ها هي أمعاؤك المسكينة الغافلة تقوم بعملها كل يوم، دافعة ببقايا آخر وجبة مهضومة جزئيًّا عبر أكثر من ستة أمتار من الأمعاء الدقيقة، ومتر من الأمعاء الغليظة، وتهيمن مع الوقت على محادثات معظم المتقاعدين. إنها لا تنعم بالراحة بل تقوم بعملها فحسب، ولا تطلب منكم جزاء ولا شكورا. فالبيض المسلوق والمحشى، أو الدجاج المشوي، أو سلطة السبانخ كلها تتحول في النهاية إلى الناتج المألوف لعملية الهضم، وهي الفضلات نصف الصلبة.
ثم تسلل إلينا شيء باستطاعته تعطيل هذا النظام الناجح بأكمله: وهو جلوتين القمح.
بعدما قضى الإنسان البدائي وأسلافنا آلافًا من السنين في تناول الطعام من قائمة محدودة أساسها القنص والالتقاط، اقتحم القمح غذاء الإنسان، وهو تقليد تطور خلال العشرة آلاف سنة الماضية فقط. إن هذا الوقت القصير نسبيًّا – ثلاثمائة جيل – لم يكن كافيا للسماح لجميع البشر بالتكيف مع هذا النبات الفريد. والدليل الأكثر إثارة على فشلهم في التكيف مع القمح هو نشوء مرض الداء الزلاقي، والذي هو عبارة عن اعتلال يصيب الأمعاء الدقيقة بسبب جلوتين القمح. وهناك أمثلة أخرى على فشل التكيف مع الأطعمة، مثل ظاهرة عدم تحمل اللاكتوز، ولكن مرض الداء الزلاقي يتميز بشدة رد الفعل والتنوع الهائل لأعراضه.
وحتى إذا لم تكن تعاني مرض الداء الزلاقي، فإنني أحثك على الاستمرار في القراءة. إن الكتاب الذي بين يديك ليس كتابا حول مرض الداء الزلاقي, ولكن من المستحيل أن نتحدث عن آثار القمح على الصحة من دون الحديث عن هذا المرض. إن مرض الداء الزلاقي هو النموذج الأولي على عدم تحمل القمح، وهو المعيار الذي نقارن به سائر الأشكال الخاصة بظاهرة عدم تحمل القمح, كما أن معدل الإصابة بمرض الداء الزلاقي في ازدياد مستمر، حيث تضاعف أربع مرات على مدى السنوات الخمسين الماضية، وهذه حقيقة، في رأيي، تعكس التغيرات التي خضع لها القمح نفسه. إن عدم إصابتك بمرض الداء الزلاقي في سن الخامسة والعشرين لا يعني أنه لا يمكنك الإصابة به في الخامسة والأربعين، حيث تظهر أعراضه على نحو متزايد بعدة طرق جديدة ومختلفة إلى جانب اختلال وظيفة الأمعاء. لذلك، فحتى إذا كنت تتمتع بأمعاء سليمة تعمل بانتظام مثل أمعاء جدتك، لا يمكنك أن تتأكد من أن بعض أجهزة الجسم الأخرى لا تتأثر بطريقة تشبه الإصابة بهذا المرض.
كان أول وصف مفصل للمعاناة من الإسهال – وهو أحد أعراض مرض الداء الزلاقي المميزة – قد عرف على يد الطبيب الإغريقي القديم “أريتايوس” في سنة ١٠٠ ميلادية، والذي نصح مرضى الداء الزلاقي بالصيام. ولا تفتقر النظريات التي صدرت خلال القرون التي تلت إلى محاولات لتفسير السبب وراء معاناة مرضى الداء الزلاقي من الإسهال المستمر، والتقلصات، وسوء التغذية. وقد أدى ذلك إلى وصف علاجات غير مجدية مثل زيت الخروع، والحقن الشرجية المتكررة، وتناول الخبز المحمص. وبرغم ذلك كانت هناك أنواع من العلاجات حظيت بقدر من النجاح، بما في ذلك النظام الغذائي الذي اقترحه الدكتور “صموئيل جي” بتناول بلح البحر فقط في الثمانينيات من القرن التاسع عشر، والنظام الغذائي الذي اقترحه الدكتور “سيدني هاس” بتناول ثماني ثمرات من الموز فقط في اليوم.
تم اكتشاف الصلة بين مرض داء الزلاقي واستهلاك القمح لأول مرة في عام ١٩٥٣ على يد طبيب الأطفال الهولندي الدكتور “وليام كارل دايك”. حيث كان أول ما أثار شكوكه هي الملاحظة العرضية لوالدة طفل مصاب بالداء الزلاقي؛ حيث وجدت أن الطفح الذي كان يعاني ولدها منه يتحسن عندما تتوقف عن إطعامه الخبز. وخلال نقص الموارد الغذائية في نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث أصبح الخبز نادر الوجود، لاحظ “دايك” تحسن أعراض الداء الزلاقي عند الأطفال، إلا أنها تفاقمت عندما ألقت طائرات الإغاثة السويدية بالخبز في هولندا. فقام الدكتور “دايك” في وقت لاحق بقياس دقيق لنمو الأطفال ومحتوى الدهون في برازهم, والذي أكد أخيرا أن جلوتين القمح والشعير والجاودار كان مصدر هذا الصراع الذي يهدد الحياة. وقد أسفرت إزالة الجلوتين عن شفاء جذري، وذلك بصورة أفضل كثيرا من اتباع أنظمة تناول الموز وبلح البحر الغذائية.
رغم أن مرض الداء الزلاقي ليس هو التعبير الأكثر شيوعا عن عدم تحمل القمح، فإنه يقدم مثالا حيًّا وحاسما على ما الذي بإمكان القمح أن يفعله عندما يواجه أمعاء الإنسان غير المهيأة.
مرض الداء الزلاقي: حذار من كسرة الخبز الجبارة
إن مرض الداء الزلاقي أمر خطير. إنه شيء لا يصدق أن مرضا كهذا المرض منهِكًا، ومن المحتمل أن يكون مميتا، يمكن أن يكون سببه شيء صغير وبريء في الظاهر مثل كسرة خبز أو قطعة كروتون.
يعاني حوالي ١٪ من عدد السكان ظاهرة عدم تحمل جلوتين القمح، حتى ولو بكميات قليلة. فإن أطعمت أحدهم الجلوتين، تنهار بطانة الأمعاء الدقيقة، وهي الحاجز الحساس الذي يفصل البراز الناتج عن بقية الأعضاء. وذلك يؤدي إلى التقلصات، والإسهال، والبراز الأصفر اللون الذي يطفو في المرحاض بسبب الدهون غير المهضومة. فإذا ترك هذا المرض ليتطور على مدى سنوات، يصبح مريض الداء الزلاقي غير قادر على امتصاص العناصر الغذائية، وينقص وزنه، ويصاب بنقص التغذية، مثل حدوث خلل في البروتين، والأحماض الدهنية، وفيتامينات بي ١٢، ودي، وإي، وكيه، وحامض الفوليك، والحديد، والزنك.
تسمح بطانة الأمعاء المتهتكة لمكونات مختلفة من القمح بالدخول في أماكن لا تنتمي إليها، مثل مجرى الدم، وهي الظاهرة التي تستخدم لتشخيص هذا المرض: فالأجسام المضادة لجليادين القمح، وهي أحد مكونات الجلوتين، يمكن العثور عليها في الدم. كما أنه يجعل الجسم يولد الأجسام المضادة لمكونات بطانة الأمعاء الممزقة، مثل ناقلة الجلوتامين وغمد الليف العضلي، وهما بروتينات العضلات المعوية التي تمثل كذلك أساسا لاختبارين الأجسام المضادة الآخرين، وذلك لتشخيص الداء الزلاقي. فإن لم يحدث ذلك، فإن البكتيريا “الصديقة” التي تعيش عادة في القناة المعوية تقوم بإرسال منتجاتها كذلك إلى مجرى الدم، ما يؤدي إلى حدوث مجموعة جديدة من ردود الأفعال الالتهابية والمناعية غير الطبيعية.
حتى سنوات قليلة مضت، كان يُعتقد أن الداء الزلاقي مرض نادر، بحيث يصيب واحدا فقط من بين كل عدة آلاف من الأشخاص. وعندما تحسنت وسائل تشخيص المرض، اتسع نطاق عدد المصابين به ليصبح واحدا من بين كل مائة وثلاثة وثلاثين شخصًا. وبالنسبة للأقارب المباشرين لمرضى الداء الزلاقي، فإن لديهم كذلك احتمالًا قدره ٤.٥٪ للإصابة به. أما من لديهم أعراض معوية إيحائية فيكون احتمال الإصابة به لديهم قدره ١٧٪.
وكما سنرى، لم يتم الكشف عن المزيد من مرضى الداء الزلاقي بسبب تطور الاختبارات التشخيصية فقط، ولكن لأن حالات الإصابة بالمرض نفسه قد ازدادت. ومع ذلك، فإن الداء الزلاقي هو سر باق طي الكتمان. إن نسبة واحد من بين كل مائة وثلاثة وثلاثين شخصًا في الولايات المتحدة تساوي ما يزيد قليلا على مليوني شخص يعانون مرض الداء الزلاقي، ورغم ذلك فنسبة أقل من ١٠٪ منهم على علم بذلك. وأحد الأسباب وراء أن ١٨٠٠٠٠٠ أمريكيًّا لا يعلمون أنهم مصابون بهذا المرض هو أنه “المقلد العظيم” (وهي صفة أسبغت سابقا على مرض الزهري)، حيث يظهر نفسه بالعديد من الطرق المختلفة. وفي حين أن ٥٠٪ منهم سيعانون التقلصات التقليدية، والإسهال، وفقدان الوزن مع مرور الوقت، فإن النصف الآخر سيعاني فقر الدم، والصداع النصفي، والتهاب المفاصل، والأعراض العصبية، والعقم، وقصر القامة (بالنسبة للأطفال)، والاكتئاب، والتعب المزمن، أو مجموعة متنوعة من الأعراض والاضطرابات الأخرى التي يبدو، للوهلة الأولى، أن لا علاقة لها بمرض الداء الزلاقي. وفي حالات أخرى، قد لا يتسبب في أية أعراض على الإطلاق، ولكنه يظهر في وقت لاحق من حياة الشخص على صورة الإصابة باعتلال الأعصاب، أو سلس البول، أو الخرف، أو سرطان الجهاز الهضمي.
كما أن الطريقة التي يظهر بها مرض الداء الزلاقي نفسه تتغير كذلك. فحتى منتصف الثمانينيات، كان يتم تشخيص الأطفال عادة بأعراض ” فشل النمو” (فقدان الوزن، وضعف النمو)، والإسهال، والانتفاخ قبل بلوغهم سن العامين. وفي الآونة الأخيرة، يكون الأطفال أكثر احتمالا للتشخيص بسبب الأنيميا، أو الألم المزمن في الأمعاء، أو دون وجود أعراض على الإطلاق، ولكن ليس قبل بلوغهم سن الثامنة أو أكثر. وفي إحدى الدراسات الطبية الموسعة، في مستشفى “ستوليري” للأطفال في “إدمونتون” في مقاطعة “ألبرتا”، تضاعف عدد الأطفال الذين تم تشخيصهم بالداء الزلاقي إحدى عشرة مرة منذ
عام ١٩٩٨ وحتى عام ٢٠٠٧. ومن المثير للاهتمام أن ٥٣٪ من الأطفال في المستشفى – ممن تم تشخيص مرضهم عن طريق اختبار الأجسام المضادة – لم تبد عليهم أية أعراض للمرض ماعدا ذكرهم أنهم يشعرون بالتحسن عند التوقف عن تناول الجلوتين.
وقد لوحظت تغيرات مطابقة في مرضى الداء الزلاقي لدى البالغين، حيث شُخص عدد أكبر منهم بالأنيميا، كما اشتكى عدد أكبر منهم من الطفح الجلدي كالتهاب الجلد الحلئي والحساسية، و لم يظهر على عدد أكبر منهم أية أعراض على الإطلاق.
ولقد فشل الباحثون في الاتفاق على السبب الكامن وراء تغير مظاهر مرض الداء الزلاقي، أو وراء تزايد عدد المصابين به. والنظرية الأكثر شعبية في الوقت الراهن هي الرضاعة الطبيعية (نعم، لقد ضحكت أنا أيضا).
يمكن بالتأكيد أن تعود معظم التغيرات التي طرأت على مرض الداء الزلاقي إلى التشخيص المبكر الذي تدعمه فحوص الأجسام المضادة في الدم الأكثر انتشارا, ولكن يبدو أن هناك تغيرا جذريًّا في المرض نفسه كذلك. هل يمكن أن يكون السبب الكامن وراء تغير مظاهر المرض هو حدوث تغيير في القمح نفسه؟ ربما يتسبب ذلك في أن يتقلب الدكتور “نورمان بورلوج”، مطور القمح القزم، في قبره، ولكن هناك بيانات تشير إلى أن هناك شيئًا في القمح نفسه قد تغير في وقت ما خلال السنوات الخمسين الماضية.
وتقدم دراسة مذهلة تم إجراؤها في مستشفى “مايو كلينيك” لمحة عن إصابة المقيمين في الولايات المتحدة قبل نصف قرن مضى بالداء الزلاقي، وهو أقرب وقت يمكننا الاطلاع فيه على معلومات عن هذا الأمر. وقد حصل الباحثون على عينات دم تم سحبها قبل خمسين عاما من أجل دراسة عدوى البكتريا العقدية، والتي ظلت مجمدة منذ ذلك الحين. وتم جمع هذه العينات المجمدة منذ عام ١٩٤٨ وحتى عام ١٩٥٤، حيث تم سحبها من أكثر من تسعة آلاف مجند في قاعدة السلاح الجوي “وارين إير فورس بيس” (WAFB) في ولاية ” وايومنج”. وبعد التأكد من موثوقية تلك العينات التي تم تجميدها لمدة طويلة، تم اختبارها للبحث عن أدلة على وجود الداء الزلاقي (الأجسام المضادة ناقلة الجلوتامين، وأجسام غمد الليف العضلي المضادة)، وقاموا بمقارنة النتائج لعينات من مجموعتين حديثتين. تم اختيار مجموعة “تحكم” حديثة تتألف من ٥٥٠٠ رجل بتواريخ ميلاد متقاربة لهؤلاء المجندين العسكريين، حيث تم الحصول على هذه العينات في عام ٢٠٠٦ (أي وهم في السبعين من عمرهم). وتألفت مجموعة “التحكم” الحديثة الثانية من ٧٢٠٠ رجل في أعمار متقاربة (أي في السابعة والثلاثين من عمرهم) وقت سحب عينات الدم من مجندي السلاح الجوي.
وبينما كانت مؤشرات وجود الداء الزلاقي باستخدام الأجسام المضادة تبلغ ٠.٢٪ من مجندي السلاح الجوي، كانت نسبة نفس المؤشرات ٠.٨٪ لدى الأشخاص ذوي تواريخ الميلاد المتقاربة، و٠.٩٪ لدى الشبان المعاصرين.
ما يشير إلى أن الإصابة الداء الزلاقي قد تضاعف أربع مرات منذ عام ١٩٤٨ لدى الرجال بينما يكبرون في السن، وأربع مرات لدى الشبان المعاصرين (ومن المرجح أن هذه النسبة أعلى لدى النساء؛ لأن عدد المصابات بالداء الزلاقي يفوق عدد المصابين به، ولكن جميع المجندين المسجلين في هذه الدراسة هم من الذكور), وكانت احتمالية موت المجندين بالسرطان عادة، ذوي مؤشرات الإصابة بالداء الزلاقي, أكبر بأربع مرات، وذلك على مدار الأعوام الخمسين التي تلت سحب تلك العينات.
ولقد قمت بسؤال الدكتور “جوزيف ميرفي”، وهو الباحث الرئيسي في هذه الدراسة، إن كان يتوقع الزيادة الملحوظة في الإصابة بمرض الداء الزلاقي، فأجابني: “لا. كان افتراضي الأولي أن مرض الداء الزلاقي كان موجودا بالفعل ولكننا لم نستطع الكشف عنه. وبرغم أن ذلك كان يحمل جزءا من الصحة، إلا أن البيانات أخبرتني بعكس ذلك. إن معدله يرتفع حقًّا. فالدراسات الأخرى التي تظهر أن مرض الداء الزلاقي يصيب المرضى الكبار في السن للمرة الأولى، تدعم الاتجاه القائل إن هناك شيئًا بداخله يصيب البشر في أية سن، وليس فقط خلال مرحلة الرضاعة الطبيعية”.
وقد أجريت دراسة مشابهة بقيادة مجموعة باحثين في فنلندا، وكان ذلك جزءا من مسعى أكبر لقياس التغيرات الصحية المزمنة مع مرور الزمن. وقد قام حوالي ٧٢٠٠ ذكر وأنثى فنلنديين فوق سن الثلاثين بتقديم عينات دم للبحث عن مؤشرات مرض الداء الزلاقي منذ عام ١٩٧٨ وحتى عام ١٩٨٠. وبعد مرور عشرين عاما، في عامي ٢٠٠٠ و ٢٠٠١، قام ٦٧٠٠ ذكر وأنثى فنلنديين آخرين، وهم أيضا فوق الثلاثين، بتقديم عينات من دمهم. وبقياس الأجسام المضادة لناقلة الجلوتامين، وغمد الليف العضلي في كلتا المجموعتين، ارتفعت نسبة تكرار المؤشرات غير الطبيعية لمرض الداء الزلاقي من ١.٠٥٪ في المشاركين السابقين إلى ١.٩٩٪، أي ما يوازي الضعف تقريبا.
ولذلك فإننا لدينا أدلة قوية على أن الزيادة الواضحة في معدل الإصابة بالداء الزلاقي (أو على الأقل وجود علامات جينية ضد الجلوتين) ليست مجرد نتيجة لتحسن جودة الاختبارات: فقد زادت نسبة الإصابة بالمرض نفسه، حيث تضاعفت أربع مرات على مدى السنوات الخمسين الماضية، وكانت قد وصلت إلى الضعف في العشرين عاما الماضية فقط. وما زاد الطين بلّة هو أنه قد يقابل الزيادة في مرض الداء الزلاقي زيادة في داء السكري من النوع الأول، وأمراض المناعة الذاتية مثل التصلب المتعدد، وداء كرون، وأمراض الحساسية.
وتشير الأدلة الحديثة إلى أن زيادة التعرض للجلوتين الموجود الآن في القمح الحديث قد تكون جزءًا من السبب وراء ارتفاع معدل الإصابة بمرض الداء الزلاقي. وقد قارنت دراسة هولندية بين ست وثلاثين سلالة حديثة ومن القمح مع خمسين سلالة من القمح القديم قبل قرن من الزمان. من خلال البحث عن بنية بروتين الجلوتين الذي يحفز وجود الداء الزلاقي، وجد الباحثون أن هذا البروتين الذي يحفز على الإصابة بالداء الزلاقي موجود بمستويات أعلى في القمح الحديث، في حين أن البروتينات التي لا تتسبب في الإصابة به كانت أقل.
باختصار، في حين يتم تشخيص مرض الداء الزلاقي عادة لدى الأشخاص الذين يشكون من فقدان الوزن والإسهال وآلام البطن، فإنك في القرن الحادي والعشرين يمكنك أن تكون بدينا ومصابا بالإمساك، أو حتى نحيفًا وطبيعيًّا، ولكنك ستكون مصابا بالمرض. ومن المرجح أنك ستصاب بهذا المرض بدرجة أكبر بالنسبة إلى أجدادك.
وفي حين أن عشرين أو خمسين عاما قد تكون وقتا طويلا بالنسبة إلى تسديد الرهن العقاري، فإنه وقت قليل جدًّا ليتغير البشر وراثيًّا. إن توقيت الدراستين اللتين تؤرخان لتزايد الأجسام المضادة الدالة على وجود الداء الزلاقي، إحداهما في عام ١٩٤٨ والأخرى في عام ١٩٧٨، يوازي التغيرات التي حدثت لنوع القمح الذي يملأ الآن معظم المزارع في العالم، وهو القمح القزم تحديدا.
الزونالين: كيف يتطفل القمح على مجرى الدم
إن بروتين الجليادين في جلوتين القمح، والموجود في جميع أشكال القمح بدءا من خبز “وندر بريد” الإسفنجي إلى خبز الحبوب المنوعة العضوي والجاف، يتمتع بقدرة فريدة على النفاذ إلى داخل الأمعاء.
لم يتم تصميم الأمعاء لتكون قابلة للنفاذ دون ضوابط. وأنت تعلم بالفعل أن أمعاء الإنسان تعتبر موطنا لجميع أنواع الأشياء الغريبة، حيث تميز كثيرًا منها خلال طقسك اليومي في المرحاض. إن هذا التحول العجيب من شطيرة اللحم أو بيتزا البيبروني إلى مكونات داخل الجسم، وهي البقايا التي يتم التخلص منها، هي عملية رائعة حقًّا, ولكنها تحتاج إلى تنظيم محكم كي تسمح بدخول عناصر مختارة فقط من الأطعمة والسوائل التي يتم تناولها في مجرى الدم.
ما الذي يحدث إذا استطاعت مركبات مختلفة وكريهة الدخول في مجرى الدم عن طريق الخطأ؟ يعتبر تحفيز المناعة الذاتية – أي “خداع” الاستجابة المناعية للجسم كي تعمل، وتقوم بالهجوم على الأجهزة العادية كالغدة الدرقية أو نسيج المفاصل- واحدًا من الآثار غير المستحبة. ويمكن لذلك أن يؤدي إلى أمراض المناعة الذاتية مثل التهاب الغدة الدرقية المزمن، والتهاب المفاصل الروماتويدي.
إن القيام بعملية تنظيم قابلية الأمعاء على الاختراق تعتبر وظيفة أساسية من وظائف الخلايا المبطنة لجدار الأمعاء الهش. وقد وجهت الأبحاث الحديثة أصابع الاتهام إلى جليادين القمح على أنه هو مَن يحفز الأمعاء على إفراز بروتين يدعى الزونالين، وهو منظم قابلية الأمعاء للاختراق. وينطوي الزونالين على تأثير غريب؛ حيث يقوم بتفكيك الموصل المحكم، وهو عبارة عن حاجز عادة ما يكون آمنًا ويقع بين الخلايا المعوية. وعندما يحفز الجليادين إفراز الزونالين، يتمزق الموصل المحكم المعوي، وتتمكن البروتينات غير المرغوب فيها مثل جليادين القمح وغيرها من الولوج إلى مجرى الدم. ومن ثم يتم تحفيز الخلايا الليمفاوية التي تقوم اضطرابات المناعة بتنشيطها، كالخلايا التائية، كي تبدأ في إصابة مختلف البروتينات “الذاتية” بالالتهاب، وبالتالي يصاب الفرد بأمراض يتسبب فيها جلوتين القمح والجليادين مثل مرض الداء الزلاقي، وأمراض الغدة الدرقية، وأمراض المفاصل، والربو. وتستطيع بروتينات جليادين القمح الدخول في أي مكان تشاء، ما يسمح للدخلاء غير المرغوب فيهم بالدخول في أماكن لا تنتمي إليها.
وبالإضافة إلى الجليادين، فهناك القليل من العوامل التي تشاركه موهبته في النفاذ إلى جميع الأماكن وتمزيق الأمعاء. ومن العوامل الأخرى التي تحفز الزونالين وتعطل قابلية الأمعاء للاختراق، هناك العوامل المعدية التي تسبب الكوليرا والدوسنتاريا. والفرق، بالطبع، هو أنك تصاب بالكوليرا أو الدوسنتاريا الأميبية عن طريق تناول الأغذية أو المياه الملوثة بالبراز؛ بينما تصاب بأمراض القمح من خلال تناول بعض المعجنات ذات التغليف الأنيق أو كيك الشيكولاتة الدسم.
ربما تتمنى الإصابة بالإسهال
بعد قراءتك عن بعض الآثار المحتملة لمرض الداء الزلاقي على المدى الطويل، ربما تجد نفسك تتمنى الإصابة بالإسهال.
إن المفاهيم التقليدية عن الداء الزلاقي تتمحور حول وجود الإسهال: إن لم تكن مصابا بالإسهال، فأنت لست مصابا بالداء الزلاقي؛ وهذا أمر غير صحيح. إن مرض الداء الزلاقي هو أكثر من مجرد مرض في الأمعاء يصحبه إسهال. فيمكنه أن يتخطى الأمعاء لتظهر أعراضه بالعديد من الطرق المختلفة الأخرى.
إن مدى اتساع نطاق الأمراض المرتبطة بالداء الزلاقي هو أمر يبعث على الدهشة حقًّا، بدءا من مرحلة سكري الأطفال (النوع الأول) وحتى الخرف وتصلب الجلد. كما أن هذه الروابط تعتبر كذلك من الروابط الأقل فهما. وبالتالي فإنه ليس من الواضح إذا ما كان توقع حساسية الجلوتين عن طريق التخلص من جميع مصادره سوف يخفف استفحال مرض سكري الأطفال أم يقضي عليه على سبيل المثال- فهو بالتأكيد احتمال محير. لقد ثبت بالتحاليل أنه في حالة الإصابة بأمراض مثل الداء الزلاقي، فإننا نجد مختلف واصمات الأجسام المضادة للداء الزلاقي التي تحفزها اضطرابات المناعة، وظاهرة الالتهاب التي أطلقها الاستعداد الجيني (وجود الواصمات الجينية DQ2، وDQ8) بالإضافة إلى التعرض لجلوتين القمح.
ومن أكثر الجوانب المزعجة للأمراض المرتبطة بأمراض الجهاز الهضمي هو أن الأعراض المعوية للداء الزلاقي قد لا يمكن التعبير عنها. وبعبارة أخرى، قد يكون المريض مصابا باعتلال الأعصاب، كأن يعاني فقدان التوازن والخرف، ولكنه لا يعاني عارضًا مميزًا للمرض كالتشنج، والإسهال، وفقدان الوزن. وعدم وجود أعراض معوية منبهة يعني أيضا أنه نادرا ما يتم القيام بالتشخيص الصحيح.
وعوضا عن أن تسميته بالداء الزلاقي الذي لا يصيب الأمعاء، فإنه سيكون أمرا أكثر دقة أن نطلق عليه عدم تحمل الجلوتين بسبب اضطراب المناعة. ولكن لأن أمراض حساسية الجلوتين التي لا تصيب الأمعاء تم التعرف عليها أولًا حيث إنهما يشتركان في احتوائهم على نفس مستضدات كريات الدم البيضاء البشرية ومؤشرات المناعة الموجودة لدى مرضى الداء الزلاقي المعوي، فإن ما تم التعارف عليه هو الحديث عن مرض الداء الزلاقي “الخفي” أو الداء الزلاقي الذي لا يصيب الأمعاء. إنني أتوقع أننا، عندما يبدأ عالم الطب بصورة أفضل في معرفة أن عدم تحمل الجلوتين بسبب اضطراب المناعة هو أشد خطورة بكثير من مرض الداء الزلاقي، سنطلق عليه اسما مثل عدم تحمل الجلوتين بسبب اضطراب المناعة، والذي سيكون الداء الزلاقي مجرد أحد أنواعه الفرعية.
إن الأمراض المرتبطة بأمراض الجهاز الهضمي – مثل عدم تحمل الجلوتين بسبب اضطراب المناعة – تشمل ما يلي:
• الالتهاب الجلدي الحلئي: يعد هذا الطفح الجلدي المميز من بين المظاهر الأكثر شيوعا لمرض الداء الزلاقي أو عدم تحمل الجلوتين بسبب اضطراب المناعة. والالتهاب الجلدي الحلئي هو عبارة عن طفح جلدي غير مستو مسبب للحكة، والذي ينتشر عادة فوق المرفقين أو الركبتين أو الظهر. ويختفي الطفح الجلدي عند استبعاد الجلوتين.
• أمراض الكبد: يمكن لأمراض الكبد المرتبطة بالداء الزلاقي أن يكون لديها العديد من الظواهر، بدءا من ظهور شذوذ طفيف في فحوص الكبد، ومرورا بالتهاب الكبد المزمن النشط، وتليف الكبد الصفراوي الأولي، وحتى سرطان القنوات الصفراوية. ومثل مظاهر عدم تحمل الجلوتين بسبب اضطراب المناعة، غالبا ما تكون أعراض ذلك على الأمعاء, كالإصابة بالإسهال غير موجودة، على الرغم من أن الكبد جزء من الجهاز الهضمي.
• أمراض المناعة الذاتية: تعتبر الأمراض المرتبطة بهجمات جهاز المناعة ضد الأجهزة المختلفة، والمعروفة باسم أمراض المناعة الذاتية، أكثر شيوعا عند الأشخاص الذين يعانون الداء الزلاقي. ويكون مرضى الداء الزلاقي أكثر عرضة للإصابة بالتهاب المفاصل الروماتيزمي، والتهاب الغدة الدرقية المزمن، وأمراض النسيج الضام كالذئبة، والربو، وأمراض الأمعاء الالتهابية مثل التهاب القولون التقرحي وداء كرون، فضلا عن غيرها من الاضطرابات الالتهابية والمناعية. وقد تبين أن مصابي التهاب المفاصل الروماتويدي – وهو التهاب في المفاصل مؤلم ومشوّه يتم علاجه باستخدام الأدوية المضادة للالتهابات – يتحسنون بل ويشفون تماما في بعض الأحيان عند إزالة الجلوتين. إن نسبة خطر الإصابة بأمراض التهاب الأمعاء بسبب اضطراب المناعة، والتهاب القولون التقرحي، ومرض كرون نسبة مرتفعة على وجه الخصوص؛ فاحتمال التعرض لها هو أكثر بثمانٍ وستين مرة من غير المصابين بالداء الزلاقي.
• داء السكري المعتمد على الأنسولين: إن الأطفال الذين يعانون النوع الأول من مرض السكري المعتمد على الأنسولين لديهم احتمال مرتفع جدًّا في وجود واصمات الأجسام المضادة، بالإضافة إلى كونهم أكثر عرضة للإصابة به بعشرين مرة. وليس من الواضح إذا ما كان جلوتين القمح هو السبب في مرض السكري أم لا، ولكن تكهن الباحثون أن مجموعة فرعية من مرضى سكري النوع الأول قد أصيبوا بالمرض بسبب التعرض للجلوتين.
• اعتلال الأعصاب: هناك أمراض عصبية ترتبط بالتعرض للجلوتين سوف ندرسها بمزيد من التفصيل لاحقا في الكتاب. ترتفع نسبة مؤشرات الإصابة بمرض الداء الزلاقي (٥٠٪) بين الأشخاص الذين يصابون بفقدان التوازن والتنسيق (اختلاج الحركة), أو فقدان الإحساس والسيطرة على العضلات في الساقين (الاعتلال العصبي المحيطي) غير المبرر بخلاف ذلك. بل هناك مرض دماغي مخيف يسمى بالاعتلال الدماغي بسبب الجلوتين، ومن أعراضه الصداع، واختلاج الحركة، والخرف، والوفاة في نهاية المطاف. ويظهر وجود خلل في المادة البيضاء في المخ عند التصوير بالرنين المغناطيسي.
• نقص التغذية: يعتبر مرض أنيميا نقص الحديد مرضًا شائعًا على نحو غير عادي بين مرضى الداء الزلاقي، حيث يصيب ما يقدر ب ٦٩ ٪ منهم. كما يعتبر نقص فيتامين بي ١٢ وحامض الفوليك والزنك، وفيتامينات إيه، و دي، و إي، وكيه المذابة في الدهون, أمرًا شائعًا كذلك.
وبالإضافة إلى الحالات المذكورة أعلاه، هناك المئات منها ارتبطت بمرض الداء الزلاقي و / أو عدم تحمل الجلوتين بسبب اضطراب المناعة، وإن كانت أقل عادة. وهناك حالات موثقة من ردود الفعل الناتجة عن الجلوتين أثرت على جميع أعضاء الجسم، ولم تترك شيئا. فتواجدت أجسام الجلوتين المضادة في العيون، والمخ، والجيوب الأنفية، والرئتين، والعظام… وفي كل مكان يخطر ببالك.
وباختصار، فإن استهلاك الجلوتين له عواقب وخيمة جدًّا. ويمكنه التأثير على أي جهاز في أية سن، حيث يظهر نفسه بطرق كثيرة جدًّا. إن اعتبار مرض الداء الزلاقي إسهالا فقط، كما يحدث في العديد من عيادات الأطباء في كثير من الأحيان، هو أمر مروع، ومن المحتمل أن يكون مميتا، كما أنه مفرط في التبسيط.
القمح والقفز بالحبال
يعتبر تناول القمح، مثله مثل تسلق الجليد، وركوب الجبال، والقفز بالحبال، رياضة متطرفة. إنه الغذاء الوحيد المعروف الذي لديه معدل وفيات طويل الأجل.
بعض الأطعمة، مثل المحار والفول السوداني، لديها القدرة على إثارة الحساسية الحادة (مثل الأرتيكاريا أو الحساسية المفرطة) التي يمكن أن تكون خطيرة بالنسبة للشخص سريع التأثر، بل ومميتة في حالات نادرة. كما أن القمح هو الغذاء الوحيد المعروف الذي يحمل معدل وفيات قابلًا للقياس عند ملاحظته على مدى سنوات الاستهلاك. وعند تحليل امتد لمدة ٩ سنوات تقريبًا، ازدادت احتمالية وفاة المصابين بالداء الزلاقي أو من ثبت وجود أجسام الداء الزلاقي المضادة لديهم بقدر وصل إلى ٢٩.١٪، مقارنة بعدد السكان. وقد لوحظ أن أكبر معدل للوفيات الناجمة عن التعرض إلى الجلوتين الناتج من القمح كان يقع في الفئة العمرية من عشرين عامًا فأصغر، تليها الفئة التي تقع بين العشرين والتسعة والثلاثين. كما ارتفعت نسبة الوفيات في جميع الفئات العمرية منذ عام ٢٠٠٠. ويبلغ معدل الوفيات لدى الأشخاص الذين ثبت حملهم لأجسام جلوتين القمح المضادة ولكن من دون إثبات إصابتهم بالداء الزلاقي أكثر من الضعف مقارنة بمعدل الوفيات الذي سبق عام ٢٠٠٠.
إن الفلفل الأخضر لا يحمل معدل وفاة على المدى الطويل، ومثله اليقطين، أو العنب البري، أو الجبن – بل القمح فقط. وليس عليك أن تعاني أعراض مرض الداء الزلاقي ليحدث ذلك.
ورغم ذلك فإن القمح هو الغذاء الذي تشجعنا وزارة الزراعة الأمريكية على تناوله. أنا شخصيًّا لا أعتقد أن مطالبة منظمة الغذاء والدواء (التي تقنن تعاطي التبغ الآن) بوضع تحذير على منتجات القمح، مثلما تفعل مع السجائر سيكون نوعا من الشطط بأية حال.
تحذير من الجراح العام: استهلاك القمح بجميع أشكاله يشكل تهديدا خطيرا على الصحة.
في يونيو من عام ٢٠١٠، أقرت إدارة الأغذية والعقاقير لائحة تطالب منتجي التبغ بإزالة التوصيفات الخادعة مثل: “خفيفة القطران”، و”معتدلة”، و”منخفضة القطران” عن علب السجائر، لأنها على القدر نفسه من السوء الذي تحمله أية سيجارة أخرى. ألن يكون أمرا مثيرا للاهتمام إصدار قانون مماثل يؤكد أن القمح هو القمح، بغض النظر عن كونه مصنوعًا من “الحبوب الكاملة” أو “الحبوب المتنوعة” أو كونه “عالي الألياف”؟
وقد قام أصدقاؤنا عبر المحيط الأطلسي بنشر تحليل غير عادي حول ثمانية ملايين من سكان المملكة المتحدة، حيث شخصوا أكثر من ٤٧٠٠ فرد بمرض الداء الزلاقي، وقاموا بمقارنتهم بخمس من عينات “التحكم” الضابطة لكل مريض بالداء الزلاقي. ثم تم وضع جميع المشاركين تحت الملاحظة لمدة ثلاث سنوات ونصف السنة ترقبا لظهور مختلف أنواع السرطان. وخلال فترة المراقبة، أظهر المشاركون المرضى بالداء الزلاقي زيادة بنسبة ٣٠٪ من احتمال الإصابة بنوع من السرطان، حيث أصيب فرد من بين كل ثلاثة وثلاثين مشاركا مريضا بالداء الزلاقي بالسرطان، على الرغم من الفترة القصيرة نسبيًّا للمراقبة. وقد أصابت معظم هذه السرطانات الخبيثة الجهاز الهضمي.
وأظهرت مراقبة أكثر من اثني عشر ألف سويدي مريض بالداء الزلاقي تأثيرًا مماثلًا؛ حيث ازداد خطر التعرض لسرطان الجهاز الهضمي بمقدار ٣٠٪. وكشف عدد المشاركين الكبير عن مجموعة واسعة من أنواع سرطان الجهاز الهضمي التي يمكن أن تتطور، بما في ذلك الأورام اللمفاوية الخبيثة الصغيرة في الأمعاء وسرطان الحنجرة والمريء والأمعاء الغليظة، وسرطان القنوات الصفراوية (الكبد والقنوات الصفراوية) والبنكرياس. وعلى مدى فترة وصلت إلى ثلاثين عاما، سجل المحققون تضاعف معدلات الوفاة مقارنة بالسويديين غير المصابين بالداء الزلاقي.
عليك أن تتذكر أن مرض الداء الزلاقي “الكامن” يعني وجود اختبار أو أكثر ذي نتيجة إيجابية لوجود الأجسام المضادة لهذا المرض, ولكن من دون دليل على التهاب الأمعاء يمكن ملاحظته عبر المنظار أو أخذ عينة – وهو ما أطلق عليه عدم تحمل الجلوتين بسبب اضطراب المناعة. وأظهرت مراقبة ٢٩٠٠٠ مصاب بالداء الزلاقي لما يقرب من ثماني سنوات أنه من بين الأشخاص الذين يعانون مرض الداء الزلاقي “الكامن”، كانت هناك زيادة من مخاطر الإصابة بالسرطانات الفتاكة، وأمراض القلب والأوعية الدموية، وأمراض الجهاز التنفسي بنسبة تتراوح ما بين ٣٠٪ وحتى ٤٩٪. قد يكون المرض كامنا، لكنه لا يموت – بل إنه حي تماما.
وإذا لم يتم تشخيص مرض الداء الزلاقي أو عدم تحمل الجلوتين بسبب اضطراب المناعة، فإنه يمكن أن يؤدي إلى إصابة الأمعاء الدقيقة بسرطان الغدد الليمفاوية اللاهودجكيني، وهي حالة يصعب علاجها وغالبا ما تكون فتاكة. إن احتمال الإصابة بهذا السرطان لدى مرضى الداء الزلاقي يزداد بمقدار أربعين مرة مقارنة بمن لا يعاني هذا المرض. وتتلاشى المخاطر بعد خمس سنوات من التخلص من الجلوتين. إن مرضى الداء الزلاقي الذين يفشلون في تجنب الجلوتين يمكن أن يواجهوا خطرا أكبر في الإصابة بسرطان الغدد الليمفاوية بزيادة تقدّر بسبع وسبعين مرة، والإصابة بسرطان الفم والحلق والمريء بزيادة تقدر باثنتين وعشرين مرة.
دعونا نفكر في هذا: يسبب القمح مرض الداء الزلاقي و / أو عدم تحمل الجلوتين بسبب اضطراب المناعة الذي يشخص على نحو خطأ بدرجة لا تصدّق، حيث إن ١٠٪ فقط من الذين يعانون الداء الزلاقي يعرفون أنهم يعانون هذا المرض.؛ وذلك يترك لنا ٩٠٪ منهم جاهلا بذلك. والإصابة بالسرطان جراء ذلك هي نتيجة شائعة. نعم، في الواقع، القمح يسبب السرطان. و في كثير من الأحيان يسبب السرطان للأشخاص الغافلين.
على الأقل عند القيام بالقفز بالحبال من فوق جسر، والتدلي من نهاية حبل طوله ٦٠ مترًا، ستعلم أنك تفعل شيئا غبيا. ولكن عند تناول الطعام “الحبوب الكاملة الصحية”… من يستطيع أن يخمن أن ذلك يجعل القفز بالحبال يبدو كلعبة الحجلة؟
لا تأكلي الخبز وأنتِ تضعين أحمر الشفاه
برغم معرفة مرضى الداء الزلاقي بالعواقب المؤلمة والآثار الخطيرة لتناول أطعمة الجلوتين، فإنهم يكافحون من أجل تجنب منتجات القمح، على الرغم من أن ذلك يبدو كأنه شيء من السهل القيام به. فالقمح أصبح في كل مكان، وغالبا ما يضاف إلى الأطعمة المصنعة، والأدوية، وحتى مستحضرات التجميل – أصبح القمح القاعدة وليس الاستثناء.
جرّب تناول وجبة الفطور وستكتشف أن أغذية الإفطار هي ألغام من القمح. فهناك الفطائر، والوافل، والخبز الفرنسي المحمص، والحبوب، والكعك الإنجليزي، والخبز، والخبز المحمص… فما الذي يتبقى؟ ابحث عن وجبة خفيفة، سيكون من الصعب العثور على أي شيء خال من القمح بالتأكيد ليس المعجنات، أو البسكويت، أو الكعك. تناول دواء جديدا وربما ستعاني الإسهال والتقلصات من كمية القمح القليلة الموجودة في حبة واحدة صغيرة. امضغ علكة وقد يؤدي الدقيق المستخدم للحفاظ عليها من الالتصاق إلى إصابتك بردة فعل. فرّش أسنانك وقد تكتشف أن هناك دقيقا في معجون الأسنان. ضعي أحمر الشفاه, وقد تتناولين دون قصد بروتين القمح المتحلل عند لعق شفتيكِ، ويليه تهيج في الحلق أو ألم في البطن.
بالنسبة لبعض الناس، فإن كمية قليلة جدًّا من جلوتين القمح الموجودة في بعض فتات الخبز أو في كريم اليد الذي يحتوي على الجلوتين المتجمع تحت أظافرك أكثر من كاف لتحفيز الإسهال والتقلصات. فالإهمال في تجنب الجلوتين له عواقب وخيمة على المدى الطويل، مثل الإصابة بسرطان الغدد الليمفاوية المعوية الصغيرة.
لذلك فإن مريض الداء الزلاقي ينتهي به الأمر بأن يجعل من نفسه مصدر إزعاج في المطاعم، ومحلات البقالة، والصيدليات، حيث يضطر إلى الاستفسار باستمرار عما إذا كانت المنتجات الموجودة لديهم خالية من الجلوتين أم لا. وفي كثير من الأحيان، لا يكون لدى البائع الفقير في المتجر، أو الصيدلي المثقل بالعمل أية فكرة. إن النادلة التي تبلغ من العمر تسعة عشر عاما والتي تقدم لك وجبة الباذنجان والخبز عادة لا تعرف أو تهتم بمعنى مصطلح خال من الجلوتين. كما أن الأصدقاء، والجيران، وأفراد أسرتك سيعتبرونك شخصا مبالغا.
وبالتالي فعلى مريض الداء الزلاقي أن يجوب العالم باستمرار لاكتشاف أي منتج يحتوي على القمح أو أي مصدر آخر للجلوتين مثل الجاودار والشعير. ولسوء حظ مرضى الداء الزلاقي، ازداد عدد الأطعمة والمنتجات التي تحتوي على القمح عبر السنوات العديدة الماضية، وهذا انعكاس لعدم تقدير شدة وتكرار هذا المرض وتزايد شعبية “الحبوب الكاملة الصحية”.
مرض الداء الزلاقي “الخفيف”
في حين أن هذا المرض يصيب الجهاز الهضمي لدى نسبة لا تتعدى ١٪ من السكان، إلا أن هناك مرضين معويين شائعين يصيبان مزيدًا من الأفراد: وهما متلازمة القولون العصبي (IBS) وارتداد الحمض (وسمي كذلك بارتجاع المريء حينما صار مرض التهاب المريء موثقا). ويمثل كلاهما صورا أخف من الداء الزلاقي، والذي أسميه بالداء الزلاقي “الخفيف”.
وتعتبر متلازمة القولون العصبي مرضا غير مفهوم، على الرغم من وقوعه بصورة متكررة. وتتضمن أعراضه تقلصات وآلامًا في البطن، بالإضافة إلى إسهال أو براز لين بالتناوب مع الإمساك، وهو يصيب نسبة تتراوح بين
٥٪: ٢٠٪ من السكان، وهذا يتوقف على تعريفه. فكّر في القولون العصبي باعتباره أمعاء مرتبكة تتبع تعليمات فوضوية تصعّب عليك شكل حياتك. وعادة ما يقوم المريض بتنظير داخلي أو تنظير متكرر للقولون. وبسبب عدم وجود تغييرات وظيفية واضحة لدى مرضى القولون العصبي، فإنه من المألوف صرف المرضى بلا علاج، أو علاجهم بمضادات الاكتئاب.
يحدث ارتداد الحمض عندما يسمح لحمض المعدة بالصعود مجددا إلى المريء بسبب ارتخاء العضلة العاصرة المعوية، حيث يهدف الصمام الدائري إلى حصر الحمض بداخل المعدة. وبسبب كون المريء غير مجهّز لتحمل المحتويات الحمضية للمعدة، فإن الحمض في المريء يفعل الشيء نفسه الذي يمكن أن يفعله الحمض في طلاء سيارتك: يقوم بإذابته. يشعر المريض بارتداد الحمض في كثير من الأحيان وكأنه مصاب بالحرقة المعروفة في المعدة، ويرافق ذلك مذاق مر في الجزء الخلفي من الفم.
هناك فئتان عامتان لكلا المرضين: الأولى هي القولون العصبي وارتداد الحمض مع وجود مؤشرات إيجابية على مرض الداء الزلاقي، والثانية هي القولون العصبي وارتداد الحمض دون وجود مؤشرات إيجابية على مرض الداء الزلاقي. لدى المصابين بالقولون العصبي احتمال قدره ٤٪ في أن إيجابية اختبار أو أكثر من الاختبارات التي تقام لقياس مؤشرات مرض الداء الزلاقي. أما مرضى ارتداد الحمض فلديهم احتمال قدره ١٠٪ في وجود مؤشرات إيجابية على مرض الداء الزلاقي.
تخلص من القمح، وعندئذ ستتحسن أعراض ارتداد الحمض، والقولون العصبي. للأسف، لم يتم قياس هذا التأثير، على الرغم من تكهن الباحثين بالدور الكبير الذي يلعبه الجلوتين لدى مرضى القولون العصبي وارتداد الحمض ممن لا يعانون الداء الزلاقي. لقد شهدت شخصيا ولمئات المرات شفاء تامًّا أو جزئيًّا من أعراض القولون العصبي وارتداد الحمض عند التخلص من الجلوتين في النظام الغذائي، سواء كان هؤلاء المرضى يعانون الداء الزلاقي أو لا.
دع الداء الزلاقي يحررك
يعتبر مرض الداء الزلاقي مرضا مزمنا. فحتى إذا تمت إزالة الجلوتين لسنوات عديدة، فإن أمراض الجهاز الهضمي وغيرها من صور عدم تحمل الجلوتين بسبب اضطراب المناعة تسارع بالعودة إذا تعرض المريض له مجددا.
وبسبب أن قابلية التعرض لمرض الداء الزلاقي تحدد وراثيًّا، ولو بصورة جزئية على الأقل، فإنه لا ينتهي عند اتباع نظام غذائي صحي، أو ممارسة الرياضة، أو فقدان الوزن، أو مع المكملات الغذائية أو الأدوية أو الحقن الشرجية اليومية، أو استخدام أحجار الشفاء، أو عند الاعتذار لحماتك. بل سيبقى لأنك إنسان وغير قادر على تبادل جيناتك مع أي كائن آخر. وبعبارة أخرى، ستعاني مرض الداء الزلاقي مدى الحياة.
وهذا يعني أن التعرض العرضي للجلوتين له عواقب صحية على مريض الداء الزلاقي أو المصاب بحساسية الجلوتين، حتى إذا لم يستثر أعراضًا مباشرة كالإسهال.
إذا كنت مريضا بالداء الزلاقي فأنت لم تفقد كل شيء بعد؛ فالغذاء يمكن أن يكون ممتعا جدًّا دون القمح، بل قد يكون أكثر إمتاعا منه. فمن الظواهر الأساسية التي لم تقدر حق قدرها للتخلص من جلوتين القمح، سواء كنت مصابا بالداء الزلاقي أو لا، أنك ستدرك قيمة الأغذية بدرجة أكبر. ستتناول الأطعمة لأنك تحتاج إلى ما يقيم صُلبك، ولتستمتع بطعمها وملمسها، لا بسبب انقيادك عبر دوافع خفية لا يمكنك السيطرة عليها كالتي يتسبب فيها القمح.
لا تفكّر في مرض الداء الزلاقي بوصفه عبئا، كنوع من التحرر