التصنيفات
الطب البديل والتكميلي

التبصر والبديهة: التأمل ج6

في القرن الحادي والعشرين، يشعر الناس بحاجة ماسة إلى التغلب على الفجوة الظاهرية بين الدنيوية والروحانية. من المهم أن نحقق التكامل بين حياتنا المادية والعاطفية والذهنية والروحانية بطرق لها معنى. فنحن منخرطون في نظام اجتماعي واقتصادي يتميز بإيقاع سريع بدرجة مذهلة. وفي حالات عديدة، نتقدم إلى الأمام بدون أن نكمل المهام التي بدأناها، وبالتالي نشعر بإحساس بالنقص وعدم الاكتمال يتغلغل في حياتنا. والحزن والإحساس بالضياع هما النتيجة الحتمية لمثل تلك الحياة الناقصة. وقد بدأ الكثير من الناس في البحث عن الأسباب وراء الأحداث أو المشاعر التي تمر بنا؛ لقد بدءوا في البحث عن إجابات عن الأسئلة الوجودية التي تحيط بنا.

وكل شخص يُولد وبداخله بذرة تمثل قدراته الكامنة. يمكن أن تكون هذه البذرة شهوة للسلطة، أو عنفاً، أو نهماً ثقافياً، أو رغبة جارفة في الحب، ويمكن أن تكون أي شيء يريده الإنسان ويؤمن به حقاً (ترونجبا رينبوش، Meditation in Action، ص 20-21). ومع هذه البذرة المتأصلة في الإنسان، هناك أيضاً صوت داخله، وهو روحه الداخلية. هذا الصوت يظل دوماً موجوداً داخل الإنسان، ولا يغادره أبداً، وهو يدفعه أحياناً إلى الاتجاه الذي يجب عليه أن يسلكه. قد يكون هذا الصوت هادئاً في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى يصرخ لكي يدفع الإنسان إلى تغيير ذاته. وهذا الصوت يمكن أن يصفق استحساناً، أو يداهن ويتزلف، أو يلكز الإنسان، أو يغيظه. وقد يلجأ في بعض الأحيان إلى الحيل لكي يدفع الإنسان إلى تغيير ذاته. وتأمل التبصر يعد إحدى الطرق التي يمكن اتباعها من أجل تركيز الانتباه بشكل مباشر على هذا الصوت الداخلي.

تأمل التبصر، أو “الفباسانا”

1. وضع تأمل التبصر هو نفسه وضع تأمل السكينة الذي ذكرناه في الفصل السابق. لا تركز عينيك على الأرضية، وإنما مدهما إلى أعلى. المسافة الموجودة أمامك ستمثل رؤيتك المحيطية.

2. أثناء تنفسك، لاحظ ما يدخل في انتباهك بصرياً. هل تتذكر التدريب الخاص بغلاف الكتاب؟ ذلك التدريب ركز على شيء واحد. الآن أنت ببساطة تركز على أي شيء يمكن أن تراه.

3. لا تفتتن بما تراه. ببساطة ظل واعياً. ستجد أن عقلك يهيم من شيء إلى آخر، من نسيج السجادة إلى لون الجدار، إلى الضوء الذي ينفذ عبر النافذة، إلى الصورة المعلقة على الحائط، إلى رجل الكرسي، أو إلى أي شيء تراه.

يساعدك هذا التأمل على أن تكون واعياً بالأشياء المحيطة بك، وعلى تقدير التفاصيل والثراء الموجود حولك. ونحن نادراً ما نوفر لأنفسنا الوقت لكي نرى العالم من حولنا بهذا الأسلوب المكثف. وعندما تتعلم كيف تفعل هذا، ستجد أن بيئة اليومية تبدو أكثر زهاءً وإثارة للاهتمام.

يصف ترونجبا رينبوش الفباسانا قائلاً:

هذا النوع الأساسي من التأمل يهتم بمحاولة رؤية الأشياء الموجودة. وهناك أشكال عديدة لهذا الشكل من أشكال التأمل، ولكنها جميعاً مبنية على أساليب متنوعة من تفتح الذات. والإنجاز الذي يمكن تحقيقه من هذا النوع من التأمل هو ما يُسمى “التأمل العامل” أو التأمل الانبساطي، حيث يجب الجمع بين الوسائل البارعة والحكمة وكأنهما جناحان لطائر واحد. إنها ليست مسألة محاولة الانعزال عن العالم (ترونجبا رينبوش، Meditation in Action، ص 52).

أتذكر عندما كنت أقود سيارتي مع أمي ذات مرة، وكانت هناك سيارة أخرى تضم بعض أفراد عائلتنا تسير خلفنا. كانت هناك عاصفة ممطرة، وكنت أركز انتباهي بحدة على الطريق لكي أتمكن من القيادة في المطر. كانت أمي تنظر من النافذة ثم قالت: “انظري إلى قوس قزح! إنه رائع!”، نظرت إلى حيث أشارت لثانية ثم أعدت بصري إلى الطريق.

استمرت أمي في وصف قوس قزح ومدى روعته وكيف أنه أصبح مزدوجاً ثم أصبح ثلاثياً. قلت لها إنني لن أتمكن من النظر إليه، لأنني كنت أركز بصري على الطريق.

قالت أمي: “توقفي على جانب الطريق، إذاً”. وكان هذا ما فعلته. فقد أوقفت سيارتي جانباً وجلست فيها أتأمل قوس قزح الرائع.

توقفت السيارة الثانية وراءنا، وصرخ أخي الذي كان يقودها قائلاً: “ما الخطب؟” لقد اتضح لي أن أمي وأنا كنا الوحيدين اللذين وجدا قوس قزح مثيراً للاهتمام بما يكفي للوقوف على الطريق السريع. لقد كان من الصعب علينا أن نشرح للآخرين لماذا وجدنا قوس قزح مهماً لهذه الدرجة. أعتقد أنه قد انتهى بنا الأمر إلى القول إننا توقفنا لمشاهدة قوس قزح لأنه كان باستطاعتنا أن نفعل. لم أرَ قوس قزح رائعاً بهذه الدرجة بعد ذلك أبداً، وحتى اليوم، لا زلت أتذكر بوضوح هذه اللحظة المشتركة التي مر عليها أكثر من ثلاثين عاماً.

إن التأمل يتيح لنا الفرصة لكي نوقف السيارة ونرى قوس قزح. ومن الفوائد غير المباشرة للتأمل أنه سيتيح لك الكثير من الفرص مثل قوس قزح الذي رأيته أنا. ستجد أنه باستطاعتك أن تأخذ دقيقة أو اثنتين لمشاهدة شيء، أو التفكير في فكرة ما، أو الإنصات إلى صوت ما، وتُشرك حواسك في هذه التجربة بشكل كامل. ستتمكن من تركيز انتباهك على الأشياء الموجودة في حياتك اليومية بصورة أكثر اكتمالاً.

وهذا الانتباه، أو التركيز، هو شيء ننهمك فيه جميعاً عندما نعمل أو نلعب. إنه ليس شيئاً جديداً. ورغم هذا، فإن الجديد هو تطوير قدرتنا على اختيار متى وأين نركز. عندما تنشغل بحل مشكلة في عملك أو مدرستك، فإنك سترغب في أن تتمكن من إسكات المشوشات المحيطة بك، وستجد أن التأمل قد علمك أساليب مختلفة لعمل هذا. وعندما تتعلم شيئاً جديداً، فإنك تركز على خطوات العملية وتستبعد المدخلات الحسية التي قد تعيقك عن تعلم الشيء الذي تريده. وعندما تستغرق في لعبة ما، فإنك يمكن أن تتجاهل إشارات الجوع لفترة أطول من المعتاد، وذلك لأنك مهتم ومستمتع باللعبة ولا تريد أن تتوقف.

وتأمل التبصر يدرّب عقلك على الدخول طواعية في حالة من التركيز، وعندها يبدأ التبصر في الظهور. هذا التبصر يهتم بما هو موجود. إنه يهتم بنشاطك الذهني الشخصي، وبالعقبات التي تعيقك عن الاستماع إلى صوتك الداخلي، وبالعقبات التي تعيقك عن رؤية ما هو موجود الآن أمامك. وعندما تزداد مهاراتك التأملية، ستتمكن من التعرف وقبول أي أفكار سلبية موجودة داخلك. ستتمكن من التعامل مع هذه الأفكار بدلاً من إنكارها. سوف تستخدم هذه الأفكار كأرض تزرع فيها بذور تبصرك.

كل شيء مررت به في ماضيك يتجمع ليشكل ما أنت عليه الآن. والمستقبل ينفتح من هذه اللحظة إلى كل الاحتمالات التي يمكن أن تكون عليها. وعن طريق السماح لنفسك بأن تتأمل كل الاحتمالات الماضية، فإنك تتفتح لكافة الاحتمالات المستقبلية أيضاً. الفكرة هي أن تتفحص ماضيك، ولكن بدون أن تغرق نفسك في دوافع وقتية يمكن أن تسبب الضرر أو الألم. التأمل يساعدك في التفكير في الأحداث الماضية والمشاعر التي تسببت فيها ثم يتيح لك أن تتحرر منها بمجرد أن تفهمها.

ربما أنك تكافح لكي تصل إلى حالة ذهنية أكثر روحانية. لكي تفعل هذا، يجب أيضاً أن تفهم الجانب الآخر من نفسك: ظلك. لقد طوّر كارل يونج مفهوم الظل، وهو مكون أقل وعياً موجود داخلك. بدون فهم دوافع هذا الظل، فإنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن تصبح شخصية متكاملة. وفي تأمل التبصر، فإنك لا تتشتت فقط من الأفكار التي تخص، على سبيل المثال، ماضيك أو الجوانب التي تكرهها من ذاتك، وإنما تتأثر أيضاً بين الحين والآخر بالطريقة التي تصرفت بها وبعدم رغبتك في قبول تلك السمات غير المحببة من ذاتك. وظلك، طبقاً لما يراه يونج، يمكن أن يوفر لك المعلومات التي تحتاج إليها لتحقيق التوازن داخل شخصيتك.

كل منا له تبصر فريد خاص به للعالم من حولنا. إننا لسنا كمجموعة الطلاب الذين يتوقع منها معرفة معاني كلمات معينة في درس القراءة، أو تعلم حاصل جمع أو طرح قيم معينة. إن لدينا تفسيرنا الخاص “للكلمات” التي ترد علينا، كما أننا قادرون على الوصول إلى حاصل جمع أو طرح خاص بنا. إننا لسنا محكومين بتفكير خطي من نوع “إجابة واحدة تصلح للجميع”.

ربما تجد أن بعض الأفكار التي نعرضها هنا عن التبصر تناسبك للغاية، بينما البعض الآخر منها لا ينطبق عليك بالمرة. إن تبصرك سيبدأ بما تقرؤه هنا وأثناء محاولتك لمعرفة ما ينطبق عليك منه، وما يتعين عليك تركه للقراء الآخرين.

يمكن أن يساعدك التدريب التالي في فهم “ظلك” والطريقة التي يعمل بها.

التأمل في الظل

فكّر في شيء تكرهه فعلاً.

1. عندما تبدأ في التأمل، ركز على هذا الشيء جداً.

2. افحص هذا الشيء بكل ما فيه من كره ونفور.

3. أثناء تركيزك، لاحظ الأفكار الشاردة التي قد تطرأ عليك.

4. لاحظ أي إحساس تشعر به، أو أي شعور يطرأ على جسدك.

5. استغرق بالفعل في مدى سوء هذا الشيء الذي تركز عليه.

6. أثناء ذلك، لاحظ كيف يتغير موقفك من هذا الشيء.

التأمل في الجانب المشرق

فكر في شيء تحبه فعلاً.

1. عندما تبدأ في التأمل، ركز على هذا الشيء جداً.

2. افحص هذا الشيء بكل ما فيه من حب وجاذبية.

3. أثناء تركيزك، لاحظ الأفكار الشاردة التي قد تطرأ عليك.

4. لاحظ أي إحساس تشعر به، أو أي شعور يطرأ على جسدك.

5. استغرق بالفعل في مدى روعة هذا الشيء الذي تركز عليه.

6. أثناء ذلك، لاحظ كيف يتغير موقفك من هذا الشيء.

إن نتيجة التدريبين السابقين يمكن أن تدهشك حقاً. لقد وجدت أنني عندما أفحص شيئاً أكرهه، ترد على ذهني أفكار تبين لك أن هناك بعض المزايا الإيجابية مختلطة مع هذا الشيء السلبي. والعكس صحيح أيضاً عندما أفحص الأشياء التي أحبها. قد يكون التبصر بسيطاً كأن أفكر “لماذا أقضي وقتاً ثميناً في إجراء فحص دقيق لهذا الشيء الذي أحبه بالفعل؟” وقد يكون التبصر في كيفية لعب الظل مع الضوء لتكوين الظلال وإضافة عمق للصورة.

ملخص

قد يراوغك التبصر لبعض الوقت. لذلك، فإن الصبر ضروري لتحقيق النتائج التي تصبو إليها مع هذا النوع من التأمل. حتى الآن، تعلمت أن تكون كريماً مع نفسك، وتقبل أي أفكار تأتيك أثناء التأمل. وتعلمت أيضاً كيف تنظم أوقات تأملك وتخصص لنفسك بضع دقائق من وقتك (صورة أخرى من الكرم مع الذات). الآن يجب أن تستمر في فعل ما تقوم به، حتى إذا بدا لك أن شيئاً لا يحدث.

في الفصل التالي، سنستكشف كيف يؤدي التأمل إلى تغيير حالات الوعي.