إن الانتحار شيء مزعج جدا لأنه يبرز أسئلة مخيفة عن طبيعة الإنسان وبالتالي عن أنفسنا. إن الأفعال تتحدث بصوت أعلى من الكلمات والانتحار يقول بأعلى صوت ممكن إن المنتحر لا يقبل بتلك الاعتقادات عن الحياة التي تبدو أمورا واضحة بالنسبة إلينا.
قد يكون قانون الحفاظ على الحياة هو قانون الطبيعة الأول لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للمنتحر. فالمنتحر بشكل أو آخر يتصور إنه حيثما يوجد الموت يوجد الأمل.. إنه يهتم بشكل قليل بحقه بالحياة الذي لا يمكن التصرف به.. كذلك الأمر بالنسبة إلى الحرية والسعادة اللتين وهبهما الله له وأعلنتا في كل أصقاع الأرض أنهما حق لكل الإنسان.
وبينما يملك المنتحر دوافع الانتحار فإن منطقه الذي يتبعه يختلف عن المنطق العام والفهم السليم وفيما عدا حالات نادرة يكون دافع الانتحار فيها عذابا شديدا أو مرضا عضالا فإنه من الصعب علينا فهم أسباب الانتحار بمفاهيمنا العادية. والمعتقد أن المنتحر يظن أنه بانتحاره يكسب شيئا أثمن من الذي فقده لذلك نظن أن منطق الانتحار حالم وغريب.. ولكي نفهم المنتحر ونظهر دوافعه الحقيقية يجب أن نتبع آثار أولئك الذين انتحروا، عن طريق معارفهم والقصص والأشعار التي تركوها والتي ترجموا فيها دوافعهم، ولكن يجب أن ننتبه الى أن دوافعهم قد تكون مخبأة عن أعماق أنفسهم في عالم اللا شعور.
نسب الانتحار
إن فهم دوافع الانتحار ليس بالأمر الأكاديمي الصرف. إنه يفيد بشكل عملي في جعلنا بوضع أفضل لمنع هذه الحوادث المأساوية بين المرضى الذين نراهم.
تشير الاحصاءات إلى أن الانتحار هو السبب الثاني للوفيات في المدن الجامعية. والسبب الرئيس للوفاة بين طلاب الطب، والسبب الثالث للموت بين عمر 19-15 سنة وهناك أكثر من 35 ألف حالة انتحار في الولايات المتحدة كل عام وحوالي 10 أضعاف هذا العدد من حالات الانتحار غير الناجحة.
إن العدد الحقيقي هو أعلى مما تظهره الإحصائيات وربما يكون أكثر من ستين ألفا في العام وهناك دائما رغبة عند المنتحر أو أهله بأن لا يعلم أحد أن سبب الوفاة هو الانتحار.
ففي الغرب عموما كثير من شركات التأمين تضع قيودا على التعويض إذا تم الانتحار خلال سنتين من إجراء عقد التأمين. وفي معظم المجتمعات إن لم يكن جميعها كثير من الناس يخفون حادثة الانتحار خوفا على سمعة العائلة وعلى الأطفال لأن الانتحار يسبب عيبا اجتماعيا وشعورا بالذنب عند الأحياء.
حقيقة لا ينتبه لها غالبا وهي أن الكثير من حوادث السيارات التي لا يعرف سببها بشكل واضح توصف بأنها عفوية وفي كثير من الحالات- حيث لا يرغب المريض بشكل شعوري بالقيام بحادث- فإنه يتصرف بطريقة يجلب فيها موته بقيادة السيارة بينما يكون ثملا، وتوصف بأنها حوادث عفوية وليست انتحارا.
يمكن أن أضيف إلى أسباب نقص أرقام الإحصائيات عن الواقع شعور الطبيب بالذنب إذ غالبا ما يكون المريض قد زار طبيبه قبل انتحاره بأيام. وفي إحدى الإحصائيات المعاصرة في الولايات المتحدة الأمريكية تبين أن %80 من المنتحرين قد زاروا طبيبا خلال 6 أشهر من الانتحار، و %50 منهم قد زاروه خلال شهر أو أقل.
للأسف غالبا ما يساعد الطبيب مريضه على الانتحار بدلا من منع حدوثه. إن حوالي %20 من الحالات قد تمت باستعمال أدوية مهدئة موصوفة من قبل الطبيب. في إحدى الدراسات كان %50 من المنتحرين قد حصلوا على الدواء بوصفة واحدة من طبيبهم. وهكذا يمكنني القول إن الطبيب هنا وكأنه يضع المسدس في يد المريض رغم علمه أن المريض يمر بحالة اكتئاب.
وبائيات الانتحار
– الانتحار هو السبب التاسع المؤدي للموت في الولايات المتحدة الأمريكية بعد مرض القلب والسرطان والنشبة الدماغية ومرض الانسداد الرئوي المزمن والحوادث وذات الرئة وداء السكري وAIDS.
– معدل الانتحار في الولايات المتحدة الأمريكية هو وسط نسبته في المناطق الأخرى النامية.
لننظر في البداية لنوعية الأشخاص الذين انتحروا. يظهر الانتحار في الذكور المتقدمين بالعمر، المنعزلين (غير المتزوجين، المطلقين، المنفصلين)، وهناك الذين يعيشون في أمكنة منعزلة، الذين يعانون من البطالة، الأمراض الانفعالية والجسدية، فقد أحد الأبوين قبل عمر 15 سنة بالموت أو الانفصال أو الطلاق (ضعف النسبة المتقدمة)، دخول لمشفى نفسي سابق (12 ضعف المتوقع)، محاولة انتحار سابقة (20 ضعف المتوقع). الطبيب الذكر (%15 أكثر من المتوقع)، الطبيبة (4-3 أضعاف المتوقع)، الحالة الاقتصادية السيئة، أعياد الميلاد (%10-5 زيادة)، الأميريكيون الهنود (ضعف النسبة المتوقعة)، المحارب القديم الذي دخل المشفى النفسي سابقا أو حاول الانتحار في الماضي (90 ضعفا)، وعلى كل تنخفض هذه النسب بشدة خلال الحروب، الاضطرابات الكبيرة، الانتفاضات الشعبية.
تشير الدراسات والإحصائيات أن %70 من المنتحرين رجال، 4/3 حالات الانتحار تقع بعد سن 40، وهو أعم بين البيض من الزنوج، وعلى كل تشير الدراسات والإحصاءات الأخيرة بأن النسبة هي في ارتفاع سريع بين السود والنساء.
بشكل عام النساء يحاولن الانتحار أكثر من الرجال لكن الرجال ينجحون بنسبة أكبر. والرجال هم ضحايا 3 من 4 محاولات انتحار ناجحة. لماذا ينجح الرجال بينما تفشل النساء؟.. السبب ربما كون الرجل يحتفظ بمشكلته لنفسه دون طلب المساعدة من الآخرين ويستعمل وسائل أكثر عدوانية وأذى مثل الأسلحة النارية والتردي من عل، والطعن بينما تستعمل النساء وسائل أقل حتمية مثل التسمم بالمهدئات.. وتبدو القمة عند الرجل بعمر 30-20 سنة وتتناقص النسبة حتى عمر 60 سنة ثم تتجاوز بعد ذلك القمة الأولى بعمر 79-75 حيث النسبة (1000000/50). النسبة لدى الأمريكيين الهنود والسود تصل القمة بعمر 35-25 سنة ثم تنخفض. عند النساء تتصاعد النسبة حتى عمر 55 ثم تنقص بعد ذلك. الرجال غير المتزوجين أو المطلقين لديهم نسبة تساوي ضعف المتزوجين وغالبا يكون كل المنتحرين مرضى في مشاعرهم.
عموما أكثر المنتحرين إما أن يكونوا مكتئبين أو يعانوا من الكحولية أو الإدمان على المخدرات أو فصاميين. وهكذا يمكن تلخيص الأمور التي لها علاقة بالانتحار بـ: الجنس (ذكر)، العمر (40 سنة)، الاكتئاب، الإدمان على الكحول، فقد التفكير العقلاني، نقص الدعم الاجتماعي، عدم وجود شريك الحياة، المرض (الجسدي)، خسارة علاقات حديثة، نقص تقدير الذات.
إن إحصائيات الكثير من الدول بشكل عام تعتبر صعبة للمقارنة، فهنغاريا، السويد، النمسا، الدانمرك فيها أعلى نسب للانتحار مما هو في إحصائيات الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن ماذا يعني ذلك؟ هل يعني أن إحصائيات تلك الدول أفضل من إحصائيات الولايات المتحدة الأمريكية أم أن أفراد مجتمعاتها أكثر صراحة؟.
السلوك الانتحاري
1. المحاولة
– بشكل تقريبي هناك تسع مرات محاولات انتحار أكثر من الانتحارات الحقيقية، وبشكل تقريبي %30 من الذين يحاولون الانتحار يحاولون مجددا و %10 منهم ينجحون.
– غالبا ما يرتكب الرجال الانتحار بشكل أنجح من النساء بمقدار ثلاث مرات مع أن النساء غالبا ما يحاولن الانتحار أكثر بأربع مرات مما يفعله الرجال.
2. التقييم السريري. يجب على السريريين أن يقيموا خطر الانتحار خلال كل فحص للمريض الذي ربما يكون لديه مزاج مكتئب.
– يقترح أن يبقى المريض في المشفى إذا كان التهديد خطيرا والمريض قد أدخل المشفى.
– الدخول إلى المشفى بالاكراه (دون موافقة المريض) وبشكل إسعافي قد استخدم للمرضى الذين لا يستطيعون أو لن يوافقوا على الدخول إلى المشفى ويطلبون شهادة من طبيب أو طبيبين. ويستطيع الطبيب في الولايات المتحدة الامريكية بالاعتماد على قانون الولاية الفردي أن يحتجز المريض لمدة تبلغ 60-15 يوما قبل أخذ رأي المحكمة.
عوامل الخطر
1. المراتب المتسلسلة للخطر. العوامل الأعلى خطورة للانتحار (في الترتيب التناقصي للخطر) هي:
– محاولة انتحارية جدية سابقة.
– الأكبر من عمر 45 سنة.
– الاعتماد على الكحول.
– قصة سلوك عنيف.
– الجنس الذكري.
2. الاكتئاب
– إن المرضى الذين يتماثلون للشفاء من اكتئاب شديد هم في خطر عال لارتكاب الانتحار أكثر من أولئك الذين ما يزالون مكتئبين بشدة والسبب هو أن أولئك المرضى قد استردوا وضوحا كافيا للفكر والطاقة ليتصرفوا وفق أفكارهم الانتحارية..
– الظهور المفاجئ للسلام (للأمن) في مريض مكتئب ومهتاج سابقا هو عامل خطر آخر من أجل الانتحار وهذا ربما يدل على أن المريض قد توصل إلى قرار داخلي أن يقتل نفسه وهو الآن هادئ.
– المرضى المكتئبون الذين يعتقدون أن لديهم مرضا خطيرا هم في خطر متزايد ومعظم المرضى الذين ارتكبوا الانتحار قد زاروا الطبيب مع شكوى جسدية في الأشهر الستة السابقة للقيام بالفعل.
3. المهنة
يتزايد خطر الانتحار بين النساء الماهرات وخصوصا الطبيبات. ويتضمن خطورة التعرض لكل من الجنسين من المهن التالية: أطباء الأسنان، موظفي الشرطة، المحامين والموسيقيين.
4. الخطة من أجل الانتحار
الأشخاص الذين لديهم خطة أو يمتلكون وسائل فعالة لارتكاب الانتحار (مثلا أدوية وبنادق) هم في خطر متزايد.
جدول: عوامل خطورة الانتحار
العامل | تزايد الخطر | نقصان الخطر |
الجنس | ذكر | أنثى |
العمر | • الكهل ومتوسطو العمر
• المراهق (السبب الثالث المؤدي للموت في هذه المجموعة) |
• الأطفال.
• البالغ الشاب (عمر 25-40 سنة). |
المهنة | ماهر | غير ماهر |
الطائفة والدين | • قوقازي
• يهودي • بروتستانتي |
• ليس قوقازي
• كاثوليك • مسلم |
العلاقات الاجتماعية والعمل | • غير متزوج، مطلق أو أرمل (خصوصاً الرجال)
• يعيش وحيداً.غير عامل |
• متزوج
• أنماط دعم اجتماعية قوية • لديه أطفال • عامل |
قصة عائلية | • أحد الوالدين ارتكب الانتحار (قام بالانتحار)
• الفقدان المبكر لأحد الوالدين خلال الطلاق أو الموت |
• لا يوجد قصة عائلية للانتحار.
• عائلة سليمة في الطفولة. |
الصورة النفسية | • اكتئاب شديد
• أعراض ذهانية • يأس • تهور |
• اكتئاب معتدل
• لا أعراض ذهانية • بعض الأمل • يعتقد الأشياء خارجاً |
الصحة | • مرض طبي خطير. | • صحة جيدة |
سلوك انتحاري سابق | • محاولة انتحارية جدية سابقة
• كان الإنقاذ بعيداً • أقل من 3 أشهر حتى آخر محاولة |
• لا محاولة سابقة
• الإنقاذ كان اجتنابه متعذراً • أكثر من 3 أشهر حتى آخر محاولة |
الطريقة | • جرح ذاتي من طلقة من البندقية
• تحطيم عربته الخاصة • الشنق الذاتي • القفز من مكان عالٍ |
• إفراط في تناول حبات الدواء
• شق معصمه |
آلية الانتحار
إن عوامل الخطر في الانتحار تشير إلى أن الانتحار يتشارك إحصائيا مع الثلاثية التي وصفها Karl Menninger في كتابه (الإنسان ضد نفسه) وهي:(الرغبة بقتل النفس، الرغبة بقتل الآخرين للنفس، الرغبة بالموت). والأخيرة هي نتيجة للرغبة بالاتحاد مع الأهل المفقودين.
كما أن النسبة العالية للانتحار بين الرجال عنها في النساء تقترح كون العدوانية في الرجال التي تجعل الرجال يرتكبون %85 من الجرائم هي العدوانية نفسها التي تدفعهم للانتحار. إن التغيرات الاجتماعية في حياة المرأة ساهمت في زيادة نسبة الجرائم والانتحار بين النساء في السنوات الأخيرة. إن زيادة النسبة مع التقدم بالسن تقترح أن فقد المواضيع وفقد تقدير الذات هما عاملان سابقان ومهيئان. كما أن التقدم بالعمر في المجتمعات الغربية يعني فقد المواضيع Objects loss كفقد الأصدقاء بالموت أو بالانفصال عنهم، وفقد قيمة الذات بفقد العمل، والجاذبية الجسدية. وكون قمة الانتحار عند المرأة بعمر 55 سنة في تلك المجتمعات لها علاقة بسن اليأس (الضهي)، وبنتائجه على تقدير الذات، كفاقدة للقدرة الجنسية والخصوبة. إن زيادة نسبة الحدوث عند الرجال لدى التقدم بالعمر وخاصة أثناء الأزمات الاقتصادية قد يعكس شعور المسن بنقص أهميته في السوق التجارية مما يؤثر بشكل سلبي على صورته الذاتية فيشعره بالضعف وعدم الفائدة. إن النسبة العالية للانتحار عند الأميركيين السود والهنود تعكس تصورهم الذاتي بعدم الفائدة والضعف في مجتمع لا يقدر دورهم ومشاركتهم فيه، إن فقد المواضيع قد لا يكون فقدا لشخص بل فقدا لهدف هام أو رغبة في الحياة. وقد يحدث الفقد بسبب عدم القدرة على إيجاد الهدف أو القيمة أو بسبب عدم القدرة على العيش بالمثل الخاصة للشخص.
يعتقد العلماء في الغرب أن العدوانية تتوجه نحو الذات عندما يفشل الإنسان في الحصول على الأساسيات التي وضعها لنفسه. وإضافة لذلك فإن التنقل بين أماكن مختلفة يقوم على حساب فقد العلاقات الاجتماعية مع الأقارب والأصدقاء. وإن تبني نظم قيم جديدة تختلف عن القيم القديمة التي تربى الشخص عليها خلال ماضيه قد يؤدي إلى تشوش الأفكار والاكتئاب. وقد تكون هذه الأمور هي السبب في ارتفاع نسب الانتحار بين 24-10 سنة.
الرغبة في القتل
الرغبة في القتل عند المنتحر هي رغبته في تدمير الآخرين إضافة إلى تدمير نفسه، وقد لوحظ ذلك في عدة قبائل إفريقية حيث الانتحار طريقة معترف بها اجتماعيا ينتقم فيها الشخص الضعيف عندما يشعر أنه تأذى من قبل شخص أقوى منه. فإذا أراد شخص قتل شخص آخر أقوى منه فإنه يقوم بقتل نفسه بعد أن يخبر أهله أن ذلك الشخص هو المسؤول عن موته وعندها يكون على الأهل قتل ذاك الشخص.
إن الاعتقاد في المجتمع الغربي خلال القرون المبكرة – بأن المنتحر شخص يريد الانتقام – دفعهم إلى دفن المنتحر على مفترق أحد الطرق وغرس وتد في قلبه. حيث كان يظن أن عدم اتباع هذه الإجراءات سيجعل المنتحر يتحول إلى مصاص للدماء يهاجم الأحياء. فإذا لم يكف الوتد لقتل مصاص الدماء فإن استمرار ضغط خطوات الناس على قبره سيمنعه من الخروج منه. لقد بنيت هذه الاعتقادات على أساس نفسي فالمنتحر شخص يريد الانتقام.
إن الرغبة في القتل موجودة عند كل واحد منا لكنها كامنة لا تتنشط إلا عند حدوث إحباط لآمالنا. لكن سيغموند فرويد يقول إن هذه الحقيقة مقبولة من قبل الشعراء أكثر من العلماء.
رغبة الإنسان في أن يُقتَل
إن الطفل والراشد يرغبان في إلصاق الأمنيات غير المقبولة بالآخرين. ونحن كراشدين نعرف الفرق بين الفكرة والفعل ونعرف أن الأفكار غير مؤذية. إن الطفل يعاني من صعوبة في التمييز بين الاثنين وهو يشعر بالذنب تجاه أفكاره وكأنها أفعال. وسبب شعوره بالذنب هو تمنيه الأذى لأهله الذي ألصق بهم سبب غضبه. (أنا لا أكرهكم، أنتم تكرهونني، أنا لا أريد قتلكم، أنتم تريدون قتلي).
وإذا عانى الطفل من الرفض والترك بشكل حقيقي من قبل أهله فإنه سيشعر بالغضب بشكل أكبر وهذا ما يسبب له قلقا كبيرا وشعورا بالذنب لأنه يريد أن يبقى أهله على قيد الحياة. وبطريقة معقدة لا يتسع المكان لشرحها الآن يتمثل الطفل مع والديه (التمثل مع المعتدي identification with the aggressor) ويوجه عدوانيته نحو أهله الذين جعلهم جزءا من نفسه. وهكذا يقوم المريض المنتحر بتحطيم أهله الذين أصبحوا جزءا منه وبالوقت نفسه يكون قد عاقب نفسه على أمنياته الإجرامية – الرغبة بالقتل والرغبة في أن يقتل. وفي جميع حالات الانتحار يبدو الوالد أو الوالدة أكثر إجرامية بكثير مما هو في الواقع. فالأهل الذين يريدون حقيقة قتل ولدهم يقتلونه بالإهانة والإهمال والطفل لن يبقى على قيد الحياة ليصل إلى مرحلة الانتحار. والطفل الذي عانى خلال طفولته من مشاعر الحب والكره معا تجاه والديه ثم كبر وفقد شخصا كان قد أحله محل والديه (زوج، حبيب، موظف،…) سيفعل الآلية السابقة في نفسه (أنا لا أريد قتلك، أنت تريد قتلي) وفي مرحلة لاحقة (أنت في داخلي، وسأقتلك قبل أن تقتلني).
يعتقد الكثير من العلماء والباحثين أن أفضل طريقة لفهم كوننا جميعا نتمنى أن نقتل ونقتل هو تذكر الكوابيس التي كنا نقتل أو نقتل فيها. إن كل شخصيات تلك الأحلام، نحن والآخرون، القاتل والضحية تمثل صورا لأنفسنا. إن الرعب الذي نعانيه خلال تلك الأحلام يعبر عن الدوافع العدوانية في أنفسنا.
الرغبة في الموت- الرغبة بالاتحاد
يعتقد معظم الخبراء والباحثين أن الانتحار هو رغبة بعودة الاتحاد مع الوالد المكروه والمحبوب بآن واحد.. وتظهر هذه الرغبة بشكل واضح في كتابات سيلفيا بلاث وهي شاعرة ماتت منتحرة بعد محاولتين فاشلتين. مات والدها عندما كان عمرها 10 سنوات وفي العشرين زارت قبره ثم عادت إلى المنزل وتناولت 50 قرصا من الدواء لكنها أنقذت. وبعد فترة من المعالجة بمشفى الأمراض النفسية خرجت وتزوجت وأنجبت طفلين. وبعد 10 سنوات عانت من بعض المشكلات مع زوجها وانفصلت عنه. وكادت إثر ذلك تقتل نفسها في حادث سيارة. بعد ستة أشهر نجحت في قتل نفسها حيث وضعت رأسها في الفرن بعد أن فتحت الغاز.
رغبة الشخص في أن يُنقذ
إن من المهم للسريري أن يعرف أنه بالإضافة للأمنيات الثلاث التي وصفها Karl Menninger هناك أمنية رابعة وهي رغبة المنتحر في أن ينقذ.
إن الكثير من محاولات الانتحار تتم بهذه الطريقة. فالمرأة التي تحاول الانتحار لأن زوجها يفرط في الشراب أو أنه متورط في علاقة مع امرأة غيرها، تتناول جرعة مفرطة من الأدوية في وقت محدد بحيث يتم إنقاذها إذا عاد زوجها إلى البيت مباشرة دون أن يمر في طريق عودته بالحانة لتناول الشراب أو دون أن يمر ببيت المرأة الأخرى. أما إذا مر الزوج بالحانة أو بيت صديقته فإن الزمن سيكون كافيا بحيث تموت الزوجة ويعيش زوجها بقية عمره تحت عبء الذنب.
لقد نسي أولئك الأحرار المدنيون وغيرهم ممن يدعون حق الإنسان في الانتحار عندما يريد إنهاء حياته نقطة رئيسة: أن كل منتحر ولو اختلفت الدرجة يريد أن ينقذ ويريد أن يشعر أن هناك من يريده أن يعيش وأن يشعر أنه يستحق الحياة. إنه يهيئ أمر انتحاره بحيث توجد إلى درجة ما فرصة تسمح بإنقاذه من قبل شخص مهتم بأمره. إذا قلنا لشخص يهدد بالانتحار من على سطح أحد المباني (حسنا لا فرق) فإن ذلك يزيد شعوره بأنه سيئ ويستحق الموت. إن تخليص المريض من دوافعه الانتحارية وإدخاله المشفى كافيان لإحداث هوادة في شدة الرغبة في الانتحار.
بعض الاعتقادات عن الانتحار
كثيرة هي الأقوال التي نسمعها من قبل أهل الاختصاص وعموم الناس ومنها: (الأشخاص الذين يتحدثون عن الانتحار لا يجربونه). (الانتحار يحدث بدون تحذير). (الأشخاص الانتحاريون مصرون على الانتحار ولا يريدون أن ينقذهم أحد). (السؤال عن الانتحار قد يضع أفكارا خطرة عن الانتحار في رأس المريض). (الانتحاريون انتحاريون إلى الأبد). (الذين يحاولون الانتحار ويفشلون ليسوا جادين بشأنه ولن يحاولوا مرة أخرى). (الفقراء فقط هم الذين ينتحرون). (الأغنياء فقط ينتحرون). (الذهانيون فقط يحاولون الانتحار). وغيرها وغيرها…
من كل ما سبق وما تحدثت عنه في هذا الجزء من الكتاب نجد أن هذه الاعتقادات خاطئة وأن من شأن هذه الأفكار أن تشعر الانتحاري بعدم الأمل بشكل أكبر وأن تجره بشكل أكبر للانتحار.
معالجة المريض الانتحاري
إن الوسائل الجسمية المختلفة المستعملة في علاج الاكتئاب كالأدوية والصدمة الكهربائية لن تكون مجال البحث والحديث هنا. إن ما سأبحثه هنا هو المعالجة النفسية للمريض الانتحاري.
ومن المهم التأكيد أن أي معالجة نفسية يجب أن ترتكز على فهم منطق الانتحاري وليس على منطق الفهم العام. إن المعالجة النفسية باستعمال المنطق العام لا تكون فاقدة لفائدتها العملية فقط وإنما تزيد الرغبة في الانتحار بسبب زيادتها للشعور بالذنب وإنقاصها لتقدير الذات.
إن مثل هذه الوسائل (حاول أن تفكر) (لقد سبق وحاول المريض). (فكر بما سيحصل لعائلتك). (إن أحد أسباب شعوره بالذنب هو بالتحديد ما سيرتكبه وما يريد أن يفعله تجاه عائلته). (هناك الكثير من الناس بحالة أكثر سوءا من حالتك) (أنه كإخبار المريض بطريقة متألمة أن هناك المزيد من الشقاء في العالم).
إن المعالجة النفسية ترتكز على إنقاص شدة الرغبة في القتل والرغبة في أن يقتل والرغبة في الموت. وبعد الإنقاذ من محاولة الانتحار يبحث الطبيب عن مخرج للرغبة بالقتل وأن يقلل رغبة المريض في أن يقتل ويموت. ويمكن إنجاز الهدف الأول بتوفير مخرج لغضب المريض والهدف الثاني بإنقاص شعور المريض بالذنب وزيادة تقديره لذاته ويكون ذلك بأن تحدث علاقة بين المريض والطبيب المعالج تحل محل علاقة المريض المفقودة مع شخص آخر.
أحيانا يكون أحد هذه الوسائل كافيا وحده في مساعدة مريض ما. مثلا: يكون إحداث علاقة ثقة مع المريض كافية بحد ذاتها وقد يكون بمقدور طبيب عام مهتم ويعتمد عليه أن يساعد المريض المكتئب دون مساعدة من طبيب نفسي.
وقد يحدث مثل ذلك دون أن يكون الطبيب منتبها أنه يعالج كآبة وأن مريضه قد ينتحر لو لم تقم بينهما مثل هذه العلاقة.
ويمكن توضيح ذلك بدراسة أجريت في مشفى كينغ كونتي في الفترة بين كانون الثاني 1961 وكانون الأول 1978. خلال هذه الفترة وقعت 30 عملية انتحار من قبل مرضى المشفى المعالجين في قسم الأمراض الباطنية والجراحية. سبعة من هؤلاء كانوا من قسم الأمراض الرئوية المزمنة. كان لدى كل هؤلاء إنذار سيئ سواء بسبب السل المتقدم أو انتفاخ الرئة أو الرئتين معا. وكانوا جميعا مدمنين بشدة على الكحول. حدثت هذه الحالات السبعة في الفترة بين عامي 1968-1961. في عام 1968 خضعت الخدمات الطبية في قسم الأمراض الصدرية إلى إعادة تنظيم. ولأن الهيئة الطبية لم تكن مسرورة من طريقة المناوبة في قسم الأمراض المزمنة فإن أحدا منها لم يعين في هذا القسم. لقد عين في هذا القسم فريق يعمل كامل وقته فيه وكان هذا الفريق على عكس سابقه مهتما بمعالجة الأمراض المزمنة، إنهم لا يبدلون أماكن عملهم كل شهر أو شهرين ولم يكونوا يصابون بالانزعاج- كبعض أعضاء الفريق السابق- إذا لم يتحسن المرضى بسرعة أو إذا لم يتبع المرضى الأنظمة الطبية بشكل صحيح. أي أنهم كانوا يهتمون بالمرضى بشكل مستمر. أي أن المرضى كانوا يتعاملون مع طبيب واحد فقط يرتبطون به ويمنحونه ثقتهم. وهكذا لم يكن عليهم التكيف مع كل طبيب جديد. وهكذا لم تحدث منذ عام 1968 أي حوادث انتحار في قسم الأمراض الرئوية المزمنة رغم وقوع 10 حوادث بين عامي 1978-1968 في باقي أقسام المشفى. مثل هذه النتائج الجيدة في منع الانتحار حصل عليها بمراجعة قيود الهنود الأمريكيين بعد تأمين الاهتمام اللازم.
إن أعلى نسبة للانتحار بين عروق الشعب الأمريكي هي بين الهنود الحمر حيث تبلغ ذروتها بين عمر 24-15 سنة. والانتحار في كثير من الأحيان مسبوق بفترة من الإدمان على الكحول والتصرفات المضطربة. في السابق كان هؤلاء الشباب يستجوبون ثم يدخلون السجن لأيام أو أسابيع ثم يطلق سراحهم دون رعاية ليعاودوا بعد فترة التصرفات نفسها حيث يقتلون أنفسهم في حادث سيارة أو بسبب التجمد من البرد بسبب السكر الشديد أو بسبب جروح الأسلحة النارية.
في محاولة لخفض نسب الانتحار بين هؤلاء المدمنين على الكحول أو الذين يتصرفون بشكل سيئ لجئ لإعادة هؤلاء إلى مجتمعهم بدل أن يوضعوا في السجن حيث يتلقون العناية اللازمة من قبل طبيب أو مختص اجتماعي أو من قبل متطوعين. وخلال السنتين اللاحقتين للبدء بتطبيق هذا البرنامج لم يكن هناك أي حالة انتحار فيمن تقل أعمارهم عن 30 سنة رغم توقع حادثة أو حادثتين. ونستطيع أن نفهم بشكل جيد ما حدث بأن نعتبر أن أولئك الذين يعتنون بهؤلاء الشباب كأهل لهم، وتكون استجابة هؤلاء الشباب على الشكل التالي: (إذا كانوا يريدونني أن أبقى على قيد الحياة فأنا لست سيئا إلى الدرجة التي كنت أتصورها).
إن العلاقة بين الطبيب والمريض هي علاقة ذات خطورة في معالجة المريض الانتحاري أكثر من غيره من المرضى، وعلاقة قابلة للانقطاع في الوقت نفسه. إن هذه العلاقة خطرة لأن خسارة هذه العلاقة مع الطبيب معناها خسارة المريض لحياته. إن المريض غير الانتحاري الذي يفقد علاقته مع طبيبه يسعى وبكل بساطة للبحث عن طبيب آخر، بينما المريض الانتحاري مرشح لقتل نفسه.
وفي الوقت الذي يكون فيه المريض بأمس الحاجة إلى طبيبه فإنه في الوقت نفسه يحاول تحريض طبيبه لقطع هذه العلاقة… كما فعلت ماريان ذلك مع أختها حينما قالت لها عندما حاولت أن تساعدها (اتركيني، اكرهيني، انسيني،..).
إن الانتحاري يحاول تحريض معالجه لهدفين الأول لاختبار المعالج (إذا عرفت حقيقة أمري فهل ستبقى قابلا بي؟) والثاني هو إعادة صدمة الفقد التي عانى منها في محاولة للسيطرة عليها (أن أكون مهجورا شيء ليس سيئا. وأستطيع أن أجعله يحدث مرة ثانية). فهو يريد أن يغضب المعالج بحيث يرفضه الأخير كمريض عنده. وفي سبيل ذلك يقوم المريض بمهاجمة الطبيب في مواقع تشكل أهمية وخطورة كبيرة.. فقد يهاجم المعالج على أرضية عمره، عرقه، جنسه، دينه، الخبرة، القدرة وفي أي مناطق أخرى يشعر المعالج فيها بعدم الطمأنينة.. وعلى المعالج عندئذ أن يسمح للمريض بالتعبير عن هذه المشاعر دون اعتراض منه كي يخفف من الكراهية الباقية في نفسه كي لا يوجهها نحو نفسه.
يحدثنا سيدني تاراشو عن قصة امرأة مكتئبة انتحارية حيث كان يراها مرة في الأسبوع من أجل المعالجة النفسية وكانت تقول له في نهاية كل جلسة (لا أعرف فيما إذا كنت سأحضر في المرة القادمة). وفي كل أسبوع كان يبقى قلقا حتى نهايته حتى يراها ثانية. وبعد فترة تحقق أنه كان يؤمن لها مخرجا من ساديتها ببقائه قلقا كل الأسبوع خوفا عليها، مما منعها من الانتحار.
إن معالجة المريض الانتحاري صعبة جدا لأن المريض في وقت ما يظهر نفسه للمعالج كفرانكيشتاين الذي صوره وجعله جزءا من نفسه يريد القتل. فإذا توقف الطبيب عن مساعدة المريض وتركه فإن المريض سيضيع. إن المعالج في مواجهة رغبات المريض الانتحارية وكراهيته الشديدة يحس أن الاستمرار في المعالجة أمر مزعج. وقد يحدث شجار بين المعالج والمريض.
فإن لم يفهم المعالج، ما الذي يجري فإنه يبدأ بالانسحاب من المريض. وفي موضوع جميل تحت عنوان تشريح المريض الانتحاري وصف لستون هافنز حالة مسنة مكتئبة بسبب قرب زواج ابنتها. أدخلت المشفى وببطء شكلت علاقة ثقة مع معالج مقيم، ومع رئيسة الممرضات ومع طالبة الطب. ثم رقيت المقيمة إلى رئيسة المقيمين وكان عليها أن تنقص عدد المرضى الذين تعالجهم بسبب ازدياد مسؤولياتها الإدارية. وكان على المريضة الانتحارية أن تتحمل نتيجة هذا التغيير. وكان للمريضة القليل من الثقة بالمعالج الجديد. بعد ذلك بأيام تزوجت ابنتها، ووقعت رئيسة الممرضات مريضة وأنهت طالبة الطب خدماتها في المشفى. وبعد أن عادت المريضة إلى منزلها لقضاء عطلة نهاية الأسبوع وجدت متردية من على منحدر صخري عال.
إن معالجة المريض الانتحاري كمعالجة أي مريض آخر لخص من قبل فرانسيس بيابودي عام 1927: (إن السر في معالجة المريض هو بالاهتمام بالمريض نفسه). إن الاهتمام بالمريض الانتحاري قد يكون صعبا للغاية في بعض الأحيان حيث يظن المريض أنه لا يستحق هذا الاهتمام، وهو يستعمل كل الوسائل والحجج في إقناع الطبيب أن تقديره لذاته هو تقدير صحيح. فإذا نجح في ذلك فإنه سينتحر. إن على الطبيب أن يقحم نفسه بمحض رغبته في معالجة المريض ومواجهة مشاعر الغضب واحتقار الذات عند المريض.
وكما قال هيفنس في نهاية موضوعه: (هنا يكمن التحدي الأكبر في مواجهة الانتحار. البقاء في المعركة والشعور وليس الهرب مما يجب عمله).
تأليف: عبد الرحمن إبراهيم