إن عملية هضم الطعام وامتصاص العناصر الغذائية قد تبدو سهلة وهينة، إلا أنها في واقع الأمر عملية بالغة التعقيد ويتم تنظيمها وضبط خطواتها بدقة شديدة. فبمجرد أن تفكر في الطعام، أو تشم رائحته أو تتذوقه، يبدأ الجهاز الهضمي في إعداد العصارات الهاضمة الصحيحة للتعامل مع الطعام. وإذا علمنا أن الجسم ينتج عشرة لترات من العصارات الهاضمة كل يوم، فكيف يعرف مواصفات ما يجب إنتاجه منها؟ ولو أنك أكلت بروتيناً بدلاً من الكربوهيدرات، أو وجبة كبيرة بدلاً من الصغيرة، فإن كمية العصارات الهاضمة اللازمة ونوعها سيختلفان اختلافاً كبيراً. وكيف يعرف الجسم إن كان طعام ما جيداً أم رديئاً بالنسبة لك؟ هذه الأسئلة تتم الإجابة عنها حتى قبل أن تبتلع قطعة من الطعام.
أولاً، تبدأ عيناك في التعرف على ما هو صالح للأكل وما يجتذبك إليه. والأنف أقوى بكثير من العينين في هذا الصدد. فالشم يتضمن حرفياً تناول دقائق متناهية في الصغر من الطعام؛ هي روائحه التي تتصاعد إلى أنفك. فإذا كان طعام ما فاسداً، فقد لا يبدو فاسداً للعيان، إلا أن رائحته ستكون رائحة طعام فاسد بالتأكيد. ولذلك لا تجد حيواناً يأكل قطعة من الطعام دون أن يشم رائحتها أولاً. وحينما يدخل الطعام فمك يبدأ تحليل طبيعة هذا الطعام، مما يثير إنتاج وإطلاق الإنزيمات الهاضمة المختلفة. وهذه العملية يساندها شم الطعام ومضغه. وأحياناً ما يصاب الناس بسوء الهضم، وذلك لأنهم يزدردون الطعام إلى حلوقهم مباشرة دون أن يمضغوه.
والمضغ له دور يتجاوز مجرد تحديد نوعية الطعام الذي تم تناوله وتحديد مواصفاته قبل ابتلاعه، فأثناء المضغ تطلق الغدد اللعابية التي بالفم كميات كبيرة من اللعاب الذي يحتوي على الإنزيم الهاضم المسمى التيالين (أو اللعابين). والتيالين يساعد على تحليل فتات أو دقائق الكربوهيدرات إلى دقائق أصغر حجماً (ولهذا، فإنك لو أخذت تمضغ قطعة من الخبز لفترة كافية، فسوف يتم هضمها في فمك بالفعل). وهكذا، كلما زاد مضغك للطعام، تحسنت بالتالي درجة إعدادك للطعام بإجرائك هضماً أولياً له، وقل بالتالي العبء الواقع على جهازك الهضمي لكي يهضم الطعام. ومن الواضح أن المضغ يفتت الطعام مادياً إلى قطع أصغر حجماً، مما يزيد المساحة السطحية لطعامك ويجعل من السهل على العصارات الهاضمة أن تقوم بدورها.
تفاعلات الجهاز الهضمي
إن الجهاز الهضمي يفعل أكثر من مجرد هضم الطعام. فلقد بدأ العلماء يكتشفون أن الجهاز الهضمي “يفكر” و”يشعر” وربما يقوم تقريباً مقام “مخ” ثان! فالنماذج العلمية المبكرة للمخ والمعرفة الذهنية كانت تفترض أن ما نسميه التفكير والشعور ينحصر في إرسال وتلقي عوامل مراسلة كيميائية (تسمى النواقل العصبية) وهرمونات. واليوم بدأ العلماء يكتشفون أن هناك قدراً كبيراً من نشاط النواقل العصبية والنشاط الهرموني في القناة الهضمية. وعلاوة على هذا، فإنه توجد خلايا مناعية في الجهاز الهضمي أكثر مما توجد في باقي الجسم. وهذه الأشياء الثلاثة -النواقل العصبية والهرمونات والخلايا المناعية- هي الكيميائيات المختصة بالاتصالات داخل ذلك النظام أو الجهاز الذي يعرف اليوم باسم الجهاز العصبي-الهرموني-المناعي، أو تبسيطاً للأمور نقول إنه شبكة استخبارات الجسم. إن هذه الشبكة عالية التطور هي التي تتيح لنا أن نبقى قادرين على الاستجابة بصورة سليمة إلى بيئتنا المتغيرة على الدوام.
ومن الناحية العملية يمكننا القول إن هذا يعني أنك لا يمكنك أن تفصل الأفكار والمشاعر والتفاعلات الجسدية أو تفككها. فإن ما تأكله وما تفكر فيه وتشعر به فيما يتعلق بما تأكله، وما تفكر فيه وتشعر به فيما يتعلق بوقت أكلك، كلها عوامل تتوقف عليها النتيجة النهائية. ولهذا السبب، فلكي تحصل على التغذية المثالية، من الحكمة أن تختار أفضل الأطعمة، وأن تعدها بالطريقة التي تفضلها، وأن تأكل الطعام بوعي، وأن تكون في ذهنك أفكار طيبة أثناء تناولك للطعام بالفعل.
وهذا هو العكس تماماً لأسلوب الأكل الحديث الذي يتم عادة في كافيتريا للوجبات السريعة. وإنني غالباً حينما أسأل عملائي عما أكلوه في اليومين الماضيين، فإنهم يجاهدون حتى يمكنهم تذكره. فوجبة الغداء تكون مجرد شيء تأخذه سريعاً من أحد محال الشطائر وتلتهمه دون وعي، وأنت في خضم أفكارك الضاغطة ومشاعرك المتوترة. والكثير من الطعام اليوم يؤكل في عجالة. وما أعظم الفرق بين هذا وما يحدث في ثقافة دول حوض البحر المتوسط حيث تجد كل شخص يساعد في إعداد الطعام، وفي تجهيز المائدة، بينما يقضي أفراد العائلة والأصدقاء وقتهم في الاستمتاع بالوليمة. فلا عجب أن نجد معدلات النوبات القلبية لديهم أقل!
لهذا، حينما تتناول طعامك في المرة القادمة عليك مراعاة ما يلي:
• اختر الأطعمة عالية الجودة، وقم بإعدادها بحيث تبدو بمظهر جيد ويكون طعمها جيداً.
• شم رائحة طعامك قبل أن تأكله.
• فكر في مصدره وفي أن جزيئات الطعام سوف تصير بعد هضمها وامتصاصها جزءاً من جسدك.
• تذكر أن تمضغ كل قضمة بالكامل قبل أن تأخذ القضمة التالية.
• خصص وقتاً كافياً لتناول وجباتك. وإما أن تأكل وحيداً وإما في صحبة طيبة.