة الشاي، وعُشبة الليمون، وغيرها أن هذه الزيوت تمتاز بفاعلية خاصة ضد أنواع عديدة من البكتيريا، من بينها الأنواع التي تشتهر بمقاومتها للمضادات الحيوية, مثل المكورات العنقودية الذهبية المقاومة للميثيسيلين.
الوقاية من العدوى وعلاجها
– دع العلاج بالمضادات الحيوية يقتصر على حالات العدوى البكتيرية الحادة.
– لا تتناول مضادًّا حيويًّا لعلاج عدوى بالجهاز التنفسي العلوي أبدًا، ويُحتمل أن تكون عدوى فيروسية في الأصل، وإن كانت الأعراض حادة وقوية (إذ ينبغي لك في هذه الحالة استشارة طبيبك)، إلا إن أشار اختبار الحلق أو غيره من الاختبارات إلى وجود بكتيريا مسببة للمرض، وغير ذلك لا تضغط على طبيبك ليصف لك مضادًّا حيويًّا لعلاج عدوى بالجهاز التنفسي العلوي.
– لا تتناول المضاد الحيوي فترة طويلة لعلاج مرض جلدي مزمن، أو مرض معوي معدٍ، أو مرض تنفسي من دون تقييم المنافع في مقابل المخاطر.
– إن كنت تتناول اللحوم الحمراء، أو الدواجن، أو منتجات الألبان، أو الأسماك المرباة في المزارع السمكية، فاختر الأنواع العضوية منها، أو الأنواع المُصرح بكونها خالية من المضادات الحيوية.
– عزِّز جهاز مناعتك وقوِّه بممارسة الأنشطة البدنية المناسبة، والنوم، والاسترخاء، وذلك بتعلم أساليب لتحييد الآثار الضارة للضغط وممارستها؛ عن طريق تقليل التعرض للسموم (كالتدخين السلبي، والمبيدات الحشرية، وغيرها من السموم، والماء الملوث، وما إلى ذلك)، وباتباع نظام غذائي متوازن غني بالمكونات الوقائية من خضراوات، وفواكه، وأعشاب، وتوابل.
– استفد بالمنتجات الطبيعية الي تزيد من مقاومة العدوى لديك؛ كنبات القتاد والسلالات الآسيوية من الفطر المذكورة سابقًا.
– تعلَّم أيضًا أن تستخدم المنتجات الطبيعية التي تعتبر علاجًا آمنًا وفعَّالًا في حالات العدوى الطفيفة؛ كزيت شجرة الشاي ( ملاليوكا ألتيرنيفوليا ) لعلاج البشرة ومشكلات اللثة، وجذ ور عنب الأوريجون (ماهونيا أكويفوليوم) لعلاج مشكلات القناة الهضمية
الخلاصة
يمكن للمضادات الحيوية أن تكون بالغة الأهمية لمرضى العدوات البكتيرية الفتاكة، ولقد أنقذت عددًا لا يُحصى من الأرواح، لكنها مع ذلك، وبصرف النظر عن فوائدها، ينبغي لنا أن نضع في اعتبارنا آثارها الضارة بالصحة على المدي القصير والمدي الطويل.
ويحذِّر الخبراء من بلوغنا نهاية عصر المضادات الحيوية؛ ذلك لتطوير البكتيريا مقاومتها ضد أحدث العقاقير وأقواها التي توصلنا إليها حتى الآن. وربما يجبرنا ظهور “بكتيريا جديدة مقاومة” على اكتشاف أساليب جديدة للوقاية من العدوى ومكافحتها، مثل إعادة تفعيل بروتوكولات العلاج من فترة ما قبل اختراع المضادات الحيوية: تنظيف الجروح وتعقيمها بشكل مكثف على سبيل المثال، وعودة الاعتماد على العقاقير القديمة، كحمض البوريك، والفينول، ومستحضرات الفضة.
وتُعتبر المنهجيات البديلة مهمة ليس فقط لتقليل الاستخدام البشري للمضادات الحيوية، بل أيضًا لإنتاج الطعام؛ ما سيقلل بدرجة كبيرة من التعرض للإصابة بالسلالات التي قد تكون فتاكة من البكتيريا، وربما يبطئ من تطور مقاومتها وظهورها.