إن تعريف التأمل مسألة صعبة. لذلك، ربما يكون من الأسهل أن نقوم بتعريف التأمل بالاستبعاد، أي بتحديد الأشياء التي لا تمت للتأمل بصلة. فالاسترخاء على أريكتك ومشاهدة مباريات كرة القدم في عطلة نهاية الأسبوع ليس بتأمل. والوصول إلى مرحلة النوم المغناطيسي وأنت تشاهد الخطوط المتقطعة على الأسفلت بينما تقود سيارتك ليس بتأمل. والجلوس على مكتبك والحملقة في النافذة بدلاً من أن تؤدي عملك ليس بتأمل.
إن التأمل الذي سنناقشه في هذا الأجزاء القادمة يدور حول تركيز الانتباه وليس الأفكار. في بعض أنظمة التأمل، لا يتعلق الأمر حتى بتركيز الانتباه، وإنما بإرخاء العقل والجسد. ولأن هناك طرقاً عديدة للتأمل والكثير من الأهداف التي يمكن الوصول إليها باستخدامه، فلا يوجد تعريف جامع مانع له يناسب كل الأغراض.
إن تعريف التأمل في القاموس يوضح لنا الخصائص المرتبطة به. التعريف الأول في قاموس “ويبستر” لا يتعلق بالتأمل على الإطلاق وإنما بنتيجته. ففي هذا التعريف، ينص القاموس على أن “التأمل هو حديث الغرض منه التعبير عن أفكار صاحبه أو إرشاد الآخرين إلى إعمال الفكر”. أي أنه عبارة عن عمل مكتوب بعد دراسة مستوفاة لموضوع ما، ولأجل انتفاع الآخرين به.
التعريف الثاني ليس بأفضل من سابقه. فهو يقرر أن التأمل “هو ممارسة التأمل”، أي أنه يعرف الماء بعد الجهد بالماء. فما إذن المعنى الحقيقي لكلمة تأمل؟
أن كلمة تأمل باللغة الانجليزية Meditation مشتقة من الكلمة اللاتينية meditari، وهي تعني “الاندماج في عملية التفكير”، كما تعني أيضا “تركيز تفكير المرء” على شيء ما، أو “التفكر والتأمل في شيء ما”. أما التعريف الثالث فهو “التخطيط العقلي”، أي القصد وتحديد الغرض. ومن كل ما سبق، نجد أن أقرب التعريفات هو الخاص بتركيز التفكير، إلا أن هذا ليس بالمقصد الصحيح من التأمل هو الآخر. أما تعريف الكلمة في الطبعة التاسعة من معجم وبستر الجامعي فيذكر الكلمة اللاتينية mete والتي تعني “تخم أو حد”. بينما تذكر الطبعة العاشرة من نفس المعجم الكلمة اللاتينية mederi، والتي تعني “يعالج ويشفي” (وهي أصل كلمة medical)، وكذلك الكلمة اللاتينية medesthai، والتي تعني “أن تكون واعياً”.
إن كل هذه التعريفات لا تساعد على تفسير مفهوم التأمل؛ بل إنها كلها مضللة جداً. ورغم هذا، دعنا نلقِ نظرة على كلمتي “مقصد وغرض” المذكورتين فيما سبق. من الواضح أن كل ما نقوم به له مقصد ما. فنحن نادراً ما نتصرف من دون مقصد ما. فلو كان علي أن أقنعك بأن التأمل شيء مفيد، فإنني بحاجة إلى إيضاح الغرض منه. أنا بحاجة إلى إقناعك بأن في وسعك تحقيق بعض الأهداف المهمة من خلال التأمل.
لنتناول الآن عبارة “أن تكون واعياً”. إنها أقرب شيء للموضوع. فالتأمل عبارة عن تدريب وعي أو تدريب للعقل. فبدلاً من ترك عقولنا على عواهنها، فإن بوسعنا تدريبها على التركيز.
فالتأمل يعمل على إيصال العقل إلى الاسترخاء، وتركيز الانتباه، وتحقيق غرض أو هدف ما. سوف تستكشف ثلاثة مجالات:
1. سوف تجد سبلاً متنوعة لاسترخاء العقل والجسد.
2. ستتعلم تركيز انتباهك، ويمكنك التدرب على التمرينات الموجودة عبر صفحات الأجزاء القادمة.
3. سوف تجد أمثلة مقترحة على أغراض التأمل، إضافة إلى أهداف يمكنك أن تحقيقها وأنت تتأمل.
وما علاقة ذلك بالحدود؟ وما موقع الحدود من عملية التأمل؟ إننا عندما نفكر في أنفسنا، فإننا نميل إلى التفكير فيها كذوات منفصلة. “أنا أعيش بداخل عقلي/جسدي، وبقية العالم خارجي. أنا أحيط نفسي بحدود”. مثل ذاك الحد لا يُعد منطقياً بأكمله. ففي كل مرة أتنفس فيها، أستنشق هواءً كان -ولو جزئياً- بداخل رئة شخص آخر من قبل. وأتناول طعاماً مر بالكثير من الدورات الطبيعية. وأبحث خلال تعاملاتي اليومية عن إقامة علاقات لا تشعرني بالانفصال عن الآخرين.
نحن نضع حدوداً لكل شيء. فالمنزل يمثل حاجزاً بيني وبين البرد. وساحة المنزل تحدد ملكيتي للأرض. كما أن للدول حدوداً، وللمؤسسات حدوداً تنظمها قوانين الملكية والملكية الفكرية وغيرها. إننا نعيش في عالم من الحدود.
يكتب روبرت فروست في قصيدته “ترميم الحائط” قائلاً: “فينا شيء لا يحب الحوائط”، ويقول في جزء آخر من القصيدة “إنني أطلب قبل بناء الحائط أن أعرف/ما الذي أحتجزه بهذا الحائط/وإلى من أوجه كل هذا العداء”. ويسأل فروست: “ما حاجتي إلى هذا الحاجز بيني وبين جاري؟”. وبوسعك أنت أن تسأل نفس السؤال عن أي “حاجز” كان بينك وبين الآخرين، أو بينك وبين خبراتك الواعية وغير الواعية.
من بين أهداف التأمل أن نفهم الحدود التي وضعناها لأنفسنا. وربما كان أعظم الحواجز -وأقساها- هو الذي نقيمه بين عقلنا الواعي والأقل وعياً. فعملية هدم ذلك الحاجز تتطلب الكثير من جهودنا. فخلال اليوم، تسيطر حياتنا الواعية اليقظة، بينما في الليل، يخاطبنا اللاوعي من خلال الأحلام، دافعاً إيانا إلى فهم أعمق للذات. ثم نعاود مع مطلع كل نهار إقامة نفس الحاجز. فنحن نحتاج جميعاً إلى وسيلة للوصول إلى فهم أعمق لما يدور داخل عقولنا حال يقظتنا أو في نومنا أو مجرد كوننا في حالة انتباه. ويعد التأمل من الوسائل التي تتيح لنا الانتباه لدرجة كافية تسمح لنا باستكشاف هذا الأمر.
لنستكشف كيف تعمل الحواجز خلال بعض من الأنظمة الموجودة في حياتنا. فنحن اعتدنا التفكير في حياتنا على أنها وحدات منفصلة تتفاعل مع بعضها البعض، مع استقلالها عن بعضها البعض. والعائلة مثال على ذلك. فلقد تربيت في منزل يضم أبوي وإخوتي. وجاءت جدتي لتعيش معنا. فهي قبل أن تجيء لتعيش معنا كانت وحدة منفصلة. وما أن عاشت معنا حتى أصبحت عضوة في عائلتنا. وقد قامت بدور فاعل في إدارة المنزل، وكانت تقرأ لنا، وتحادثنا وتعنفنا تماماً كأبوينا. كانت تصحبنا إلى الحفلات الموسيقية، وتشارك والدي في حل الكلمات المتقاطعة، وتقضي العطلات مع والدتي. وحينما انتقلت فيما بعد من منزلنا، لم تعد جزءاً من العائلة الصغيرة هذه وعادت إلى وضعيتها السابقة “كقريبة لنا”.
هل يبدو هذا الفارق مصطنعاً؟ كيف يسهل علينا أن ندخل الجدة ونخرجها بهذه السهولة من منظومة العائلة؟ إن باب المنزل هو الذي كان يجسد مفهوم الحد. فكل من يعيش خارج ذاك الباب لا يعد جزءاً من عائلتنا الصغيرة.
إدراك الحدود
خذ بضع دقائق للتفكير في جزئية معينة من حياتك تمثل لك بعض الأهمية.
1. فكر في الحواجز التي تواجهك عند التفكير فيها.
2. من الأشخاص أو الحيوانات الأليفة أو الأشياء الأخرى التي تنطوي تحت هذه الجزئية؟
3. فكر الآن فيما يحدث لأولئك الأشخاص أو الأشياء عندما لا تتفاعل معها؟ هل يعبرون ذلك الحاجز ليصبحوا جزءاً من منظومة أخرى؟ هل أنت من تقوم بذلك؟
4. هل أصبحت الصورة مشوشة؟ كيف يمكنك أن تعرف تحديداً موضع الحاجز؟ هل يتحرك أو يتغير وفقاً للظروف؟
يمكن للتأمل أن يساعدك على فهم الحواجز التي أقمتها حول نفسك. ولسوف تفهم كيف أن بعضها يساعدك وأن البعض الآخر لا طائل من ورائه. وتوقع خلال ذلك أن تتغير علاقاتك بالآخرين؛ بل توقع كذلك تغيرات درامية في عملية فهمك لنفسك.
إن معظم التوتر في حياتك يتولد من هذه الحواجز. ومع زيادة فهمك لكيفية تفاعل منظومات الوعي واللاوعي، والمنظومات الاجتماعية والاقتصادية في حياتك، سوف تصل إلى حالة استرخاء عقلي وجسدي. يقدم التأمل وسيلة لاستكشاف معتقداتك حول الحواجز بين المنظومات المختلفة.
أداة تأملك الذهنية
يبدأ التأمل من خلال إدراكنا للعالم من حولنا والحكم عليه. ونحن ندرك العالم حسياً من خلال حواسنا الخمسة: النظر والسمع والتذوق والشم واللمس. والقيود المفروضة على تلك الحواس الجسدية تحد بالضرورة من قدرتنا على جمع المعلومات عن العالم. فنحن نستخدم عقولنا في الحكم على العالم اعتماداً على ما ندركه حسياً، فنفكر في الحقائق ونتخذ قرارات.
ويعتمد التكامل على أشياء لا يمكننا إدراكها بالحواس العادية. فنحن نعيش في إطار منظومة موحدة نسميها الجسد، وترتبط هذه المنظومة بالمنظومات الأخرى (فأنت مثلاً عضو في منظومة العائلة). وهناك العديد من الأشياء التي نعتمد عليها ونتأثر بها ونتجاوب معها ولها علاقة بالجسد، ولكن تعاملنا معها لا يتم من خلال الحواس العادية (على سبيل المثال، نحن نشعر بارتفاع ضغط الدم لدينا بدون الاستعانة بأي واحدة من الحواس الخمسة). كيف نقيم صلة بيننا وتلك العوامل؟ لدينا ثلاثة أساليب لجمع المعلومات التي تتجاوز الحواس:
1. نستخدم أدوات وآلات لتقوم بالقياس نيابة عنا. نحن هنا لا نحتاج إلى التأمل، بالرغم من أن التأمل قد دخل في عملية ابتكار تلك الأدوات أو الآلات.
2. نستخدم عقولنا في جمع المعلومات من خلال التفكير. فما أن نجمع البيانات الحسية، حتى ندخل في عملية فكرية تهدف إلى استخراج المعنى من البيانات، أي ترتيبها وتصنيفها بشكل مفيد. الكثير من عمليات حل المشكلات اليومية يعتمد على الفحص والتصنيف هذا. ومن هذه العمليات، ينبع التقييم النقدي.
3. نجمع المعلومات من خلال الممارسة التفكرية. فعملية التأمل تركز العقل على شيء واحد -المانترا (الكلمات) أو اليانترا (الصورة البصرية) أو التنفس- لكي يستخلص أفكاراً أخرى. هناك بعض الطقوس التي يتم اتباعها لتوجيه العقل إلى وجهة محددة. وتقوم بعض الممارسات التأملية عن عمد بتخليص العقل من الأفكار بأكبر قدر ممكن.
وفي حين أننا على دراية جيدة بالسبل التي تقوم بها الآلة في جمع المعلومات وتصنيفها بشكل مفيد، فإننا كثيراً ما ننسى أن بوسعنا الاسترخاء والسماح لعقولنا بالمرور على كل المعلومات المتذكرة وإعادة تنظيمها. بل إننا قادرون على استخدام عقولنا في جمع معلومات من خارج ذاكرتنا “العادية”.
نحن نعتبر أن العلماء هم من يستخدمون الأسلوب رقم 1، بينما يميل الفلاسفة إلى الأسلوب رقم 2. وغالباً ما نتجاهل الأسلوب رقم 3. إلا أن الكاتب الرائد في مجال علم النفس كين ويلبر يقول بأن كل الأساليب الثلاثة صالحة، كل بطريقته.
“لكل واحد من أساليب المعرفة الثلاثة مدخله إلى البيانات الحقيقية (التجريبية) وذلك حسب حدوده -إلى البيانات الشعورية والبيانات المدركة وإلى البيانات المتسامية- وبيانات كل حالة تتميز بالإدراك الفوري أو الحدسي لها” (من كتاب Eye to Eye).
ونحن جميعاً نتعلم الوسيلة الأولى للارتباط بهذا العالم؛ بأن نستخدم حواسنا أو بأن نجمع بيانات حسية عن طريق الآلات. ومعظمنا يتعلم كذلك بعض النظريات والفلسفات حول موضوعات تهمنا، وهكذا فنحن معتادون على الأسلوب الثاني كذلك. غير أن القليل منا هو الذي تعلم كيفية جمع وتقييم البيانات المتسامية “المبهمة” على خبراتنا. إن المعتقدات الغربية تعمل على قولبة تلك المعلومات وتقديمها إلينا على أنها حقائق مؤكدة، بينما الأمر ليس كذلك. ونجد الفيلسوف الأسباني خوزيه أورتيجا جاسيت يقول في كتابه Mission of the University: “لا يوجد سبب مقنع لحاجة الإنسان العادي لأن يصبح عالماً”. فهو يقترح علينا أن نتعلم النسق المادي لما نقوم به من أعمال، وأفكار الحياة العضوية، وأنشطة الجنس البشري، انتهاء بتعلم مخطط هذا الكون.
ومن فوائد التأمل الأخرى استبدال الصورة الذاتية. فنحن نحدد موقعنا في العالم من خلال الحاجز بين الذات والآخر. والتناقض هنا يكمن في أنك قد تشعر بالانفصال والاختلاف عن الآخرين، وهذا تمييز خاطئ. فنحن غير منفصلين عن بعضنا البعض، حتى لو كنت أنت تقرأ هذه الصفحة وأنا بعيدة عنك (مادياً). فنحن في الحقيقة أجزاء مهمة أو أعضاء في نفس الكل الموحد التام والمثالي. والحقيقة أننا نتشارك في تحديد هذا الكون. فنحن لسنا بالأجزاء المنفصلة عن الكون بل نمثل أوجهاً معينة لمنظومة أكبر.
إدراك المنظومات
1. هل تذكر المكعبات التي يلعب بها الأطفال؟ إنها قد تختلف في اللون أو الحجم، ولكنها جميعاً جزء من نفس مجموعة المكعبات.
2. فكر في قطع لوحة الشطرنج. كل منها يقوم بمهمة محددة، إلا أنها جميعاً قطع شطرنجية.
3. فكر في الناس من حولك، فكل واحد منهم مختلف، ولكنهم ينتمون إلى نفس الجنس البشري.
حتى ونحن نميز تلك الحلقات المتصلة، فإننا نحتاج إلى مفهوم ذاتي يمكننا من العيش في العالم المادي. فأنا بحاجة إلى التمييز بين ما هو بداخل عقلي من الأصل وما هو بخارج عنه، وأنت أيضاً تحتاج لهذا. إن متناقضة الكل المطلق والتفرد تكمن في أن كليهما صحيح وواقعي ومرغوب بالأساس. ربما نريد أن نتمسك بالأسلوب العلمي للفهم، إلا أننا نتفاجأ دوماً بتصاريف هذا العالم. فنحن نتفحص الأشجار لنتفاجأ بأننا قد أصبحنا في قلب الغابة.
ملخص
التأمل هو وسيلة آمنة ومأمونة لاستكشاف ما يعتمل في ذهنك، وأيضاً لاستكشاف ما يطرأ على مظهرك الخارجي من تجليات الحقيقة. وفي أثناء الاستكشاف، ستتعرف على شخصيتك وتتصادق معها بكل جوانبها: الخيرة والسيئة، وما بين ذلك. وستتعرف أيضاً على طبيعة العالم من حولك بطرق تشعرك بالراحة والشفاء. وسوف ينمو صبرك على نفسك وعلى الآخرين. وأخيراً، سوف تكسب بعض النظرات العميقة من خبراتك التأملية والتي لا يمكن اكتسابها بأي شكل آخر.
إنني آمل أن تتمكن من خلال التأمل أن تقوم بتفكيك الحوائط التي بنيتها داخل عقلك بين ذاتك والعالم. كما آمل أن تتمكن من خلال التأمل أن تكتشف مخرجاً من العقبات التي تفرضها عليك تلك الجدران.