إنك بالحقيقة أكثر قُدماً مما تظن. فالجسم البشري الذي يحتويك هو حصيلة ملايين السنين من مسيرة التطور قضى معظمها في بيئات وظروف غذائية مختلفة تماماً عما هي اليوم. فمن خلال فهم دينامية تطورنا سنتزود بالمعالم الأساسية لتنشيط حيويتنا وصحتنا.
لكي نرى أو لا نرى
لنأخذ حالة فيتامين C، فمن المعروف عملياً أن معظم الحيوانات عدا خنازير غينيا أو الخفافيش النباتية وطير البلبل وحيوانات الرئيسات (Primates) ومن ضمنها الإنسان تصنّعه في أجسامها وليست بحاجة إليه عن طريق الغذاء. فمعظم الحيوانات تنتج ما يعادل 3000 – 16000 ملغ منه يومياً – وهذا مختلف قليلاً عن قيمة RDA لـ 60 ملغ، وأكثر تماشياً مع المستوى المعروف اللازم لتنشيط المناعة وتقليل خطر الإصابة بالسرطان. وبالحقيقة فإن الحيوانات المنتجة لفيتامين C تكون ممنّعة ضد بعض السرطانات والأمراض الفيروسية.
وقد افترض العالم Linus Pauling بأننا فقدنا قابليتنا الأصلية في تصنيع هذا الفيتامين من خلال تناولنا الأغذية والفاكهة الغنية به ولسهولة الحصول عليه من هذه الأغذية. وبالحقيقة، فإن الميزة المشتركة بيننا وبقية الحيوانات التي فقدت قابلية تصنيع فيتامين C هي احتواء غذائنا في مراحل سابقة على الفاكهة. والآن يعيش الإنسان في غابة واقعيّة مما يجعله عرضة للافتقار إلى هذا الفيتامين، كما أوضحته النسب العالية للإلتهابات والأمراض الناتجة عن قصور أداء الأنظمة المُحصَّنة. وبينما تتمكن الغوريلا، من ناحية أخرى من التهام 3000 ملغ من هذا الفيتامين يومياً (حوالى 66 برتقالة) لا يتناول الولد قطعة منها في الأسبوع، بينما يبلغ متوسط أخذ فيتامين C من قبل البالغين حوالى 50 ملغ. ويناقض هذا المستوى المتدني من أخذ الفيتامين تصميمنا التطوري وهو ببساطة غير كافٍ لإدامة الصحة المُثلى. وحيث أن الإنسان في كافة أدواره الحياتية أصغر من الغوريلا فإن تناول 22 برتقالة يومياً قد يكون كافياً ولكن أخذ غرام من هذا الفيتامين بشكل حبة دواء أكثر يسراً!
الإنسان المائي (Homo Aquaticus)
من أكثر المفاهيم غموضاً في تاريخ تطورنا البشري هو ما يتعلق بكيفية انتصابنا، وتطور دماغنا المعقد، واستخدام الأيدي، وقدرة استخدام اللغات.
فنسبة وزن دماغنا إلى وزن الجسم تزيد عشر مرات عن نسبتها في كل الأحياء. وبينما تُقبل حقيقة أننا نشترك في بعض خصالنا مع ثلاث من فصيلة الرئيسات – متسلقي الأشجار، ومن ضمن هذه الخصال انعكاس القابض لدى وليد الشمبانزي والإنسان والذي يفيد في الانتقال بين أغصان الأشجار.
ومن النظريات التي تتصاعد مصداقيتها في الأوساط العلمية تلك التي تقول بأن أسلافنا الأوائل قد اختاروا «الجيرة المثلى» فيما يتعلق بالتغذية إذ يدعي البروفسوران Michael Crawford وDavid Marsh، مؤلفا كتاب التغذية والتطور (Nutrition and Evolution) بأن المحيط الذي ينشأ فيه النوع هو العامل الغالب في تحديد تطوره. ويعتقد Derek Ellis، بروفسور علم الأحياء في جامعة فيكتوريا بكندا، بأنه خلال فترة حرجة من تاريخ تطور أسلافنا استنزفوا فيها البيئة القربمائية الغنية بالمغذيات حيث كانوا يقتاتون بالمحار والقشريات والأسماك مستهلكين المستويات العالية من الدهون الأساسية والمغذيات الضرورية لتطوير دماغ الإنسان الحالي وجهازه العصبي المعقدين واللذين لا يضاهيان إلا في الثديات المائية.
وهذا بالتأكيد يفسر الاختلاف الكيميائي الكبير بين دماغ الإنسان وأدمغة الحيوانات الأخرى إذ تكون الدهون الأساسية المعقدة الجزء الأغلب من تركيب الدماغ البشري. وطبقاً لكل من Elaine Morgan وMarc Verhaegen فإن ذلك هو السبب بإرادة الله في انتصاب قامتنا وفقدان الشعر، وتطويرنا لطبقة من الدهون تحت الجلد مما جعل الإنسان من الأنواع القليلة من الأحياء المعرضة للسمنة (obesity) أو البدانة. ويعتقد هذان الباحثان أن الإنسان الأول قد اضطر إلى الخوض في الماء للتزود بالغذاء. ومن خلال مسيرة الزمن سمحت لنا هذه الخصال من البقاء بصورة أنسب في البيئة نصف المائية.
وتستطيع هذه النظرية أيضاً أن تفسر ظاهرة «إنعكاس الغوص» غير الاعتيادية في الأطفال الذين لم يتجاوزوا الستة أشهر من أعمارهم حيث يغطس الطفل عند إسقاطه في الماء ويوقف تنفسه مع انخفاض معدل نبض القلب ثم يطفو ليدير رأسه إلى جَنْب ويتنفس ثم يغطس ثانية، ويشبه هذا الانعكاس ما تقوم به الثديات المائية كالدلافين، التي تحتوي زعانفها (flippers) بالمناسبة على جميع العظام التي تحتويها أيدينا وأذرعنا. وتشير الدلائل على أن هذه الأحياء قد نشأت في البرية ثم عادت إلى الماء وبقيت هناك. ألم يخالجك تساؤل عما يمكن أن تحبه في البنية المائية؟
تلميحات من الماضي – أمل للمستقبل
وبينما يتطلب لهذه النظريات أن تحظى بالقبول الأشمل، أظهر أحد مشجعي نظرية «الإنسان المائي»، وهو البروفسور Michael Crawford، أحد علماء الحيوان والمتخصص في الكيمياء الحيوية للدماغ، أن الطفل يحتاج لنموه الذهني المثالي إلى نسبة عالية من الدهون الأساسية الموجودة في الأسماك. وأن هذه الدهون، وهي تفرز أصلاً في حليب الأم، تضاف الآن إلى حليب الأطفال المصنّع بتوجيه من منظمة الصحة العالمية WHO. أما مصادر هذه الدهون الأخرى فهي البذور وزيوتها الضرورية لكل من الأم ووليدها. وتحتاج المرضعات، من اللواتي يتحاشين الدهون مخافة زيادة الوزن، إلى أن يتناولن الأسماك أو الحبوب وزيوتها للمحافظة على صحتهن وكذلك لتطوير أدمغة الأطفال الرضع.
تغلّب على العادة وعد للطبيعة
تتقاطع حياتنا العصرية في نواح متعددة مع معطيات ملايين السنين من التطور. فعندما تهب سريعاً على صوت المنبه في الصباح وتنطلق كالآلة إلى المطبخ قبل أن يستفيق دماغك أو جسمك تماماً لتحضر فنجاناً من القهوة أو لتدخين سيجارة متبوعة بقطعتين من الخبز المحمّص مع المربى وبقدح من عصير البرتقال فإنك تكون كغيرك من سواد البشر ممن يعيشون خارج حدود تصميمهم الطبيعي. والنتيجة قد تكون ضعف في التركيز، أرق، تفاوت مزاج، انخفاض في الطاقة، شره، وزن غير متناسق، الشعور بالإرهاق والتوتر وربما مرض يهدد الحياة.
من ناحية أخرى لم يمتلك أسلافنا ساعات منبهة وعندما تدخل خيوط الفجر العيون والطبقات الشفافة من الجمجمة لتحث الغدة الصنوبرية والنخامية لكي تفرز هرمون الأدرينالين في مجرى الدم الذي يقوم بإيقاظنا طبيعياً ونحن منتعشون ونشيطون عكس ما يحدث عندما يوقظنا في الظلمة صوت المنبه. وبدل أن نتيح لأجسامنا أن تستفيق طبيعياً فإننا نملؤها بالمنبهات كالكافيين والنيكوتين والنتيجة زيادة تحميل الأدرينالين في الجسم. صحيح أنك تستفيق ولكن الجسم يبقى يجاهد لإنتاج الهرمونات المهمة كالأنسولين والكلوكاجون ليعيد استقرار مستويات السكر المتدفقة في الدم. وعليه دع الضوء يدخل حياتك واستيقظ مبكراً إذا أردت أن تتمتع بطاقة أوفر.
أكل أم إلتهام
نحن لم نُصَمم لكي نأكل حال أن نستيقظ إذ أن قليلاً من عسر الهضم يمكن أن يحصل عندما يكون الجسم لا يزال نائماً فمن المستحسن أن نأكل بعد أن نصحو تماماً، بعد ساعة من الاستيقاظ. وهنالك طريقة أخرى لمساعدة الجسم على الصحو التام وهي أن نأخذ دشاً بارداً سريعاً بعد الدش الحار والذي يحفز الدورة الدموية والهضم. كذلك فإن العديد من الناس يعملون أفضل عندما يقتصر إفطارهم على الكاربوهيدرات السريعة الهضم كالفاكهة والحبوب بدل المأكولات الغنية بالبروتينات المطبوخة. فجميع الوجبات – يتوجب أن تكون خفيفة فقد صممت أجسامنا لكي تأكل بتعقّل لا أن تلتهم الغذاء فالوجبات الكبيرة تكون صعبة الهضم ويمكن أن تسبب عسر الهضم والنعاس فقد كان أسلافنا يقتاتون عندما يجوعون وليس بأوقات محدودة أو كتعويض انفعالي. وقد أظهرت الدراسات الخاصة بمقارنة تأثير الأكل القليل المتعدد مع أخذ 2 – 3 وجبات كبيرة يومياً، أن الصحة الأمثل تتوفر مع الوجبات الصغيرة المتعددة تماماً كما كان يفعل أسلافنا سكان الأدغال، وهذا يعني التزود بالفاكهة الطازجة (ثلاث أو أربع قطع في اليوم) بين الوجبات الصغيرة. ويساعد هذا أيضاً في جعل ضغط مستوى السكر في الدم متوازناً ليزودنا بالطاقة المستمرة مع وفرة في المزاج والتركيز.
والحركة منظم آخر مهم للشهية. فذوو الحياة الخاملة من الناس يتصفون بشهية ضعيفة ويحتاجون بذلك إلى غذاء فيه سعرات حرارية أكثر مقارنة بمن يعيشون حياة نشطة. فالنشاط الحركي الجسماني يبدو أساسياً في موازنة الشهية مع حاجات الجسم المختلفة.
ضد الحبوب
لقد تغيرت أنماط غذاء الإنسان المعاصر تماماً، وتبعاً لذلك تغيّر نوع الغذاء. لقد صممت فصائل الرئيسات (Primates) كي تعيش على الكاربوهيدرات مع شيء من السكر. إلا أننا تعلمنا أن نخالف الطبيعة ونفضل الحلو والسكر من الغذاء أو اختيار غذاء بتركيز عالٍ من السكر كالعصير والفاكهة المجففة والعسل وهي مأكولات زائدة الحلاوة تفوق قدرة الجسم على التعامل معها. فالغذاء الطبيعي يحدد كل السكريات المركزة سواء كانت عسلاً أو سكراً، ويختار غذاءً متكاملاً مكوناته الطبيعية من السكر. كما يحدد الفاكهة المجففة ما لم تكن منقوعة أو تؤكل بكميات قليلة مع أغذية بطيئة العطاء بالكربوهيدرات كالشوفان – كذلك يتوجب تناول عصير الفاكهة بشكل محدود أو مخفف بالماء.
لم يتناول أسلافنا الأوائل منتوجات الألبان أو الحبوب. فقد ابتدأت زراعة الحبوب في العشرة الآلاف سنة الماضية ويعتقد بعض العلماء بأننا لم نتعود احتمالها حتى الآن وعلى عكس المجترات من الحيوانات التي تتغذى بالحشائش والحبوب. ولعل هذا يفسر سبب سعة انتشار الحساسية للحبوب. ومن بين جميع الحبوب يشخص الحنطة. والحنطة الحالية قد اختلفت كثيراً عن تلك التي زرعت في العصر البرونزي فالمادة المسماة الغلوتين (gluten) والحاوية على مادة الكليادين (gliadin) المهيجة للأمعاء تشكل 78% من مكونات البروتين في حنطة اليوم. وعندما تتفاعل الخميرة مع السكر، ينشط الغلوتين فيُنتج خبز اللوف (Loaf) الخفيف وهو خبز جيد يعزز أرباح شركات المعجنات والمخابز لأن التكاليف المادية أقل إلا أنه خبر سيء لأمعائنا. إن التفاعلات المضادة للخبز هي أكثر مما هو متوقع ضد الباستا (Pasta) القديمة المصنوعة من الحنطة الخشنة مع محتوى قليل جداً من الغلوتين.
نيء أو مطبوخ؟
ومن المضافات الحديثة للمطبخ كانت الحرارة (النار). فقد اكتشف البشر الحرارة منذ أربعمائة ألف سنة وقبلها كان الغذاء يؤكل نيئاً. يغير الطبخ بالحرارة الجزيئات في الغذاء ويدمر عدد كبير من المغذيات الحيوية والأنزيمات التي تحلل الغذاء إلى مركبات أبسط يمكن استخدامها من قبل الجسم. فالغذاء الطبيعي إذن هو ذلك الغذاء الذي يحوي في الأغلب على غذاء نَيْء أو مطبوخ قليلاً. يحتاج الغذاء النيء إلى مضع أكثر والذي لا يعمل فقط على تفكيك الغذاء ومزجه مع الأنزيمات الهاضمة في الفم وإنما يرسل الإشارات إلى القناة الهضمية لتحضير الخليط الملائم من الأنزيمات الهاضمة اعتماداً على ما هو موجود في الفم. ومعظم الغذاء سريع التحضير (fast food) هو غذاء هش يحتاج إلى أقل مضع ممكن وبالنتيجة أصبح فكا الإنسان المعاصر أصغر من فكي أسلافه.
الغذاء التطوري
إن الحقائق التي قرأتها حتى الآن هي مجرد أمثلة لمبادئ الديناميكا التطورية وهي أساسية للوصول إلى التغذية المثلى وهي توضح أيضاً كيف أن الإنسان العصري يحفر قبره بشوكة وسكين باستخدامه الأغذية الغنية بالسكر والدهون المُعالَجَة بعمليات صناعية متعاقبة. ومن خلال تقصي ودراسة ما كان يقتات به أسلافنا وكيف تكيفت أجسامنا لتلك الأغذية، يمكننا أن نتعرف على تلميحات ومعلومات حيوية حول نوعية المغذيات التي تحسّن وتنشّط صحتنا. وتشير النظريات العلمية الحديثة بأن تطور فصائل الرئيسات الباكرة (Primates) قد ابتدأت في الغابة التي زودتها بالأغذية الغنية بالكربوهيدرات من الفاكهة والخضار، والتي توفر كميات هائلة من الفيتامينات والمعادن مقارنة بأغذيتنا الحالية. وعلى سبيل المثال بلغ مستوى أخذ فيتامين A في ذلك الوقت ولا سيما من البيتا كاروتين حوالى 50000 وحدة عالية ius وهي 20 مرة أكثر من معدل ما يؤخذ منه هذه الأيام.
ومن خلال دراسة التطور أصبح واضحاً أن المحيط الذي نختاره يحدد طبيعة غذائنا الذي يغير من تصميمنا واحتمالات بقائنا المستقبلي. لقد أصبح بمقدور الإنسان أن يغير في محيطه بشكل لم يسبق له مثيل كما أصبح بمقدوره اختيار ما يأكله تماماً فهل سنتمكن من تغذية أنفسنا بالطريقة التي لا تعطل مصادر الأرض؟ أم ترانا سنستمر في تلويث واستهلاك البيئة وإكثار النسل؟ فإذا اخترنا الخيار الأخير فإن الأرض وتلك الأنواع التي تكيفت بشكل ممتاز للتغيرات ستبقى أما البشرية فلا. أما إذا اخترنا الخيار الأول فكم سيصبح العالم جميلاً ورائعاً. فالكواكب الجيدة، بعد كل هذا، يصعب إيجادها.
بعض المعلومات البسيطة التي تساعدك في التعامل مع نظامك الطبيعي:
● إصحَ مبكراً في الصيف ومتأخراً في الشتاء تماشياً مع ساعات الضوء النهاري ولا تأكل متأخراً في الليل، أو بعد أن تصحو من النوم تماماً.
● كُلْ عندما تجوع وليس حسب العادة. كُلْ ولا تلتهم. كُل قليلاً ومراراً مع وافر من الفاكهة بين هذه الوجبات الصغيرة.
● اقتصر في طعامك على الأكل النباتي على أن يكون نصف ما تأكله من الفاكهة والخضار والبندق والحبوب. وإذا ما تناولت اللحوم تجنب تلك المطهوة كثيراً واختر الأسماك بدل اللحوم الحمراء وتناولها فقط مع الخضار.
● تناول الأغذية نيئة وغير مصنّعة قَدْر الإمكان وتجنب الكيميائيات المنتجة اصطناعياً.
● تجنب الأغذية المركزة كالسكر والمُحليات. خفف عصير الفاكهة واشرب الكثير من الماء.
● خفف ما تتناوله من منتجات الألبان والحنطة والحبوب المصقولة.
● مارس الرياضة البدنية وحافظ على نشاطك.