“طفلتي لارا نحيلة جداً لماذا ؟ ابن جيراننا المماثل لها في العمر يزن ضعف وزنها ؟ !” بم يتعلق نمو الأطفال وتطورهم: بتربيتهم أم باستعداداتهم الوراثية؟
دور الوراثة
إن العوامل الوراثية تلعب في طبائع التغذية دوراً مهماً وأساسياً ولقد أثبتت أبحاث كثيرة حول هذا الموضوع صحة هذه المقولة.
فقد أجرى الباحثون في الدانمارك دراسة على أطفال بالتبني (Stunkard, A.J. et al. 1986). تمت مقارنة أوزان الأطفال مع أوزان أهاليهم الفعليين وأهاليهم بالتبني. لقد حدد الأهالي بالتبني عادات الطعام، ونوعيات الطعام والقدوة في تناول الطعام، بينما لم يمنحهم الأهالي الفعليون سوى مورثاتهم ولا شيء سوى ذلك. وكانت النتيجة أنه لم يعثر على تطابق مع الأهل بالتبني، ولكن عثر على تطابق بدرجة عالية مع الأهل الفعليين. وكان للمورثات أثر أكبر بكثير من جميع الأمور المكتسبة.
كما وأظهرت نتائج دراسة أجريت على طفلين، توأم، ربيا منفصلين عن بعضهما، نتائج مشابهة لنتائج الدراسة السابقة (Stunkard, A.J. et al.1990). فبالرغم من اختلاف ظروف الحياة لدى كل من الطفلين التوأم كان وزن كل منهما يزيد بشكل متماثل مع وزن الآخر.
وفي تجربة ثالثة (Bouchard, C. et al. 1990) تمت تغذية أفراد اثني عشر توأماً حقيقياً يومياً بكميات متساوية من الحريرات. عشرة توائم منها زاد وزن كل فرد فيها مع أخيه بشكل متماثل. ولكن كل توأم اختلف كثنائي عن غيره. فبينما زاد أحد التوائم 4 كغ فقط بلغت الزيادة في الوزن لدى توأم آخر 14 كغ.بالرغم من تماثل كمية الحريرات.
وفي دراسة أخرى (Faith, M.S. et al1999) تجرى على توائم تتراوح أعمارهم ما بين 3 سنوات وسبع عشرة سنة يتم فحص كمية الدسم في الجسم بطريقة خاصة وكانت النتيجة وجود اختلافات كبيرة بين الأطفال. تقول نتائج الدراسة: يعود 80% من هذه الفروق إلى استعدادات وراثية والباقي إلى تأثيرات العالم الخارجي من حولهم.
تلعب الوراثة إذاً دوراً حاسماً. ويعود إلى الاستعدادات الوراثية كون بعض الأطفال يأكلون قليلاً جداً. ولكن وزنهم يزيد بشكل واضح. كما يعود إليها إلى حد بعيد ازدياد وزن الإنسان وتراكم الشحم لديه، بالرغم من الحركة الكافية التي يمارسها وتناوله الطعام بشكل معتدل. وكذلك يعود إلى الاستعدادات الوراثية حين نجد طفلاً ” قليل الأكل ” وآخر ” كثير الأكل “، يأكل ضعف ما يأكله الطفل الأول، ورغم ذلك يزيد وزن الطفلين بالنسبة ذاتها. ولا يتوقف تأثير الوراثة عند هذا الحد بل يتعداه إلى شكل الجسم، سواء كان طفلك نحيفاً وذا عضلات وقوياً أو كان غير قوي و سميناً وقليل العضلات، كل هذا يمكن إثباته عند الولادة. وليس من الضروري أن يتطابق شكل الجسم مع النمط الذي تحلمين به وزوجك كوالدين لطفلكما، لأنكما في نهاية المطاف لن تستطيعا التأثير في الشكل الذي سيكون عليه طفلكما في المستقبل. ولن تتمكنا من خلال التربية الغذائية من تعديل الشكل الذي تحدده الوراثة مسبقاً. وخيراً تفعلان حين تقبلان بشكل ولدكما كما هو. وتذكرا أن الشكل الممتاز نادر الوجود. ولا تنسيا أن طفلكما أو طفلتكما سيلاقي في المستقبل بعض الصعوبات في تقبل شكله مع وجود ” الأخطاء الجمالية ” فيه، لذا فأنتما تحسنان صنعاً بمساعدته من البداية على تقبله.
دور البيئة المحيطة
من الطبيعي أن تلعب مؤثرات البيئة المحيطة بنا دورها. ترى ما الذي يجعل الأطفال سماناً ؟ إنها بديهيات نعرفها جميعاً: الحركة القليلة، الجلوس أمام التلفاز لساعات طويلة، تناول الطعام أثناء ذلك من شطائر وحلويات غنية بالدسم والسكريات بدلاً من الجلوس إلى مائدة الطعام في أوقات محددة. وربما اجتمعت العوامل الثلاثة معاً. ورغم كل شيء لا يسمن الأطفال الذين لديهم استعدادات وراثية مناسبة بينما نجد أحياناً حالة معاكسة. حيث نرى طفلاً كثير الحركة، قليل الجلوس أمام التلفاز ويأكل في أوقات محددة مع الأسرة ويتلقى غذاءً مدروساً وهو رغم ذلك أسمن من جميع الأطفال الذين هم في سنه.
تصبح زيادة الوزن عادة مشكلة لدى الأطفال الكبار ولدى الراشدين. أما في السنوات الأولى من الحياة فيهتم الأهالي على العكس من ذلك بزيادة وزن أطفالهم. وشكواهم الدائمة هي: ” طفلي نحيل جداً، وقليل الأكل.” ما الذي يجعل الطفل ” نحيلاً جداً ؟”
ثبت لأطباء الأطفال على مدى سنوات طويلة في عياداتهم الخاصة أنه يوجد ظرفان مؤثران:
يتعلق الظرف الأول بالمؤثرات الخارجية ولكن لا علاقة له بالتربية: إنه المرض. فمعظم الأطفال تقل شهيتهم إلى الطعام في حال المرض، و لا يأكل بعضهم شيئاً على الإطلاق ما دام مريضاً، وبخاصة حين يتسبب له الطعام بالألم كما هو الحال في التهاب البلعوم. ويعرف الأطفال المرضى ماذا يفيدهم فيرفضون الطعام إذا كان لا ينفعهم. وهذا تصرف سليم للغاية من وجهة النظر الطبية. ولن تضعف قواهم بسبب امتناعهم عن الطعام بل بسبب مرضهم، فإذا ما صحوا وتعافوا، استعادوا قواهم بسرعة كبيرة. لذا لا يمكننا الحديث عن النحافة الشديدة لدى الأطفال المرضى الذين ينخفض وزنهم في فترة مرضهم.
تؤدي بعض الأمراض الشديدة أحياناً إلى فقدان كمية كبيرة من السوائل من الجسم وإلى انخفاض خطير في الوزن. في هذه الحالة لا يستطيع الطفل أن ينظم تناوله للطعام بنفسه. وفي أسوأ الحالات يجب تغذيته اصطناعياً. وكذلك تشكل الرغبة الشديدة في النحافة التي تصيب الفتيات بعد سن البلوغ مرضاً خطيراً له أسباب متنوعة. لأن تناول الطعام لا يتحدد لديهن حسب الاحتياجات الداخلية بل فقط حسب مقاييس مرضية خارجية.
الظرف الثاني الذي يمكن أن يجعل الطفل “نحيلاً جداً” ذو علاقة ضعيفة بالتربية، إذ يرتبط بالدرجة الأولى بالفقر: حين يقدم الأهل للطفل طعاماً قليلاً، أو حين لا يحتوي الطعام المقدم على المواد الغذائية المهمة. وتجد بعض الأسر نفسها في مأزق مالي مربك يجعلها عاجزة عن شراء المواد الغذائية كلها. قد يكون السبب غير المباشر في ذلك انعدام التكافل الاجتماعي بين أبناء المجتمع الواحد، وضع يمكن تفاديه بدفع الحقوق إلى أصحابها، تلك الحقوق التي أقرها الله سبحانه وتعالى بقوله: ” وفي أموالهم حق للسائل والمحروم.”/ الذاريات 18/.الجوع بسبب الفقر هذا ما لا نرجو وجوده أبداً ! ولكن لا تزال حالات كثيرة من نقص التغذية موجودة بسبب الفقر بالإضافة إلى الجهل وقلة الوعي.
أما نقص التغذية، لدى العرض المتنوع من الطعام فهذا ما لا يمكن حدوثه لطفل صحيح الجسم في السنوات الأولى من العمر! ومهما بدت العادات الغذائية لدى طفلك خارجة عن المألوف وأحادية الاتجاه فلن ينقصه شيء ما دمت تقدمين له غذاء متكاملاً بطريقة مدروسة.
هناك عامل يرتبط بالبيئة المحيطة الخارجية يؤثر على شهية طفلك باتجاهين: إنه التوتّر. قد ينشأ التوتر بسبب المزاج السيئ لدى الجلوس إلى المائدة، أو بسبب العلاقة الصعبة (المعقدة) بين الأهل والطفل، أو بسبب الضغط الذي يمارسه الوالدان أثناء الطعام. فيكون ردّ فعل بعض الأطفال أنهم يأكلون كثيراً بسبب الإحباط، بينما يكون رد فعل أطفال آخرين بالاتجاه المعاكس أي أنهم لا يرضون أن يأكلوا شيئاً على الإطلاق !! وسوف نناقش هذا الموضوع في الفصل الثالث بإسهاب.
دور الرياضة
لابد من التنويه إلى أن للرياضة دوراً كبيراً في تقويم عوامل بنيان جسم الطفل سواء من حيث النحول أو البدانة أو من حيث الطول أو القصر. وإذا كان الأبوان يميلان للسمنة فليس بالضرورة أن يكون أولادهم يميلون للسمنة إذا تمت تربيتهم على ممارسة تمارين رياضية ولو لفترات قصيرة، ولكن متكررة يومياً، وذلك لتحويل شكل الجسم الخاطئ لشكل أكثر سلامة. ويمكن توجيه الطفل إلى أن الرياضة والحركة شيء أساسي في بنيان الأجسام وأن الرياضة علاج وليست “لعب رياضة.”
استنتاجات
عليك أن تتذكري دائماً:
• لا يمكنك أن تعرفي دوماً من خلال كمية الطعام، إذا كان طفلك قد أخذ أكثر أو أقل من اللازم. يختلف الأطفال جداً في حاجتهم إلى الطاقة.
• تلعب الوراثة دوراً كبيراً في تحديد شكل جسم طفلك، إذا كان سيصبح نحيلاً أم سميناً، وأي هيئة ستكون له. ونستطيع بالتربية التأثير على شكل الطفل تأثيراً محدوداً.
• الحركة القليلة، الجلوس طويلاً أمام التلفاز، الوجبات غير المبنية على أساس مدروس والتغذية غير السليمة كلها عوامل خارجية قد تعزز زيادة الوزن.
• يصبح طفلك نحيلاً جداً، فقط إذا قدمت له طعاماً قليلاً أو إذا كان مريضاً جداً.
• قد يصبح طفلك أسمن أو أنحف مما ترغبين، حتى في أفضل الظروف المحيطة.
• يمكن عن طريق الرياضة تقويم عوامل بنيان جسم الطفل.
تتوافق هذه النتائج، كما هو ملاحظ، بشكل تام مع قواعد التغذية السليمة والتي تتضمن: أنت تقررين ماذا تضعين على المائدة من طعام. صحيح أن تأثيرك يتحدد بهذه المهمة ولكن أي خطأ في نوعية الأطعمة المقدمة قد يؤدي إلى البدانة لدى طفلك وفي حالات نادرة إلى النحافة الشديدة.
ويقع ضمن مسؤولياتك حسب قواعد التغذية السليمة أن تحددي متى تقدمين الطعام وكيف تقدمينه. الطعام أمام التلفاز قد يؤدي إلى السمنة وكذلك عدم الالتزام بمواعيد محددة للطعام يؤدي أيضاً إلى السمنة. ويرتبط بكيفية تقديم الطعام جو التوتر الذي قد يسود مائدة الطعام. وهنا يقع على عاتقك أيضاً أن تمارسي تأثيرك، كيلا تصبح مائدة الطعام لديك مكاناً للتوتر.
إذا كان الطفل يريد أن يأكل وكم يريد أن يأكل، فهذا أمر تدعينه لطفلك. أما كيف يستفيد جسمه من الغذاء وكم يحتاج منه فهذا أمر محدد مسبقاً من خلال الوراثة. وهو أمر مختلف بين طفل وآخر ويمكن تعديله عن طريق الرياضة. حين يسمح لطفلك أن يحدد بنفسه الكمية التي يأكلها، فإنه سيتصرف حسب ما تمليه عليه احتياجاته والصوت الداخلي لديه. ثقي بأن طفلك قادر على ذلك. وسيصبح شكله متناسباً مع استعداده. وغالباً لن يكون هو الشكل المثالي الذي نحلم به، ولكن هذا لا يمنع من أن تؤكدي له بأن شكله هكذا وكما هو، هو الشكل الصحيح له. وبذلك تعززين صوته الداخلي وثقته بنفسه. ويمكن لنا المساعدة عن طريق الرياضة التي تلعب دوراً كبيراً في تعديل شكل الجسم إلى شكل أكثر سلامة.