يبدي الآباء والأمهات قلقا عندما يمارس أطفالهم بعض العادات السلوكية غير السوية مثل الكذب والسرقة والغش. ويرغبون في معرفة الطريقة التي يتكون فيها هذا السلوك غير السوي كما يريدون معرفة ما إذا كان هذا السلوك دليلا على نقص خلقي أو خطوة أولى في طريق الجنوح، وتبين الدراسات النفسية التي تناولت النمو الخلقي عند الأطفال استواء هذا النوع من السلوك الذي يعيد الاطمئنان إلى نفوس الوالدين. فقد تبين أن الكذب يشكل جزءا من السلوك عند غالبية الأطفال بغض النظر عن طبقتهم الاجتماعية أو مستوى ذكائهم، أو طريقة تنشئتهم الاجتماعية. فالمسألة دائما مسألة درجة لا نوع. حيث إن الطفل يتمثل اتجاه الصدق من الكبار المحيطين به إذا ما كانوا يلتزمون في أقوالهم وأفعالهم حدود الصدق. ولكن إذا نشأ الطفل في بيئة تقوم على الخداع وعدم المصارحة وإظهار التشكك في صدق الآخرين، فأكبر الظن أن مثل هذا الجو لن يعمل على تكوين اتجاه الصدق. وينبغي أن نضع في اعتبارنا أن الطفل في مقدوره تماما أن يفرق بين ما هو كاذب وما هو صادق. ومن هنا كان على الآباء أن يلتزموا حدود الصدق والأمانة مع أولادهم قولا وفعلا.
يعرف الكذب بأنه الإتيان بقول يخالف الحقيقة أو جملة أو عبارة هدفها مغايرة الحقيقة الواقعية. وبالتالي عملية تبرير ترضي أهدافا ودوافع خاصة محددة لدى الفرد وحاجات أو نزوات عابرة لتحقيق منفعة مؤقتة وسريعة لصاحبها. وهو من أشكال المراوغة للتضليل والانحراف عن الغايات المثالية. ويتصل الكذب بالغش والاحتيال والمكر والخداع، لأنه لا يطابق الواقع.
العوامل المؤثرة في الكذب
1. إن الكبار المغمورين بالكذب بدافع التملق أو الخداع أو التستر بدافع حل المشكلات غالبا ما يقوم الصغير بتقليدهم، وإذا ما اقترن سلوك الكاذب بالنجاح في حل مشكلاته، فإن ذلك يدفعه إلى التملق بهذا السلوك.
2. الخوف أحد أسباب الكذب، فالكذب شعار يخفي وراءه أخطاءنا التي يمكن أن نحاسب أو نعاقب عليها. إنه حل مرتجل لا يتضمن حلا صحيحا للمشكلة. وإنما يؤجل وقوعها.
3. الشخص النشط الخيال والزلق اللسان والذي يملك القدرة اللازمة لتنميق الألفاظ واستخدامها بمرونة كافية يكون على الغالب أكثر استعدادا للكذب من غيره.
4. يرتبط الكذب بالطبع إذ إن المنطوين على أنفسهم أكاذيبهم على شكل إنكار وتستر. ومن عوامل الكذب أيضا الاستعداد الشخصي.
5. الإنكار أو الرفض للذكريات المؤلمة أو المشاعر الخاصة التي لا يعرف كيف يتعامل معها عامل مهم في الكذب.
6. التقليد للكبار واتخاذهم نموذجا أو التفاخر. وذلك لكي يحصل الطفل على الإعجاب والاهتمام.
7. فحص الحقيقة لكي يتعرف الطفل على الفرق بين الحقيقة والخيال.
أسباب الكذب عند الأطفال
1. جلب الانتباه
أي أن يحتل الطفل موقعا خاصا عند والديه اللذين لا يصغيان إليه حين يتحدث إليهما كالكبار، فهو لا يفهم أن حديثه تافه لا معنى له. وكذلك حين يتحدث للآخرين عن قضايا لا وجود لها، فهو بهذه الطريقة يحاول أن يجد عندهم مكانا لشخصيته بعد أن تجاهله الأبوان في الأسرة.
2. تعرضه للعقوبة
إذا وسخ ملابسه، فلا يقول الحقيقة ويدعى براءته من هذه الأفعال في حين أن نفسه تنزع لقول الصدق، ولكن خوفه من تعرضه للعقوبة يجعله ينكر الحقيقة. وهكذا كلما ازداد الوالدين في حدتهما وصرامتهما ازداد الكذب تجذرا في نفسه.
3. واقع الوالدين
إن الطفل في سنواته الأولى يتخذ من والديه مثلا أعلى له في السلوك. وحين يسمع أمه تنكر لأبيه خروجها من المنزل في وقت اصطحبته معها لزيارة الجيران، أو يجد أباه يحترم رئيس عمله ويقدره إذا رآه، ثم يلعنه ويسبه بعد غيابه. إن أمثال هذه السلوكيات وغيرها تجعل الطفل يستخدم نفس الأسلوب الذي وجد أبويه عليه.
4. الخوف وعدم الشعور بالأمان
عندما نستخدم أسلوب المحقق، أو نستخدم العقاب الشديد أو اللوم والصراخ بصوت عالٍ، عندما يتصرف بشكل خاطئ فيكذب الطفل للدفاع عن نفسه. ويجب استخدام الحوار وإشعار الطفل بالأمان.
5. عندما لا نسمح للطفل بقول الحقيقة
مثال عندما يقول الطفل لأمه إنه يكره أخاه الجديد يقولها لشعوره بالغيرة منه، قد تضربه أمه لأنه يقول الحقيقة وتقول له عيب لا تقل هذا الكلام. أما إذا اتبع أسلوب التملق ومسايرة الأم وأعلن كذبة واضحة بأنه يحب أخاه، قد تكافئه أمه بحضنه أو تقبيله، فيستنتج الطفل أن الحقيقة تؤذي وأن عدم الأمانة وعدم الصدق يفيد. والأم تكافئه إذن فهي تحب الكذبات الصغيرة.
الحل لهذه المشكلة قبوله بعيوبه، والعمل على تعديلها. وأن نعترف بمشاعر الطفل السلبية، ونظهر تفهمنا لها ونشعره باحترامنا لاستقلاليته واستقلالية مشاعره عنا، وأن نعمل على إعطائه مزيدا من الاهتمام الصادق والمشاركة في اللعب وتحسين العلاقة بينه وبين أخيه بطريقة غير مباشرة.
6. من أسباب الكذب عند الأطفال
أن يسمع والديه وهم يقولون له يا كذاب سواء بالتصريح أم التلميح الذي يكون عندما نرسل له هذه الرسالة يا كذاب، هو أن نخزن في عقله الباطن صورة الكذاب عن نفسه. فتحركه هذه الصورة نحو الكذب تلقائيا، خلاف ما لو كانت الصورة التي نطبعها في ذهن الطفل عن نفسه مشرقة. لذلك يجب على الوالدين أن يخزنا في عقل ابنهما أنه صادق وغيرها من الصفات الحميدة.
أنواع الكذب عند الأطفال
1. الكذب الإدعائي
نوع من الكذب يستخدم لتغطية الشعور بالنقص. فالكاذب في هذه الحالة ينسب إلى نفسه أدوارا لم يلعبها، أو ربما لعبها بشكل أقل مما يدعيه. وقد يكون التضخيم في الكذب الادعائي لا تضخيما للذات بوصفها مصدر للسلوك بل لصفتها ذات موقع اجتماعي. فقد يكذب الطفل في المركز الذي يحتله أبوه، أو يكذب بخصوص صلة عائلته بأشخاص ذوي نفوذ أو بما تمتلكه العائلة، إن كل ذلك تعويض عن المركز الاجتماعي الذي تحتله العائلة التي ينتمي إليها، وقد تدور أكاذيب الطفل على جو عائلته المفعم بالحرية والنزهات والأمكنة التي تستجم فيها العائلة وعلى الرحلات التي تقوم بها، إن كل ذلك قد يكون تغطية لجو الجفاف والقمع العائلي الذي يحوطه، كما يستهدف الكذب الادعائي الحصول على العطف والاهتمام، كأن يتحدث الطفل كاذبا عن مرضه أو اضطهاده ليحصل على أكبر قسط من الرعاية.
2. كذب الوقيعة
بكذب الطفل في هذه الحالة من أجل الإيقاع بالآخرين واتهامهم بذنوب وآثام لم يرتكبوها، وذلك بغية الانتقام منهم بسبب نوالهم حظوة لدى جهة يعتقد الطفل أنها صاحبة سلطة، كالأب والمعلم. وبذلك فإن هذا النوع من الكذب له علاقة بالشعور بالغيرة، وقد يتجه كذب الوقيعة لا لإفساد العلاقة بين شخص يغار منه وصاحب سلطة، بل بين شخص يحبه وآخر يغار منه وينازعه هذا الحب. وعدم المساواة التي يشعر به الطفل قد يكون من أسباب هذا النوع من الكذب. فالطفل الذي يشعر بأن أبويه يعاملان أحد أخوته بصورة أكثر محاباة قد ينسج حيلا من الأكاذيب حول أخيه من أجل تهديم مكانته لدى والديه.
3. الكذب بهدف الوقاية
إن هذا النوع من الكذب كثير الشيوع بين الأطفال. فالطفل الذي يعتبر نفسه كائنا ضعيفا يكذب ليخفي ارتباكاته أو إخفاقاته، لأن معرفته ذلك ستتبعه عقوبة، كما أن الكذب الوقائي قد يتجه لحماية مكانته المهددة. فقد يكذب مثلا بخصوص درجات المدرسة، لأن موقعه في الأسرة وامتيازاته مرتبطان بمقدار ما يحصل عليه من درجات في المدرسة. وقد يكون الكذب حماية الآخر، إن دافع الكذب في هذه الحالة هو دافع الشهامة، فعندما ترتكب مخالفة مدرسية من نوع ما، ولا تعرف السلطة المدرسية المرتكب الفعلي، نلاحظ أن الأطفال يميلون إلى إخفاء الحقيقة والكذب لحماية زميلهم.
4. الكذب العنادي
يستخدم للتحايل أو التشفي من سلطة شديدة الوطأة قوية الرقابة تحصي على الطفل أنفاسه. إن الكذب في هذه الحالة نوع من الانتقام وإظهار السلطة على جبروتها بأنها قابلة للخديعة، وإنها مهما بالغت من هيمنتها وقسوتها فإن الإفلات منها ممكن. ولذلك فإن الطفل الكاذب يشعر بنشوة عارمة ناتجة عن لذة الانتصار.
5. الكذب اللاشعوري
عندما يتحكم الكذب بالطفل يصبح كذبا مرضيا، ويصدر عن الطفل بالرغم من إرادته وحبه لقول الحقيقة. إن أساس هذا النوع من الكذب هو الكذب الادعائي. وفي بعض الأحيان يكبت الدافع المسبب للكذب، كأنه يكبت شعوره بنقصه أو حاجته إلى المكانة أو حاجته إلى العطف والرعاية. حتى إن هذا الكذب يتصل بعامل لا شعوري يفلت من رقابة المنطق الواعي ومن رقابة الأنا الأعلى ويتحول إلى كذب مزمن لا شعوري. ولا يمكن معالجته إلا بالتحليل النفسي. وقد يصل صاحبه إلى ما يعرف بالتجهيل أي عدم قدرته على إدراك الحقائق، والجهل بالواقع، ولا يمتلك مقدرة على النقد.
6. الكذب الخيالي
يسمى هذا النوع من الكذب الخيالي، لأن الأطفال لا يفرقون بين الحقيقة والخيال كما أنه يكون تعبيرا عن أحلام الطفل ولا سيما أحلام اليقظة، حيث تظهر فيها رغبات وآمال الطفل. وعند كشف هذه القوة الخيالية الرائعة يحسن توجيهها والاستفادة منها، فالطفل قد يتخيل شيئا ويحوله إلى حقيقة.
7. الكذب الإلتباسي
فيه يلجأ الطفل إلى الكذب من غير قصد، إذ تلتبس عليه الوقائع، وتعجز ذاكرته وخبراته عن تميز ما يراه حقيقة واقعة مدركة في مخيلته. كثيرا ما يسمع الطفل حكاية خرافية قد تقص عليه، فسرعان ما تمتلك عليه مشاعره. وتسمعه في اليوم التالي يتحدث عنها كأنها وقعت له بالفعل. وقد يحكي القصة ويعدل في أشخاصها وأحداثها حذفا وإضافة وفق نموه العقلي. وقد يرى فيها رؤيته الخاصة.
ما آثار ظاهرة الكذب؟
إن وقاية الطفل من مرض الكذب أمر ضروري، لأن الكذب لا يختلف عن غيره من الأمراض التي تصيب النفس لأنه يفقد صاحبه المناعة من كل الأمراض ويتيح له ممارسة كافة الأعمال القبيحة. وينبغي عدم التساهل مع نوعي الكذب البسيط منه والكبير.
علاج ظاهرة الكذب عند الأطفال
1. أن تكون البيئة المحيطة بالطفل صالحة. والجميع فيها صادقون، يشكلون قدوة حسنة، ويصدقون مع أطفالهم. ثم تهيئة الأجواء النفسية المريحة في الأسرة. فالشخص المطمئن لا يكذب، أما الشخص الخائف فيلجأ إلى الكذب كوسيلة للهروب من العقاب.
2. إذا اعترف الطفل بذنبه فلا داعي للعقاب، لأن من اعترف يجب أن يكافأ على هذا الاعتراف مع التوجيه الدقيق شرط ألا يستمر الوقوع في الكذب.
3. القيام بتشجيع الطفل على قول الصدق. وتزيين ذلك شعرا ونثرا. وبالأمثال الشعبية التي تنبذ الكذب وتحقره.
4. التروي في إلصاق تهمة الكذب بالطفل قبل التأكد، لئلا يألف اللفظة ويستهين بإطلاقها. كأن نتهمه بالكذب، ثم نثني عليه ونسحب هذا الاتهام. وهذا ما يضعف موقفنا التربوي، ومن قيمة أحكامنا القابلة للنقض. أضف إلى ذلك أن الاتهام العشوائي الذي يثبت صدقه يشعر الطفل بروح العداء والكراهية نحونا.
5. ألا نترك الطفل يمرر كذبة على الأهل أو المدرسة، لأن ذلك يشجعه ويعطيه الثقة بقدرته على ممارسة الكذب دائما. فمجرد إشعارنا له أننا اكتشفنا كذبته سيجعله يحجم في المرات التالية عن الكذب. وللتذكير إن إنزال العقوبة بعد اعترافه بذنبه يعتبر كأنه عوقب على قول الصدق.
6. التزود بالقيم الدينية والأخلاقية المناسبة، ومعالجة المصابين بالعقد النفسية.
7. استخدام الجزاءات أي أسلوب الثواب والعقاب في الصدق والكذب بدرجة متناسبة مع الفعل.
8. تنمية الوعي الذاتي عند الطفل بجعله يتحدث عن كل مرحلة. وتشجيعه الدائم على الحديث والتعبير عن ذاته وعن مشكلاته، وإرواء حاجاته على نحو جيد. ولا بد من توفير جو هادئ آمن في الأسرة، وتشجيع الحوار والتواصل الصادق مع الأبناء.
إرشادات للمربين للتغلب على ظاهرة كذب الأطفال
1. تعليم القيم الأخلاقية، وعدم تعاطي الكذب.
2. البحث عن الأسباب الكامنة وراء الكذب، وإشباع حاجات الطفل المادية والمعنوية.
3. تقديم الثناء والتقدير للطفل على صدقه، وما يقوم به من أعمال إيجابية.
4. تقديم نماذج إيجابية داخل البيت، لمنع وقوع الطفل في كذب التقليد.
5. عدم توقع الكثير من الطفل في التحصيل الدراسي وتقبل الفشل ومعالجته وإفهام الطفل أن بعض المهام صعبة.
6. جعل الطفل يستكشف طرقا أخرى للحصول على الأشياء المرغوبة.
7. جمع الحقائق، على الآباء عندما يكونون غير متأكدين أن الطفل مذنب جمع الحقائق عن الموضوع، وعدم التسرع في إصدار الحكم.
8. تقليل العقاب، وخاصة البدني الذي يعمل على تبلد الإحساس، ويجعل الطفل يتعود عليه.
9. إكساب ثقة الطفل وتشجيعه أن يتحدى المحن، وأن يعبر عن ذاته بأشكال فنية، كالرسم واللعب، والتفريق بين خيال الطفل والكذب.
10. يجب أن يعتقد الطفل أن الصدق يجلب له النفع عكس الكذب، وأن الصدق يخفف من وطأة العقاب في حال ارتكاب الخطأ.
الخلاصة
أن دور الآباء والأمهات يجب أن يكون حلا لمشكلات أطفالهم عن طريق التفكير العلمي الموضوعي السليم، وليس عن طريق العقاب. واحترام الطفل وتشجيع ثقته بنفسه وإشباع حاجات الطفل بمقدار المستطاع، على أن يوجه الطفل إلى الإيمان وتوجيه سلوكه نحو الأمور التي تقع في دائرة قدراته الطبيعية، مما يجعله يشعر بالسعادة والهناء؛ عكس تكليف الطفل بأعمال تفوق قدراته، مما يؤدي إلى الفشل والإحباط والكذب.
إن الكذب هو إحدى الاستراتيجيات التي يستخدمها الطفل للحفاظ على احترامه لذاته، إلا أنه ينبذ هذه الإستراتيجية عندما يكتسب القوة والثقة بالنفس.
تأليف: أنس شكشك