استرخ في مقعدك، أغلق عينيك للحظة، وركز على التنفس. أرح كتفيك وتنفس بعمق قدر المستطاع، ثم ازفر الهواء ببطء من رئتيك. قم بذلك لعدة مرات. تنفس كما لو أنك تضخ الهواء داخل الجسم كله، وصولا إلى أصابع قدميك. توقف لبرهة ثم ازفر الهواء ببطء. شعور رائع، أليس كذلك؟ الهواء الذي يدخل الرئتين هو ما يساعدنا على البقاء أحياء. ومع تسارع أنفاسنا عند ممارسة التمارين الرياضية أو الجري، نشعر بنشاط وأحيانا بالنشوة.
بوصفي طبيبا، فإنني سأتخيل ما يحدث داخل جسمي على مستوى الخلية بينما يدخل الأكسجين عبر أنفي في طريقه إلى رئتيَّ. الحياة معجزة منسوجة بشكل معقد، ويتضح هذا مع كل نفس نأخذه. الآن أملأ رئتي بالهواء النقي الغني بالأكسجين، ثم تمر جزيئات الأكسجين عبر الجدران الرقيقة للحويصلات الهوائية في الرئتين وتمتزج بالدم الذي يمر هناك. وتربط هذه الجزيئات نفسها بالهيموجلوبين في دمي، ثم يضخ قلبي هذا الدم المؤكسج حديثا إلى جميع أجزاء جسمي مجددا، ويطلق الهيموجلوبين الأكسجين حتى يدخل جميع خلايا جسمي، مانحا إياي الطاقة والحياة نفسها.
داخل كل خلية من خلايا الجسم هناك فرن يسمى الميتوكوندريا Mitochondrion. تخيل نفسك أمام نار مدفأة متوهجة تشتعل بأمان وهدوء في معظم الأحيان. ولكن أحيانا، يطير بعض الشرر إلى بساط الغرفة ويصنع ثقبا صغيرا فيه. إن قليلا من الشرر لن يشكل كثيرا من التهديد، ولكن إذا استمر حدوث ذلك شهرا بعد شهر، وعاما بعد عام، فسوف ينتهي بك الأمر ببساط متهرئ مفروش أمام مدفأتك.
وبالمثل، فإن هذا الكائن المجهري – الميتوكوندريا – داخل الخلية يختزل الأكسجين عن طريق نقل الإلكترونات لخلق الطاقة في شكل أدينوسين ثلاثي الفوسفات، وإنتاج منتج ثانوي وهو المياه. تستمر هذه العملية دون عقبات بمعدل لا يقل عن ٩٨ ٪ من الوقت. ولكن اكتمال إنتاج الإلكترونات الأربعة اللازمة لاختزال الأكسجين إلى ماء لا يحدث دائما كما هو مخطط، حيث يتم إنتاج الجذور الحرة.
يرمز شرر المدفأة إلى الجذور الحرة، والبساط إلى جسمك. والجزء الذي يتلقى الضرر الأكبر من الجذور الحرة هو أول جزء يتدهور في جسمك والأكثر عرضة للإصابة بالأمراض التنكسية. إذا كان هذا الجزء عينيك، فيمكن أن تصاب بالضمور البقعي أو إعتام عدسة العين، وإذا كان أوعيتك الدموية، يمكن أن تصاب بأزمة قلبية أو سكتة دماغية. وإذا كان مفاصلك، فيمكن أن تصاب بالتهاب المفاصل. وإذا كان دماغك، فيمكن أن تصاب بألزهايمر أو باركنسون. ومع مرور الوقت، تصبح أجسامنا مثل البساط القابع أمام المدفأة: مهترئة بشدة.
لقد تخيلنا معا الجانب “المضيء” للأكسجين والحياة التي يجلبها (مثل دفء النار)، ولكن لا يمكننا أن ننكر بقية القصة. وهذا هو الجزء الذي لم يسمع به الكثير منا من قبل: التدهور الذي تسببه الجذور الحرة، والمعروف باسم الإجهاد التأكسدي .
هذا الإجهاد التأكسدي هو السبب الكامن وراء كل هذه الأمراض التنكسية المزمنة تقريبا. وعلى الرغم من أن هذا يحدث داخل الجسم، فإنه من الأسهل بكثير أن نراقب الإجهاد التأكسدي الذي يحدث على السطح الخارجي للجسم والبشرة. هل سبق لك أن رأيت صورة عائلة من عدة أجيال؟ إذا نظرت عن كثب إلى بشرتهم، فسترى الفارق الواضح بين أصغر أفراد العائلة وأكبرهم. وهذا التأثير الذي تراه يحدث بسبب الإجهاد التأكسدي للبشرة – وهذا الاضمحلال نفسه يحدث داخل أجسامنا أيضا.
الجانب المظلم للأكسجين
هناك أكثر من سبعين مرضا تنكسيا مزمنا يكون نتيجة مباشرة لآثار الأكسجين “السامة”. وبعبارة أخرى، يكون السبب الجذري لهذه الأمراض هو الإجهاد التأكسدي. وقد أظهرت لنا العلوم الطبية الآن أن السبب الكامن وراء هذه الأمراض الفظيعة التي نخشى الإصابة بها مع تقدم السن هو الجانب المظلم غير المشكوك فيه للأكسجين.
إذا حدث أنك قمت ذات مرة بتجديد سيارة قديمة، فإنك شاهدت بأم عينيك الآثار الضارة للصدأ. إنه يضعف ويفكك إحدى أقوى المواد على الأرض: المعادن. ومثل سيارة مهجورة في حقل، تبدأ أجسامنا حرفيا في الصدأ إذا لم تكن محمية. ويبدأ التآكل البطيء في أجسامنا، ومثل المنطقة الضعيفة في المعدن، فإن الجزء الذي يبلى أولا من الجسم هو ما يحدد نوع المرض التنكسي الذي قد نصاب به.
ولحسن الحظ، فإن أجسامنا لا تمتلك نظام دفاع مضادًّا للأكسدة وحسب، بل تمتلك كذلك نظام ترميم ممتازًا.
لقد علمنا من خلال البحوث البيوكيميائية أن السبب الكامن وراء الأمراض التنكسية – وربما وراء عملية الشيخوخة نفسها – هو الإجهاد التأكسدي الذي تسببه الجذور الحرة.
من الناحية الكيميائية، تبين أن ما تفعله هذه الجذور الحرة يُنتج في الواقع شرارات نارية من الضوء. وهذه الجذور الحرة التي لم يتم تحييدها تطلق سلسلة من ردود الأفعال قد تقود إلى حالات محتملة الخطورة. هل تعلم أن هناك حربا ضروسا تُشَن داخل جسمك؟ خلال انحلال الأكسجين الصامت، يوما بعد يوم، تدور معركة حياة أو موت. ويمكننا التفكير في هذه الحرب من خلال تحديد دور كل شخصية من شخصياتها المدهشة والواضحة في عملية التمثيل الغذائي بأجسامنا:
العدو: الجذور الحرة
الحلفاء: مضادات الأكسدة
خلف خطوط القتال: المغذيات الداعمة – فيتامين ب المركب (ب١، وب٢، وب٦، وب١٢، وحمض الفوليك) والمعادن المضادة للأكسدة. إنها مثل خطوط إمداد الوقود، والسلاح، والغذاء والميكانيكيين الذين يحافظون على صيانة الآلات في حالات القتال.
عتاد العدو: الحالات التي تزيد من عدد الجذور الحرة التي ينتجها الجسم، مثل الملوثات في الهواء، والغذاء، والماء. والإجهاد المفرط، وعدم ممارسة الرياضة، وهلم جرا.
وحدة إسعاف المصابين: وحدة إصلاح الجذور الحرة المصابة.
تتكون الجذور الحرة أساسا من جزيئات الأكسجين أو الذرات التي يكون لديها إلكترون منفرد على الأقل في مدارها الخارجي. خلال عملية استخدام الأكسجين في التمثيل الغذائي العادي داخل الخلية لإنتاج الطاقة (أي الأكسدة)، يتم إنتاج جذور الأكسجين الحرة النشطة، والتي تكون ذات شحنة كهربية ورغبة واضحة في الحصول على إلكترون من أي جزيء أو مادة في المناطق المجاورة. إنها تتمتع بحركة عنيفة، وثبت كيميائيا أنها تطلق شرارات نارية من الضوء داخل الجسم. إذا لم يتم تحييد هذه الجذور الحرة بسرعة بواسطة مضادات الأكسدة، فإنها قد تنتج جذورا حرة أكثر تقلبا أو تسبب تلف غشاء الخلية، أو جدار الأوعية الدموية، أو البروتينات، أو الدهون، أو حتى نواة الحمض النووي للخلية. وتشير المراجع العلمية و الطبية إلى هذا الضرر باسم الإجهاد التأكسدي.
مضادات الأكسدة Antioxidants: حلفاؤنا
لم يتركنا الله تعالى عزلًا أمام هجمات الجذور الحرة. في الواقع، عندما أنظر إلى تعقيدات نظام الدفاع المضاد للأكسدة لدينا، يزداد تقديري لروعة وعظمة خلق الله الممثل في أجسامنا. نحن لدينا جيش من مضادات الأكسدة القادرة على تحييد الجذور الحرة وإبطال ضررها. مضادات الأكسدة هي كالأبواب الزجاجية أو الشبكة السلكية التي نضعها أمام المدفأة. إن الشرر ( الجذور الحرة) لا يزال يتطاير؛ ولكن البساط (جسمك) محمي.
إن مضادات الأكسدة هي أية مادة لديها القدرة على منح الجذور الحرة إلكترونا لإحداث توازن في الإلكترونات المنفردة، ما يحيِّد الجذور الحرة. بل إن الجسم لديه القدرة على إنتاج بعض مضادات الأكسدة بنفسه. في الواقع ينتج الجسم ثلاثة أنظمة دفاعية رئيسية مضادة للأكسدة: الأكسيد الفائق، والكاتالاز، وجلوتاتيون بيروكسيداز. ليس من المهم أن نتذكر هذه الأسماء، ولكن من المهم أن ندرك أن لدينا نظام دفاع طبيعيًّا مضادًّا للأكسدة.
ولكن أجسامنا لا تنتج جميع مضادات الأكسدة التي نحتاج إليها؛ ما يعني ضرورة الحصول على بقية مضادات الأكسدة لدينا من الغذاء أو المكملات الغذائية، كما ستعلم.وما دامت هناك كميات كافية من مضادات الأكسدة توازن كمية الجذور الحرة المنتَجة، فلا ضرر يصيب أجسامنا. ولكن عندما تزيد الجذور الحرة على مضادات الأكسدة المتاحة، يحدث الإجهاد التأكسدي. وعندما يستمر هذا الوضع لفترة طويلة من الزمن، قد نصاب بمرض تنكسي مزمن، وننهزم في حربنا الداخلية.
إن التوازن هو مفتاح الفوز بهذه الحرب المستمرة. وعلينا أن نحافظ على الهجوم والدفاع كليهما. ولكي تنتصر أجسامنا يجب أن تكون مسلحة دائما بمضادات أكسدة تفوق نسبة الجذور الحرة.
ونحن نحصل على معظم مضادات الأكسدة من الخضر والفاكهة. وأكثر مضادات الأكسدة شيوعا هي فيتامين ج، وفيتامين د، وفيتامين أ، والبيتا كاروتين. كما يمكننا الحصول على العديد من مضادات الأكسدة الأخرى من طعامنا، والتي تشمل إنزيم كيو ١٠، وحمض ألفا ليبويك، والبيو فلافونويد. ومن المهم أن ندرك أن مضادات الأكسدة تعمل في تآزر مع بعضها لنزع أسلحة الجذور الحرة في مناطق مختلفة من الجسم. ومثل حالات الدفاع العسكري المختلفة، تكون لمضادات الأكسدة أدوار محددة؛ فبعض من مضادات الأكسدة لديه القدرة على تجديد مضادات الأكسدة الأخرى لتتمكن من تحييد المزيد من الجذور الحرة. على سبيل المثال، فيتامين ج قابل للذوبان في الماء، وبالتالي فهو أفضل مضاد للأكسدة لاستهداف الجذور الحرة داخل الدم والبلازما. وفيتامين د قابل للذوبان في الدهون، ما يعني أنه أفضل مضاد للأكسدة داخل غشاء الخلية. والجلوتاتيون هو أفضل مضاد للأكسدة داخل الخلية نفسها. ويعمل حمض ألفا ليبويك داخل الغشاء الخلوي والبلازما. ولدى فيتامين ج وحمض ألفا ليبويك القدرة على تجديد فيتامين د والجلوتاتيون بحيث يمكن استخدامهما مرة أخرى.
كلما ازدادت مضادات الأكسدة، كان أفضل! هدفنا هو الحصول على أكثر مما يكفي من مضادات الأكسدة لتحييد الجذور الحرة التي ننتجها؛ وهذا لا يحدث إلا بتوافر جيش كامل ومتوازن من مضادات الأكسدة في جميع الأوقات.
خلف خطوط القتال يحتاج كل جيش إلى نظام دعم خلف خطوط القتال؛ فهو أمر بالغ الأهمية في النتيجة النهائية للحرب. إن وجود كميات كافية من مضادات الأكسدة (أو الجنود) للقيام بتحييد الجذور الحرة المنتجَة ليس حلا كافيا؛ فالجنود بحاجة إلى إمدادات مستمرة – ذخائر، وطعام، وماء، وملابس – إذا كنا نتوقع منهم تقديم أفضل أداء.
تحتاج مضادات الأكسدة المقاتلة إلى توافر العناصر المغذية الأخرى بكميات كافية للوفاء بواجبها على الخطوط الأمامية ضد تهديد الجذور الحرة. إنها تحتاج إلى معادن مضادة للأكسدة كافية، كالنحاس والزنك والمنجنيز والسيلينيوم، والتي تساعد في التفاعلات الكيميائية التي تقوم بها بحيث تكون قادرة على القيام بعملها على نحو فعال. إذا لم تكن هذه المعادن كافية، فإن الإجهاد التأكسدي يكون هو النتيجة في العادة.
كما أن مضادات الأكسدة تحتاج إلى بعض العوامل المساعدة خلال التفاعلات الإنزيمية لأداء وظيفتها بشكل صحيح. والعوامل المساعدة هي نظام الدعم العسكري، مثل الميكانيكيين أو ضباط الإمداد، وخزانات الوقود، وصناع الذخيرة. وهذه العوامل المساعدة هي فيتامينات ب المركبة: حمض الفوليك والفيتامينات ب١، وب٢، وب٦، وب١٢. نحن بحاجة إلى مخزون جيد من مضادات الأكسدة والمعادن والعوامل المساعدة إذا كان لدينا أي أمل في الفوز بتلك الحرب الداخلية.
إن ساحة المعركة أكثر تعقيدا في الواقع مما وصفته للتو؛ فعدد الجذور الحرة التي ننتجها دائم التغير. وإنتاج الجذور الحرة يختلف في العملية اليومية الخاصة بالتمثيل الغذائي واختزال الأكسجين، ونظام الدفاع لدينا لا يعرف بالضبط كم عدد الجذور الحرة التي يكون عليه التعامل معها في أي يوم. وهناك العديد من العوامل التي قد تزيد من كمية الجذور الحرة التي ننتجها والتي بدورها يجب تحييدها.
ما الذي يسبب إنتاج عدد من الجذور الحرة يفوق قدرة أجسامنا على محاربته؟ هذا السؤال دفعني إلى قضاء ساعات طويلة في البحث. لقد تعلمت أن أبحث عن المصادر المختلفة للجذور الحرة للعثور على الجواب. دعونا الآن نتحدث بالتفصيل عن هؤلاء الجناة.
أسباب إنتاج الجذور الحرة Free radicals
الإفراط في ممارسة الرياضة
أكد الدكتور ” كينيث كوبر” حقيقة أن الإفراط في ممارسة الرياضة يمكن أن يزيد بدرجة هائلة من كمية الجذور الحرة التي ينتجها الجسم. وقد أصيب الدكتور “كوبر” بقلق شديد عندما رأى العديد من الرياضيين المفرطين في ممارسة التمارين يموتون في سن صغيرة بسبب النوبات القلبية والسكتات الدماغية والسرطان. إنهم الأفراد الذين ربما يكونون قد اشتركوا في ثلاثين أو أربعين ماراثونًا للركض في حياتهم وفي الوقت نفسه يمارسون التمارين اليومية الشاقة لفترات طويلة.
وخلال أبحاثه التي أجراها لتأليف كتابه عن مضادات الأكسدة، أدرك الدكتور “كوبر” الضرر المحتمل الذي يمكن أن يؤدي إليه الإفراط في ممارسة الرياضة. عندما نمارس الرياضة بشكل معتدل، فإن أعداد الجذور الحرة التي ننتجها لا ترتفع إلا قليلا. وفي المقابل، عندما نمارسها بشكل مفرط، تزداد أعداد الجذور الحرة التي ننتجها أضعافا مضاعفة.
يختتم الدكتور بتوجيه تحذير للقراء من الإفراط في ممارسة الرياضة؛ حيث إنه قد يضر بصحتهم، وخاصة إذا استمروا في القيام بذلك لعدة سنوات. يوصي الدكتور “كوبر” الجميع باتباع برنامج تمرين معتدل، لكنه يقترح أيضا أن يتناول الجميع مضادات الأكسدة في صورة مكملات. وليس على أحد سوى الرياضيين المحترفين ممارسة التمارين الرياضية الشاقة، وحتى هؤلاء الرياضيون عليهم أن يوازنوا الأمر بتناول كميات كبيرة من مضادات الأكسدة.
الإجهاد العاطفي المفرط
كما هي الحال في ممارسة الرياضة، فإن الإجهاد العاطفي القليل أو المعتدل لا ينجم عنه سوى زيادة طفيفة في الجذور الحرة، إلا أن الإجهاد العاطفي الشديد يؤدي إلى ارتفاع عدد الجذور الحرة بشكل ملحوظ، ما يؤدي بدوره إلى الإجهاد التأكسدي. هل لاحظت أنه عندما تكون تحت ضغط شديد فإنك تمرض في كثير من الأحيان؟ كم عدد المرات التي رأيت فيها صديقا مقربا أو أحد أفراد أسرتك وهو تحت ضغوط هائلة لفترة طويلة من الزمن ثم يكتشف إصابته بالسرطان أو تحدث له أول أزمة قلبية؟
ليس لديَّ كثير من المرضى ممن يشاركون في الماراثونات، ولكن لديَّ مئات المرضى ممن يعانون الإجهاد العاطفي لفترات طويلة. الضغوط المالية والشخصية وضغوط العمل عقدت حياتنا لدرجة أن الإجهاد العاطفي أصبح العامل المؤثر على الصحة الأكثر إلحاحا والذي أتعامل معه في عيادتي. وبمجرد أن تبدأ في فهم خطورة الإجهاد التأكسدي، ستبدأ في تقدير الآثار الخطيرة للإجهاد العاطفي على صحتك على المدى الطويل، وستبدأ في مواجهتها.
تلوث الهواء
البيئة لها تأثير هائل على كمية الجذور الحرة التي تنتجها أجسامنا. إن تلوث الهواء هو السبب الرئيسي لحدوث الإجهاد التأكسدي في رئاتنا وفي أجسامنا. عند القيادة في أية مدينة رئيسية اليوم، يمكنك ليس فقط رؤية الضباب الكثيف، بل تذوقه كذلك.
لقد أثارت الآثار الصحية لتلوث الهواء قلقا بالغا. يحتوي الهواء الملوث على الأوزون وثاني أكسيد النيتروجين وثاني أكسيد الكبريت والعديد من جزيئات الهيدروكربون، وكلها تولد كمية كبيرة من الجذور الحرة. وعندما تتعرض لهذه السموم يوما بعد يوم، يكون لها تأثير كبير على صحتك. ويعد تلوث الهواء أحد أسباب الربو والتهاب الشعب الهوائية المزمن والنوبات القلبية، وحتى السرطان، ولكن فهم الإجهاد التأكسدي والسبب الكامن وراء كل هذه الأمراض يسمح لنا بوضع إستراتيجية لحماية أنفسنا من الآثار الضارة لتلوث الهواء.
وعلينا أن ننظر إلى جانب آخر من تلوث الهواء: التعرض بسبب العمل للغبار المعدني مثل ألياف الأسبستوس. إن الألياف التي تحتوي على الأسبستوس يمكن أن تولد مزيدا من الجذور الحرة. وقد تبين أن التعرض الطويل لها يسبب سرطان الرئة والتليف الرئوي الخلالي (تندب خطير بأنسجة الرئة). وهناك العديد من المخاطر المهنية الأخرى: يتعرض المزارعون للغبار الناعم في حظائرهم وحاويات الحبوب. ويتعرض العمال الصناعيون لمختلف المواد الكيميائية والغبار الناعم في عملهم.
وغني عن القول أن نوعية الهواء الذي نتنفسه هو الاعتبار الصحي الرئيسي.
دخان السجائر
يمكن للمرء أن يتوقع أن الضباب الدخاني أو المواد الكيميائية هو ما يشكل أكبر تهديد يومي لصحتنا، ولكن هل تصدق أن أكبر سبب للإجهاد التأكسدي في أجسامنا هو دخان السجائر والسيجار؟ إنها حقيقة. لقد ارتبط التدخين بزيادة خطر الإصابة بالربو وانتفاخ الرئة والتهاب الشعب الهوائية المزمن وسرطان الرئة وأمراض القلب والأوعية الدموية. نحن جميعا ندرك العواقب الصحية للتدخين، ولكن من المدهش أن ندرك أن المشكلة الحقيقية هي حجم الإجهاد التأكسدي الذي يحدثه التدخين بأجسامنا. يحتوي دخان السجائر على عدة سموم مختلفة، وكلها تزيد من كمية الجذور الحرة التي لا تقتصر على الظهور في الرئتين وحسب، ولكن في جميع أنحاء أجسامنا كذلك. ليس هناك عادة أو إدمان آخر يؤثر في صحتنا العامة بشكل أكثر مأساوية من التدخين.
أنا لا أعرف شيئا أكثر قابلية للإدمان من النيكوتين. عندما أطلق الدكتور “إيفرت كوب” – الجراح العام للولايات المتحدة – على التدخين إدمانا بدلا من عادة، فإنه غير إلى الأبد الطريقة التي ننظر بها إلى التدخين. كيف؟ لقد أبلغ الجمهور بالخواص الإدمانية للنيكوتين، التي يفترض أن شركات التبغ تعرفها منذ نصف قرن. في الواقع هناك أدلة قوية تقول إنك يمكن أن تصبح مدمنا النيكوتين في غضون أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع. هل نتعجب إذن من الصعوبة التي يواجهها الناس عند الإقلاع عن التدخين؟ لقد وجدت أنه يصعب على المرضى الإقلاع عن التدخين بدرجة تفوق الإقلاع عن الكحول. وأعتقد أن التكلفة اللامعقولة وبعيدة المدى على صحتنا التي يسببها دخان السجائر تفوق ما يمكننا تحديده بكثير.
ماذا عن التدخين السلبي؟ أثبتت الأبحاث الطبية أن الأفراد الذين يتعرضون لكمية كبيرة من دخان السجائر هم أكبر عرضة لخطر الإصابة بالربو وانتفاخ الرئة والنوبات القلبية، وحتى سرطان الرئة. وهذا هو السبب في صدور العديد من القوانين التي تحظر التدخين في الأماكن العامة.
تلوث الطعام والمياه
هل أنت ظمآن؟ في عام ١٩٨٨ حذرتنا وزارة الصحة العامة الأمريكية من أن ٨٥ ٪ من مياه الشرب الأمريكية ملوثة. وأنا لا أصدق أن الوضع تحسن على مدى العقد الماضي. هناك أكثر من خمسين ألف مادة كيميائية مختلفة تلوث ماءنا الآن. وإليكم حقيقة مخيفة: إن محطة معالجة المياه العادية لا يمكنها رصد سوى عدد يتراوح ما بين ثلاثين إلى أربعين مادة كيميائية فقط. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هناك معادن ثقيلة مثل الرصاص والكادميوم والألومنيوم تلوث معظم إمدادات المياه لدينا. وهناك أكثر من خمسة وخمسين ألف مكب للنفايات الكيميائية المشروعة في أمريكا، بالإضافة إلى مائتي ألف مكب أخرى غير شرعية، وكلها تتسرب إلى الجداول المائية في جميع أنحاء البلاد. عندما نتناول هذه المياه الملوثة، يزيد إنتاج الجذور الحرة بشكل ملحوظ.
وقد لجأ الأمريكيون اليوم إلى شرب المياه المعبأة في زجاجات، أو المفلترة، أو المقطرة بكميات غير مسبوقة. ولكن يجب أن نعرف أنه باستثناء الماء المقطر، فإنك ليست لديك أية وسيلة لمعرفة نوعية المياه التي تدفع ثمنها منصاعا لأنها سوق غير قانونية في المقام الأول.
منذ الحرب العالمية الثانية، تم إدخال أكثر من ستين ألف مادة كيميائية جديدة في بيئتنا. كما يتم إدخال ما لا يقل عن ألف مادة كيميائية جديدة في بيئتنا في كل عام. وتستخدم مبيدات الأعشاب ومبيدات الآفات ومبيدات الفطريات في إنتاج معظم أطعمتنا. وقد أظهرت لنا الأبحاث الطبية أن جميع هذه المواد الكيميائية تزيد من الإجهاد التأكسدي عند استهلاكها. صحيح أن بعضها أخطر من غيرها، ولكنها جميعا تنطوي على مخاطر صحية محتملة. وقد سمحت هذه المواد الكيميائية لصناعة الأغذية بأن تقوم بإنتاج كميات من الغذاء غير مسبوقة. ولكن ما أثر هذا على صحتنا؟
الأشعة فوق البنفسجية Ultraviolet
من المعروف أن بشرة الإنسان تتعرض لأشعة الشمس قبل أن يبلغ العشرين من عمره بقدر يوازي ثلثي ما تتعرض له خلال بقية سنوات حياته. وهذا يعني أنك قد تعرضت بشرتك على الأرجح للأشعة فوق البنفسجية الضارة.
أظهرت العديد من الدراسات المختلفة أن الأشعة فوق البنفسجية تقوم بإنتاج مزيد من الجذور الحرة في بشرة الإنسان. وقد ثبت أن هذا بدوره يضر بالحمض النووي في خلايا بشرتنا، ويؤدي في النهاية إلى الإصابة بسرطان البشرة. توفر هذه الدراسات أفضل دليل مباشر على أن الإجهاد التأكسدي يؤدي إلى الإصابة بالسرطان.
إن ضوء الأشعة فوق البنفسجية المتوسطة هو الجاني الرئيسي المسئول عن أشعة الشمس المحرقة، ولكن ضوء الأشعة فوق البنفسجية المتوسطة وطويلة الموجات يزيد إنتاج الجذور الحرة في البشرة؛ ما يسبب الإجهاد التأكسدي في البشرة. عند وضعك واقي الشمس المفضل لديك، والذي يحتوي على عامل حماية ثلاثين فما فوق، فأنت تحمي نفسك من ضوء الأشعة فوق البنفسجية المتوسطة الموجات في المقام الأول. وهذا يسمح لنا بالبقاء في الشمس لفترة أطول لأننا لا نصاب بحروق الشمس. ولكن واقيات الشمس هذه لا توفر الكثير من الحماية ضد ضوء الأشعة فوق البنفسجية طويلة الموجات، ما يزيد كثيرا من إنتاج الجذور الحرة في البشرة، وهذا قد يفسر جزئيا لماذا شهدنا زيادة قدرها خمسة أضعاف في الإصابة بسرطان البشرة خلال السنوات العشرين الماضية.
ولكن أخيرا بدأنا في رؤية واقيات للشمس في الأسواق توفر الحماية ضد الأشعة فوق البنفسجية المتوسطة وطويلة الموجات. ولا أحتاج للتأكيد أن هذا هو نوع واقيات الشمس الذي عليك شراؤه لحماية نفسك وأطفالك ضد حروق الشمس والإصابة بسرطان البشرة. كما أشجع الجميع على مراقبة بشرتهم تحسبا لظهور أي نمو غير عادي أو تغيير في الشامات المصطبغة.
الأدوية والإشعاع
إن كل دواء أصفه يسبب زيادة الأكسدة في الجسم. وتعمل أدوية العلاج الكيماوي والإشعاعي في المقام الأول على إحداث إجهاد تأكسدي للخلايا السرطانية لقتلها. وهذا هو السبب الرئيسي في أن المرضى يلاقون صعوبات جمة في تحمل مثل هذه الأدوية والعلاجات. كما أن زيادة الإجهاد التأكسدي تسبب أضرارا جانبية للخلايا السليمة.
من المهم أن نتذكر أن كل دواء هو في الأساس مادة غريبة على للجسم، والذي يتعين عليه العمل بجد كي يتمكن من معالجتها والقضاء عليها، وهذا يضع مزيدا من الجهد على عاتق العديد من المسارات الأيضية في الكبد والجسم ككل. وبالتالي يزيد من إنتاج الجذور الحرة؛ ما قد يسبب الإجهاد التأكسدي.
لقد أصبح العالم الصناعي في القرن الحادي والعشرين أكثر اعتمادا على الأدوية. ومن الواضح أن استهلاك الأدوية في الولايات المتحدة وفي العالم يتصاعد على الدوام. على الرغم من أن كل دواء تم اختباره لإظهار أنه يوفر فائدة، كان يحمل أيضا مخاطر كامنة. تعتبر الآثار الجانبية للأدوية هي السبب الرئيسي الرابع للوفاة في الولايات المتحدة. هذا صحيح: الأدوية الموصوفة بشكل سليم هي المسئولة عن أكثر من مائة ألف حالة وفاة، ومليوني حالة إيداع بالمستشفيات في الولايات المتحدة في كل عام. ويرجع جزء كبير من المخاطر الكامنة في الأدوية إلى الإجهاد التأكسدي الذي قد تسببه هذه الأدوية.