عند مقاربة موضوع المداواة والمعالجة عموماً وطبيعياً، يستوقفنا العديد من الحكم، الأقوال والأمثال، التي صدرت عن حكماء، فلاسفة وعلماء عبر عصور خلت وحضارات خلفت تراثاً في هذا المجال من خلال خبرات وتجارب كانت بمثابة مرآة تعكس آراء أولئك الذين برعوا في شتى ميادين العلوم.
تراودنا في هذا السياق حكمة رومانية قديمة تقول «الطبيب يداوي والشفاء على الله». وإذا ما فتحنا مجلدات «ابن سينا»، الطبيب الفيلسوف والعالم الموسوعي لاغترفنا منها الكثير من الحكم، لنكتفي باثنتين الأولى: «الوهم نصف الداء والاطمئنان نصف الدواء والصبر أولى خطوات الشفاء»، أما الثانية: «المريض هو نصف الطبيب» وهو قول مقتضب ولكن فيه الكثير من المعاني التي ترمي إلى قيام المريض بتطبيق العلاج والنصائح التي أسداها إليه الطبيب بهدف الشفاء من الداء. أين نحن اليوم من المداواة دون استشارة الطبيب؟!
ظاهرة عادة مداواة الذات
ظاهرة قديمة، جديدة، آخذة بالاستفحال والانتشار من جيل إلى آخر، تهم صحة الإنسان عن قرب، إنها عادة مداواة الذات، الشائعة بين مختلف شرائح المجتمع، المثقف والأقل معرفة؛ هي عادة تنم عن قدر واف من الاستهتار بالصحة أو عدم الشعور بالمسؤولية تجاه الذات أو نحو من هم أعزاء، ما يدل على خلل في التصرف، العيش أو الاعتقاد.
بلا رقيب ولا حسيب يقدم المرء، وغالباً ما يكون شخصاً يدعي المعرفة في الأمور الطبية، أو امرأة تنتحل صفة التبحر في تجارب علاجية، يقوم هؤلاء بإتباع علاج تلقائي ودون الرجوع إلى الاستشارة الطبية، ما يشكل في حد ذاته تصرفاً فردياً غير واع ومسؤول، وما يترتب على هذا التصرف من عواقب خطيرة في كثير من الحالات والظروف.
وفي عصرنا الحاضر نلاحظ شيوع هذا التصرف بعد انتشار فورة المعلومات وتوافر الحاسوب واستعماله من قبل الكثيرين، كباراً وصغاراً، إذ يستنتج أحدهم ومن صميم اعتقاده الخاص، أنه بحاجة إلى فيتامين معين، ليبحر على الأنترنت ويطلع على حسنات هذا الفيتامين متخذاً القرار باستعماله مكثراً من جرعاته.
أمثلة على تناول الدواء دون استشارة الطبيب
وعلى سبيل المثال نذكر هنا الفيتامين «سي» المعروف بصفاته المحفزة للمناعة ومقاومة حالات الإرهاق والالتهابات الحادة وخصوصاً في فصل الشتاء والبرد القارس؛ فمنهم من يتناول ثلاثة أو أربعة غرامات من هذا الفيتامين يومياً، دون أن يعلم أن جسم الإنسان يحتاج إلى كمية أقل بكثير، حتى في حالة المرض، مع جهله التام بعواقب الجرعات الزائدة منه وخصوصاً مضاره على الكبد. وكذا الأمر بالنسبة إلى تناول كميات كبيرة من الفيتامين «دال» الذي يساعد على تثبيت مادة الكالسيوم في العظام؛ نرى بعضهم يأخذ هذا الدواء دون وصفة طبية تؤكد حاجة جسمه إليه وغير آبه بما لهذا الفيتامين من مفاعيل ثانوية مضرة للصحة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر تكوّن الحصى في الكلى والمرارة؛ ومنهم من يلتهم كميات فائضة من مادة «الأوميغا 3» ظناً بأنه يقي ارتفاع مادة «الكولسترول» في دمه، دون استشارة الطبيب أو القيام بتحليل للدم لمعرفة نسبتها لديه مع الجهل بمفعول كل مادة تدخل الجسم من دون حاجة إليها.
ومن الناس من يسارع إلى تناول المضادات الحيوية عند الإحساس بألم طفيف في الحنجرة أو اللوزتين، أو الإصابة برشح فيروسي بسيط يرافقه سعال خفيف، وهو لا يدري أنه ليس بحاجة إليها: إن تلك المضادات غير فعالة أصلاً على الإصابات الفيروسية؛ هذا ما نلاحظه ونستنتجه كأطباء للأطفال في ممارستنا اليومية. وتكثر الأمثلة ويتسع المجال ليشمل الكثير من الاستعمالات غير اللازمة للعديد من الأدوية لدى الكبار والصغار على السواء؛ ناهيك عما يقوم به العديد من الناس بتناول الأدوية المسكنة أو المهدئة للأعصاب عند الشعور بأي تغير في مزاجهم وأوضاعهم النفسية، ودافعهم الأساس إلى، ذلك الهموم اليومية، الاقتصادية والاجتماعية غير عابئين بما لهذه العقاقير من عوارض جانبية، تؤذي صحتهم ومعنوياتهم وتؤدي إلى حالات إدمان لدى البعض منهم.
وعندما نعلم أن حبة «الأسبيرين» التي كانت الدواء الأول فيما مضى لمعالجة الصُداع والآلام، وتوصف حالياً بكميات قليلة كمسيل للدم لدى الكبار للوقاية من تخثر الدم وعدم حصول الجلطات القلبية والسكتات الدماغية، يمكن لهذه الحبة من هذا المركب المتوافر في أي مكان أن تؤدي، في حال تناولها بشكل دائم إلى نزف حاد لدى ذوي الاستعداد (قرحة في المعدة، تناول مسيل آخر للدم في الوقت نفسه..)، أو مضاعفات تهدد حياة الإنسان (في حالات المصابين بالربو مثلاً).
من هنا يمكننا استنتاج المخاطر الناجمة عن مئات الأصناف من الأدوية المتوافرة بسهولة بين أيدي الناس، أكانوا مرضى أم أصحاء؛ لاسيما في حالة اللجوء إليها وتناولها بدون الاستئناس برأي الطبيب على الأقل.
تجديد وصفة طبية سابقة بناء على تشابه الأعراض
تعتمد المعالجة الذاتية عند الناس على مصادر عديدة، يأتي في طليعتها ما هو متوارث عن الأجيال السالفة من عادات وتقاليد علاجية ووصفات غير علمية تصل في بعض الحالات إلى ضرب من ضروب التنجيم أو الشعوذة؛ بالإضافة إلى ذلك يمكن أن يلجأ المريض، أو المنتحل صفة المداوي إلى شراء الدواء من الصيدلية بوصفة طبية رسمية ويعمد إلى وصف هذا الدواء إلى شخص آخر ودون المرور بالفحص الطبي. ومن المرضى من يقوم بتجديد وصفة طبية سابقة كان قد حصل عليها سابقاً من الطبيب ويرى هذا المريض أن الأعراض التي تنتابه شبيهة بتلك التي اعترته قبل أشهر أو سنوات! على الرغم من أن ذلك يعد استهتاراً كبيراً بالصحة، لأن تشخيص أي مرض ينجم عن أعراض معينة، ولو تشابهت من حالة إلى أخرى، هي مهمة الطبيب وحده.
مداواة الأطفال
وبالعودة إلى مداواة الأطفال نذكر هنا بعض الأمثلة التي لا تزال تحصل إلى يومنا هذا: كأن يعاني طفل من سعال حاد ومفاجئ (ربما كان السبب ابتلاع جسم غريب عن طريق الخطأ، واستقرار هذا الجسم في الحنجرة أو عند مدخل القصبة الهوائية؛ أو سعال ناتج عن ارتداد الطعام من المريء باتجاه القصبة الهوائية)، فتقوم الجارة بالتبرع بدواء ابنها المثبط للسعال واصفة إياه بالجيد والفعال «وجربيه يا جارتي سوف يوقف السعال فوراً ويرتاح ابنك..!» حقاً إن الدواء فعال للغاية، ولكن الوصفة ليست في مكانها أبداً… إذ أن هذا المحلول المثبط للسعال يحوي على مادة «الكوديين».. والنتيجة توقف السعال (الذي هو وسيلة دفاع) بطريقة مفاجئة وقد تعرض الطفل للاختناق وتوقف التنفس من خلال مركز التنفس الأساس في الدماغ.
ما الأسباب التي تبعث الناس على المداواة الذاتية؟
• العوامل كثيرة، أبرزها يعود إلى نقص في الثقافة الصحية؛ و«الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى» كما ورد في الحكم العربية المأثورة. نعم الصحة هي قرينة العافية وهذه «نعمة مجهولة إذا ُوجدت نسيت وإذا عُدمت ذُكرت»، ولذلك علينا المحافظة على هذه النعمة وألا نكتفي بمعلوماتنا الذاتية، التي ربما كانت خاطئة أو ناقصة؛ وفي عصرنا الحاضر يمكن التزود بالكثير من المعلومات الصحية من خلال المجلات أو الدورات الطبية الموجهة لتثقيف الناس، كما يمكن الاستعانة بالكمبيوتر، ولكن على أساس اختيار المصدر الطبي الموثوق، والعودة دائما لاستشارة الطبيب، كونه الوحيد القادر على التشخيص والعلاج وإعطاء النصائح للتوعية والوقاية، ومن واجب كل فرد أن يلم بثقافة صحية ولو بالحد الأدنى، وخصوصاً الفتاة فهي أم المستقبل، تنتظرها مسؤوليات جسام في العناية، الرعاية والوقاية.
• هناك أيضاً أسباب اقتصادية تدفع الناس في الكثير من الحالات أو الظروف إلى المداواة الذاتية نظراً للأوضاع المعيشية الضاغطة والمتقلبة، بدءا بسنوات الحرب وظروف التهجير والقبوع في الملاجئ، إلى تدني مستوى الدخل بالمقارنة مع ارتفاع مستوى المعيشة وكثرة متطلبات الحياة الحديثة وما يعتريها من وسائل التقليد والمضاهاة…
لذلك يستحسن القيام ببرامج دورية للتوعية والتثقيف الصحي، وهذا ما دأبت عليه منذ سنوات وسائل الإعلام المرئي، المكتوب والمسموع؛ وهنا لا بد من الإشارة إلى تكثيف وتنمية الدور الهام المستوجب القيام به من قبل وزارات الدولة المختصة ونقابة الأطباء والهيئات الصحية، لتزويد المواطنين بالنصائح والإرشادات الصحية للتوعية في العديد من الاختصاصات الطبية، وعدم الاكتفاء بإلقاء المحاضرات المفصلة عن الأمراض، مع التركيز على الأمور الصحية الوقائية والابتعاد عن تناول الأدوية ذاتياً ودون مراقبة طبية؛ والعمل بشكل دائم وجدي لتأمين الأمن الصحي من خلال الرعاية الصحية لجميع المواطنين وتحت إشراف الوزارات المختصة.