إن القمح، بصورة أكبر من أي طعام آخر (وذلك يتضمن السكر، والدهون، والملح) يدخل في نسيج التجربة الغذائية الأمريكية، وهي نزعة بدأت وأصبحت جزءا رئيسيًّا من النظام الغذائي الأمريكي في جميع النواحي التي تبدو جوهرية في نمط حياتنا.
فماذا يكون طبق البيض من دون الخبز المحمص، أو الغذاء من دون الشطائر، أو المشروبات من دون الكعك، أو النزهات من دون شطائر السجق، أو صلصة التغميس من دون البسكويت، أو الحمص من دون الخبز العربي، أو السمك المدخن من دون الفطائر، أو فطيرة التفاح من دون قشرتها الخارجية؟
إذا كان اليوم هو الثلاثاء، فلا بد من تناول القمح
قمت ذات مرة بقياس طول ممر الخبز في السوبر ماركت المحلي: فوجدته ٢٠ مترًا.
وهذا يعني ٢٠ مترًا من الخبز الأبيض، وخبز القمح الكامل، وخبز الحبوب المنوعة، وخبز الحبوب السبعة، وخبز الردة، وخبز الأرز، والخبز المتخمر، والخبز الإيطالي، والخبز الفرنسي، وعيدان الخبز، والخبز الأبيض، وخبز الزبيب، وخبز الجبن، والخبز الثومي، وخبز الشوفان، وخبز الكتان، والخبز العربي، وخبز الخميرة، وخبز الكايزر، وخبز بذور الخشخاش، وخبز شطائر الهمبرجر، وأربعة عشر نوعا من خبز شطائر السجق، دون احتساب المخابز أو ال ١٢ مترًا الإضافية من الرفوف المعبأة بمجموعات متنوعة من منتجات القمح “التقليدية”.
وبالإضافة إلى ذلك، فهناك ممر الوجبات الخفيفة الذي يحتوي على ما يفوق الأربعين علامة تجارية من المقرمشات، وسبع وعشرين من البسكويت. وفي ممر المخبوزات هناك فتات الخبز وقطع الخبز المحمص. كما تحتوي ثلاجة الألبان على العشرات من تلك الأنابيب التي تفتحها لتجد المقرمشات، والدنش، والكرواسون.
أما حبوب الإفطار فهي عالم مستقل بذاته، وعادة ما تحتكر ممرا كاملا داخل السوبر ماركت؛ تفترش الرفوف من أعلاها إلى أسفلها.
وهناك الكثير من الممرات المخصصة لعلب وأكياس المكرونة والشعيرية: السباجيتي، والشعيرية، واللازانيا، والقلم، والمعقوفة، والقواقع، ومكرونة دقيق القمح الكامل، ومكرونة السبانخ الخضراء، ومكرونة البرتقال والطماطم، وشعيرية البيض، من حبيبات الكسكسي الصغيرة إلى شرائح المكرونة الطويلة.
ماذا عن الأطعمة المجمدة؟ تمتلئ المجمدات بمئات الأنواع من الشعيرية، والمكرونة، والأطباق الجانبية التي تحتوي على القمح والمخصصة لترافق رغيف اللحم والشواء ولحم البقر في الصلصة.
في الواقع، وبصرف النظر عن ممر المنظفات والصابون، فإن معظم الرفوف تقريبا تمتلئ بمنتجات القمح. هل يمكنك إلقاء اللوم على الأمريكيين بسبب سماحهم للقمح بالسيطرة على وجباتهم الغذائية؟ فمع كل شيء، نجده يدخل في صناعة كل شيء تقريبا.
لقد نجح القمح كمحصول على نطاق غير مسبوق، ولا يتخطاه سوى الذرة في مساحة الأرض المزروعة. وهو يعتبر، بدرجة كبيرة، من بين المحاصيل الأكثر استهلاكا على وجه البسيطة، حيث يشكل ٢٠٪ من السعرات الحرارية المستهلكة.
وقد حقق القمح نجاحا ماديا لا يمكن إنكاره. كم عدد الطرق التي يمكن لصناعة ما بها تحويل المادة الخام المنخفضة القيمة إلى ما قيمته ٣.٩٩ دولارا من المنتجات الجذابة الأخرى صديقة المستهلك، واحتلال الصدارة بسبب دعمها من جمعية القلب الأمريكية؟ وفي معظم الحالات، تتجاوز تكلفة تسويق هذه المنتجات تكاليف المكونات نفسها.
لقد أصبحت الأطعمة المصنوعة جزئيًّا أو كليًّا من القمح والمخصصة للفطور أو الغداء أو العشاء أو الوجبات الخفيفة هي القاعدة. في الواقع، فإن مثل هذا النظام من شأنه أن يُشعر وزارة الزراعة الأمريكية، ومجلس الحبوب الأمريكي، ومجلس القمح الأمريكي، وجمعية التغذية الأمريكية، وجمعية السكري الأمريكية، وجمعية القلب الأمريكية بالسعادة والرضا، عالمين أن رسالتهم التي دعت إلى تناول المزيد من “الحبوب الكاملة الصحية” قد اكتسبت شعبية واسعة ومتحمسة.
لماذا انقلب علينا هذا النبات الذي يبدو بلا مخاطر والذي أقام أود أجيال من البشر؟ من جهة، إنها ليست الحبوب نفسها التي كان يطحنها أسلافنا ليصنعوا منها خبزهم اليومي. فلقد تطور القمح طبيعيًّا بدرجة طفيفة على مر القرون، ولكنه تغير بصورة كبيرة في السنوات الخمسين الماضية بسبب علماء الزراعة. حيث تم تهجين سلالات القمح، وتعديلها داخليًّا، لجعل نبات القمح مقاوما للظروف البيئية، مثل الجفاف، أو مسببات الأمراض، مثل الفطريات. ولكن الأهم من ذلك كله هي التغيرات التي كانت تهدف إلى زيادة الغلة لكل فدان. فأصبح متوسط العائد في مزرعة حديثة في أمريكا الشمالية يبلغ أكثر من عشرة أضعاف عائد المزارع التي تواجدت قبل قرن من الزمان. وقد يلزم مثل هذه الخطوات الهائلة في الإنتاجية تغييرات جذرية في الشفرة الوراثية، بما في ذلك الحد من قمح الماضي “ذي السنابل العنبرية” المثيرة للاعتزاز من الأمس إلى القمح الحديث “القزم” الصلب، ذي السنتيمترات الخمسين، عالي الإنتاج. وهذه التغيرات الجينية الأساسية، كما سترون، لا تحدث بلا ثمن.
وحتى خلال العقود القليلة التي مضت منذ نجت جدتك من حظر بيع المشروبات الكحولية في “نيويورك”، شهد القمح تحولات لا تعد ولا تحصى. ومع تقدم علم الوراثة على مدى السنوات الخمسين الماضية، والذي سمح بالتدخل البشري والذي يعتبر معدله أسرع بكثير من تأثير الطبيعة البطيء التراكمي على التكاثر، وزادت وتيرة التغيير أضعافا مضاعفة. لقد وصل الأساس الجيني الخاص بكعك بذور الخشخاش ذي التكنولوجيا الفائقة إلى حالته الراهنة عن طريق عملية التسارع التطوري التي جعلتنا نشبه الإنسان الماهر (هومو هابيلس)، المحاصر في مكان ما في وقت مبكر من العصر الجليدي.
من العصيدة النطوفية إلى كرات كعك الدونات
يعتبر الخبز غذاء عالميًّا رئيسيًّا: خبز الشاباتي في الهند، والشوريك في اليونان، وبيتا في منطقة الشرق الأوسط، و الإيبلسكيفر في الدنمارك، وخبز بيا نان الخاص بالإفطار في بورما، والدونات اللامع قديما في الولايات المتحدة.
إن فكرة أن طعامًا رئيسيًّا جدًّا، وعميق التجذر في التجربة الإنسانية، يمكن أن يضرنا، هي فكرة مثيرة للقلق وتخالف الفكرة الثقافية التي طال أمدها عن القمح والخبز. ولكن خبز اليوم لا يشبه الأرغفة التي خرجت من أفران أسلافنا. لقد أقام الخبز وغيره من الأطعمة المصنوعة من القمح أود البشر لعدة قرون، ولكن قمح أجدادنا ليس هو نفسه القمح التجاري الحديث الذي يزين موائد الإفطار، والغداء، والعشاء. فمن بين سلالات العشب البري الأصلية التي حصدها البشر في وقت مبكر، تفشى القمح إلى أكثر من ٢٥٠٠٠ صنف، كلها تقريبا نتيجة التدخل البشري.
في الأيام الأخيرة من فترة العصر الجليدي، حوالي عام ٨٥٠٠ قبل الميلاد، قبل ظهور الإمبراطوريات المصرية واليونانية والرومانية، قاد النطوفيون حياة شبه بدوية يجوبون فيها الهلال الخصيب (الآن سوريا والأردن ولبنان وفلسطين والعراق)، حيث كانوا يضيفون إلى الصيد والالتقاط حصاد النباتات الأصلية. لقد حصدوا أسلاف القمح الحديث، القمح وحيد الحبة، من الحقول التي ازدهرت بصورة عشوائية في السهول المفتوحة. وقد اكتملت وجبات الغزلان والدجاج والوعول بأطباق الحبوب والفواكه البرية. وتشير الآثار مثل تلك المحفورة في منطقة تل أبي هريرة فيما يعرف الآن بوسط سوريا، إلى الاستخدام الماهر للأدوات كالمناجل والهاون في الحصاد وطحن الحبوب، وكذلك حفر التخزين التي استخدمت في تخزين المواد الغذائية التي تم حصدها. كما تم العثور على بقايا من القمح المحصود في الحفريات الأثرية في تل الأسود، وأريحا، وغيرهما. وكان القمح يطحن باليد، ثم يؤكل بوصفه عصيدة. لكن المفهوم الحديث للخبز المخمر بالخميرة لن يظهر لعدة آلاف من السنين.
قام النطوفيون بحصاد القمح البري وحيد الحبة، وربما قاموا بتخزين البذور عن عمد لزراعتها في أماكن من اختيارهم في الموسم المقبل. وأصبح القمح وحيد الحبة في نهاية المطاف عنصرا أساسيًّا في النظام الغذائي النطوفي، ما قلل من الحاجة إلى الصيد وجمع الثمار. وكان التحول من الحصاد البري إلى زراعة الحبوب تغيرا جوهريًّا بحيث شكل السلوك اللاحق للهجرة، وأدى إلى تطور الأدوات واللغة والثقافة. وكان ذلك بداية الزراعة، وهو نمط من الحياة يتطلب التزاما طويل الأجل باستقرار دائم بدرجة أو بأخرى، واعتبر نقطة تحول في مسيرة الحضارة الإنسانية. وقد أسفر تزايد الحبوب وغيرها من الأطعمة عن وجود فائض من الغذاء سمح بظهور التخصص المهني، وتشكيل الحكومات، وبقية تفاصيل كماليات الثقافة (بينما، في المقابل، تسبب غياب الزراعة في تقييد التنمية الثقافية فيما يشبه حياة العصر الحجري الحديث).
على مدى أكثر من عشرة آلاف سنة احتل القمح فيها مكانة بارزة بداخل الكهوف، أو الأكواخ، أو بيوت الطوب اللبن، أو على موائد البشر، وتغير ما بدأ بالقمح وحيد الحبة المحصود، ثم ثنائي الحبة، ثم قمح الخبز المزروع، بصورة تدريجية فقط في المشروعات الصغيرة المتقطعة غير المنتظمة. وكان القمح في القرن السابع عشر هو نفسه القمح في القرن الثامن عشر، والذي كان بدوره نفس قمح القرن التاسع عشر إلى حد كبير، وأيضا القمح في النصف الأول من القرن العشرين. وإن كنت على متن عربة يجرها ثور تعبر الريف خلال أي قرن من هذه القرون، كنت سترى حقولًا من “موجات السنابل العنبرية” التي يبلغ طولها متر ونصف تتمايل مع النسيم. أسفرت جهود الإنسان البدائية في إنتاج القمح عن تعديلات إضافية عشوائية عاما بعد عام، بعضها كان يصيبه النجاح، بينما باء معظمها بالفشل، حتى إن العين البصيرة سيكون من الصعب عليها تحديد الفرق بين القمح المزروع في وقت مبكر من القرن العشرين والقمح المزروع في قرون عديدة سابقة.
خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وكما كان في القرون العديدة السابقة، تغير القمح تغيرا طفيفا. فقد كان طحين “بيلسبري بيست” التي كانت جدتي تستخدمه في صنع كعك القشدة الحامضة الذي اشتهرت به في عام ١٩٤٠، مختلفا قليلا عن الدقيق الذي استخدمته جدة جدة جدتها قبل ستين عاما، أو عموما، عن التي استخدمته جدة جدة جدة جدة جدة جدتها قبل قرنين آخرين. ربما أصبح طحن القمح أكثر ميكانيكية في القرن العشرين، ما أنتج طحينا أكثر نعومة على نطاق أوسع، ولكن التكوين الأساسي للدقيق ظل كما هو بدرجة كبيرة.
وقد انتهى كل ذلك في الجزء الأخير من القرن العشرين، عندما أدى الاضطراب في طرق التهجين إلى تحول هذه الحبوب. إن ما كان يطلق عليه قمحا الآن قد تغير، ليس من خلال قوى الجفاف أو المرض أو التسابق الدارويني من أجل البقاء، ولكن من خلال التدخل البشري. ونتيجة لذلك شهد القمح تحولات جذرية أكثر من التي مرت بها “جوان ريفرز”، فقد تم مطه، وخياطته، وتقطيعه، وخياطته مجددا لإنتاج شيء فريد من نوعه تماما، تقريبا لا يمكن التعرف عليه مقارنة بالأصلي، وحتى الآن لا يزال يسمى بالاسم نفسه: القمح.
وقد تم إنتاج القمح التجاري الحديث بنية تعزيز خصائصه مثل زيادة إنتاجية المحصول، وانخفاض تكلفة الإنتاج، واتساع نطاق الإنتاج الثابت للمنتجات. وطوال هذا الوقت، لم تطرح أية أسئلة تقريبا حول إذا ما كانت هذه الخصائص تتوافق مع صحة الإنسان أم لا. أنا أسلم بأنه، في مكان ما على طول الطريق خلال تاريخ القمح، ربما قبل ٥٠٠٠ سنة ولكن الأرجح قبل خمسين عاما، تغير القمح.
والنتيجة: رغيف من الخبز، أو قطعة من البسكويت، أو فطيرة اليوم تختلف عن سابقتها قبل ألف سنة، وتختلف حتى عن الخبز أو الكعك الذي كانت تخبزه جداتنا. قد تبدو متشابهة، بل يمكن حتى أن يكون لها المذاق نفسه، ولكن هناك اختلافات بيوكيميائية. ويمكن للفروق الصغيرة في البنيان البروتيني للقمح توضيح الفرق بين الاستجابة المناعية المدمرة لبروتين القمح مقابل عدم الاستجابة المناعية على الإطلاق.
القمح قبل أن يصبح في حوزة علماء الوراثة
إن القمح قابل للتكيف مع الظروف البيئية بصورة فريدة، حيث ينمو بدءا من أريحا، على عمق٨٥٠ قدمًا تحت مستوى سطح البحر، وحتى المناطق الجبلية لجبال الهيمالايا على ثلاثة آلاف متر فوق مستوى سطح البحر. وبالنسبة إلى خطوط العرض يتسم بالتمدد كذلك، بدءا من الشمال في النرويج، ٦٥ درجة شمالا، وحتى الأرجنتين، ٤٥ درجة جنوب خط الاستواء. ويحتل القمح ستين مليون فدان من الأراضي الزراعية في الولايات المتحدة، حيث تعادل مساحتها مساحة ولاية “أوهايو”. وفي جميع أنحاء العالم، يزرع القمح على مساحة تبلغ عشرة أضعاف هذا الرقم، أو ضعف مساحة أوروبا الغربية الإجمالية.
كان القمح وحيد الحبة هو أول أنواع القمح المعروفة البرية ثم المزروعة، وهو السلف الكبير لجميع أنواع القمح اللاحقة. ويحمل القمح وحيد الحبة أبسط شفرة وراثية بين جميع أنواع القمح الأخرى، حيث لا يحتوي سوى على أربعة عشر كروموسومًا. وفي حوالي عام ٣٣٠٠ قبل الميلاد، كان القمح وحيد الحبة، الذي اتسم بقدرة هائلة على تحمل الطقس البارد، أكثر الحبوب شعبية في أوروبا. كان هذا عصر رجل جليد “تيرول”، المعروف اختصارا بلقب “أوتزي”. وكان فحص محتويات أمعاء هذا الصياد القادم من العصر الحجري الحديث المتأخر والمحنطة طبيعيًّا، حيث قتله المهاجمون وتركوه ليتجمد في الأنهار الجليدية بجبال الألب الإيطالية، قد كشف عن بقايا من القمح وحيد الحبة تم هضمها جزئيًّا مستهلكة كخبز خال من الخميرة، وذلك جنبا إلى جنب مع بقايا النباتات، والغزلان، ولحوم الوعل.
بعد فترة وجيزة من زراعة النبتة الأولى من القمح وحيد الحبة، ثم ثنائي الحبة، كان النتاج الطبيعي لتزاوج القمح وحيد الحبة مع عشب بري ليس له صلة، هو نبات الدوسر شبه المكنسي أو نبات الدوسر، حيث كان ظهوره الأول في الشرق الأوسط. وأضاف نبات الدوسر الشفرة الجينية لتلك التي للقمح وحيد الحبة، ما أسفر عن قمح ثنائي الحبة أكثر تعقيدا بثمانية وعشرين كروموسومًا. إن النباتات مثلها مثل القمح لديها القدرة على الاحتفاظ بمجموع جينات أسلافها. تخيل أنه عندما تزوج والداك كي تجيء أنت، بدلا من خلط الكروموسومات لإنتاج ستة وأربعين كروموسومًا لإنتاج ذريتهم، اقترن ستة وأربعون كروموسومًا من الأم مع ستة وأربعين كروموسومًا من الأب، بلغ مجموعها تسعين كروموسومًا بداخلك. إن هذا لا يحدث، بطبيعة الحال في الأنواع الأعلى. ويسمى هذا التراكم الجمعي للصبغيات في النباتات بتعدد الصيغ الصبغية.
وقد استمرت شعبية القمح وحيد الحبة وخَلَفه التطوري ثنائي الحبة لعدة آلاف من السنين كانت كافية لتحظى بمكانتها كمواد غذائية أساسية لها دلالات ثقافية، على الرغم من قلة المحصول العائد وخصائص خبزه غير المرغوب فيها نسبيًّا بالمقارنة بالقمح الحديث. (فهذا الدقيق الأكثر كثافة وخشونة كان ينتج خبزا أو مخبوزات رديئة).
لقد ترك لنا السومريون، الذين لهم الفضل في تطوير لغة مكتوبة، عشرات الآلاف من ألواح الكتابة المسمارية. وقد أوضحت الأحرف التصويرية المدونة على العديد من الأقراص، يرجع تاريخ أولها إلى عام ٣٠٠٠ قبل الميلاد، وصفات للخبز والمعجنات، وكلها مصنوعة عن طريق استخدام هاون ومدقة أو عجلات طحن تدفع باليد للقمح ثنائي الحبة. وغالبا ما كان الرمل يضاف إلى الخليط من أجل تسريع عملية الطحن المضنية، تاركا السومريين، آكلي الخبز، بأسنان مشوهة بفعل الرمال.
وقد ازدهر القمح ثنائي الحبة في مصر القديمة، حيث تلاءمت دورة نموه مع الارتفاع والانخفاض الموسمي لمنسوب نهر النيل. ويرجع الفضل إلى المصريين في تعلم كيفية صناعة الخبز “المرتفع” عن طريق إضافة الخميرة. عندما فر قوم موسى من مصر، وبسبب تعجلهم، فشلوا في جلب هذا الخليط المخمّر معهم، ما دفعهم إلى تناول خبز القمح ثنائي الحبة الخالي من الخميرة.
في وقت ما في الألفيات التي سبقت عصر موسى، تزاوج القمح ثنائي الحبة ذو الثمانية والعشرين كروموسوم (القمح الطوراني) بصورة طبيعية مع عشب آخر، هو الدوسر الطوشي، ما أسفر عن القمح الطري البدائي ذي الاثنين والأربعين كروموسومًا، الأقرب وراثيًّا إلى ما نسميه الآن بالقمح؛ لأنه يحتوي على مجموع الكروموسومات الناتجة عن ثلاثة مصانع فريدة من نوعها باثنين وأربعين كروموسومًا، فهو الأكثر تعقيدا وراثيًّا، وبالتالي فهو الأكثر “مرونة” وراثيًّا، ما سيخدم باحثي الوراثة في المستقبل بشكل جيد في الألفيات القادمة.
مع مرور الوقت، طغت فصائل القمح الطري، ذات المحصول الأكثر نفعا والأكثر ملاءمة للخبز، بصورة تدريجية على سلَفَيْها القمح وحيد الحبة، وثنائي الحبة. ولعدة قرون تلت، لم يتغير القمح الطري إلا قليلا. وبحلول منتصف القرن الثامن عشر، قام عالم النبات السويدي والمفهرس البيولوجي الكبير، “كارولوس لينيوس”، صاحب نظام “لينيوس” العلمي لتصنيف الأنواع، بإحصاء خمس فصائل مختلفة تندرج تحت جنس القمح الطري.
لم يتطور القمح بصورة طبيعية في العالم الجديد بل تم إحضاره عن طريق “كريستوفر كولومبوس”، الذي زرع طاقمه أول بضع حبات منه في “بورتو ريكو” في عام ١٤٩٣. ثم جلب المستكشفون الإسبان بذور القمح إلى المكسيك في كيس من الأرز عن طريق الخطأ في عام ١٥٣٠، ثم عرفه الجنوب الغربي الأمريكي. وقد جلب “بارثولوميو جوس – نولد” – من أطلق على “كيب كود” اسمها، ومن اكتشف كروم “مارثا” لأول مرة – القمح إلى “نيو إنجلاند” في عام ١٦٠٢، ثم تبعه المهاجرون بعد ذلك بوقت قصير، حيث نقلوا القمح معهم على سفينة المايفلاور.
وهكذا تم الأمر، كان التوسع التدريجي لنباتات القمح هو ثمرة انتقاء تطوري متواضع وتدريجي في بيئة العمل.
واليوم، استُبدِل بالقمح وحيد الحبة، وثنائي الحبة، وسلالات القمح الطري الأصلية البرية والمزروعة ما أنتجه الإنسان الحديث من القمح الطري، وكذلك القمح القاسي (المكرونة) والقمح المكتنز (دقيق ناعم جدًّا يستخدم في صنع الكعك ومنتجات أخرى). وللعثور على قمح وحيد الحبة أو ثنائي الحبة اليوم، عليك أن تبحث عن المجموعات البرية المحدودة أو المزروعات البشرية المتواضعة المنتشرة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وجنوب فرنسا، وإيطاليا الشمالية. وبسبب التهجين الحديث المصمم من قبل البشر، فقد أصبحت فصائل القمح تحمل اليوم مئات، وربما آلاف من الجينات، باستثناء القمح وحيد الحبة الأصلي الذي نما بصورة طبيعية.
إن القمح اليوم هو نتاج التناسل لتوليد أفضل محصول وأفضل خصائص مثل تلك المقاومة للمرض، والجفاف، والحرارة. في الواقع، لقد عدل البشر القمح لدرجة أن السلالات الحديثة لم يعد بوسعها البقاء على قيد الحياة في البرية من دون الدعم البشري كالإخصاب بالنترات ومكافحة الآفات (تخيل هذا الوضع الغريب في عالم الحيوانات المستأنسة: حيوان غير قادر على الوجود دون مساعدة الإنسان، كاحتياجه لتغذية خاصة، وإلا سوف يموت).
إن الاختلافات بين قمح النطوفيين وبين ما نسميه نحن بالقمح في القرن الحادي والعشرين هي اختلافات واضحة للعين المجردة. فالقمح وحيد الحبة، وثنائي الحبة الأصليان كانا ذوَيْ هيئة “قشرية”، وكانت بذورهما تتشبث بالجذع بإحكام. أما هيئة القمح الحديث فهي “مجردة”؛ حيث تتساقط البذور من الجذع بسهولة أكبر، وهي السمة التي تجعل درس الحبوب (أي فصل الحبوب الصالحة للأكل عن غير الصالحة) عملية أسهل وأكثر كفاءة، وذلك بناء على الطفرات في جينات Q و Tg (tenacious glume). ولكن الفروق الأخرى تعتبر أكثر وضوحًا؛ فالقمح الحديث أقصر بكثير. فقد استُبدلت بالفكرة الرومانسية لحقول سنابل القمح الطويلة التي تتمايل برشاقة مع الريح فصائل “قزمة” و”شبه قزمة” لا يبلغ طولها سوى نصف متر أو متر، وهو منتج آخر من تجارب التناسل التي تستهدف زيادة إنتاجية المحصول.
الحجم الصغير أفضل من الكبير
طوال ممارسة الإنسان للزراعة، جاهد المزارعون لزيادة إنتاجية المحصول. واعتبر الزواج من امرأة تمتلك مزرعة من عدة فدادين من الأراضي الزراعية، لعدة قرون، وسيلة رئيسية لزيادة إنتاجية المحصول، وكثيرا ما كانت استعدادات الزواج تشمل تقديم بعض الماعز وكيسا من الأرز. وأدخل القرن العشرين الآلات الزراعية الميكانيكية، والتي حلت محل القوة الحيوانية وأدت إلى زيادة الكفاءة والإنتاجية مع تقليل الأيدي العاملة، ووفرت زيادة تدريجية أخرى في المحصول للفدان الواحد. وفي حين أن الإنتاج في الولايات المتحدة كان عادة ما يكفي لتلبية الاحتياجات (مع تقيد التوزيع بالفقر أكثر منه بكمية المؤن)، كانت العديد من الدول الأخرى في جميع أنحاء العالم غير قادرة على إطعام سكانها، ما أدى إلى انتشار الجوع.
في العصر الحديث، حاول البشر زيادة إنتاجية المحصول عن طريق تخليق سلالات جديدة، وتهجين سلالات مختلفة من القمح والنباتات، وتوليد أصناف وراثية جديدة في المختبر. وتشمل جهود التهجين تقنيات مثل الانجبال الداخلي و”الاقتران السفلي”، والذي يتم عن طريق تزاوج نسل النبات مع آبائه أو مع سلالات مختلفة من القمح أو حتى الأعشاب الأخرى. وهذه الجهود، على الرغم من أن عالم النبات النمساوي “جريجور مندل” أدرج وصفها بصورة رسمية في عام ١٨٦٦، لم تبدأ بصورة جدية حتى منتصف القرن العشرين، عندما أصبحت مفاهيم مثل تغاير الزيجوت وهيمنة الجينات مفهومة على نحو أفضل. ومنذ جهود “مندل” المبكرة، طورت الوراثة تقنيات معقدة للحصول على إحدى السمات المرغوب فيها، على الرغم من أنه لا يزال يتعين لذلك كثير من محاولات التجربة والخطأ.
تتحدر كثير من إمدادات العالم الحالي من القمح المتناسل عمدا من سلالات نمت في المركز الدولي لتحسين الذرة والقمح (IMWIC)، والذي يقع شرقي مدينة “مكسيكو” على سفح جبال “أوريانتل سييرا مادري”. وقد بدأ المركز كبرنامج للأبحاث الزراعية في عام ١٩٤٣، وذلك عبر التعاون بين مؤسسة “روكفلر” والحكومة المكسيكية لمساعدة المكسيك على تحقيق الاكتفاء الذاتي الزراعي. وقد تطور ذلك إلى محاولات عالمية مثيرة للإعجاب لزيادة إنتاجية محاصيل الذرة، وفول الصويا، والقمح، وذلك بهدف رائع وهو الحد من الجوع في العالم. إن المكسيك قدمت أرضية اختبار فعالة لتهجين النبات، حيث إن المناخ كان يسمح بموسمين لزراعته سنويًّا، بحيث قلص الوقت اللازم لتهجين السلالات بمقدار النصف. وبحلول عام ١٩٨٠، كانت هذه المحاولات قد أثمرت عن آلاف من سلالات القمح الجديدة، الأكثر إنتاجية في المحصول، ومنذ ذلك الحين تم تبني ذلك في جميع أنحاء العالم، من دول العالم الثالث وحتى الدول الصناعية الحديثة، بما في ذلك الولايات المتحدة.
ومن الصعوبات العملية التي تم حلها خلال حملة مركز (IMWIC) لزيادة إنتاجية المحصول، هي أنه عندما يتم إضافة كميات كبيرة من الأسمدة الغنية بالنتروجين إلى حقول القمح، تنمو سنابل القمح إلى أبعاد هائلة. وتقوم هذه السنابل المثقلة، مع ذلك، بلي الساق (ما يسميه العلماء الزراعيون “بالرقاد”). ويتسبب الالتواء في قتل النبات ويجعل من الحصاد أمرا مريبا. يرجع الفضل إلى “نورمان بورلوج” عالم الوراثة المدرب بجامعة “مينيسوتا”، والذي يعمل في مركز (IMWIC)، في تطوير القمح القزم ذي الإنتاجية العالية والذي كان أقصر وأثقل، ما أدى إلى حفاظ النبات على وضعية منتصبة ومقاومة الالتواء تحت سنبلته الثقيلة. إن السيقان الطويلة هي أيضا غير فعالة؛ فالقصيرة تبلغ مرحلة النضج بسرعة أكبر، ما يعني موسمًا أقصر للنمو واستخدامًا أقل للأسمدة اللازمة لتوليد ساق طويلة لا فائدة منها خلاف ذلك.
إن إنجازات تهجين القمح التي قدمها الدكتور “بورلوج” قد أكسبته لقب “أبي الثورة الخضراء” في المجتمع الزراعي، وكذلك الوسام الرئاسي للحرية، وميدالية “الكونجرس” الذهبية، وجائزة نوبل للسلام في عام ١٩٧٠. وبعد وفاته في عام ٢٠٠٩، نعته صحيفة ” وول ستريت جورنال” قائلة: “أظهر “بورلوج” أكثر من أي شخص آخر، وبمفرده، أن الطبيعة غير مؤهلة لبراعة الإنسان في وضع حدود حقيقية للنمو”. عاش الدكتور “بورلوج” واستطاع رؤية حلمه يتحقق؛ فقد ساعد القمح القزم ذو الإنتاجية العالية بالفعل على حل مشكلة الجوع في العالم، حيث ازداد عائد محصول القمح في الصين، على سبيل المثال، لثمانية أضعاف ما بين عامي ١٩٦١ و ١٩٩٩.
لقد حل القمح القزم اليوم محل معظم سلالات القمح الأخرى في الولايات المتحدة والكثير من دول العالم بشكل أساسي، وذلك بفضل قدرته غير المسبوقة على رفع إنتاجية المحصول. ووفقا للدكتور “ألان فريتز”، أستاذ تربية القمح في جامعة “كنساس”، فإن القمح القزم وشبه القزم يشكلان الآن أكثر من ٩٩ ٪ من مجموع القمح المزروع في جميع أنحاء العالم.
التربية السيئة
كان الخطأ الغريب في فورة نشاط تربية القمح، كالذي أجري في مركز (IMWIC)، أنه على الرغم من التغييرات الجذرية في التركيبة الجينية للقمح ومحاصيل أخرى، فإنه لم يتم اختبار السلالات الوراثية الجديدة التي تم تخليقها على الحيوان أو الإنسان. فقد كانت تلك الجهود المبذولة لزيادة إنتاجية المحصول حقًّا مركزة، وكان علماء الوراثة النباتية شديدي الثقة بأن التهجين سوف يثمر عن منتجات آمنة للاستهلاك البشري، حيث كانت قضية الجوع في العالم قضية ملحة حقًّا، بحيث تم إدراج منتجات البحوث الزراعية هذه وسط الإمدادات الغذائية دون أية مخاوف تتعلق بسلامة الإنسان كونه جزءا من المعادلة.
وكان من المفترض ببساطة، حيث أثمرت جهود التهجين والتربية عن نباتات ظلت “قمحا” في جوهرها، أن السلالات الجديدة ستكون محتملة تماما بالنسبة إلى جمهور المستهلكين. ويسخر علماء الزراعة، في الواقع، من فكرة أن التهجين ينطوي على القدرة على توليد أنواع هجينة ضارة بالبشر. فرغم كل شيء، فقد تم استخدام تقنيات التهجين، ولو بشكل أقل إتقانا، في إنتاج المحاصيل والحيوانات لعدة قرون. لذا قم بتزويج نوعين من الطماطم، وسوف تحصل على طماطم، أليس كذلك؟ فأين المشكلة؟ لم تطرح مسألة اختبار سلامة الإنسان أو الحيوان مطلقًا. فبالنسبة إلى القمح، تم الافتراض كذلك أن الاختلافات في محتوى الجلوتين، والبنية، وتحولات الإنزيمات والبروتينات الأخرى، والصفات التي تمنح قابلية التعرض للأمراض النباتية المختلفة أو مقاومتها، سوف تشق طريقها جميعا إلى البشر من دون عواقب.
وإذا حكمنا من خلال نتائج أبحاث علماء الوراثة الزراعية، فقد تكون مثل هذه الافتراضات لا أساس لها، بل وخطأ تماما. وقد أثبتت التحاليل التي أجريت على البروتينات في القمح الهجين مقارنة بسلالات آبائه أن ٥ ٪ منها فريدة من نوعها، حيث إنها غير موجودة في أي من الأبوين، وذلك في حين أن ما يقرب من ٩٥ ٪ من البروتينات ظلت كما هي في نسلهم. وتخضع بروتينات الجلوتين في القمح، على وجه الخصوص، إلى تغيير هيكلي كبير عند التهجين. ففي إحدى تجارب التهجين، تم تحديد أربعة عشر بروتينا جديدًا من الجلوتين في النسل لم تكن موجودة في أي من الأبوين. وعلاوة على ذلك، فإنه بمقارنتها بسلالات القمح التي وجدت قبل قرن من الزمان، تُظهر سلالات القمح الطري الحديثة قدرا أكبر من جينات بروتين الجلوتين التي ترتبط بمرض الداء الزلاقي.
إذا ضاعفت ضاعف هذه التعديلات بمقدار عشرات الآلاف من التهجينات التي خضع لها القمح، ستكون لديك القدرة على معرفة التحولات الجذرية في الصفات المحددة وراثيًّا مثل بنية الجلوتين. ولاحظ أن التعديلات الوراثية التي تم إحداثها بواسطة تهجين نباتات القمح نفسها كانت قاتلة في الأساس، حيث إن الآلاف من سلالات القمح الجديدة كانت عاجزة عندما تركت لتنمو في البرية، معتمدة على الإنسان للبقاء على قيد الحياة.
وقد قوبلت الزراعة الجديدة لمحصول القمح المتنامي في البداية بالتشكك في دول العالم الثالث، وباعتراضات تستند في معظمها إلى المقولة الخالدة:”هذه ليست الطريقة التي اعتدناها لزراعة القمح”. كانت إجابة الدكتور “بورلوج”، بطل تهجين القمح، على منتقدي القمح ذي الإنتاجية العالية للمحصول هي إلقاء اللوم على الانفجار السكاني في العالم، والذي يجعل استخدام التكنولوجيا الفائقة في الزراعة “ضرورة”. وقد نعمت الدول المبتلية بالجوع كالهند، وباكستان، والصين، وكولومبيا، وغيرها من البلدان بالزيادة المدهشة في إنتاجية المحاصيل، وذلك بسرعة أسكتت أفواه المشككين. وتحسنت المحاصيل باطراد، محولة النقص إلى فائض، ومقدمة منتجات قمح رخيصة وسهلة المنال.
هل بإمكانك إلقاء اللوم على المزارعين لتفضيلهم سلالات القمح القزم الهجين ذات الإنتاجية العالية؟ فمع كل شيء، يعاني الكثير من صغار المزارعين المصاعب المادية. فإذا كان بإمكانهم زيادة إنتاجية المحصول لكل فدان بما يصل إلى عشرة أضعاف، وذلك في موسم أقصر للنمو مع سهولة الحصاد، فلِمَ لا يفعلون ذلك؟!
في المستقبل، سيكون لدى علم التعديل الوراثي القدرة على تغيير القمح بصورة أكبر من ذلك. فلم يعد العلماء بحاجة إلى تربية السلالات، والدعاء، وتأمل إنتاج المزيج الصحيح من تبادل الكروموسومات. وبدلا من ذلك، فإن الجينات الأحادية يمكن إدراجها أو إزالتها عن عمد، كما يمكن تربية السلالات لمقاومة الأمراض، أو المبيدات الحشرية، أو لتحمل الطقس البارد أو الجفاف، أو أي عدد آخر من الخصائص المحددة وراثيًّا. وعلى وجه الخصوص، يمكن أن تكون السلالات الجديدة مصممة وراثيًّا لتتوافق مع أسمدة أو مبيدات محددة. إنها عملية مجزية بالنسبة للأعمال التجارية الزراعية الكبرى، ومنتجي الكيماويات الخاصة بالبذور والمزارع مثل شركات “كارجيل”، و”مونسانتو”، و”إيه. دي. إم.”، حيث يمكن حماية سلالات معينة من البذور من براءات الاختراع، وبالتالي السيطرة على مبيعات متميزة ومعززة من العلاجات الكيميائية المتوافقة.
وقد بُني التعديل الوراثي على فرضية أن جينًا واحدًا يمكن أن يدرج في المكان المناسب دون الإخلال بالتعبير الجيني للخصائص الأخرى. وفي حين أن هذا المفهوم يبدو سليما، فإنه لا يعمل دائما على هذا النحو الخالي من العوائق. فخلال السنوات العشر الأولى من التعديل الوراثي، لم تكن هناك حاجة لإجراء اختبارات على الحيوانات أو اختبارات سلامة على النباتات المعدلة وراثيًّا، حيث اعتبرت هذه الممارسة لا تختلف عن ممارسة التهجين المفترض أنها خالية من المخاطر.
وقد تسبب ضغط الرأي العام، في الآونة الأخيرة، في أن تشترط الوكالات التنظيمية، مثل فرع تنظيم الغذاء التابع لمنظمة الغذاء والدواء FDA، اختبار المنتجات المعدلة وراثيًّا قبل طرحها في الأسواق. ومع ذلك، فقد استشهد منتقدو التعديل الوراثي بالدراسات التي تحدد المخاطر المحتملة للمحاصيل المعدلة وراثيًّا. إن حيوانات التجارب التي تم إطعامها فول الصويا- المتقبل للجليفوسات (المعروف باسم القمح المعدل وراثيًّا، حيث يتم تربية هذه الحبوب وراثيًّا للسماح للمزارعين باستخدام هذا المبيد للتخلص من الأعشاب الضارة بحرية دون الإضرار بالمحاصيل) تظهر تغيرات في الكبد والبنكرياس والأمعاء ونسيج الخصية مقارنة بالحيوانات التي تم إطعامها فول الصويا التقليدي. ويعتقد أن الفرق كان بسبب إعادة الترتيب غير المتوقعة للحمض النووي بالقرب من مكان إدراج الجينات، ما أسفر عن إنتاج بروتينات معدلة في الغذاء مع آثار سمية محتملة.
وقد أدى تقديم التعديل الجيني في النهاية إلى إلقاء الضوء على فكرة إجراء اختبار سلامة للنباتات المعدلة وراثيًّا. وقد دفع الغضب الشعبي المجتمع الزراعي الدولي إلى وضع مبادئ توجيهية، كالدستور الغذائي في عام ٢٠٠٣، وهو جهد مشترك لمنظمتي الأغذية والزراعة التابعتين للأمم المتحدة والصحة العالمية، للمساعدة على تحديد نوعية المحاصيل الجديدة المعدلة وراثيًّا التي يجب إجراء اختبارات سلامة عليها، وأي نوع من الاختبارات ينبغي إجراؤه، وما الذي ينبغي قياسه تحديدا.
ولكن لم يُثر مثل هذا الغضب قبل أعوام عندما قام المزارعون وعلماء الوراثة بعشرات الآلاف من تجارب التهجين. ليس هناك شك في أن إعادة الترتيب الوراثية غير المتوقعة التي قد تولد بعض الخواص المرغوب فيها، مثل زيادة المقاومة للجفاف أو خصائص أفضل للعجين، يمكن أن تكون مصحوبة بتغييرات في البروتينات غير الواضحة للعين، أو الأنف، أو اللسان، ولكن لم يتم التركيز على هذه الآثار الجانبية سوى بالنزر اليسير. وتواصلت محاولات التهجين، حيث أدت إلى تربية قمح “اصطناعي” جديد. وفي حين أن التهجين لا يرقى إلى مستوى دقة تقنيات تعديل الجينات، فإنه لا يزال يمتلك القدرة على “تشغيل” أو “إيقاف” الجينات التي لا علاقة لها بالأثر المرجو بشكل غير متعمد، وتوليد خصائص فريدة من نوعها، لا يمكننا التعرف عليها جميعها في الوقت الحاضر.
وهكذا، فإن التعديلات التي أجريت على القمح، والتي يمكن أن تؤدي إلى آثار غير مرغوب فيها على البشر، لم تكن بسبب إدراج أو حذف الجينات، ولكنها نتيجة لتجارب التهجين التي تسبق التعديل الوراثي. ونتيجة لذلك، على مدى السنوات الخمسين الماضية، فقد دخلت آلاف من السلالات الجديدة في الأغذية الشهيرة دون بذل ولو جهد بسيط لإجراء اختبار للسلامة. إن هذا التطور تصحبه آثار هائلة على صحة الإنسان، وأكرر: إن القمح الحديث، على الرغم من جميع التعديلات الوراثية للمئات، إن لم يكن الآلاف، من خصائصه المحددة وراثيًّا، شق طريقه إلى إمدادات الغذاء البشري في جميع أنحاء العالم دون طرح سؤال واحد عن مدى صلاحيته للاستهلاك البشري.
ولأن تجارب التهجين لا تتطلب توثيقًا للحيوانات أو إجراء اختبارات على البشر، فإن تحديد مكان وزمان وكيفية عملية التهجين المحكمة التي ربما أدت إلى تضخيم آثار القمح السيئة بدقة هي مهمة مستحيلة. كما أننا لا نعرف إذا ما كانت بعض سلالات القمح الهجين فقط أو جميعها هي التي تحمل آثارا غير مرغوب فيها على صحة الإنسان.
يمكن للاختلافات الوراثية التراكمية التي تحدث مع كل دورة تهجين أن تجعل العالم مختلفا. فعلى سبيل المثال فلنبحث أمر الذكور والإناث في البشر. ففي حين أن الرجال والنساء، في جوهرهم الجيني، يتماثلون تقريبا، فإن الاختلافات تجعل المحادثة مثيرة للاهتمام بشكل واضح، ناهيك عن المداعبات الرومانسية. إن الاختلافات الجوهرية بين الرجال والنساء في البشر، وهي مجموعة من الاختلافات تنشأ بسبب كروموسوم واحد، وهو كروموسوم واي الذكري شديد الصغر وجيناته قليلة، مهدت الطريق لآلاف السنوات من حياة البشر وموتهم، والدراما الشكسبيرية، والتباين الشديد بين شخصيتي “هومر سيمبسون” وزوجته”مارجوري سيمبسون”.
وهكذا يكون الأمر فيما يتعلق بهذا العشب المعدل وراثيًّا والذي لا نزال ندعوه “بالقمح”؛ حيث تؤدي الاختلافات الوراثية الناتجة عبر آلاف من التهجينات المعدلة وراثيًّا إلى حدوث تباين واضح في تركيبته ومظهره، وصفاته، والذي يتسم بالأهمية ليس فقط بالنسبة إلى الطهاة ومصنعي الأغذية، ولكن من المحتمل كذلك بالنسبة إلى صحة الإنسان