هناك عنصران يدخلان في التأمل: التركيز concentration والإدراك awareness (الانتباه لما تركز عليه والانتباه للبيئة المحيطة بك مباشرة). ونفس هذين العنصرين يدخلان في كل نشاط ناجح يقوم به الإنسان. فإذا كنت تستطيع التركيز في المهمة التي تقوم بها، وإذا كنت تستطيع أن تحوّل انتباهك بالكامل لها، فإنك ستكون أكثر نجاحاً في تحقيق ما تريد. ومن الممكن أن تلاحظ وجود هذا التركيز والإدراك حولك طوال الوقت.
تدريب
ملاحظة الإدراك في الآخرين
تذكر وقتاً كنت تراقب فيه طفلاً وهو يلعب. إذا لم يكن بإمكانك تذكر وقت كهذا، فانطلق إلى حديقة عامة أو أي مكان تستطيع أن ترى فيه الأطفال الصغار وهم يلعبون لبعض الوقت. ومن قبيل الذوق واللياقة، اطلب من الأبوين أو المرافقين للطفل أن يسمحوا لك بمشاهدته وهو يلعب.
1. لاحظ ما يفعله الطفل. راقب حركاته البدنية، وتعبيرات وجهه، والأصوات التي يصدرها.
2. لاحظ أنه بينما يركز الطفل على ما يلعب به، فلا شيء آخر يبدو مهماً بالنسبة له. إن اللعب يحتل اهتمام الطفل بالكامل. وقد لاحظ الخبراء أنه حتى الأطفال الذين يعانون نقص الانتباه يستطيعون أن يقضوا ساعات في الأشياء التي تثير اهتمامهم.
3. بعد ذلك، لاحظ ما يحدث عندما يتشتت انتباه الطفل. ماذا يحدث؟ هل يقوم الطفل بعمل شيء آخر؟ هل يعود انتباهه مرة أخرى إلى ما كان يقوم به؟ هل يبين لك هذا كيف يدرك الطفل البيئة المحيطة به؟
إن الأطفال يمكن أن يكونوا معلمين رائعين للكبار. إنهم يستطيعون تركيز انتباههم على شيء واحد فقط في نفس الوقت. وهم يستطيعون التخلي عن هذا الشيء لصالح الشيء التالي الذي يجذب انتباههم. ونحن نستطيع أن نتعلم الكثير عن كيفية العيش في هذا العالم من هذا التدريب البسيط.
بعد أن تبدأ في التأمل كل يوم، ما نوع النتائج التي تتوقعها؟ وبالرغم من أنك قد يكون لديك سبب واحد أو أكثر يدفعك لبدء التأمل، فإنك قد تجد أنك تحصل على تشكيلة متنوعة من النتائج. القائمة التالية تسرد لك قليلاً من هذه النتائج:
• القدرة على التركيز على شيء واحد في نفس الوقت. هذه القدرة سيكون لها قيمة كبيرة في كل ما تفعله. فحتى إذا كنت تحاول عقد رباط حذائك بسرعة أو تقوم بتحضير وجبة غذائية معقدة، ستجد أن الاهتمام بالتفاصيل مسألة ضرورية. على سبيل المثال، يمكن أن يركز الطفل انتباهه على نملة صغيرة تدخل من بين ثنايا الصخور لتختفي ثم تظهر مرة أخرى. وأنت أيضاً يمكن أن تركز انتباهك على أدق التفاصيل مما سيزيد من كفاءتك واستمتاعك بما تقوم به. فالتأمل يساعدك على تطوير تركيزك والحفاظ عليه.
• الإدراك. من المهم أيضاً أن تفهم ما تلاحظه في حياتك اليومية. على سبيل المثال، عندما تسمع صوتاً مفاجئاً من السقف، فسيكون من المفيد بالنسبة لك أن تتمكن من تمييز إن كان هذا الصوت جذع شجرة سقط فوق السقف أو أنه لص يحاول اقتحام منزلك. ومعرفة مكانك داخل غرفة مظلمة يساعدك في العثور على مفتاح الإضاءة بسهولة. ومعرفة أنك قد استيقظت تواً من حلم يساعدك في وضع هذا الحلم في سياق حياتك اليقظة. إن التأمل يساعدك في تطوير إدراكك.
• إدراك المشتتات. في الغالب، لن تعرف ما تركز انتباهك عليه بالفعل. هل تتذكر مرة كنت تقود سيارتك ثم وجدت نفسك قد قطعت مسافة كبيرة دون أن تلاحظ ما مر عليك في الطريق؟ إن عقلك كان مشغولاً بشيء آخر وبالتالي لم تلاحظ الطريق. هل كنت جائعاً ذات مرة وتناولت طعامك بسرعة دون أن تتذوق طعمه؟ إلى أين أخذك عقلك وأنت تتناول الطعام، وما الذي شتتك عن تذوقه؟
• البقاء في اللحظة الحاضرة بكامل إدراكك. إن قدراً كبيراً من معاناتنا له علاقة بعدم قدرتنا على البقاء في الحاضر بكامل إدراكنا. فالكثير من الناس يسعون بجهد جهيد إلى الابتعاد عن اللحظة الحاضرة لكي يتجنبوا ما يؤلمهم، ولكن هذا التجنب في حد ذاته يجلب لهم المزيد من المعاناة. ففي الغالب، سيضطر هؤلاء إلى العودة إلى الحاضر وإلى الألم الذي يهربون منه إن عاجلاً أم آجلاً لمواجهته. عندما نمارس لعبة ما، يمكن أن نستمر في اللعب حتى إذا شعرنا ببعض الألم. إننا نستمر في اللعب رغم الألم لأننا نجد اللعبة ممتعة. يقول خينبو كارثار رينبوش: “لماذا لا نستطيع أن نتعامل مع أنواع الألم الأخرى بنفس القدر من المرح؟ إن القدرة على هذا موجودة لدينا بالفعل” (من كتاب Transforming، ص 9). إننا نستطيع أن نطبّق هذا الأسلوب على أي ألم آخر نشعر به. فعن طريق زيادة التركيز والإدراك، نواجه الألم العاطفي ونتعامل معه فوراً، بدلاً من تجاهله وتأجيل اتخاذ قرار بشأنه. بالطبع ليس كل ألم يزول بمجرد أن ننتبه له. ورغم هذا، فإن المعاناة ستقل عندما نفهم طبيعة الألم الجسدي والذهني والعاطفي.
تطوير الإدراك
جزء من تعلم مهارة جديدة هو إدراكنا للهدف من تعلمها والمتطلبات التي يجب أن نوفي بها من أجل الوصول إلى هذا الهدف. والتأمل لا يختلف عن هذا. حتى الآن، رأينا أن الإدراك من النتائج المحتمل الحصول عليها من التأمل، وأن التركيز يدخل في تلك العملية. ما الذي نستطيع أن نفعله لتحسين تطوير إدراكنا؟ إننا ببساطة ننتبه لأي شيء يحدث خلال التأمل.
لنفترض أن طريقة التأمل التي تتبعها حالياً هي أن تمعن النظر في لهب شمعة ما. ستجد أن التركيز على لهب الشمعة مسألة سهلة، وتبدأ في تنفيذ المهمة بسرعة. قريباً، ستجد أن عقلك قد بدأ يهيم في الحكة التي تشعر بها في ركبتك. ستعيد تركيز انتباهك إلى لهب الشمعة، ولكن بعد أن تحك المنطقة التي تسبب لك الحكة. بعد هذا، ستبدأ في ملاحظة أن لون وكثافة ما تراه حول لهب الشمعة يتغير. وعندما تطرف عينيك، يتغير اللون مرة أخرى. سترى الشمع ينهال على جسم الشمعة. ستبدأ في الإحساس بقلب الشمعة، رغم أنها تبعد عنك عدة أمتار. تبدأ في إعادة تركيزك على لهب الشمعة. ربما تستسلم وتتوقف عن التأمل عند هذه النقطة محبطاً من أنك لم تستطع أن تُكمل هذه المهمة البسيطة.
أنت لم تتمكن من تركيز انتباهك بصورة ثابتة على لهب الشمعة، رغم أن هذا كان هدفك، ورغم أنك تمكنت من القيام بهذا لعدة لحظات في البداية. لماذا نجد أن الحفاظ على مستوى إدراكنا صعب بهذا الشكل؟ عندما نفكر في هذا القدر الكبير من مستويات التجربة الذي يدخل في مثل هذه المهمة البسيطة، فإن الإجابة تعني الكثير. إننا كائنات معقدة مصممة للبقاء في بيئة مليئة بالمخاطر. لذلك، فإن الحواس التي نستخدمها لفهم ما يجري حولنا لا يمكن ببساطة “إطفاؤها” عندما نقرر التركيز على شيء ما. إن هذه الحواس تستمر في العمل بصورة دائمة، وكذلك مخنا. فالأفكار ترد إلى ذهننا طوال الوقت، سواء كنا في حالة نوم أو يقظة. إننا لا نستطيع ببساطة أن نغلق الباب أمام هذه الأفكار.
ورغم هذا، فإننا نعلم أن التأمل اليومي يمكن أن يهدئ الأعصاب، ويخفض ضغط الدم، وغير ذلك. ونحن نعلم أن هناك تغييراً يحدث في أجسامنا بمجرد أن نبدأ في التأمل. التدريب التالي يوضح لنا طريقة للانغماس في كل ما يمكن أن يشتتنا من أجل أن نفهم كيفية تدريب انتباهنا بشكل أفضل.
الانتباه
أثناء قراءتك لهذه الصفحة، وأثناء قراءتك للكلمات الحالية، الفت انتباهك إلى يديك التي تمسك أو تلمس الصفحة التي تقرؤها الآن. وأثناء ذلك:
1. لاحظ المعلومات التي تصل إلى وعيك حول ملمس الورق، وسمكه، وغير ذلك.
2. انقل انتباهك إلى يديك وأطراف أصابعك نفسها.
3. افتح إدراكك إلى البيئة المحيطة بك: الكرسي الذي تجلس عليه، والغرفة، ودرجة الحرارة فيها، والأصوات التي تسمعها، والروائح التي تشمها، وغير ذلك.
4. اقض بعض الوقت في هذا التدريب.
في هذا التدريب، قمنا عن عمد بفتح ذهننا إلى أي شيء يمكن أن نلاحظه. وفي هذا التدريب، يمكنك أن تلاحظ الحواس المختلفة والأفكار التي تنقلها إلى ذهنك حول التدريب نفسه، والكلمات، والورق، والبيئة المحيطة بك. ربما تبدأ في اكتشاف أنه قد تكونت لديك بعض المشاعر فيما يخص هذا التدريب. وأثناء تنفيذ التدريب، قم بتطوير توجه فضولي أو توجه ودي تجاه هذه العملية.
هناك ثلاث نتائج لتطوير الإدراك، وهي الانتباه الإيجابي غير المشروط، والتبصر، والبديهة. سنناقش هذه الموضوعات بالتفصيل في الفصول القادمة من الكتاب، ولكنني سأذكر بعض المعلومات عن كل واحد منها هنا لأن فهم هذه العناصر الثلاثة يعد من الأفكار المركزية في تدريبات التأمل.
الانتباه الإيجابي غير المشروط
هذا المصطلح مأخوذ من علم النفس والعلوم الإنسانية، وهو يعني ببساطة أن تظل منتبهاً إلى نفسك (أو إلى شخص آخر) بدون أن تقوم بإصدار أي أحكام. في الواقع، فإن تحقيق هذا صعب فعلاً. فنحن نقوم بإصدار الأحكام بصورة دائمة ونجد دوماً بعض العيوب الصغيرة في أنفسنا أو في الآخرين أو في البيئة المحيطة بنا. وعندما نتورط في إصدار حكم على شيء، فإننا لا ننتبه بشكل كامل لما يحدث في نفس اللحظة، مما قد يُسهم في توليد بعض المعاناة لنا. فرغم كل شيء، عندما نحكم على شيء ما بأنه سيئ، فإننا سنكره التعامل معه. لذلك، قد نجد في أنفسنا بعض المعاناة عندما نضطر إلى التعامل معه. أما الانتباه الإيجابي غير المشروط فإنه يسمح لنا أن ندرك الأشياء بدون أن نجري عملية تقييم لها.
التبصر والبديهة
عندما تبدأ في اكتساب مهارة تركيز انتباهك، فإنك ستبدأ في تجربة البقاء لفترات أطول من الوقت دون أن يشتت انتباهك أفكار معينة. وفي مثل تلك اللحظات، ستجرب أن تكون نفسك فقط. عندها يمكن لبديهتك أن تتحدث معك. لا بد أن نمر بلحظة هدوء حتى نتمكن من سماع صوت بديهتنا.
التبصر يحل مسألة ما أو يكشف لك حلاً لمشكلة ما. من الممكن أن يدخل التبصر في أي شيء تعمل فيه حالياً. ستشعر بإحساس بأنك “اكتشفت” شيئاً أو بأنك وجدت أخيراً حلاً للغز. يمكن أن تجد التبصر في أثناء أو بعد التأمل.
ستتمكن من التعرف على صوت البديهة لأنه مشرق ولمّاع وعالٍ وواضح. يمكن أن يكون عادياً أو غريباً جداً. وربما لا تربط بين ما تخبرك به بديهتك وبين شخص أو شيء معين. وفي الناحية الأخرى، ربما تعرف بالضبط ما يجب أن تفعله بالمعلومات التي قدمتها لك البديهة.
إذا كنت تمارس التأمل، ووردت إلى ذهنك فكرة ولا ترغب في أن تضيع منك، يمكنك أن تكتب بعض الملاحظات لنفسك حولها. بعد ذلك، ارجع إلى تأملك. وفيما بعد، يمكنك قراءة الملاحظات التي كتبتها وتحديد ما يجب أن تفعله حيالها، سواء كانت هذه الفكرة تتعلق بعملك أو بحياتك الشخصية أو بأي شيء آخر. في البداية، قد تعتقد أن كل فكرة تطرأ على ذهنك أثناء التأمل مهمة، وقد تجد دفتر الملاحظات يمتلئ بسرعة. ولكن مع قليل من التدريب، ستتمكن من تمييز الأفكار المهمة والتي لها معنى بالنسبة لك، وستجد أن ما تكتبه في دفتر الملاحظات يقل تدريجياً.
ملخص
إذا بدا لك أن الوصول إلى النتائج التي ذكرناها في هذا الفصل صعب، فتذكر أول تدريب قمت به في الفصل 1، والذي يدعوك إلى تأمل غلاف الكتاب. ففي خلال لحظة واحدة أو اثنتين تمكنت من رؤية الأشياء بشكل جديد. وبعد قضاء دقائق بسيطة في التأمل كل يوم، يمكنك زيادة تركيزك وإدراكك أيضاً.
في الفصل التالي، سنتحدث عنك أنت، وسنتعرف على طرق لتطوير موقف إيجابي تجاه التأمل.