يعبر التهاب السحايا (Meningitis) عن إصابة الأغشية التي تغلف الجهاز العصبي المركزي (الدماغ والنخاع الشوكي)، وفي الوقت عينه المادة الدماغية في حد ذاتها، ما يؤدي إلى الإصابة السحائية الدماغية (Meningoencephalitis).
يعود السبب الرئيسي لهذا الداء إلى الالتهاب ومن ثم الإنتان من خلال العديد من الجراثيم، أكانت من فصيلة الفيروس أو البكتيريا. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الإصابات الفيروسية تشكل 75 % تقريباً من الجراثيم التي يتعرض لها الدماغ في هذا المجال، وهي في مجملها حميدة ونادرة المخالطات أو التداعيات؛ أما الإصابات البكتيرية فهي أشد خطورة وفتكاً، ما يستوجب السرعة في التشخيص والإسراع في المعالجة لقطع الطريق عن المخالطات التي تكون غالباً شديدة الوطأة وتؤدي إلى تشكيل خطر داهم على حياة الطفل المصاب.
يصيب هذا الداء الأطفال والأولاد من جميع الفئات والأعمار، منذ الولادة وحتى سن 10 إلى 12، وبنسبة عالية تحت عمر الخمس سنوات مع احتمال أعلى تحت السنتين، وتحصل في جميع فصول السنة مع إمكانية أكثر في فصلي الربيع والشتاء.
تشمل الإصابة علامات سريرية معروفة طبياً تحت عنوان: تناذر السحايا: وهو يشمل ارتفاع الحرارة الحاد، الاستفراغ المتكرر وعلامات مرضية لها علاقة بالجهاز العصبي، تظهرها تحاليل مخبرية تشير إلى اضطراب في السائل الدماغي الشوكي (Cerebrospinal fluid)، وهو السائل الذي يسري في تجاويف وبطين الدماغ وكامل مجرى النخاع الشوكي.
الجراثيم البكتيرية الأكثر انتشار في إصابة سحايا الدماغ
يقتصر هذا البحث على الإصابات البكتيرية للسحايا، ونذكر منها ثلاثة أنواع هي الأكثر انتشاراً لدى الأطفال والأولاد:
1. الشكل الأول: جرثومة مستدمية الأنفلونزا (Haemophilus influenzae) التي تصيب الأطفال بين ستة شهور وست سنوات، وقد تضاءل حدوث هذه الإصابة بشكل ملحوظ في العقدين الماضيين، بعدما وضع قيد الاستعمال لقاح فعال، أدى دوراً هاماً في حملات التلقيح المنتظمة لدى الأطفال دون الخمس سنوات.
2. الشكل الثاني لالتهاب السحايا البكتيري، يتمثل بجرثومة تدعى العقدية الرئوية (Streptococcus pneumoniae) وهي بكتيريا شائعة الإصابة للأطفال والأولاد لاسيما على مستوى الأذن الوسطى، الرئة، ومن مضاعفاتها إصابة السحايا. وقد تزايدت الإصابات بهذه الجرثومة فيما مضى، نظراً لمقاومتها الكثير من المضادات الحيوية، ولأن اللقاح الذي كان متوافراً لا يحمي الأطفال قبل عمر السنتين، ولكن بعد أن توفر لقاح فعال، منذ سنوات، يعطى للطفل باكراً ابتداء من عمر الشهرين، أمكن انحسار الإصابات وتدنيها بصورة ملحوظة.
3. يبقى الشكل الثالث من السحايا البكتيرية أي جرثومة العقدية السحائية (meningococcal) يمكن أن تبدأ بوجود تناذر (أو متلازمة) سحائي واضح وصاعق، في بعض الحالات الخطرة.
تتشكل هذه الجرثومة من عدة فئات (ABCW…)؛ وتنتشر خصوصاً في البلاد الحارة (أفريقيا، دول الخليج العربي…) وفي أماكن التجمعات البشرية، وهذا ما كان يحصل في مناسبات تلتقي فيها مجموعات بشرية تشكل خليطاً من عدة قارات خلال مواسم الحج والعُمرة، حيث كانت تسجل الإصابات القاتلة بالمئات، وقد خفت حدة المرض وانحسرت العدوى بعد إدخال اللقاحات وخصوصاً من فئة (AC).
ومنذ سنوات طرأ تحسن ملحوظ على نوعية اللقاح بعدما أضيفت إليه فئتان جديدتان ليصبح رباعياً (ACWY)؛ وتبقى خطورة المرض أمام الفئة (B) شديدة الفتك بحيث أن اللقاح لا يشملها؛ ومن جهة أخرى يبقى الإنسان الُملقّح مصدر عدوى لنقل الجرثومة إلى المحيطين به، لا سيما الأطفال، كونه أكتسب هو المناعة ضد المرض من خلال اللقاح، ولكنه أصبح «حاملاً سليماً» للجرثومة التي تبقى معششة لديه في البلعوم والحنجرة.
العلامات السريرية للإصابة بداء السحايا البكتيري
تتميز الإصابة عند الأطفال والأولاد، بوجود تناذر سحائي، ثابت في معظم الحالات وهو يشمل مجموعة من العلامات تؤلف «ثالوثاً سحائياً» قوامه ارتفاع حاد للحرارة (39 إلى 40 درجة مئوية)، أوجاع في الرأس على شكل صداع واستفراغ يؤدي إلى طرح محتوى المعدة بعيداً، يضاف إلى ذلك حالة إمساك غير ثابتة، وفي مرحلة لاحقة حصول تشنج أو تصلب في عضلات الرقبة وخوف من النظر إلى الضوء.
• أوجاع الرأس ثابتة ومقاومة لمضادات الألم المتناولة عادة، تجتاح الرأس كله لتتمدد نحو الرقبة من خلف.
• الاستفراغ يحصل عادة على شكل قذف إلى الأمام وبقوة متغيرة ومتواترة مع حدوث الصداع، وما يزيدها إمكانية، التغيرات لوضعية الجلوس.
• بالنسبة إلى ارتفاع الحرارة، فهي تتعدى درجة 39 عموماً، وترافقها رعشة برد مع تعرق وآلام في العضلات.
خلال الفحص السريري يستنتج الطبيب علامات التناذر النخاعي الشوكي الذي يمكن أن يختصر بألم يزداد بانحناء رأس المصاب وانحناء الأطراف السفلى مع هذه الحركة، ويمكن استنتاج ذلك بطريقة أفضل حين يكون المريض جالساً ممدد الساقين؛ ويمكن كذلك ملاحظة حصول وضعية «كلب الصيد» من البداية ما يشير إلى انقباض عضلات العمود الفقري؛ إلى جانب ذلك تحصل تغيرات في مستوى الوعي تصل في بعض الحالات إلى درجة الغيبوبة، أو نوبات عصبية على شكل تشنجات، أو علامات خلل موضعية في ردة الفعل الارتكاسية في الركبة خصوصاً، أو وجود تناذر مخيخي أو إصابة أحد أعصاب الجُمجُمة، أو اضطرابات أخرى تؤثر على مستوى ضغط الدم الشرياني، انتظام الحرارة، حركة التنفس….
أشكال سريرية خاصة عند الأطفال حديثي الولادة والرضع
تتبدى هذه الإصابات البكتيرية، خصوصاً عند المولودين الجُدد، من خلال ظواهر سريرية خادعة في معظم الأحيان، حيث تغيب «السيبة السريرية الُثلاثية» (ارتفاع حرارة، صداع، استفراغ) ما يشكل مصدراً للتأخر في التشخيص وما يترتب على ذلك من خطر التداعيات الوظيفية لأعضاء الجسم (القلب، الرئتان، الدماغ..) من ناحية، وعلى حياة الطفل فيما بعد. من ناحية أخرى هنالك قاعدة تقول: عند الشك بحصول الإصابة لدى الطفل المحرور يجب عدم التردد بإجراء عملية بزل السائل المخي الشوكي، لنفي أو إثبات وجود المرض من خلال التحليل المخبري لهذا السائل، وتبيان التغيرات البيولوجية التي تعرض لها (لون السائل، نسبة الغليكوز، الزلال، عدد الكريات البيضاء..) وعملية زرع مخبري لعينة من هذا السائل والتي تسمح بتحديد نوعية البكتيريا في حالة الإصابة.من هنا تبرز أهمية الفحص السريري الدقيق والمراقبة المستمرة لوضع الطفل في حال الشك بإصابته بداء السحايا؛ إذ ربما ظهرت علامات هذا المرض على شكل إصابة محددة للجهاز العصبي المركزي عند الطفل الذي يعاني ارتفاع الحرارة. لذا يجب التنبه إلى أي تغير في تصرفاته (إثارة، همود، تغيرات في وتيرة النوم..)، أو ملاحظة حصول وجع غير مركز لديه (طفل يبكي طوال الوقت بالرغم من أخذه بالأحضان)، أو عدم تحمله ارتفاع الحرارة بشكل غير طبيعي.
من المفيد التركيز على وجود اضطرابات هضمية كرفض الطعام (عدم مص حلمة الثدي أو رفضه لقنينة الحليب)، كلها علامات توازي علامة الاستفراغ عند الأولاد؛ كما نشير إلى استنتاج عام أو موضعي، من المحتمل أن يشكل بداية للمرض، أو حصول علامات خلل عصبية وهي في الغالب علامات متأخرة من تطور المرض.
تبقى أهمية الفحص السريري كما أسلفنا، إذ يتوجب رصد علامات لها علاقة وثيقة بالمرض: ارتفاع ضغط اليافوخ، استنتاج هبوط في قوة العضلات (رقبة رخوة أو طرية، شائعة في هذه السن أكثر من انقباض العضلات).
كما يمكن للفحص السريري أن يوجه نحو نوعية الجرثومة المسببة للمرض، كالبداية الصاعقة مع وجود طفرة جلدية مفاجئة (فُرفرية: purpura)، أو التهاب رئوي كبداية انطلاق للمرض، أو جود التهابات في دائرة الأنف والأذن والحنجرة.
من هنا لفت الانتباه والتشديد على إعطاء الطفل جميع اللقاحات ضد داء السحايا البكتيري، حيث يتوافر حالياً ثلاثة لقاحات، لثلاثة أنواع من البكتيريا، وهي ذات فعالية عالية وتشمل البكتيريا التي ذكرت في هذا البحث.