التصنيفات
صحة المخ والجهاز العصبي

الفص الجبهي وأهميته عند تقدم العمر

يشترك الفص الجبهي Frontal Lobe في عدد من العمليات، ويوجّه أساساً قدرتنا على التعرّف على النشاطات، والحفاظ على الانتباه، ومراقبة التقدّم، والتصرّف بطريقة مرنة. إضافة إلى هذا، تعدُّ المثابرة، والتصوّر، والمعرفة (أي التفكير المجرّد)، ووظائف حسّية معينة بعض الميزات المهمة الأخرى التي تؤديها أجزاء ضمن الفص الجبهي. تحدث بداية هذه النشاطات عالية المستوى أساساً في هذا الفص، ويُعرّف غالباً على أنه “المركز التنفيذي”؛ لأنه يمنح بنية وتنظيماً لأغلبية المهمات التي نؤديها كل يوم.

الشكل 1.2 فصوص الدماغ والمخيخ الرئيسة. يعرض هذا الشكل مواقع فصوص الدماغ الأربعة الرئيسة والمخيخ المحدّدة تقليدياً كما تُشاهد من الجانب الأيسر للدماغ.

 

يمكن اختبار وظيفة فصنا الجبهي بعدّة طرق، وإحدى أقلّها إزعاجاً هي عبر إجراء تقويم نفسي عصبـي. باستخدام هذه الطريقة، يستطيع الباحثون جعل أفراد يشتركون في مهمات تتضمن تخطيطاً، وحكمة، أو إجراءات تتطلّب تفكيراً إبداعياً؛ مثل ابتكار قوائم كلمات جديدة. هذه الأنواع من الاختبارات حسّاسة لتمزّقات عصبية قد تقع نتيجة ضرر في الفص الجبهي. من ثم، نعرف أنه يمكن اكتشاف تمزّقات عصبية إلى حدٍّ معيّن عبر اختبار ورقة وقلم رصاص بسيط، وإحدى الطرق الرئيسة لاكتشاف ألم أو اضطراب عصبـي في الفص الجبهي هي عبر أداء مهمات غير متطابقة عصبياً.

ماذا يعني هذا؟ حسناً، مثلاً، إذا عُرض على شخص كلمة أزرق مكتوبة بحبر أحمر وطُلب منه تسمية لون الحبر لا قراءة الكلمة، فسيكون هذا مثالاً على مهمة متنافرة عصبياً، وهذه مهمة نفسية حقيقية تدعى اختبار “ستروب”؛ الذي يُستخدم منذ الثلاثينيات، والمثير للاهتمام في هذا الاختبار أن الدماغ، وبنحو أكثر تحديداً القشرة الحزامية الداخلية والأمامية الجبهية الظهرية الجانبية الموجودة في الفص الجبهي، سيعالج معظم هذه المعلومات.
عندما يُطلب من شخص الإجابة عن هذه الأسئلة بسرعة، ينبغي عليه طبعاً تجاهل المعلومات غير المهمة والتعرف على المعلومة الصحيحة لإعطاء الإجابة الصحيحة، وهي في هذا المثال “أحمر”. اختبارات مثل هذه مقاييس جيدة جداً لعمل الفص الجبهي، وبالرغم من استخدامها منذ بعض الوقت، إلا أننا لم نمتلك حتى وقت قريب (في السنوات الخمس والعشرين الأخيرة أو نحو ذلك) القدرة على النظر (نوعاً ما) إلى داخل الدماغ في أثناء عمله لنرى الجزء الذي يتولّى معالجة مهمات من هذا النوع.

حتى هذا الوقت، اعتمد باحثون على دراسة أفراد يعانون أضراراً دماغية معينة للمساعدة في تحديد الأجزاء الخاصة من الدماغ التي تُستخدم، والعجز الذي يمكن توقعه حين يصيب ضررٌ هذه الأجزاء. على كل حال، هذه التقويمات محدودة بسبب صعوبة الحصول على معلومات تفصيلية عن مناطق الدماغ التي كانت تخضع للتأثير، ولأن استجابات مرضى لإصاباتٍ متنوعةٌ جداً، اضطر باحثون إلى استخدام مجموعة من المعلومات السلوكية من أفراد مختلفين للحصول على فهم عام لمناطق، في الفص الجبهي مثلاً، مسؤولة عن تخطيط حركة.

مع تطوّر تقانة التصوير، وتحديداً التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI: functional magnetic resonance imaging)، أضحت لدينا الآن فكرة أفضل عن أجزاء الدماغ التي تعمل في أثناء تأدية مهمة. إن ما يقيسه التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي هو مستوى أوكسجين الدم؛ ويفحص أساساً كميات الأوكسجين المستهلكة في الدماغ.

تشير الأجزاء التي تحتاج إلى مزيد من O2، كما يقترح الباحثون، إلى نشاط أكبر والمنطقةِ المسؤولة على الأرجح عن أداء المهمات. إضافة إلى هذا، ذهبت كثير من الدراسات الباكرة إلى ربط خلل وظيفي لدى مرضى عانوا صدمة بأجزاء معينة من الدماغ ما يوفّر دليلاً إضافياً على أقلمة [مصدرها منطقة محدّدة] مهمات سلوكية محدّدة بمناطق دماغ معينة. وهكذا، يمكن اقتراح أن أفضل تفسير لأقلمة مهمات معينة سيكون من هذين النوعين من الأبحاث، اللذين يكوّنان فهمنا العام الحالي لما قد يجري في الدماغ.

أبحاث التصوير والفص الجبهي

يعدُّ إجراء مسح شعاعي للدماغ (أي تصوير) في أثناء “الراحة” أو “العمل” (كما هي حال التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي) طريقة جديدة لمعرفة أي مهمات ترتبط بأجزاء معينة من الدماغ، وهناك أفضلية أخرى تتمثّل في قدرة الباحثين على إجراء مقارنات بين أفراد من أعمار متنوّعة لتحديد طريقة تغيّر الدماغ وعمله على نحو مختلف حين نتقدم بالعمر.
توضّح مجموعة دراسات التصوير المتوافرة أن الفص الجبهي يشترك بفاعلية في نشاطات مثل معالجة كلمات جديدة، وتبيّن أنه ينبغي الحصول على معلومات جديدة، والعمل عليها، بأسلوب ذي معنى لتكون مفيدة في وقت لاحق. لقد لاحظت أبحاث إضافية أن المنطقة الأمامية تشمل تمايزات ممتازة، وبالرغم من أن الدماغ يعمل عادة بانسجام، إلا أن ضرراً يصيب أجزاء معينة من المناطق الجبهية اليمنى، أو الجبهية اليسرى، أو الاثنتين معاً قد تنتج عنه أنواع مختلفة جداً من الخلل المعرفي، وربما تؤثر حالات الخلل هذه، مثلاً، في قدرة الشخص على تحقيق فصاحة لغوية (أقسام من أصوات في كلمة)، أو قدرته على التعرّف على معلومات بهدف التذكّر، التي تُلحظ عادة بأنها مهمة قشرة أمامجبهية.

لوحظ أيضاً أن الفص الجبهي مركزي لقدرتنا على استيعاب لغة، وفهم معنى كلمة، والاستنتاج بفاعلية، وتضم قائمة مهمات المعالجة عالية المستوى هذه الكثير. النقطة الرئيسة التي أحاول توضيحها هنا هي أن هذه المنطقة أساسية للتفاعل كما ينبغي مع العالم الخارجي ومنح معنى وتنظيم للمعلومات التي نتعامل معها يومياً، ومهم أيضاً أن نلاحظ أن فصّنا الجبهي هو المنطقة التي تساعدنا، بوصفنا بشراً، على تكوين مفهوم الذات وإدراكها. يفقد المرضى الذين يعانون عُتهاً أو خرفاً صدغياً جبهياً (FTD: Frontotemporal dementia) مفهومهم عن الذات أو إدراكها. قد يواجه الأفراد صعوبة بالغة في تحقيق مصلحتهم الشخصية وحتى إظهار افتقارهم إلى فهم مستوى الخلل الذي يعانونه، ويواجه هؤلاء الأفراد غالباً صعوبة في إدارة مواردهم المالية (بنحو مشابه لمرضى داء ألزهايمر) وتظهر عليهم علامات امتناع فيما يتعلق بتقاليد اجتماعية (مثلاً، ارتداء ثياب ملائمة في العلن)، وقد يتصرفون بأسلوب جنسي غير ملائم مع أفراد من الجنس المعاكس، أو ربما يختبرون أيضاً عدم الاكتراث بمهمات ظنّوها سابقاً ممتعة أو يشتركون في أخرى عدّوها مرة سخيفة.
من ثم، قد يبدأ مفهوم من كان أو من هو بالتلف تدريجياً، ونظراً إلى أن مرضاً مثل العته الصدغي الجبهي قد تكون له تأثيرات خطرة على فهم الفرد لذاته، سأناقش العته [الخَرَف] الصدغي الجبهي قبل مراجعة تغييرات الدماغ مع تقدّمنا بالعمر.

العته أو الخرف الجبهي الصدغي  / تنكس الفص الجبهي الصدغي
Frontotemporal dementia

العته الصدغي الجبهي عبارة تُستخدم لتعريف الأفراد الذين تظهر عليهم أعراض ضمور دماغي محدّد (مثلاً، عته) في المناطق الجبهية والصدغية. كان الباحثون قد استخدموا تاريخياً أيضاً مرض بك على نحو متبادل مع العته الصدغي الجبهي، لكن حالياً يبدو أن العته الصدغي الجبهي ونموذجه الفرعي العته الجبهي هما النمطان الشائعان للتأثيرات المرضية الملاحظة في المناطق الجبهية من الدماغ.

يُظنُّ حالياً أن سبب العته الصدغي الجبهي هو تغيّر مورّثة تضم الصبغي 17؛ المسؤول عن إنتاج تشابكات عصبية لُييفية، وتحدث هذه حين تبدأ البنية الداخلية لخلية بالتحلّل نتيجة تراكم بروتين شاذ يدعى تاو، فيسبب انحلال نظام الخلية لتغذية نفسها، ما يقتل خلايا الدماغ من الداخل إلى الخارج. يعدُّ الفص الجبهي من الدماغ عموماً بأنه “المركز التنفيذي” للدماغ، ويُظنُّ أنه المسؤول الرئيس لنشاطات يومية كثيرة نؤديها، مثل التخطيط، والتنظيم، والتواصل/الإدراك الاجتماعي، والمزاج، والعثور على أسماء، وعدّة نشاطات سلوكية أخرى عالية المستوى تقع على عاتق المناطق الجبهية. عند أخذ هذا بالحسبان، يصدّق كثير من الباحثين أن تحديد إصابة أفراد بعته صدغي جبهي ينبغي ألا يكون صعباً؛ لأنهم معرّفون أصلاً على أنهم مصابون باضطراب سلوكي يبرز بالمقارنة مع أفراد مصابين بداء ألزهايمر.

على كل حال، كما قد تتخيّل، ربما يكون الكلام عن استخدام مقاييس سلوكية على كلا هاتين الشريحتين السكانيتين أسهل من فعل ذلك، فحالات خلل كثيرة تنجم عن كل مرض متشابهة جداً. من ثم، إن لم يكن بمقدورك الاستفادة من خدمات عيادة لديها إجراءات محدّدة للتمييز بين هذين المرضين، وفيها الحصول على بيانات تصوير، ستُشخّص إصابة فرد على الأرجح بداء ألزهايمر أو مرض مرتبط بالعته. بالعكس، قد تُشخّص إصابة أفراد يواجهون صعوبات “نموذجية” في الفص الجبهي، وبالمعدّل أصغر سناً من أفراد كثيرين مصابين بداء ألزهايمر، بعته صدغي جبهي في البداية، إلى حين إجراء فحوصات أخرى.

كانت هناك بعض الأبحاث التي تحاول إيجاد معيار سلوكي موثوق للتمييز بين أفراد مصابين بداء ألزهايمر والعته الصدغي الجبهي، وبالرغم من عدم وجود موثوقية بنسبة 100 بالمئة، إلا أن الميزات التالية هي بعض تلك التي لوحظت أساساً على أنها عوامل تمييز جيدة بين هاتين المجموعتين. مثلاً، لقد لاحظ بحث قارن مرضى ألزهايمر بآخرين مصابين بالعته الجبهي اختلافات مهمة عند تنفيذ مهمات مثل الانتباه، والإدراك البصري، والتطبيق العملي المفيد (مشكلات رسم أو نسخ الأشكال)، والذاكرة (تحديداً القدرة على تذكر قصة قصيرة حتى النهاية وإعادة بناء أشكال من الذاكرة بعد التأخير وقتاً قصيراً). تبين أيضاً أن مرضى العته الجبهي مختلفون عن مرضى داء ألزهايمر بسبب افتقارهم إلى إدراك للذات، وأداء حركات نمطية (حركات سلوكية نمطية أو متكرّرة)، وعادات الأكل، التي تحدث بغض النظر عن مدى تأثر الأفراد بالمرض. أخيراً، فرق رئيس آخر بين مرضى ألزهايمر والعته الجبهي هو في قدرتهم على تخمين أفكار أفراد آخرين، ومشاعرهم، وحالتهم الذهنية في موقف اجتماعي معين. لوحظ أن أفراداً مصابين بحالة معتدلة من العته الجبهي يعانون مشكلات في فهم ما قد يختبره أفراد آخرون، وقدراتهم مشابهة لما ينجزه أطفال بين الثالثة والسابعة من العمر في اختبارات اجتماعية معينة. كما يتبين، قد لا يصبح تكوين آراء واستنتاجات عن الحالة الذهنية لآخرين ممكناً لمرضى العته الصدغي الجبهي، لكن ليس لمرضى داء ألزهايمر.
على نحو مفاجئ، أوضح باحثون أن عوامل مثل تغييرات المزاج، والاختلال الوظيفي التنفيذي، والرعاية-الذاتية، إضافة إلى قدرات لغوية، وتنفيذية، وفكرية، ليست مُميزات جيدة بين أفراد مصابين بداء ألزهايمر وآخرين بعته جبهي. لم تكن هذه النتائج متوقعة؛ لأن كثيراً من تلك الميزات تُقدّم على أنها أسباب رئيسة للتفريق بين تشخيصي العته الصدغي الجبهي وداء ألزهايمر. إضافة إلى هذا، لقد عانت معظم الأبحاث حتى الآن من انخفاض في أعداد المتطوّعين، ما سيزيد بالتأكيد في صعوبة تحديد السمات الرئيسة للعته الصدغي الجبهي مقارنة بداء ألزهايمر، ولأن هذه الاختلافات قد تكون أحياناً دقيقة، خاصة في حالات معينة، يبدو مستحيلاً تقريباً تحديد المجموعة التي ينبغي أن ينتمي الفرد إليها.

أيضاً، من المهم أن نتذكر أن الأفراد يتصرفون بنحو مختلف مع كل مرض، ما يزيد مجدداً من صعوبة التشخيص بدقة، خاصة بسبب وجود عدّة أعرض/ميزات متداخلة. يبذل باحثون وأطباء، لهذا السبب، أفضل جهدهم بالأدوات التي لديهم والمعلومات المتوافرة لهم في حينه، وأظن أن أفضل نصيحة هي أن نكون استباقيين ونقرأ كثيراً عن الاختلافات الدقيقة بين داء ألزهايمر والعته الصدغي الجبهي. يُحدث تقديم تقارير متتالية ومتابعة كل الأعراض التي يعاني منها الفرد فرقاً كبيراً في طريقة تشخيص مرضه/مرضها، ما قد يكون له تأثير كبير على خطة رعايته/رعايتها.
أخيراً، من المهم التوضيح أن مرضاً مثل العته الصدغي الجبهي قد تكون له تأثيرات كبيرة على حال شخص ما. كما أوضحت، الفص الجبهي جزء أساسي لضمان وظائفية طبيعية، وبسبب المسؤولية المهمة للمناطق الجبهية في أدائنا اليومي، من المهم أن نفهم كيف تتغيّر وكيف تتأثر مع التقدم بالعمر.

الدماغ يتغيّر مع تقدمنا بالعمر

قبل الانتقال إلى قسم تدريب الدماغ، من المهم أن نقدّم بعض التغييرات الملحوظة التي تحدث في الفص الجبهي للدماغ مع تقدّمنا بالعمر. لقد أشارت معظم الدراسات التي فحصت أفراداً كبار السن أن أداءً معرفياً أفضل مرتبط بزيادة نشاط الدماغ. إضافة إلى هذا، القشرة الجبهية هي المنطقة التي تشهد غالباً نشاطاً متزايداً حين نتقدم بالعمر.

أحد أسباب حدوث هذه الزيادة هو أن القشرة الجبهية قد تكون تعمل على أنها نظام تعويض، وتسد ثغرات خلل في مناطق أخرى في محاولة للحفاظ على أداء “اعتيادي” وضمان إنجاز نشاطات أو مهمات في وقت ملائم وبأسلوب فاعل. لكن يبقى مجهولاً مدى هذه العملية، فهل يمتلك كل فرد عجوز هذه القدرة فطرياً؟ هل بعض الأفراد أفضل فيها من آخرين؟ هل يحالفهم النجاح في كل مرة يعتمدون فيها على هذه الموارد الإضافية؟ هذه أسئلة لم يحصل الباحثون على أجوبة عنها بعد، لكنني واثق بأن هذه القضايا ستخضع للدرس والنقاش في المستقبل القريب. ما يمكنني قوله لكم هو إن الاستفادة من موارد إضافية ضمن الفص الجبهي لمساعدة أفراد على أداء وظائف على مستوى أفضل تعدُّ حجة جيدة لتدريب الدماغ ونظريات مرتبطة بمرونة الدماغ.

قد يفيد الاشتراك في مهمات تفعّل أجزاء في الفص الجبهي بانتظام كثيراً الوظيفةَ المعرفية وعمل الدماغ، من ثمَّ فإن أحد الأدوار الرئيسة لهذا الكتاب هو تعريف أفراد بطرق بسيطة لزيادة نشاط الدماغ في أجزاء محدّدة، وكذلك زيادة الأداء المعرفي حين نتقدّم بالعمر. أقدّم في الأسفل بعض النشاطات البسيطة التي يمكن أن يؤديها المرء فتساعده في تنشيط قشرته/قشرتها الجبهية. إضافة إلى هذا، فقد قدّمت طرقاً بسيطة تجعلك تغيّر، من تلقاء نفسك، هذه المهمات لإبقائها مفعمة بالنشاط وجديدة حين تتقدّم إلى الأمام، وهذا كما سترى لاحقاً في الكتاب أساسي لصحة الدماغ.

تدريب الفص الجبهي

إحدى الميزات الرئيسة للجزء الجبهي من الدماغ هي قدرته على التحكم معرفياً بأحداث مستمرة، وقد أظهرت الأبحاث أنه يمكن زيادة عزلة الفص الجبهي حين يؤدي البشر مهمات محدّدة. فعلى سبيل المثال، فالمنطقة ضمن الفص الجبهي المعروفة بالقشرة الأمام جبهية الظهرية الجانبية (DLPFC: Dorsolateral prefrontal cortex) (انظر الشكل 2.2) مسؤولة عن قدرتنا على الاحتفاظ بالمعلومات “قيد الطلب” من أجل إنجاز الخطوات النهائية لإجراء معين، وأيضاً تستطيع هذه المنطقة، إن كان الأمر يتطلّب ذلك، تعديل إنجاز مهمة لتغيير اتجاه أو مدة مهمات محدّدة وفقاً للحاجة. ترتبط القشرة الأمام جبهية الظهرية الجانبية (DLPFC) بنظام انتباهنا، وتزوّدنا نحن البشر بالقدرة على الاهتمام بالمهمات التي ننجزها.

الشكل 2.2 القشرة الأمام جبهية الظهرية الجانبية. الموقع التقريبـي (الجانب الأيسر من الدماغ) لهذه القشرة ضمن الفص الجبهي

لم تغب فكرة أن الفص الجبهي هو مركز تحكّم الدماغ عن عدّة أبحاث، وقد تضمّنت بعض الدراسات الحديثة استخدام الدماغ على أنه نظام للتحكّم بعالمنا الخارجي عبر نظام حاسوبي-بشري. مثال على طريقة إنجاز هذا هي زرع أدوات إلكترونية للتفاعل مع الدماغ، وفي الواقع فقد استُخدم زرع أدوات في الجزء الجبهي لمساعدة أفراد يتمتعون بقدرة حركة محدودة، أو يفتقرون إليها تماماً، على التعامل مع أشياء مثل المصابيح في غرفهم، أو التلفاز، أو الستائر… إلخ.

توضّح هذه الأنواع من التحسّن السيطرة التي يتمتع بها فصنا الجبهي على أفعالنا، وفي بعض الحالات بيئتنا الخارجية، ونعرف أن الاشتراك في مهمات مشابهة لتلك المذكورة في بداية هذا الموضوع ستنشّط الفص الجبهي، ونعلم أيضاً عبر أبحاث تخطيط موجات الدماغ (EEG) والرنين المغناطيسي الوظيفي أنه كلما زاد نشاط هذه المنطقة، تعالج معلومات من هذه الطبيعة بفاعلية أكبر، وتصبح العملية أكثر “تلقائية”.
هذا الدليل مهم؛ لأن التدريب المستمر والتنشيط المتكرّر لمناطق مستقلّة قد تبقيها سليمة مدة أطول وتساعد في تجنّب أمراض الدماغ مثل داء ألزهايمر، وقد تسهم في استعادة العافية بسرعة إن تعرّض المرء لحادثة مرضية، مثل إصابة دماغ رضّية أو جلطة. من المهم أيضاً أن نلاحظ أن المعلومات المقدّمة إلى أفراد متقدمين بالعمر قليلة فيما يتعلق بالحفاظ على أجزاء الدماغ، لكن للحفاظ على دماغ سليم، يحتاج المرء إلى الاشتراك في نشاطات تحفّز كل أجزائه، وبنحو خاص ينبغي على المرء قضاء وقت في تنشيط كل جزء دماغي تحديداً. في القسم الآتي، سأقدّم اقتراحات لنشاطات يمكن أن يؤديها المرء لتنشيط وتحفيز الفص الجبهي.

نشاطات الفص الجبهي

بوصفنا بشراً، نعيش في مجتمع قائم على قواعد حيث ينتج عن نشاط واحد حدوث نشاط ثانوي، ونتصرف في أغلبية الوقت من موقع الخبرة، ولذلك تكون لدينا غالباً توقعات مُتصوّرة سابقاً عمّا قد يحدث. مثلاً، إذا رميت حجراً على نافذة، أتوقع أن ينكسر الزجاج، لكنني لا أتساءل إن كان الحجر سيندفع عبر الهواء لأنني أعرف أن قوانين الفيزياء تفرض أن الحجر سيفعل ذلك، وما يبقى لتحديده هي متغيرات مثل المسافة، والارتفاع، ووقت الاندفاع… إلخ.

أقدّم هذا المثال المبسّط لأوضّح أن الأفراد الذين يتمتعون بأدمغة سليمة يعدّون أشياء كثيرة تبدو بسيطة أموراً مُسلّماً بها، وعندما لا تحدث الأشياء بالطريقة التي يتوقعها المرء، يترافق ذلك مع مقدار كبير من الانـزعاج والإحباط. من ثم، إذا كنت فرداً مُصاباً بخلل معرفي، يصبح هذا الإحباط والانـزعاج جزءاً من حياتك اليومية. مثلاً، يتطلّب فعل التقاط حجر ورميه تكاملاً وتنسيقاً بين أجزاء مختلفة من الدماغ، وينبغي بدماغ سليم أن يضمن إنجاز المرء عدّة خطوات إجرائية من أجل تنفيذ فعل محدّد بأسلوب منسّق (داخلياً وخارجياً)، في كل دقيقة من كل يوم.

ينبغي أن يكون الحفاظ على الدماغ “مرناً” وسليماً عنصراً أساسياً لنا جميعاً، فهذا قد يساعدنا في التعامل مع تقدّم العمر والأمراض. دعني أقدّم مثالاً سريعاً على توقعات دماغنا: في المرة التالية التي تشغّل فيها حاسوبك، وقبل استخدام الفأرة، أمسكها وحرّكها جانبياً، ثمَّ حاول استعمالها كما تفعل عادة (مثلاً، وضعية اليد نفسها) واختر نقطة على الشاشة تودُّ أن يمسّها المؤشر. ما ستجده هو أنها لم تعد مهمة بسيطة كما هي العادة، وتتطلّب “إعادة تخطيط” من نوعٍ ما تسمح لك بإنجازه كما ينبغي، ويُعزى هذا إلى أن دماغنا مجهّز للعمل بهذه الطريقة، بناءً على تجربتنا المشروطة سلفاً. القصد أنه بسبب هذه التوقعات اليومية لا تعترض تحدّيات دماغية كثيرة دربنا، وللحفاظ على دماغ نشيط وسليم ينبغي أن نشارك في مهمات صعبة ومتغيرة باستمرار.

إليكم بعض النشاطات التي ابتكرتها ويمكنكم استخدامها لتحدّي أنفسكم. هذه النشاطات مصممة لتنشيط فصّك الأمامي خاصةً.

النشاط الأول – المعالجة

تعليمات النشاط الأول: على الجانب الأيسر سترى عموداً من الأرقام وعموداً يشير إلى اليد التي ينبغي استخدامها (أي، يسار، أو يمين، أو كلتاهما). على الجانب الأيمن سترى أربع مجموعات من الدوائر مع رقم 1 أو 2 عليها. أول مرة ستستخدم اليد المطلوبة وتمسَّ الهدف كما يُطلب منك. مثلاً، بالنسبة إلى الأولى ستستخدم يدك اليسرى وتمسَّ الجانب الأيسر من الرقم 1 المستهدف، وبالنسبة إلى الثالثة ستستخدم يدك اليمنى وتمسَّ الهدف 1 على الجانب الأيمن. توثّق أن تختار نقطة بداية من تحت الصفحة لكلتا اليدين واستفد من هذا الموقع لتبدأ منه المهمة وتنهيها.
1.   أول مرة ستفعل المطلوب تماماً.
2.   في المرة الثانية استخدم اليد المعاكسة. مثلاً، في المهمة 1 ستستخدم الآن يدك اليمنى بدلاً من اليسرى، وينبغي أن تتذكر هذه القاعدة في أثناء كل العمل ثانية (ملحوظة: بالنسبة إلى كلتا اليدين ينبغي أن تستخدم كلتا اليدين).
3.   في المرة الثالثة، ستستخدم الرقم المقابل. مثلاً، في المهمة 1 ستستخدم اليد اليسرى كما هو مطلوب لكن ستمسّ الرقم الهدف 2 بدلاً من الرقم الهدف 1.
4.   أخيراً، في المرة الرابعة، ستستخدم اليد المعاكسة والرقم المقابل. مثلاً، بالنسبة إلى المهمة 1 ستستخدم يدك اليمنى وتمسَّ الهدف على الجانب الأيمن من الرقم الهدف 2، لا الرقم الهدف 1.

كرّر هذه العملية خمس مرات، وسجّل أوقاتك لترى إن كنت تصبح أسرع.
إذا بدأت ترى تحسّناً جيداً، فعدّل المهمة من تلقاء نفسك بتغيير ترتيب اليد المستخدمة أو الأرقام المستخدمة أو كلاهما. سجّل تقدّمك في كل إجراء (أي في كل تعديل تقوم به) لترى إن كنت تتحسّن، وأحدث تغييرات وفقاً لذلك. سيضمن هذا قيامك بإجراء صعب ومتغير دائماً يمكنك تعديله من تلقاء نفسك.

الجدول 1.2 أهداف
1- يسار
2- يسار
1- يمين 2 2
2- كلتاهما 0 0
1- يسار
2- يمين 1 1
1- كلتاهما 0 0
2- يسار
1- يمين

النشاط الثاني – الترتيب

تعليمات النشاط الثاني: يوماً ما ستكتب الأبجدية وتمنح كل حرف رقماً مطابقاً، من ثمَّ تتجاوز كل ثاني حرف وكل ثاني رقم. مثلاً، أ = 1، ت = 3، ج = 5… إلخ. ستعود بعد ذلك وتملأ الأرقام التي تجاوزتها: مثلاً، ب = 2، ث = 4… إلخ. سينتج عن ذلك صفّان، الأول يحمل أرقاماً فردية وحروفاً والثاني أرقاماً زوجية وحروفاً (انظر في الأسفل). باستخدام الحروف والأرقام المتطابقة قم بتهجية الكلمات رقمياً.

أ    ت    ج    خ    ذ     ز      ش    ض    ظ     ع      ق     ل     ن     و
1    3    5    7    9    11    13    15    17    19    21    23    25    27

ب   ث   ح    د    ر       س    ص    ط      ع     ف     ك     م      هـ    ي
2    4    6    8    10    12    14    16    18    20    22    24    26    28

مثلاً، حاول تهجية كلمة دماغ رقمياً: 8، 24، 1، 19 = 52.
الآن جرّب كلمات صحة، وتدريب، وصلات، وتحفيز. سجّل أوقاتك وانظر إلى أدائك بمعيار كل من وقت الإنجاز وأرقام الكلمات التي تضيفها بنجاح. عندما تصبح جيداً كفاية في هذه المهمة، غيّرها.
بدلاً من ذلك، اكتب الأبجدية بدءاً من الحرف ب والرقم 1، وتجاوز كل حرف ورقم تالٍ، مبتكراً صفاً جديداً من الأرقام والحروف التي تنتهي بالحرف أ. ابتكر لائحة كلمات جديدة (خمسُ كلمات أو ست أو كما ترغب)، وقم بتهجيتها رقمياً، من ثمَّ اجمعها معاً وانظر إلى نتيجتك. كرّر ذلك كل يوم حتى تصبح جيداً في هذه المهمة، من ثمَّ غيّرها مجدداً.

النشاط الثالث – ترابط الكلمات

تعليمات النشاط الثالث: اختر حرفين من الأبجدية. مثلاً، الحرف أ والحرف ت. امنح نفسك تسعين ثانية لتسمية أكبر عدد من الأشياء التي تستطيع التفكير فيها ويمكن العثور عليها في متجر بقالة تبدأ بالحرف أ (اكتبها)، ثمَّ جرّب ذلك ثانية مع الحرف ت. تالياً، سمِّ أكبر عدد من الأشياء تستطيع التفكير فيها ويمكن إيجادها في مدرسة تبدأ بالحرفين أ وت، متذكراً أن تسجل وقتك وتكتب أجوبتك، وعندما تُنجز المهمة، عُدَّ الكلمات التي استطعت تسميتها في كل مرة. كرّر هذا كل يوم حتى ترى تحسّناً جيداً، وعندما تفعل، غيّر الحرفين اللذين كنت تستخدمهما. مع الحرفين الجديدين، كرّر هذه المهمة ثانية بعد بضعة أيام حتى ترى تحسّناً، من ثمَّ غيّر الحرفين مجدداً.
دور هذه المهمات هو تحسين دماغك عبر نشاطات تحفّز فصّك الجبهي. تزوّدك النشاطات المصمّمة، بالرغم من أنها مبسّطة، بنقطة بداية وأدوات لتعديلها وتغييرها بقليل من الجهد، ومع أن التعديلات تبدو بسيطة نسبياً، إلا أنك ستلاحظ أن جهداً كبيراً مطلوباً للتكيّف مع المهمات الجديدة، التي تعدُّ، كما ستعلم، حجر زاوية لدماغ سليم.