تعد الأنفلونزا (Grippe – Influenza – the flu) من الأمراض السارية شديدة العدوى، المعروفة منذ القدم، والتي تتكرر كل عام ويمكن أن تودي بحياة الكثيرين في شتى أنحاء العالم، وبخاصة في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، حيث تتوافر عوامل مناخية مساعدة على نمو وانتشار العدوى بفيروس الأنفلونزا.
يعود المرض إلى الإصابة بفيروس نوعي، من عدة فئات وهو سريع الانتشار، فتاك في بعض الظروف والأوقات، يرافق الشتاء القارس والبرد والصقيع، ويعرف جيداً في البلاد الباردة المناخ (أوروبا، أميركا، كندا، بلاد اسكندنافيا….).
ولا يزال هذا المرض ماثلاً في الذاكرة الطبية من خلال الأوبئة القاسية والقاتلة التي ضربت العالم منذ بداية القرن الماضي، وأشهرها وباء الإنفلونزا الأسبانية بين العامين 1918 إلى 1920 والذي أودى بحياة عشرين مليون إنسان، إلى الأنفلونزا الآسيوية في العام 1957، وباء هونكونغ عام 1968، وأخيراً وباء الأنفلونزا العالمية التي اجتاحت العالم بأسره من الشمال إلى الجنوب في العام 2009 حين أعلنت منظمة الصحة العالمية درجة الاستنفار القصوى بعد انتشار المرض كوباء عالمي، وعملت مؤسساتها عبر العالم على مراقبة وتقصي تطور الأنفلونزا مع إعطاء التعليمات والوسائل الوقائية للحد من مضاعفاته الخطيرة.
وفي لبنان لا يزال الجسم الطبي يتذكر موجة الهلع التي أصابت الناس في شهري تشرين الأول وتشرين الثاني من ذاك العام، إذ أصبحت الأنفلونزا الشغل الشاغل للناس الذين توجسوا خوفاً على أنفسهم وعلى أولادهم، كيف لا وقد ضرب المرض 40 % من سكان لبنان في ذلك الموسم الوبائي (حسب تقديرات وزارة الصحة اللبنانية آنذاك). وقد تمكن الأطباء الذين يهتمون بالصحة المدرسية، استنتاج هذه النسبة نظراً لتفشي المرض في المدارس، ولكن في الواقع يمكن القول إن المرض لم يكن شديد الوقع على المجموعات الكبيرة التي أصيبت به إذا ما قارنا هذا الوباء بالموجات التي كانت تحصل في كل عام حيث كان وقعها أشد ومخالطاتها أكبر نسبة، رغم العدد الهائل للإصابات في العام 2009 (لم يسجل في لبنان إلا أربع حالات وفاة وفي ظروف صحية خاصة).
في الواقع يتوجب التروي والتصرف بهدوء في حالات انتشار الأوبئة، ما يستلزم أخذ الحيطة والحذر بالمسارعة إلى أخذ المعلومات من مصدرها الحقيقي. لذا يفترض الاتصال بطبيب العائلة أو الطبيب المتابع، للتنور والاستيضاح منه مباشرة وعدم الأخذ بالكثير من المعلومات الخاطئة أو الإشاعات التي تفاقم حالة الخوف والهلع.
إن أحد الأسباب الرئيسة لتفشي هذا الفيروس في كل موسم خريفي شتوي عموماً، يعود إلى شراسة الفيروس وحصول تغيرات (mutation) في تركيبته البروتينية، مما يجعل الإنسان عرضة للإصابة المتكررة بالمرض عاما بعد عام (لأن المناعة التي اكتسبها في الموسم الذي انصرم غير كافية لحمايته من التغيرات التي تحدث على مستوى الفيروس في الموسم الذي يليه).
التحسس الأنفي والرشح ليس لهما علاقة بالأنفلونزا
قبل الدخول في سرد علامات الانفلونزا، من المهم لفت النظر إلى عدم الخلط بين هذا المرض الفيروسي الحاد وبين الكثير من حالات التحسس الأنفي (Allergic rhinitis) أو حساسية الأنف الموسمية (حمى القش Hay Fever) والإصابات الفيروسية التي تكثر نسبتها في دائرة الأنف والأذن والحنجرة.
• إن حالات الرشح الموسمي تتكاثر في فصلي الخريف والشتاء، ومنها ما يحصل في الربيع، معبرة عن ذاتها من خلال سيلان حاد مع حكة في الأنف، وسيلان الدموع مع حشرجة في البلعوم وضيق في الحنجرة. يرافق كل ذلك سعال خفيف، من دون أن يصاحب هذه العلامات أي ارتفاع في درجة حرارة الجسم الداخلية: هذا ما يسمى بالتحسس الأنفي الموسمي، ويأتي بشكل دائم لدى بعض الناس، ما يستوجب علاجاً وقائياً خاصاً.
• تضاف إلى هذه الإصابة الموسمية، إصابات فيروسية تتمركز في المجاري الهوائية العليا (الأنف، الجيوب الأنفية، البلعوم، الحنجرة والقصبة الهوائية) تؤدي إلى علامات مرضية قريبة من حالات التحسس ولكن تختلف عنها بإفرازاتها وارتفاع الحرارة وإصابة الأذن والجيوب الأنفية مع غياب الحكة الأنفية والسيلان الحاد.
نخلص إلى القول إن كل هذه الإصابات ليست لها علاقة بالأنفلونزا، وكذلك حالات الالتهابات في القصبة الهوائية والرئة وغيرهما. من هنا تبدو أهمية استشارة الطبيب، للوقوف على رأيه في تحديد الحالات المرضية تشخيصاً وعلاجاً ووقاية.
ما هي علامات الإنفلونزا وطريقة العدوى؟
يصيب الفيروس الجهاز التنفسي عموماً، وتنتقل العدوى به عن طريق الهواء (من خلال رذاذ اللعاب عند التكلم، إفرازات السعال أو العطس)، أو بواسطة الأيدي عند ملامسة أدوات ملوثة بإفرازات المريض المخاطية (سماعة الهاتف، مسكة الباب…).
تحصل الإصابات بالأنفلونزا عادة في فصل الشتاء في الفترة الممتدة بين شهري نوفمبر، وابريل في العام الذي يليه، ويأتي المرض على شكل وباء فصلي فلا يستثني أحداً، كبيراً أم صغيراً. تدوم فترة حضانة الفيروس بين يوم وثلاثة أيام، وتستمر العدوى بين ثلاثة إلى خمسة أيام عند الكبار وحتى سبعة أيام لدى الصغار.
ومن الظروف المهيئة للعدوى بالأنفلونزا، وجود فارق بين حرارة الطقس في الخارج (خصوصاً خلال الشتاء) وحرارة الداخل في المنزل أو المكتب أو غيرهما، واستعمال وسائل التدفئة يؤدي إلى جفاف المادة المخاطية الواقية في الجهاز التنفسي ويجعل الإنسان أكثر استعداداً لالتقاط الفيروس؛ كما أن تقارب الناس وتجمعهم في الأماكن المغلقة، يضاف إلى ذلك هبوط نسبة رطوبة الهواء في الداخل، من العوامل التي تساعد الفيروس على المقاومة والبقاء لفترة أطول.
أما الأنفلونزا الحقيقية، وبخاصة الموسمية منها والتي اجتاحت العالم (كما ذكرنا في خريف العام 2009) هي من فصيلة (A/H1N1)، ومهما اختلفت تسمياتها فعلاماتها هي ذاتها وتبدأ بارتفاع الحرارة بين 38.5 و40 درجة مئوية، يرافق ذلك سعال حاد وناشف بادئ الأمر، مع احتقان حاد في الأنف يؤدي إلى إفراز إنتاني (infection) فيما بعد، مع إصابة العيون بالاحتقان. يصاحب كل ذلك شعور بالتعب العام وقلة شهية للطعام، ما يضطر الإنسان المصاب للتوقف عن العمل والخلود في منزله إلى الراحة. وفي كثير من الأحيان تترافق مع هذه العلامات المرضية، أوجاع في الرأس وآلام في العضلات والمفاصل، وفي إصابات أخرى يسجّل حالات استفراغ وإسهال حاد أو صعوبة في التنفس.
ومن المفيد الإشارة إلى مجموعة المرضى الذين يعتبرون الأكثر عُرضة للإصابة بالأنفلونزا ومخالطاتها (التهاب الرئة، إصابة غشاء القلب، التهاب السحايا…)، وتشمل هذه المجموعة المصابين بداء السيدا (مرض نقص المناعة المكتسب والحاد)، وسرطانات الدم (ابيضاض الدم، ورم لمفي…) وحالات أمراض القلب المزمنة، أمراض الكلى والكبد، إصابات الربو المزمن التي يصاحبها التهاب متكرر في الجهاز التنفسي، إلى حالات داء السكري، والمرضى الذين يتلقون العلاجات الكيمائية المثبطة للمناعة، ولدى الأطفال الذين يعانون من أمراض مزمنة أو تشوهات خَلْقية يرافقها اضطراب في جهازهم المناعي، أو أمراض الدم لدى الأطفال (التلاسيميا، مرض الناعور..) أو الأطفال المصابين بالربو وما يرافقها من التهاب متكرر، إن على مستوى الجهاز التنفسي أو في دائرة الأنف، الأذن والحنجرة.
تبقى هذه المجموعات من المرضى معرضة بالدرجة الأولى أكثر من غيرها للإصابة بالأنفلونزا، مع درجة من الخطورة الشديدة والاشتراكات والمخالطات المتعددة والتي ينبغي متابعتها بالعناية، الرعاية الصحية والوقاية الدقيقة، وهذه الفئة يتوجب تلقيحها سنوياً ضد الأنفلونزا، للتخفيف من إمكانية الخطورة وحدتها، وهي بحاجة للتلقيح بصورة أفضلية بأي لقاح جديد ضد الأنفلونزا.
ارشادات ونصائح للوقاية من عدوى الأنفلونزا
أما عن وسائل الوقاية العامة من مرض الأنفلونزا الموسمي، فينصح التقيد بالإرشادات والنصائح التي تعتمدها وتوصي بها معظم المنظمات الصحية في العالم، وفي مقدمتها منظمة الصحة العالمية، وهي تختصر بما يأتي:
1. الاتصال بالطبيب المعالج أو المتابع بصورة دائمة لأخذ الإرشادات في حالات انتشار وباء ما، والمعاينة الفورية في الحالات الطارئة للعلاج والوقاية منه.
2. المحافظة الدائمة على نظافة اليدين، وخصوصاً في حالات انتشار وباء ما، عن طريق غسلها جيداً بالماء والصابون، أو استعمال محلول مطهر مائي كحولي مع فرك اليدين جيداً، لا سيما بعد مصافحة أي إنسان مصاب بالأنفلونزا.
3. الامتناع عن ملامسة الفم والعيون والأنف بالأيدي لعدم نقل الإصابة إلى شخص آخر عن طريق الإفرازات على اليدين.
4. محاولة الابتعاد لمسافة تقدر بمترين عن الشخص المصاب بالمرض، أو عدم تقارب الأجساد عند السلام، كالأخذ بالأحضان ولو من دون تقبيل.
5. النصح بعدم المصافحة، لاسيما في حالات انتشار وباء معْد.
6. الامتناع عن التقبيل، بخاصة بين الرجال، وهي حالة سائدة في مجتمعنا العربي، لا سيما خلال مناسبات الأفراح والأتراح.
7. يوصى بارتداء قناع طبي جراحي للمريض المصاب فقط، على أن يغطى الأنف والفم معاً لمنع انتقال العدوى للآخرين بواسطة العطس أو السعال. كما يفضل أن تقوم الأم المصابة، والتي تحضر الطعام للعائلة، بارتداء قفازات في يديها للغاية ذاتها.
8. استعمال المناديل الورقية للعطس والسعال وتف الإفرازات، ورميها في سلة مهملات محكمة الإغلاق، لأن رذاذ العطس أو السعال هو من وسائل العدوى الشديدة، كما ينصح في الحالات الاضطرارية (لعدم توفر المناديل الورقية) اللجوء إلى العطس أو السعال في زاوية الكوع الداخلية.
9. تأمين، وبصورة دائمة، ميزان للحرارة وأدوية لمعالجة الحرارة والصداع ومضادات للأوجاع والتشنجات العضلية والفيتامين سي مع عدم التسرع بتناول المضادات الحيوية قبل استشارة الطبيب.
10. الخلود إلى الراحة في السرير، وتناول كميات معتدلة ومتكررة من السوائل (عصائر الفاكهة الطازجة، الشاي الخفيف، شراب النعناع الأخضر المغلي، اليانسون، الزهورات…).
11. اعتماد طريقة تغذية بسيطة، سهلة التناول ومفيدة لمتطلبات الجسم من مواد أساسية: حساء الخضار مع اللحم الأحمر أو الدجاج، اللبن الرائب المحلول بالماء والسكر أو القليل من العسل، أنواع الطبخ الخفيف الخالي من الدسم والابتعاد عن الأطباق المقلية باللجوء إلى الأصناف المشوية (لحومات، دجاج…)
12. أخيراً التلقيح ضد الأنفلونزا، وقبل حصول موسم العدوى (خلال شهري سبتمبر وأكتوبر)، لدى جميع الأفراد المعرضين ويضاف إليهم طرفا الحياة: الشيخوخة والطفولة (65 سنة وما فوق، وما تحت الثلاث سنوات، نظراً لضعف الجهاز المناعي لديهما).