الاحتياطي المعرفي cognitive reserve مصطلح واسع الانتشار يشير إلى قدرة المرء العامة على أن يتمتع بدماغ سليم قوي يمكنه معالجة أحداث متضادة. يُلاحظ الاحتياطي المعرفي غالباً في أفراد لديهم معدّل ذكاء (IQ) مرتفع، ومهنة صعبة، ومستوى عالٍ من التعليم، وتاريخ مشاركة في نشاطات فراغ صعبة. يُظنُّ أن هذه العمليات تقود إلى “معالجة عصبية” (مثال: استخدام أكثر كفاءة للدماغ وقدرة دماغية أفضل) وتساعد في بناء احتياطي معرفي قد لا يكون موجوداً في أفراد من دون هذه الصفات. كما يُلاحظ، يتمتع أفراد لديهم احتياطي معرفي بقدرة أكبر على معالجة أمراض دماغية مختلفة (مثال: حالات مرضية مثل داء ألزهايمر)، ويمكن استخدام قدرة الاحتياطي هذه للتعويض عن حالات خلل بنيوية لإنجاز أهداف سلوكية ووظيفية مرغوبة. إذا كنت تقرأ هذا ولم تحظَ إلا بشهادة دراسة ثانوية، أو لم يكن عملك صعباً جداً، فربما تشعر أنك فاشل، لكن لا تخَفْ – لست كذلك! في الواقع، سيكون الاهتمام بتغيير حالتك العقلية الحالية إلى الأفضل في أي مرحلة مفيداً لك.
تشير فرضية الاحتياطي المعرفي إلى أن امتلاك احتياطي معرفي كبير يؤدي إلى دماغ أكثر “مرونة” و”مطواعاً” يمكنه التعامل مع تغييرات مرتبطة بأمراض عصبية (أمراض بيولوجية مثل داء ألزهايمر) أو أذيّة وعائية (تغييرات في بنية الدماغ وأوعية دموية)، التي تؤخر غالباً أفراداً كثيرين عن إظهار، أو ملاحظة، أو الإبلاغ عن أي حالات خلل معرفي. في الواقع، قد يُتوفى كثير من الأفراد الذين يتمتعون بحالة “معرفية ممتازة” من دون أن يختبروا حتى أي مشكلات مهمة في أدائهم المعرفي (بالرغم من ذلك، تشريحياً، قد تكون أدمغتهم متأثرة كثيراً)، وسيكون هذا مثالياً لأغلبيتنا.
عامل التعليم
أحد الأسئلة الرئيسة التي يتوثّق الباحثون منها هو إن كان ارتفاع مستوى التعليم يحمي الحالة المعرفية (عمليات التفكير) حين يتقدّم المرء بالعمر. الطريقة الرئيسة التي يمكن بها فحص هذه المسألة هي عبر بحث علم أوبئة (سكاني). يعدُّ البحث الوبائي أحد أفضل مصادرنا للمعلومات؛ لأنه يرتبط بتحديد مستويات التعليم، ومعدلات الموت، وحالات الخلل المعرفي، والعمر. فحصت دراسة حديثة في الولايات المتحدة مستويات التعليم على أنها مُحدّدات تلف معرفي لدى أفراد يبلغون من العمر خمساً وخمسين سنة وأكبر، وأظهر هذا البحث أن رجالاً ونساء مثقفين يستفيدون كثيراً من المستويات العالية لتعليمهم، كما قيس عبر معدلات منخفضة لحالات الخلل المعرفي التي يعانونها في أثناء تقدّمهم بالعمر. يشير التعليم العالي في هذه الدراسة إلى أولئك الذين يحوزون إجازة جامعية، أما أفراد مع مستويات تعليم منخفضة فهم أولئك الذين لم يُنهوا التعليم الثانوي، وأظهرت نتائج من هذه الدراسة أن معدّل إصابة رجال ونساء بيض بخلل معرفي يزيد 10 بالمئة إن كانوا في المجموعة التعليمية الأدنى، في حين إن احتمال إصابة رجال ونساء سود بخلل معرفي هو الأعلى إن كانوا ينتمون إلى تلك المجموعة التعليمية، بمعدّل 49 بالمئة للنساء و57 بالمئة للرجال. تشير هذه القيم إلى أن التعليم يلعب دوراً مهماً في خفض أعراض مرتبطة بخلل معرفي. بالرغم من أن الهدف دائماً هو التحكّم بالعوامل الاجتماعية-الاقتصادية، ينبغي أن نتذكّر أن النتائج قد تتأثر بناءً على حال حياة الفرد، وأيضاً حدّد هؤلاء الباحثون أن مستوى تعليم أعلى مرتبط بزيادات في مأمول الحياة. لاحظت الدراسة أن رجالاً أعلى تعليماً يعيشون خللاً معرفياً 1.6 سنة أقل من أولئك المنتمين إلى مجموعة تعليمية أدنى، ونساء أعلى تعليماً تعشن من دون خلل معرفي 1.9 سنة أقل من نساء أدنى تعليماً.
المثير للاهتمام أن هؤلاء الباحثين فحصوا أيضاً عوامل مثل التدخين ومؤشر كتلة الجسم (BMI) المرتبطة بالخلل المعرفي ومأمول الحياة. ليس مفاجئاً أن عوامل تزيد مدة الحياة تتضمن أن يكون المرء امرأة وألا يدخن. على كل حال، كانت النتيجة النهائية أن أفراداً حققوا مستويات عالية من التعليم هم فقط الذين ينخفض لديهم معدّل الخلل المعرفي حين يتقدّمون بالعمر. بالرغم من أن مؤشر كتلة الجسم لم يلعب دوراً في الحالة المعرفية، إلا أن التدخين كان له أثر واحد، وشرح هؤلاء الباحثون أنك إذا كنت مدخّناً، فالنبأ السار أن وقت إصابتك بخلل معرفي سيكون أقل، والنبأ السيئ أنه يُتوقّع أن تموت في عمر أبكر كثيراً (لهذا يكون وقت إصابتك بخلل معرفي أقل). بإيجاز، يربط هذا البحث بوضوح التعليم والتدهور المعرفي، لكنه لا يفصل مستويات التعليم عن أفراد يتمتعون بعادات معرفية جيدة أو أولئك العاملين في مهن صعبة معرفياً.
نمط حياة معرفي عالٍ
لقد دلّت دراسة في المملكة المتحدة أن أفراداً بعمر الخامسة والستين إلى الحادية والثمانين ويحرزون نقاطاً عالية في “نمط حياة معرفي”، حُسبت بالنظر إلى التعليم ومستوى الاشتراك في نشاطات ذهنية معقّدة، تنخفض لديهم مخاطر الخلل المعرفي. يمتلك هؤلاء الأفراد أيضاً قدرة أكبر على العودة إلى حالة المعافاة بعد مدّة خلل، وأظهرت هذه الدراسة أيضاً أنه إذا كان أولئك الذين يتمتعون بنمط حياة معرفي عالٍ في حال خلل حادّة، يكون احتمال وفاتهم أكبر. أظن أن هذه النقطة تُظهر أن أشخاصاً يتمتعون بنمط حياة معرفي عالٍ يستطيعون تفادي الخلل بفاعلية كبيرة ووقت طويل، وأنهم عندما يصلون إلى حالة خلل حادّة، يكونون قد تعرّضوا من غير دراية منهم إلى ضرر كبير في أدمغتهم، وقد ينتج عن ذلك أنه عند بلوغهم النقطة الحرجة لا يتمكّنون من تلطيف تأثيرات “سكتة دماغية”، ما يجعل الفرد يتحمّل التأثير الكامل للسكتة. كان الاكتشاف الرئيس لدراسة المملكة المتحدة أنك إذا تمتّعت بنمط حياة معرفي عالٍ، فستحظى على الأرجح بصحة معرفية أفضل حين تتقدّم بالعمر وقدرة أكبر على الاستجابة لتحدّيات معرفية.
تشير أبحاث إضافية تفحص أمراضاً وإصابات في أفراد متقدّمين بالعمر أنه يمكن التخفيف من التأثيرات نتيجة مستوى الفرد من التعليم أو مكتسبه المهني. في الواقع، لقد أظهرت إحدى الدراسات هذا عبر فحص 249 مشاركاً مصاباً ب “شلل دماغي” معرّف نتيجة إما حادثة وعائية دماغية (أي جلطة) أو وباء من نوع داء ألزهايمر. ينخفض احتمال ظهور أعراض مرتبطة بأمراض في أفراد إذا كانوا قد حظوا بمستوى تعليم أعلى أو مهنة عالية “الجودة”. مهم أن نلاحظ أن هؤلاء الباحثين استخدموا بيانات إحصائية ولم يضعوا تمايزات دقيقة لما يمكن أن يعدَّ مهنة صعبة معرفياً. بدلاً من ذلك، استخدموا عوامل تبويب مثل “إداري أو مهني” لتحديد مهن عالية الجودة، وهذا نظام تصنيف واسع جداً. يستطيع المرء بالتأكيد شغل منصب مهني لكنه يشترك أيضاً في الروتين نفسه كل يوم، من ثم بالرغم من أن العمل قد يكون “مهنياً”، إلا أن نشاطات ذلك العمل قد تكون عادية وسهلة، وأودُّ تقديم مثال في هذه المرحلة. على كل حال، خوفاً من تلقي آلاف الرسائل التي تشرح لي كيف أن عملاً معيناً صعب جداً، سأترك لك تحديد ذلك ومناقشته مع أصدقائك.
بنية الدماغ، وثنائية اللغة، والاحتياطي المعرفي
لقد أشارت أبحاث فحصت بنية الدماغ والاحتياطي المعرفي إلى أن أفراداً يتمتعون باحتياطي معرفي أكبر يحظون، عموماً، بأدمغة أكبر ويكون نشاطهم الدماغي أقل حين ينفّذون مهمات. بالرغم من أن “نشاطاً دماغياً منخفضاً” يبدو مثل شيء سيئ، يُظنُّ أن ذلك يحدث؛ لأن أفراداً أصحاء يستخدمون “موارد أدمغتهم” بكفاءة أكبر. أظهرت أبحاث بشأن هذا الموضوع أن حجم أدمغة أفراد يتمتعون باحتياطي معرفي أعلى، ويعانون خللاً معرفياً معتدلاً أو داء ألزهايمر تكون أكبر من أولئك الأفراد الذين يفتقرون إلى احتياطي. من ثم، قد تؤثر البنية الدماغية التشريحية الحقيقية على القدرة المعرفية، وسيبلي أفراد باحتياطي معرفي أكبر أفضل كثيراً بنيوياً حين يتقدّمون بالعمر، حتى إن أُصيبوا بمرض.
هذه الأفضلية الدماغية البنيوية (أي زيادة المناطق الدماغية لضمان مستوى ملائم من الوظيفية) قد لوحظت أيضاً في أفراد يتقنون لغتين بفصاحة. لقد أظهر البحث أن أفراداً يتقنون لغتين ومصابين بداء ألزهايمر قد تعرّضوا لانكماش كبير في حجم الدماغ في أجزاء لوحظ أنها مرتبطة بداء ألزهايمر، وبالرغم من أن هذه المجموعة تعاني ضموراً دماغياً أكبر في أجزاء دماغية مهمة، إلا أنهم أظهروا قدرة معرفية مشابهة لنظرائهم الذين يتقنون لغة واحدة ويعانون ضموراً دماغياً أقل. يظنُّ الباحثون أن ثنائية اللغة عامل يمكن أن يسهم في تأخير الأعراض المرتبطة بخلل معرفي، وأن هؤلاء الأفراد ثنائيي اللغة يستطيعون العمل عند مستويات أعلى من المتوقع بمواجهة ضمور دماغي أكبر. إضافة إلى هذا، استنتج عمل سابق لهذا الفحص أن أعراض داء ألزهايمر يمكن أن تتأخر كثيراً؛ ربما مدة تصل إلى خمس سنوات، في أفراد يمتلكون قدرة لغتين. من ثم، يبدو أن طريقة رائعة لزيادة احتياطيك المعرفي وكفاءة وظيفة الدماغ هي استخدام لغة ثانية قدر المستطاع، ويمكن رؤية هذا على أنه طريقة ل”تمرين” دماغك، وإبقائه نشيطاً وسليماً.
سأقترح أيضاً أن تعلّم لغة جديدة في وقت متأخر من الحياة قد يساعد في بناء “شبكة” علاقات دماغية، فجدّة تعلّم كلمات جديدة قد تُنتج وضعاً يحتاج فيه دماغك إلى التكيّف والنمو وتطوير طرق جديدة ليكون ناجحاً. لا أعرف أي دليل مباشر يُظهر أن تعلّم لغة جديدة في وقت متأخر من الحياة سيؤخر بالتحديد الخلل المعرفي شهوراً أو سنوات محدّدة، لكن البديل سيكون ألا تفعل شيئاً، وكما يقولون: “من لا يغامر بشيء لا يكسب شيئاً”. أظن أن تنشيط الدماغ بطرق مختلفة، منها اكتساب لغة جديدة، مفيد من دون شك في معظم الحالات، وربما يغيّر، كما رأينا آنفاً، أداءك المعرفي بنحو إيجابي.
الاحتياطي المعرفي ومعدّل الذكاء
هل يؤثر التمتّع بمعدّل ذكاء أعلى على الخلل المعرفي حين يتقدّم المرء بالعمر؟ حتى الآن، الاقتراح أن التعليم يبدو السبيل الأمثل لضمان حيوية معرفية أفضل حين التقدّم بالعمر. على كل حال، هناك أبحاث أظهرت أن معدّل الذكاء قد يؤثر على الأداء المعرفي، والقضية الرئيسة في فحص تأثير معدّل الذكاء هو محاولة فصله عن مستوى إنجاز الشخص في التعليم والمهن. كما يمكن أن تتخيّل، إذا كنت تتمتّع ب “معدّل ذكاء” أعلى من العادي، فستتّجه نحو درب مهنة أكثر صعوبة، وتنتابك رغبة قوية بالتعلّم قد ينتج عنها إنجاز تعليمي أكبر.
فحصت إحدى الدراسات وجود عته وخلل معرفي معتدل فيما يتعلق بمستوى معدّل ذكاء الفرد مقيساً في سن المراهقة، ونحّى الباحثون جانباً عاملي التعليم والجنس (من ثم أُبعد هذان المتغيّران عن التأثير على النتيجة). كان ما وجدوه أن أشخاصاً يتمتعون بمعدّل ذكاء عالٍ في المراهقة قد انخفض لديهم خطر الإصابة بعته أو خلل معرفي معتدل حين يتقدّمون بالعمر. إضافة إلى هذا، أشار الباحثون إلى أنه كلما زاد مستوى نشاط (مجموعاً من بيانات كتب سنوية) أفراد في شبابهم، انخفضت حالات إصابتهم بعته أو خلل معرفي معتدل لاحقاً في حياتهم. حدَّ من هذه الدراسة، طبعاً، عدد من القيود، مثل عدم وجود طريقة للأخذ بالحسبان مستوى نشاط الأفراد خارج فعالياتهم المدرسية، وإضافة إلى هذا، لم يكن إجراء استطلاع هاتفي لتشخيص وجود عته (كما فعلوا في هذه الدراسة) طريقة صحيحة لتحديد مستوى الخلل المعرفي. بالرغم من ذلك، النتائج مثيرة جداً للاهتمام وتشير إلى أن التمتّع بمعدّل ذكاء عالٍ قد يكون مفيداً حين يتقدّم المرء بالعمر. سأقدّم فكرة إضافية أخرى عن هذا البحث: أفراد يتمتّعون بمعدّل ذكاء أعلى من العادي يهتمون بعدد من الموضوعات والنشاطات المعرفية المتنوّعة، وقد يكون الاشتراك المستمر في هذه النشاطات هو ما يساعدهم في الحفاظ على دماغ سليم. إضافة على هذا، لاحظت الدراسة أن أفراداً يشاركون في عدّة نشاطات في المدرسة يتمتّعون أيضاً بحماية أفضل من الخلل المعرفي حين يتقدّمون بالعمر. مجدداً، ربما لا يكون الاشتراك الباكر في هذه النشاطات، إنما سمة شخصية طبيعية تستمر على الأرجح في أثناء البلوغ حين الاشتراك في نشاطات جديدة ومتنوّعة هي التي تحافظ على الدماغ سليماً ومعافى. إذا كان، في الواقع، هذا الاشتراك المستمر، كما أقترح، يضمن حالة معرفية سليمة، فسيكون النبأ السار أن الوقت لا يتأخر أبداً للبدء بذلك.
هل تستطيع مهنة صعبة ملأ الفجوة؟
إحدى الأسئلة المهمة جداً التي يطرحها أفراد غالباً هي: هل تعليم أساسي ضروري لضمان صحة معرفية جيدة، أم تستطيع مهنة ملأ الفجوة؟
جزئياً، للإجابة عن هذا السؤال، أودُّ تسليط الضوء على بعض الأبحاث من دراسة على سائقي سيارات أجرة لندن. يُقدّم سائقو سيارات الأجرة، على أنهم مجموعة دراسة، تمثيلاً جيداً عن العامّة، وقد شارك ستة عشر شخصاً في هذا البحث، بمتوسط عمر يبلغ الرابعة والأربعين وأكبرُ مشارك يبلغ الثانية والستين. بالاستفادة من مجموعة تحكّم (أشخاص ليسوا سائقي سيارات أجرة)، فحص الباحثون أدمغة هاتين المجموعتين السكانيتين ليروا إن كان بمقدورهم تحديد أي اختلافات بنيوية في حجم الدماغ، والمثير للدهش أنهم وجدوا حجماً دماغياً أكبر في خلفية قرن آمون (جزء مسؤول عن قدرتنا على إنجاز مهمات ذاكرة مرتبطة بالبحث المكاني). إضافة إلى هذا، كلما طالت مدة عمل المرء سائق سيارة في لندن، ازداد حجم هذا الجزء الدماغي. يشير هذا البحث إلى أن المرونة العصبية مكوّن حقيقي جداً في قدرتنا على التكيّف مع تحدّيات الحياة، ويمكن ملاحظتها عبر تغييرات حقيقية في بنية الدماغ. إضافة إلى هذا، كانت زيادة القدرة في هذه الحال مرتبطة مباشرة بتغييرات الدماغ، من ثم يستطيع المرء القول إن طبيعة العمل، الذي لا يتطلّب عدّة سنوات من التعليم أو معدّل ذكاء عال، ترتبط فعلياً بنشوء مرونة عصبية ونمو عصبي في الدماغ. هذه النتيجة نبأ مثير جداً للاهتمام لأولئك الذين لم يحظوا بالفرصة، لأي سبب كان، لإكمال تعليمهم لكنهم يعملون بالرغم من ذلك في مهن صعبة جداً، وقد يكون الأمر أن تلك المهن تُبقي هؤلاء الأفراد متحفّزين معرفياً. إضافة إلى ذلك، أبرز هذا البحث الحقيقة المهمة أن كل الأفراد، بجهد مستمر، يتمتعون بالقدرة على تغيير بنيتهم الدماغية ومهاراتهم المعرفية؛ تغييرات قد تبقى ثابتة أمداً طويلاً. من الصعب القول إلى أي حد قد ينتقل هذا إلى أجزاء أخرى من الدماغ، لكن الدليل يبدو واعداً جداً ويشير إلى أن تنشيط كل الأجزاء سيكون مفيداً جداً.
قام عدد من الباحثين بإجراء دراسات تفحص المهنة والأداء المعرفي، وقوّمت إحدى الدراسات 357 فرداً، 122 منهم مصاباً بداء ألزهايمر. سُئل الأفراد عن مهنهم وسماتها في حياتهم العملية (مثلاً: في العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من أعمارهم). وجد الباحثون أن سمات المهن تتغير في سياق حياة المرء، وبالتحكّم إحصائياً بهذه التغييرات، ظنّوا أن بمقدورهم إظهار السمات المهنية والمهن التي تتطلّب قدرة ذهنية عالية في حياة عمل المرء المرتبطة بخفض احتمال التعرّض لداء ألزهايمر. دعمت نتائج البحث في الواقع هذه النظرية، واستطاع هؤلاء الباحثين إثبات أنه كلما كانت المهنة ومتطلّباتها أكثر صعوبة ذهنياً، انخفض احتمال إصابة الفرد بخلل معرفي، وينتج عن مهن تتطلّب قدرات جسدية عالية لكنها ليست صعبة ذهنياً أوضاعاً يتعرّض فيها أفراد إلى احتمال أكبر للإصابة بخلل معرفي حين يتقدّمون بالعمر. كانت هذه الاستنتاجات متوافقة مع دراسات أخرى، وساعدت في دعم اقتراح أن أولئك العاملين في مهن يدوية معرّضون لخطر أكبر للإصابة باضطرابات مرتبطة بالعته. يشير هذا، إذاً، إلى أن مهناً صعبة ذهنياً توفّر فائدة أكبر لضمان صحة معرفية حين نتقدّم بالعمر. على كل حال، ما نفتقر إليه هو بعض المعلومات عمّا يفعله هؤلاء الأفراد بعد قيامهم بأعمالهم، وسأزعم أن أفراداً يعملون في مهن صعبة يستمتعون بنشاطات صعبة حتى سنوات تقاعدهم، وقد يكون هذا عاملاً مهماً في تحديد طريقة معافاتهم معرفياً حين يتقدّمون بالعمر.
قد ينتابك قلق الآن إن لم تكن تعمل في مهنة صعبة، من ثم يزداد احتمال تعرّضك لخلل معرفي، لكن لا تخف! هذا بالتأكيد ليس عاملاً حاسماً، ولا يعني أنك ستعاني في النهاية خللاً معرفياً. هناك أفراد كُثر يقومون بأعمال يدوية لكنهم يستمتعون بنشاطات فراغ صعبة، والمثير كفاية للاهتمام أن باحثين أظهروا أن أشخاصاً يشاركون في أنواع معينة من نشاطات الفراغ يكونون أقل عُرضة للإصابة بخلل معرفي حين يتقدّمون بالعمر. مثلاً، معروفٌ أن أفراداً قد تعلّموا مهارة جديدة، أو درسوا موضوعاً جديداً، أو واجهوا مشكلات صعبة ذهنياً في أوقات فراغهم أقل عُرضة للإصابة بخلل معرفي حين يتقدّمون بالعمر. هذا الدليل نبأ سار لأفراد يعملون في مهن يدوية وفرصهم في قضاء يوم عمل محفّز ذهنياً محدودة، وقد يكون قضاء وقت فراغك مشاركاً بفاعلية في نشاطات تحفيزية ذي فائدة معرفية كبيرة حين تتقدّم بالعمر.
قبل أن أنتقل إلى بعض الأفكار لإيجاد احتياطي معرفي جيد، سأودُّ إبراز بعض الأدلّة العلمية بشأن إيجاد الاحتياطي المعرفي وطريقة ذلك. لفعل هذا، أريد أن أناقش بإيجاز مفهوم تخلّق النسيج العصبي، الذي يعدُّ العملية التي يُنتج بها دماغنا عصبونات. تجري هذه العملية أساساً في أثناء تطور الدماغ، لكنها قد تجري في البلوغ وتكون محدودة عموماً بمناطق معينة من الدماغ (مثال: المنطقة الحُبيبية والتلفيفة المسننة). على كل حال، إذا تعرّض شخص لنموذج ما من الأذية الدماغية، قد يحدث تخلّق نسيج عصبي في هذه الأجزاء المتضررة، وهذه المرونة تُلحظ غالباً في مرضى الجلطات، حيث يبدؤون استعادة كمٍّ مهم من قدرتهم المفقودة في الأيام الباكرة اللاحقة لحادثة الجلطة. كيف تتلاءم المرونة العصبية مع ظاهرة الاحتياطي المعرفي؟ أحد الآراء هو أنه عندما تنتج أدمغتنا مزيداً من العصبونات، توجد في الواقع احتياطياً عصبياً. مهم أن نلاحظ أننا جميعاً نمتلك القدرة على إحداث نمو عصبي، وتموت كثير من العصبونات الجديدة لأننا لا نحتاجها غالباً إن لم نشترك في تعلّم أشياء جديدة. من ثم، الاشتراك بفاعلية في أحد نماذج تعلّم جديدة ينتج نمواً ويسمح بتطوّر روابط جديدة، ولأننا قد أوجدنا عدداً من الروابط الجديدة، نرى نمواً تشريحياً حقيقياً (كما في مثالنا عن سائقي سيارات أجرة لندن). ما قد يعنيه هذا لفرد هو أنه إذا “تضرّر” دماغه، أو دماغها (أي تأثر بمرض أو أذية)، فسيكون لديه أو لديها موارد إضافية عبر روابط عصبية إضافية للتعامل مع هذه الأحداث، ما ينتج “مسارات” أو “روابط” بديلة، بهدف إنجاز نشاط سلوكي محدّد وبإجهاد محدود، أو من دون جهد، على أدمغتنا.
قد تظن الآن أن “كل هذا جيد ورائع لأفراد شباب، لكنني طاعن في السن، وأنا واثق بأن هذا لن يُجدي نفعاً بالطريقة نفسها معي”. حسناً، إلى حد معين هذا صحيح، فالأمر لا يجري بالطريقة نفسها؛ لأنه عندما يتقدّم المرء بالعمر تتباطأ العملية. على كل حال، العملية لا تختفي، وتبقى خلايا المرء قادرة على النمو وإنشاء روابط جديدة في أثناء الحياة. من ثم، قد يقترح شخص أن كلاباً عجوزة يمكن أن تتعلّم خدعاً جديدة – ينبغي أن تعمل وقتاً أطول قليلاً.
أفكار لإنشاء احتياطي معرفي جيد
أفضل طريقة لإنشاء احتياطي معرفي جيد تكون بإنشاء بيئة تزدهر فيها عملية تخلّق النسيج العصبي، وهناك عدّة طرق يمكن فعل هذا بها. مثلاً، نعرف أن التمارين الجسدية تحفّز النمو، وبيئة ثرية يمكن أن تُحدث أيضاً تغييرات دماغية. من ثم، قد يكون القيام بعدد من النشاطات الصعبة والمثيرة للاهتمام حول منزلك مفيداً لدماغك، وأن تحظى بالفرصة لتعلّم أشياء جديدة طريقةٌ ممتازة لتحفيز النمو. إضافة إلى هذا، يعدُّ تجريب نشاطات جديدة عموماً طريقة رائعة للمساعدة في تعزيز احتياطيك المعرفي. أودُّ أيضاً إبراز أن احتياطياً معرفياً جيداً يحدث حين نطوّر عادات جيدة، لذا ربما يكون الالتزام بروتينٍ يتضمن نشاطات جديدة طريقة ممتازة لضمان بقائك على السكّة الصحيحة.
قد تكون كل هذه الاقتراحات مفيدة جداً، لكن مهم أن نتذكّر أنه في أثناء إنشاء هذا النوع من البيئة ينبغي أن تكافح أيضاً لتحدَّ من العمليات السيئة على دماغك، فأشياء مثل إجهاد كبير قد تُفرز هرمونات سيئة لتخلّق النسيج العصبي. سيحدُّ عدم الاشتراك في نشاطات جديدة قدرتك على إنشاء احتياطي معرفي جيد.
فكرة أخيرة هي إيجاد مجموعة أو صديق يلتقي بك في وقت محدّد سابقاً من اليوم للمشاركة في نشاط محدّد سلفاً (مثال: حضور صف، أو ربما لعبة أو نشاط جديد يحفّز الدماغ). هذه طريقة جيدة لضمان بقائك على المسار الصحيح، وربما جعلك تجهّز نفسك كل أسبوع لتحدٍّ جديد.