إن تغيرات الأحوال المناخية التي نشهدها في عصرنا الحاضر، مدموغة بعدم انتظام الفصول كما تعودنا عليه في العقود الماضية، ويبدو ذلك واضحاً عبر ارتفاع وهبوط درجات الحرارة بشكل سريع وحاد، وما يرافقها من تغيرات في نسبة الرطوبة، تشكل الأرضية الخصبة، لنمو الجراثيم وتكاثرها (فيروسات، بكتيريا..)، يضاف إلى ذلك سرعة هبوب الرياح وما تحمله من أجسام مجهرية أو عضوية، أو غيرها من الذرات المتنوعة المصادر (تراب، رمل، غبار الطلع..)، ما يساعد على انتقالها من منطقة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر، وبخاصة مع تطور وسائل النقل والسفر فائقة السرعة (الطيران خصوصاً) ما يسهّل سرعة انتشار هذه المسببات للمرض؛ وإذا ما أضفنا إليها تلوث البيئة التي تشكل الشغل الشاغل لذوي الاختصاص في هذا الحقل، لأدركنا مصادر انتشار وتكاثر الأمراض التي يمكن أن تصيب الجهاز التنفسي عند الإنسان (لاسيما في فصلي الشتاء والربيع)، وكذلك في عالم الحيوان؛ وذلك رغم كل مظاهر النظافة، العناية والوقاية في الأمور الصحية عامة..
كل ذلك يتسبب بحدوث السعال عند الإنسان كحالة دفاعية أساسية يقوم بها الجسم للدفاع عن نفسه، والذي يفترض أن يتم تخفيف حدته بواسطة الأدوية وتركه يقوم بدوره الدفاعي. فما هو السعال؟
السعال وسيلة دفاعية
يحوي جسم الإنسان ذو البنية الطبيعية وسائل دفاعية في جهازه التنفسي، تأتي في مقدمتها البطانة الغشائية التي تفرز مادة مخاطية لالتقاط هذه الجراثيم والأجسام الغريبة لتعمل على تكريرها والقضاء عليها، قبل استفحالها والفتك بصحة الإنسان. يضاف إلى ذلك الجهاز المناعي المتمثل بالخلايا المتخصصة من الكريات البيضاء، ومن أغشية الأعضاء التنفسية؛ إلى جانب وسيلة دفاع ميكانيكية على شكل ردة فعل ارتكاسية هي السعال، للتخلص من زيادة الإفرازات المخاطية نتيجة دفاع الجسم من خلال الأغشية المخاطية، وطرح هذه الإفرازات خارجاً على شكل بُصاق بدءاً من عمر معين (5 إلى 6 سنوات).
فالسعال وسيلة دفاع طبيعية وليس علامة مرضية في حد ذاتها، لذلك ينصح بعدم إيقافها نهائيا لئلا يشكل عدم حصولها عائقاً أمام تخلص الجسم من إفرازات فاسدة تتجمع داخل المجاري الهوائية فتعيق العملية التنفسية الطبيعية، ما يؤدي إلى تفاقم المرض ويشكل خطراً على صحة المريض في حالات عديدة.
وينصح أطباء الأطفال بعدم المسارعة إلى استعمال عقاقير مثبطة للسعال بشكل حاد، خصوصاً إذا ما احتوت على مادة الكوديين أو مشتقاته، في سن محددة (تحت 30 شهراً)، لأن هكذا أدوية تؤثر سلباً على مراكز التنفس في النخاع الشوكي وتؤدي في بعض الحالات إلى توقف عملية التنفس والاختناق. لذا يستحسن استشارة الطبيب قبل البدء بإعطاء أي شراب مثبط أو مهدئ للسعال عند الأطفال، وبخاصة عند الرضع منهم، ما ينبغي الإحاطة التامة بالوضع الصحي للطفل من قبل الطبيب بهدف تشخيص سبب السعال والعلامات المرضية المرافقة له، ليتسنى له بعدها وصف العلاج الموائم للحالة المرضية آخذاً في الاعتبار عمر الطفل ووزنه.
من هنا يتبين أن السعال يشكل ردة فعل طبيعية لجسم الإنسان لكثير من الإصابات على مستوى المجاري الهوائية العليا والسفلى على السواء، وهو في الغالب علامة بسيطة للالتهاب الفيروسي، خصوصاً، والتي يشيع انتشارها لدى مختلف الأعمار، لاسيما عند الأطفال في الفترة التي تمتد بين شهري تشرين الثاني ونيسان؛ ما يجب على الأهل الاستشارة في الحالات التي يترافق فيها السعال مع ارتفاع في درجة حرارة الطفل أو ضيق في التنفس أو أي علامة أخرى.
الجراثيم الأكثر شيوعاً
ما هي الجراثيم الأكثر شيوعاً والمسببة للسعال، في حالات الإصابة للمجاري الهوائية؟
أكثر هذه الجراثيم تشكلها نسبة عالية من الفيروسات (نحو 70 %) والتي تنتمي إلى نحو 200 فصيلة، نذكر منها: فيروس الحمى الأنفية، فيروس الغدانية، الفيروسات الغشائية والتي ينحدر منها فيروس الأنفلونزا، والفيروسات الإكليلية أو التاجية ومنها انفصل وتطور نحو الشراسة، فيروس سارس أو التهاب الرئة الحاد اللانمطي الذي انتشر في الصين عام 2003 وانتقل بعدها إلى عدة بلدان مجاورة.
ومن البكتيريا نذكر العقدة المكورة الرئوية والمكورة السُّبحية ومستدمية الأنفلونزا أو المستدمية النزلية وغيرها من البكتيريا غير النمطية مثل المفطورة الرئوية.
أشكال السعال
تصيب هذه الجراثيم المجاري الهوائية العليا: الأنف، البلعوم والأذن لتنتشر بعدها نزولاً إلى الحنجرة والرغامي والقصبة الهوائية وتشعيباتها، لتستقر من ثم في الرئة وتصيبها.
وفي أغلب هذه الإصابات تقريباً نجد للسعال مكاناً ليعبر عن الإصابة، منه السعال الناشف أو الجاف والسعال الرطب أو المنتج، ومنه المتقطع على شكل نوبات كما يحصل في حالات السعال الديكي أو الشاهوق ويتميز بأنه سعال ليلي يسبب التقيؤ، وقد خفت إصاباته بشكل ملحوظ في عصرنا الحاضر نتيجة حملات التلقيح المتواصلة من ناحية وتحسن نوعية اللقاح من جهة أخرى، لكنه يبقى مرضاً شديد الخطورة عند الأطفال الرضع وحديثي الولادة بخاصة، لأنه مرض غير ممنع إذ لا يحتوي دم المولود الجديد على أجسام مضادة كسبها عن طريق الحبل السري من دم الأم.
وللسعال أصوات مختلفة تنم في بعض الحالات عن مصدر الإصابة، فإلى جانب السعال الديكي كما ذكرنا، هناك السعال النُباحي في حالة إصابة الرغامي أو الحنجرة، والسعال الشهيقي عند احتقان الحنجرة الحاد، والسعال الزفيري في حالات الإصابة بداء الربو، والسعال التحسسي لدى تنشق أجسام غريبة (غازات، غبار الطلع..) وغيرها الكثير من الإصابات.
هل للسعال مسببات غير الجراثيم؟
من المهم الإشارة في هذا المجال إلى أن السعال لا يعبر دائماً عن إصابات جرثومية فقط، إنما كما أسلفنا هو ردة فعل طبيعية لتنشق جسم غريب أو نتيجة دخول القصبة الهوائية عن طريق الخطأ مواد غريبة، سائلة كانت أم صلبة. ونورد هنا مثلين يتكرران في ممارسة أطباء الأطفال اليومية:
• الأول يتمثل في السعال الناتج عن ارتداد الطعام (الحليب خاصة) لدى الأطفال الرضع ذوي العاهات الخلْقية في المعدة وبالأخص في المنطقة التي يبلغ فيها المريء القسم الأعلى والأمامي من المعدة، ما يؤدي إلى ارتداد الحليب من المعدة إلى المريء لينساب بعدها الحليب نزولاً إلى القصبة الهوائية مسبباً نوبات سعال حاد تؤدي إلى تغير لون الطفل إلى الزرقة نتيجة نقص الأوكسجين، ويكون العلاج في هذه الحالة وقائياً بالدرجة الأولى من خلال نوعية الحليب ووضعية حضْن الطفل وجلوسه عند إرضاعه إلى أدوية مساعدة يصفها الطبيب.
• المثل الثاني يعرض للسعال الحاد والمفاجئ عند الطفل أو الولد، دون أي علامة مرضية مسبقة، فتنتاب الطفل نوبات سعال منهكة، وخانقة في بعض الحالات نتيجة الابتلاع إما بالخطأ، وإما نظراً لعدم وعي الطفل، لجسم غريب صلب (غالباً ما يكون قطعة نقدية معدنية) يستقر أغلب الأوقات في الحنجرة، أو جسم نباتي (كحبات الفستق أو المكسرات) وهي حادثة تتكرر أكثر من غيرها، لتجتاز القصبة الهوائية وتسلك إلى أحد فرعيها وتتمركز في التشعيبات الثانوية للقصبة، محدثة التهاباً حاداً في الرئة أو في قسم منها بعد أن تكون سدت المجرى الهوائي للجزء المصاب. ويكون العلاج الناجع باستئصال هذه الحبات (بعدما كبرت حجماً) من خلال الفحص بالناظور الذي يشكل وسيلة مساعدة للتشخيص والعلاج في آن، بينما تكون الوقاية في الأساس بإبعاد كل ما يمكن أن يثير فضول الطفل ومحاولته تقليد الآخرين عندما يراهم يتلذذون بقضم المكسرات!