تشكل الآلام الجسدية جزءا من حياتنا. فقد تغلق الباب على إصبعك أو تحرق يدك عند إمساك ذراع المقلاة الحامية أو تلوي كاحلك وأنت تمارس رياضتك المفضلة، وتكون النتيجة شعورا بالألم.
والواقع أن كثيرا من الآلام التي نمر بها قد تكون قوية إلا أن حياتها محدودة عادة. فقد لا تدوم الأوجاع سوى لحظات أو تستمر لأيام أو أسابيع، اعتمادا على حدة الإصابة والوقت اللازم للشفاء. بيد أنها في معظم الأحيان تزول في النهاية. ويدعى هذا النوع من الألم المؤقت بالألم الحاد.
وعندما تتواصل الأوجاع لما بعد فترة الشفاء الطبيعية أو لا تبدو ناتجة عن أي إصابة سابقة أو أي ضرر جسدي، فهي تعرف بالألم المزمن. ويعرف الألم المزمن إجمالا بالألم الذي يدوم لأكثر من ثلاثة شهور. واستنادا إلى تقديرات المؤسسة الأميركية للأوجاع، فإن أكثر من 50 مليون أميركي يعانون من الألم المزمن، ما يتسبب بخسارة 50 مليون يوم عمل سنويا. كما تشير المؤسسة الوطنية للمشاكل النوم إلى أن حوالى 20 بالمئة من المتقدمين في السن يعانون من مشاكل في النوم عدة ليالي في الأسبوع بسبب الأوجاع.
ومن شأن الألم المزمن أن يكون قويا. إلا أنه باستطاعة المصاب إيجاد طرق للتعامل معه بحيث تكون حياته أكثر نشاطا ومتعة وبحيث يستمر في إنجاز وظائفه اليومية. كما أن موقف الإنسان تجاه الألم بالإضافة إلى الأدوية والعلاجات، قد يساعد على تحمله. والواقع أن فهم الألم يمثل خطوة هامة في سبيل تحمله وتجاوزه.
لم لا يتوقف الألم؟
عندما يتعرض الجسد لإصابة أو التهاب، تقوم أطراف أعصاب معينة في الجلد أو المفاصل أو العضلات أو الأعضاء الداخلية ببعث رسائل إلى الدماغ لإخباره بأن الجسد قد تعرض لضرر أو لمهيج مزعج. وثمة ألياف عصبية تخبر الدماغ على الفور بموضع الألم ومدى حدته وبالشعور الذي يولده (أهو حاد أم محرق أم نابض). عندئذ، “يقرأ” الدماغ إشارات الألم تلك ويجيب عليها برسالة توقفك عن القيام بما يسبب الوجع. فإن كنت تلمس شيئا ساخنا، يرسل الدماغ أمرا إلى العضلات بالتقلص لتسحب يدك إلى الخلف.
إضافة إلى ذلك، يرسل الدماغ أمرا إلى الخلايا العصبية بالتوقف عن إرسال إشارات الألم فور زوال السبب، كبدء الإصابة بالشفاء مثلا. غير أنه أحيانا تفشل هذه الآلية، تماما كبوابة بقيت مفتوحة. فلسبب معين، يواصل الجهاز العصبي بعث إشارات الألم إلى الدماغ لشهور أو حتى لسنوات بعد شفاء الإصابة، أو حتى إن لم يحدث أي ضرر جسدي. فينتج عن ذلك الألم المزمن.
دور الانفعالات وتأثيرها
الألم هو عبارة عن تجربة مزعجة، حسية ونفسية، تقترن عادة بتلف فعلي أو محتمل في الأنسجة. والألم ليس
على الألم
معاناة جسدية فحسب، بل نفسية أيضا. فجزء من كيفية تحليلك وتفاعلك مع الألم هو في الواقع نتيجة لتجربتك الشخصية وتربيتك.
كل منا يشعر بالألم بطريقة مختلفة. فإن كنت قد نشأت على تجاهل الألم وتجاوزه، ستكون أوجاعك أقل تأثيرا عليك مما لو كنت قد نشأت في عائلة يتذمر أفرادها كثيرا من الألم ومن مدى معاناتهم.
ومن شأن الألم، إن هو استمر لفترة طويلة، أن يزيد من مستوى إحباط المرء وسرعة اهتياجه، مؤديا به إلى الشعور بالاكتئاب. وقد يؤخذ المصاب “بدور المريض” – شعور المرء بأنه ضحية ألمه الذي قد يجعله مركز الاهتمام ويريحه من بعض المسؤوليات الملقاة على عاتقه. غير أنه بالمقابل، سيؤدي به إلى أن يصبح أكثر خمولا وانعزالا مما سيضاعف إحساسه بالألم. إضافة إلى ذلك، يميل التوتر والحزن إلى مضاعفة الألم وتقليص القدرة على تحمله. بالتالي، فإن إيجاد طرق إيجابية لتخطي الأوجاع قد يكون ذا فائدة على الصعيدين الجسدي والعاطفي.
الأشكال الشائعة للألم المزمن
غالبا ما يكون الألم المزمن موهنا، إلا أنه يظل قابلا للعلاج. وتتوفر في سبيل ذلك عدة تقنيات. ويتمثل مفتاح السيطرة على الألم بمراجعة دقيقة للأسباب وبمقاربة منسقة للتحكم به. وغالبا ما يساعد العلاج المبكر والناجح للألم الحاد بعد عملية جراحية مثلا أو بعد نوبة الحلأ النّطاقي على منع الإصابة بالألم المزمن. ولكن، هناك عدة علاجات إن كنت تعاني من ألم مزمن. وإليك في ما يلي بعض الأشكال الشائعة للألم المزمن.
ألم الظهر: يعتبر ألم الجزء الأسفل من الظهر من أكثر الأسباب المؤدية إلى التوقف عن العمل في الولايات المتحدة، والسبب الأبرز لفقدان الوظيفة. وينتج ألم الظهر الدائم عن إجهاد وتشنّج عضلي، آليات جسدية غير سليمة، قلة اللياقة البدنية، تغيرات في العمود الفقري، كفتق في القرص الفقري، وأمراض تنكسية، مثل التهاب عظمي مفصلي.
الصداع: إن أكثر أنواع ألم الرأس شيوعا هو ما يدعى بصداع التوتر. بيد أن الأطباء غير أكيدين من أن ذلك عائد إلى التوتر العضلي الفعلي. فابتداء حالات صداع التوتر أو تفاقمها لا يرتبطان دوما بأحداث مسببة للتوتر. أما الألم النابض الذي تسبّبه الشقيقة Migraine، فقد يكون مرتبطا بتغيرات في الأوعية الدموية للرأس. ومن شأن الوراثة والأدوية والكحول وبعض الأطعمة والإجهاد والانفعال أو الاكتئاب أن يولد ألم الشقيقة.
التهاب المفاصل: التهاب المفاصل هو الاسم العام للإصابة بداء المفاصل. يصيب الالتهاب العظمي المفصلي الغضروف الموجود في مفاصل الركبتين واليدين والوركين والعمود الفقري. أما التهاب المفاصل الرثياني فيشتمل على التهاب النسيج الموجود حول المفاصل وداخلها ويصيب إجمالا اليدين والقدمين.
ألم عضلي ليفي: متلازمة الألم العضلي الليفي هي عبارة عن مجموعة من الأعراض التي تشتمل على ألم وشعور بالألم عند الضغط واسعي النطاق. وتختلف هذه الحالة عن التهاب المفاصل في كون الألم يتركز في العضلات والأنسجة المجاورة للمفصل عوضا عن المفصل نفسه. ومن شأن الأعراض أن تسوء ثم تهدأ، ولكنها لا تختفي تماما.
العصاب (الاعتلال العصبي): ينجم هذا الألم عن التلف الذي يصيب الجهاز العصبي إثر إصابة مرض طويل الأمد كداء السكر. ومن شأن علاج هذا النوع من الألم أن يكون الأكثر صعوبة. نوع آخر من الألم المرتبط بالتلف العصبي يعقب نوبة حلأ نطاقي، ويصيب عادة المتقدمين في السن. ويعاني المصاب به من ألم حارق وكاو.
متلازمة تهيج الأمعاء: هو اضطراب معقد يصيب الأمعاء السفلية ويسبب الألم والانتفاخ ونوبات متكررة من الإسهال أو الإمساك.
تحفيز مسكنات الألم الطبيعية
أظهرت الدراسات أن من شأن التمارين الهوائية (Aerobics) أن تحفز إطلاق المورفين الباطني الذي يشكل مسكن الجسد الطبيعي للألم. والمورفين الباطني هو عبارة عن مهدئ شبيه بالمورفين يرسل أوامر بوقف الألم إلى الخلايا العصبية. ويبدو بأن لمدة التمارين دورا أكثر أهمية من قسوتها. فالقيام بتمارين هوائية غير مكثفة من 30 إلى 40 دقيقة متواصلة لخمسة أو ستة أيام في الأسبوع، قد يكون أكثر فعالية. ولكن احرص على زيادة الوقت المخصص ببطء. فحتى التمرن لثلاثة أو أربعة أيام في الأسبوع قد يكون ذا فائدة.
إن باشرت ببرنامج رياضي أكثر قسوة من المشي، عليك الخضوع لتقييم طبي إن كنت:
= فوق الأربعين من العمر.
= تطيل الجلوس.
= تعاني من عوامل خطر للإصابة باعتلال الشريان التاجي.
= تعاني من مشاكل صحية مزمنة.
العناية الذاتية
فور استبعاد الأمراض الخطيرة أو علاجها، يمكن للخيارات التالية أن تساعدك على السيطرة على الألم المزمن:
= المحافظة على النشاط. ركز على الأمور التي بمقدورك القيام بها. جرب ممارسة هوايات ونشاطات جديدة. وتمرن يوميا. فالنشاط الذي يسبب ألما بالأساس لا يؤدّي بالضرورة إلى تلف أكبر أو إلى تفاقم الألم المزمن. وإن كنت تعاني من التهاب المفاصل، فمن شأن التمرين أن يوسع مجال الحركة في المفصل. كما أن تمارين الظهر والعضلات البطنية قد يساعد على تسكين ألم الظهر أو حتى منع الإصابة به. باشر برنامجك ببطء، وتمرن من 20 إلى 30 دقيقة لثلاث أو أربع مرات أسبوعيا.
= التركيز على الآخرين. عندما تلتفت إلى حاجات الآخرين يقل تفكيرك بمصاعبك الخاصة. اشترك بالتالي في نشاطات جمعية مثلا.
= تقبل الألم. لا تنكر الأوجاع التي تشعر بها ولا تغال في التعبير عنها، بل كن واضحا وصادقا مع الآخرين حول قدراتك. حاول أن تكون عمليا في ما تستطيع إنجازه، وأعلم الآخرين حين يوكل إليك ما يفوق طاقتك.
= الحفاظ على الصحة. تناول وجباتك واخلد إلى النوم وفقا لبرنامج منتظم.
= الاسترخاء. يضاعف التوتر العضلي إحساسنا بالأوجاع. غير أن من شأن التقنيات التقليدية كالتدليك أو الاستمتاع بحمام المياه الدّوامية أن يعزز الاسترخاء العضلي والراحة العامة. تعلم بعض مهارات الاسترخاء كتمارين التنفس والتخيل. (انظر فصل إبقاء التوتر تحت السيطرة).
= وضع يومية بالأوجاع. تساعد المفكرة اليومية في المراجعات الطبية.
– اكتب وصفا مفصلا بالألم وأنت تشعر به.
– حدد موضع الأوجاع وحدتها ومدى تكرارها وما الذي يخففها أو يزيدها.
– استعمل تعابير معينة مثل لاسع، نافذ، خفيف، نابض، مزعج أو ناخر لوصف نوع الألم.
– اذكر في يومياتك الأيام التي يقل فيها الألم أو يسوء.
العون الطبي
إن تغير نوع الألم – تصاعد من الخفيف إلى الحاد – أو إن عانيت من أعراض جديدة – كشعور بالوخز أو الخدر – من المستحسن أن تعرض نفسك مجددا على الطبيب.
استعمال المسكنات بشكل سليم
من شأن بعض الأدوية غير الموصوفة أن تكون فعالة في تسكين الألم المزمن. فبإمكان بعض الأدوية كالأسبيرين والإبوبروفين والأسيتامينوفين أن تهدئ الأوجاع عبر التداخل مع طريقة توليد الإشارات أو نقلها أو فهمها.
اتبع التوصيات التالية لاستعمال سليم للأدوية في المنزل:
= اقرأ الملحق بعناية واتبع جميع التعليمات والتحذيرات. ولا تتعدى أبدا الجرعة القصوى الموصى بها.
= يجب ألا يستعمل الأطفال الأدوية المسكنة لأكثر من 10 أيام متواصلة ما لم يوص الطبيب بغير ذلك. إذ تنحصر مدة استعمالها بالنسبة إلى الأطفال والمراهقين بخمسة أيام.
= لا يجب تناول الأسبيرين في الأشهر الثلاثة الأخيرة من الحمل إلا بتوصية من الطبيب، إذ من شأنه أن يسبب نزفا لدى الأم والجنين على السواء. كما يجب عدم إعطاء الأسبيرين للأطفال إلا بوصفة من الطبيب.
= إن كنت تعاني من التحسس تجاه الأسبيرين، استشر الطبيب أو الصيدلي حول المسكنات التي لا تشكل خطرا عليك.
برامج علاج الألم المزمن
قد أتاح التطور الذي شهده الطب مجالا واسعا من الخيارات للسيطرة على الألم المزمن. وتعتمد برامج الألم المزمن على إحدى مقاربات العلاج التالية أو على مجموعة منها:
الجراحة: تساعد الجراحة في بعض الحالات على إزالة الألم أو تخفيفه. غير أنها لا تشكل خيارا مطروحا في كثير من الحالات.
التدخل الطبي: في بعض حالات الألم المزمن، قد يحاول الطبيب تخفيف الألم بحقن دواء في موضع الألم أو قربه. وقد يعمد إلى غرس أجهزة صغيرة في جسد المريض، كمنبه عصبي أو مضخة دواء، للمساعدة على تخفيف الألم.
الدواء: ثمة أنواع عديدة من الأدوية التي تستعمل للسيطرة على الألم المزمن، اعتمادا على حدة الألم والمرض أو المشكلة التي تسببه.
العلاجات الفيزيائية والوظيفية: تركز برامج العلاج الفيزيائي على تخفيف الألم من خلال برنامج رياضي منتظم يشتمل على تمارين مرونة، تمارين هوائية وتمارين تقوية. أما العلاج الوظيفي، فيرتكز أساسا على الآليات الجسدية السليمة – استعمال العضلات والمفاصل بشكل صحيح لتخفيف الألم.
العلاجات الإدراكية والسلوكية: تركز هذه الوسائل العلاجية على تفهّم السلوك والحركات والمشاعر ومشاكل العلاقات التي غالبا ما ترافق الألم المزمن، وتطوير طرق إيجابية للتعامل معها.
العلاجات المتممة والبديلة: تشتمل على مجموعة من طرق العلاج، كاليوغا والتدليك والتأمل والوخز بالإبر.
إعادة التأهيل: من شأن هذا النوع من العلاج أن يتضمن برنامجا خاصا لاستعادة الوظائف الحركية أو المساعدة في تعلم مهارات جديدة.