المرونة المعرفية cognitive plasticity والمرونة العصبية neuroplasticity عنصران أساسيان في ضمان سلامة الدماغ، ونموه، وأدائه حين نتقدّم بالعمر. من ثم، مستقبل دماغك مرتبط بقدرتك على زيادة المرونة (العصبية والمعرفية)، بالرغم من أن كلتيهما عملية طبيعية، وفي بعض الأحيان اصطناعية.
المرونة العصبية مصطلح يُطلق عموماً على عمليتين عصبيتين، إحداهما هي تخلّق النسيج العصبي؛ قدرة الدماغ على إنتاج عصبونات جديدة، والثانية تدعى تخلّق المماسات العصبية؛ أي تكوّن مماسات جديدة (وصلات بين عصبونين تعمل على أنها روابط رسائل عصبية)، التي تحدث عادة حين يتطوّر دماغك لكنها قد تستمر طوال حياتك. يُشار إلى كلا هذين التغييرين على أنهما إعادة تنظيم قشرية؛ وتكون عادة نتيجة تغييرات دماغية تجري عبر التحفيز وقد تتحقّق عبر تجارب جديدة وتعلّم جديد.
المرونة العصبية، من ناحية أخرى، تشير إلى اعتماد متزايد على احتياطي الدماغ (عمليات دماغية ناجحة سابقاً) وطريقة استخدامه في حالات تغييرات تكيّفية في نشاط الدماغ لإنجاز مهمات بنحو ناجح. الفكرة الأساسية خلف هذه العملية هي أن الدماغ يحاول استخدام ما يعمل (صلات عصبية ومناطق من الدماغ لا تزال تعالج معلومات بفاعلية) لتعويض نقص ما لا يعمل. مثلاً، قد تظن أن هذه العملية مشابهة لقيادة السيارة من العمل إلى المنزل وملاحظة أن مسارك المعتاد مسدود نتيجة إصلاحات في الطريق، وأن هناك تحويلة يمكنك سلوكها، قد تجعل رحلتك أطول قليلاً، لكنك ستصل بالرغم من ذلك إلى المنزل. لا يختلف هذا عمّا يفعله دماغك حين تُصاب أجزاء أو عصبونات بضرر، وبدلاً من استعمال المسلك المعتاد، يتكيّف الدماغ وسيعمل عبر طريق أو عملية بديلة لتحقيق ما تحتاج إليه.
الفرق الرئيس بين هاتين العمليتين هي أن المرونة العصبية تشير إلى قدرة الدماغ على النمو وإنتاج عصبونات جديدة حين الحاجة إلى التكيّف مع مطالب مهمّات محدّدة (طبعاً، هذا يتنوّع وفقاً لحال الدماغ، مثلاً، المتضرّر أو غير المتضرّر)، في حين إن المرونة المعرفية تشير إلى قدرة الدماغ على استعمال مسالك بديلة والاعتماد على نشاط وأنماط دماغية قائمة لتلبية احتياجاته. كلتا هاتان العمليتان موثّقة جيداً وقد حظيتا باهتمام كبير، لكن هذا عادة فيما يتعلّق بتطوّر الدماغ، أو الأذية، أو التعافي اللاحق، في حين إن الأبحاث محدودة بشأن فحص هاتين العمليتين فيما يتعلّق بالتقدّم الطبيعي بالعمر وأمراض مرتبطة بالتقدّم بالعمر. على كل حال، بسبب ازدياد طول عمر السكان إجمالاً، هناك اهتمام كبير بفهم طريقة تكيّف الدماغ بتدهور مرتبط بالعمر وحالات المرض.
الدماغ المتقدّم بالعمر
تخبرنا الأبحاث أنه، بالمعدّل، ابتداءً من الثلاثين حتى عمر التسعين، سيفقد دماغ الراشد 14 بالمئة من حجم مادته الرمادية و26 بالمئة من مادته البيضاء، ولا ينبغي أن تكون مختص عصبية لتعرف أن هذا ليس نبأ جيداً. على كل حال، هذا تقويم متوسّط، تكوّن بفحص أدمغة عدّة أفراد من أعمار مختلفة، ولم تتابع دراسة واحدة فرداً محدداً واحداً، أو مجموعة أفراد، في هذه المجموعة العمرية (ثلاثين إلى تسعين) لفهم ما قد تعنيه هذه التغييرات على مستوى شخصي. في بعض الحالات، قد يطبّق أفراد معينون استراتيجيات لضمان تقدّم أفضل بالعمر، في حين لا يفعل آخرون بالعمر نفسه شيئاً، لكن فقدان المادة البيضاء ربما يؤثر على قدرة المرء المعرفية. مثلاً، اعتلال عصبي قطعي (فقدان المادة اللزجة التي تغلّف عصبوناتك من الخارج) عميق ضمن الدماغ متعلّق بانخفاض قدرة الذاكرة في أشخاص كبار السن. إضافة إلى هذا، لقد أظهرت دراسات انخفاض حجم المادة البيضاء في أفرادٍ يعانون مرضاً قلبياً وعائياً وقد واجهوا مشكلات في الذاكرة والتخطيط. ما نعرفه هو أنه عندما يتقدّم البشر بالعمر، يعانون فقدانَ قشرة قد تؤثر على الأداء المعرفي ابتداءً أساساً بعمر الأربعين.
المرونة المعرفية
إحدى الطرق الرئيسة التي قد حاول باحثون أن يقيّموا بها تدهوراً متصلاً بالعمر هي بربط انكماش قشرة موضعي بحالات خلل سلوكي، لكن حتى الآن، لم يثبت أن هذا مفيد. الصعوبة هي أن بعض الأفراد الأصحاء الذين لا تظهر عليم تغييرات سلوكية قد يعانون انكماشاً قشرياً كبيراً في عدد من المناطق ويؤدون وظائفهم بنحو طبيعي، وأحياناً بنحو أفضل، على مقاييس سلوكية معينة. مثلاً، لا ينتج عن انكماش قشرة شمّية داخلية (مركز ذاكرة مهم في الفص الصدغي) فقدان ذاكرة ملحوظ دائماً، وهذا جدير بالملاحظة بسبب الدور الأساسي الذي تلعبه هذه المنطقة في قدرة الذاكرة، المثبتة مراراً. بالنسبة إلى أفراد متقدّمين بالعمر، هذا في الواقع نبأ جيد جداً، وإذا كنت تتذكّر، ذكرت سابقاً أن انكماش الدماغ brain shrinkage كان عاملاً محتّماً لتقدّم العمر، لكن حتى بمواجهة انكماش القشرة cortical shrinkage، وعوامل مثل آفات المادة البيضاء white matter hyperintensities (ضرر وعائي vascular damage)، يستطيع دماغ المرء التكيّف والتعويض ليعمل بنحو طبيعي وفاعلية. السؤال الرئيس هو: كيف يتكيّف هؤلاء الأفراد الأكبر سناً، خاصة أولئك “المعرّضين لخطر” من انكماش أو مرض في القشرة، لضمان أداء ناجح؟ تتضمن النظرية الحالية التي قدّمها عدّة باحثين في التخطيط الطبي أن هؤلاء الأفراد يستفيدون من مسالك عديدة ضمن أدمغتهم، تكون غالباً مفرطة النشاط، للتعامل مع هذه المشكلة. يستفيد هؤلاء الأفراد تلقائياً (تذكّر أن هذه عملية لا واعية) من عدّة موارد دماغية لضمان إنجاز العمل، وقد يستخدمون استراتيجيات مختلفة (عملية واعية) في أثناء محاولة تذكّر شيء مهم، مثل قبلتهم الأولى، التي ربما اعتادوا تذكّرها بسبب مكان حدوثها، لكنهم يتذكّرونها الآن بسبب الشخص الذي قبّلوه. القصد أنهم لا يزالون يتذكرون القبلة، لكنهم يستردون المعلومة بطريقة مختلفة.
فرط نشاط الدماغ عملية شائعة تُلحظ في دراسات تفحص الاسترداد الناجح لمعلومات من قبل أفراد متقدّمين بالعمر يعانون حالاً مرَضية، وهذا النمط من النشاط نموذجي جداً لأولئك الذين يُثبتون، على الأغلب، قدرة معرفية عالية في أثناء حياتهم. يتمتع هؤلاء الأفراد كما يبدو بقدرة على تحويل موارد من أجل إنهاء نشاطات أفضل من أفراد متقدّمين بالعمر تمتّعوا دائماً بقدرة معرفية أقل، وقد أظهر البحث أن أفراداً يسجّلون نقاطاً منخفضة في اختبارات الذاكرة يستمرون في محاولة تنشيط شبكات ناجحة سابقاً، بالرغم من مشكلات قد يواجهونها في استرداد معلومات بنحو ملائم. من ثم، تبين أن هؤلاء الأفراد أقل نجاحاً في أداء الذاكرة من راشدين ينجزون وظائف معرفية بنجاح، الذين لن يحاولوا تنشيط أجزاء سابقة فقط، إنما أجزاء دماغية جديدة أيضاً. بالتحديد، ينشّط راشدون ينجزون وظائف بنجاح مناطق على كلا جانبي الدماغ (ثنائي)، بخلاف راشدين أقل نجاحاً في إنجاز مهمة مشابهة ويرزحون تحت عبء مرض حديثاً. الاعتقاد أن راشدين يؤدون وظائف معرفية بنجاح قد لقّنوا أدمغتهم العمل على مشكلات عبر عدّة طرق أو “شبكات”، من ثم يمكن أن يتكيّفوا بسرعة أكبر مع أوضاع مرهقة معرفياً، وبالرغم من أن هذه قد تعدُّ إستراتيجية جيدة، إلا أنها مجرد طريقة لتعويض حالات العجز.
يُنظر إلى الأداء الأفضل، على كل حال، على أنه فرد ينجز مهمات باستخدام أقل الموارد المعرفية الممكنة وتحقيق مستوى أداء عالي، وهذا عادة نوع النشاط الدماغي الذي يراه المرء في أفراد أصغر سناً لا يعانون خللاً. لقد أظهرت أبحاث إضافية أيضاً، في راشدين أكبر سناً، أن زيادة النشاط تُلحظ في أجزاء الدماغ الجبهية حين التعامل مع إدارة أنواع متعدّدة من المهمات، مثل إدراك بصري، إضافة إلى أنواع متنوّعة من مهمات الذاكرة، وفيها الاسترداد والتذكّر. يقترح هذا البحث أن أفراداً كثيرين يعتمدون على آليات تعويضية (مرونة معرفية) في الفص الجبهي لإنجاز مهمات متنوّعة، خاصة في حال التقدّم بالعمر. المثير للاهتمام أن هذا التغيير يجري، كما يبدو، باكراً جداً في عملية التقدّم بالعمر، مع رؤية تغييرات ملحوظة، بالمعدّل، قبل عمر الخمسين.
الرسالة الأساسية التي يمكن الحصول عليها من هذه المرونة المعرفية هي أنك إذا عملت للحفاظ على القدرة المعرفية، وأشركت نفسك في تعلّم أشياء جديدة ونشاطات ذهنية صعبة، يزداد احتمال أن تعمل المرونة المعرفية لفائدتك. ستتأخر أي اضطرابات وشيكة في قدرتك العقلية مدة أطول كثيراً من أفراد لم يشتركوا في مثل هذه النشاطات.
المرونة العصبية
من وجهة نظر علم الأعصاب، يُولد كل البشر مبتسرين، وما أعنيه بهذا هو أن الدماغ يحتاج وقتاً طويلاً ليتطوّر وينمو. عندما نولد، يزن دماغنا نحو 350 غراماً فقط، وبالرغم من أن النمو العصبي محدود نوعاً ما بعد ذلك الوقت، إلا أن الهدف الرئيس للدماغ هو إنشاء صلات بين عصبونات وأجزاء أخرى، في طريقه للوصول إلى وزن 1400 غرام، وهذا يحدث في أواخر سن المراهقة. مفهوم تماماً أننا نختبر عشرين سنة تقريباً من النمو، وتكون فائدة الفص الجبهي الأكبر في المراحل النهائية من التطوّر. قد يفسّر هذا سبب تعرّض كثير من المراهقين لمشكلات في اتخاذ قرارات صحيحة؛ لأن الجزء الجبهي يشترك بفاعلية في عمليات اتخاذ قراراتنا، من ثم تكون أدمغتهم لا تزال تتطوّر.
عند تنحية قضية النمو في الحجم جانباً، يصبح أحد الأسئلة الرئيسة التي يحاول الباحثون إيجاد جواب لها: هل يستطيع دماغ متقدّم بالعمر إنتاج عصبونات جديدة؟ وإذا حدث هذا، فما مدى فاعلية الدماغ في هذه العملية؟ الجواب السريع هو، نعم، تستطيع أدمغة متقدّمة بالعمر إنتاج عصبونات جديدة (تخلّق نسيج عصبي). يبدو أن فاعلية هذا النمو تعتمد على عدد من العوامل، التي سأناقشها لاحقاً.
فهم طريقة حدوث تخلّق النسيج العصبي والعملية البيولوجية التي تجري نتيجة ذلك مثيرٌ جداً للاهتمام. على كل حال، بدلاً من ملء عددٍ من الصفحات بتفاصيل بيولوجية أساسية كثيرة، سأخبرك ببساطة أن تخلّق النسيج العصبي لدى راشدين يجري عبر إنتاج أنواع خلية محدّدة يبدو أنها تنجذب إلى منطقة معينة من الدماغ في جزء قرن آمون، الذي يشترك في عمليات ذاكرة، وينبغي أن تنمو هذه الخلايا الجديدة وتنضج لتصبح فاعلة في المساعدة في تخلّق النسيج العصبي. حتى حديثاً، في العقدين الماضيين أو نحو ذلك، كان الإجماع العام أن الراشدين لا ينتجون خلايا جديدة، ويُظنُّ أنه بعد انتهاء النمو (في العشرينيات من عمرنا) تكون كل العصبونات التي سنحظى بها موجودة، ونواجه بعد ذلك تدهوراً ثابتاً محتّماً. على كل حال، نعرف الآن أن دماغ الراشد قادر على إنتاج نسيج عصبي وأن النمو في مناطق الاتصال يستمر، ويحدث بالنسبة إلى عصبونات أخرى عبر بنى صغيرة تشبه الفروع تدعى النتوءات الشوكية. عند التفكير ملياً في هذا التغيير، أُطلقت مبادرات جديدة لدراسة طريقة إحراز هذا النمو في عمر متقدّم.
اقترح باحثون أن هذه الخلايا المولودة حديثاً يمكن أن تساعد في التعلّم والذاكرة، وكذلك فقد أظهرت دراسات على حيوانات أنه عندما توضع فئران في “بيئات خصبة” (مثال: مهمات تحفيزية وصعبة)، تُظهر قدرة أفضل في إنجاز مهمات متنوّعة لاحقاً في حياتها، لكن خاصة تلك المهمات المتعلّقة ببيئات قد وُضعت فيها في المراحل الأولى من نموها العصبي. هذا مثير للاهتمام؛ لأنه يشير إلى إمكانية استعادة المرء لوظائف بنحو أفضل كثيراً إن كان قد اختبرها سابقاً في أثناء مرحلة النمو، وقد تكون بيئات خصبة حين ينمو المرء مهمة جداً في إنتاج عصبونات في البلوغ. مثلاً، يتفاجأ كثير من الناس اختبروا نوعاً محدداً من المهمات في أثناء طفولتهم حين يكتشفون أنهم لا يزالون ينجزون هذا النوع من المهمات بعد سنوات، حتى إذا لم يحاولوا أداءها منذ طفولتهم. لا تعدُّ البيئات الخصبة مهمة فقط حين يكبر المرء، فقد أشار بحث على فئران إلى أنها تلعب دوراً في تعزيز إنتاج عصبونات جديدة في حيوانات أكبر سناً. من ثم، ينبغي أن يكافح المرء لضمان أن تكون البيئات غنية بنشاطات تتحدّى الدماغ وتحفّزه باستمرار، وأيضاً سيساعد الاشتراك في هذا السلوك في المراحل المتأخرة من حياتك في ضمان نجاة عصبونات مُنتجة حديثاً ويساعدك في تطوير إمكانياتك.
بالرغم من إمكانية إجراء معالجة تفضيلية لعصبونات مرّت بمرحلة تطوّر “خصبة”، إلا أن الاشتراك في مهمات جديدة مفيد أيضاً لصحة هذه الخلايا. تقترح نماذج نظرية أن عصبونات جديدة تحتاج وقتاً للنمو وإنشاء صلات فاعلة مع عصبونات أخرى، وتقفز عبارة “التكرار مفيد” إلى الذهن؛ لأن هذا، على مستوى خلوي، قد يكون ما يجري في تطوّر عصبونات جديدة. فكّر في شخص يفكّر في الانضمام إلى فريق رياضي، فيقوم “الفتى الجديد” برفع لياقته ويحاول إيجاد مكان يعمل فيه بأفضل ما يمكن، وإذا لم تكن لياقته جيدة، فستمضي العملية قدماً من دونه. على كل حال، إذا كانت اللياقة جيدة، يتقبّل الفريق ذلك الفرد بنحو أفضل كثيراً.
مهم أيضاً أن نلاحظ أنه يمكن عدُّ تخلّق النسيج العصبي عملية تُستخدم فيها هذه العصبونات الجديدة للتعويض عن عصبونات تعاني خللاً وظيفياً. من ثم، تكون عملية الاستبدال أساسية لاستمرار الأداء. إحدى النتائج المثيرة للاهتمام هي أن تخلّق النسيج العصبي الذي يحدث في بنى الدماغ (مثال: المادة السوداء) يتأثر، مثلاً، بداء باركنسون، واقترحت تقارير أن عصبونات في هذه المنطقة تُستبدل، بالرغم من أن هذا الاستبدال يحدث بمعدّل أبطأ من تقدّم المرض. الدماغ يعمل بجهد واضح في محاولة للدفاع عن نفسه وضمان وظيفية ناجحة، حتى بمواجهة حالة تنكّس عصبي مثل باركنسون.
بالرغم من أن أبحاثاً أظهرت أن تخّلق نسيج عصبي لدى راشدين يحدث فعلاً، وأن تغييرات سلوكية في الذاكرة والتعلّم ممكنة، إلا أن أياً من هذه الدراسات ليست حاسمة تماماً، وبعضٌ مما يُقدّم يستند على نماذج نظرية فقط. على كل حال، يدل هذا ببساطة على ضرورة إجراء مزيد من الأبحاث لفهم طريقة إيجاد تخلّق نسيج عصبي فاعل ومكافحة أمراض في أفراد متقدّمين بالعمر.
الحفاظ على الدماغ
الحفاظ على صحة الدماغ أمرٌ بالغ الأهمية، وكما ذُكر حتى الآن، هناك عدّة طرق يستطيع بها المرء تحسين فرص تقدّم عمر معرفي ناجح. لقد اقتُرحت نظريات كثيرة لتفسير قدرة أفراد معينين متقدّمين بالعمر بالحفاظ على مستوى عالٍ من الوظيفية بالرغم من التغييرات في الدماغ، وتقترح نظرية السقالات scaffold theory أن تكيّفاً صحياً في وظيفية الدماغ لا يجري بسبب نمو الدماغ وإيجاده طرقاً للتعامل مع تحدّيات جديدة فقط، إنما لأن أفراداً قد تحدّوا أنفسهم بانتظام في حياتهم يمكن أن يتكيّفوا في التعامل مع تغييرات تجري على مستوى تشريحي في مرحلة متأخرة من الحياة. قد تنشأ لدى أفراد يشتركون باستمرار في نشاطات جديدة سقالة (أو منصة) من عصبونات فاعلة، وربما شبكة عصبية فاعلة أيضاً، جاهزة لمعالجة أوضاع مرهقة معرفياً حين يتقدّمون بالعمر، ويمكن أن تُستخدم شبكات عصبونات ثانوية تعمل عادة لإنجاز مهمات شاقة بنحو خاص لاحقاً للتعامل مع أوضاع لا تعمل فيها طرق رئيسة على مستوى أفضل. مثلاً، قد ينتج عن تحدّيات بيولوجية عصبية (مثال: هجمة من أمراض تسبّب فقدان عصبونات) اضطراب سلوكي محدود في أداء مهمات حين تكون “منصّة” مكانها، ويستطيع المرء الاستفادة من موارد موجودة سابقاً لضمان وظيفية دماغية عادية واستجابة سلوكية طبيعية. مهم أن نلاحظ أن هذه النظرية ليست مبرهنة بيولوجياً بعد، لكن يُظنُّ أنها تفسّر سبب فقدان أفراد معينين في فحص بعد الوفاة مادة عصبية أساسية، لكنهم بالرغم من ذلك يظهرون طبيعيين معرفياً حتى النهاية (هدف جيد يرغب كثيرون بإنجازه).
عندما نتقدّم بالعمر، هناك نزعة شائعة في الدماغ تتمثّل بانخفاض النشاط خارج الفص الجبهي وفرط النشاط في المنطقة الجبهية، ما يؤثر على طريقة تكيّف المرء لتحدّيات معرفية. المثير للاهتمام أن الأدمغة في أفراد أصغر سناً تعمل على مشكلة معقّدة تشبه أدمغة أفراد أكبر سناً تعمل على مشكلة بسيطة. بالرغم من أن المرونة ممكنة طوال حياتنا، إلا أن التدهور المرتبط بتقدّم العمر قضية صعبة ومحط اهتمام، من ثم زيادة مرونتنا على أنها آلية وقاية ضد أمراض عصبية قد يكون مهماً جداً لضمان وظيفية عادية. على كل حال، ربما يكون هناك حد لنظام “السقالة”، ولا يكون التعويض، إلى حد معين، ممكناً بعد ذلك، وهي المرحلة التي يصبح فيها التدهور المعرفي واضحاً جداً. قالت أسر كثيرة إن أحباءهم بدوا بخير وكانوا يتكيّفون جيداً، من ثمَّ ظهر تدهور مفاجئ في قدراتهم المعرفية؛ عملية افترض أنها قد تكون أكثر شيوعاً في أفراد يتمتعون بمنصة جيدة.
التواصل والدماغ
ما الذي يحمله مستقبل الدماغ للتواصل؟ هل سنحظى أخيراً بتلك القوى الخارقة الرائعة، مثل المخلوقات المتفوقة التي نراها في أفلام تتواصل تخاطرياً مع بعضها بعضاً؟ بالرغم من أن هذا يبدو بعيد المنال جداً، والتواصل في الحقيقة يتطلّب ببساطة القدرة على نقل إشارات أو معلومات من منطقة إلى أخرى. وبمساعدة التقانة(التكنولوجيا)، قد يكون ممكناً نقل روابط عصبية خاصة باللغة إلى نظام يُفرز منتجاً، أو استجابة، إلى فرد آخر، وهذا يعني أنه إذا لم يكن بمقدور شخص الكلام، فربما تكون هناك طريقة للتواصل عبر تقانة من نوعٍ ما. بالرغم من أن هذا ليس تخاطراً بأنقى صوره، إلا أنه تقدّم جدير بالملاحظة بالتأكيد، ومع أنك قد تظن أن هذا إنجاز علمي جديد، يستخدم الناس بنجاح هذا النوع من التقانة منذ بعض الوقت. ربما سمعت بالأستاذ ستيفن هاوكنغ (مدير البحث في مركز علم الكون النظري في كامبريدج)، الذي يستخدم حركات عضلات صغيرة ليتحدث، ويكتب، ويتحرّك، ويتمتّع هاوكنغ بالقدرة على استخدام حركات عضلات تتجاوز في الواقع ما يتمتع به كثيرون آخرون؛ مثلاً، حركات عضلات لا تتوافر في متلازمة منحبس.
تنتج متلازمة المنحبس Locked-in syndrome، في أغلب الحالات، من جلطة دماغية (وعائية) وينشأ عنها وضع يصبح فيها الفرد مشلولاً تماماً تقريباً. طوال عدّة سنوات، تساءل مختصو صحة إن كانت هذه حال نباتية أو يستطيع الفرد فهم ما يجري حوله. السؤال هو كيف يستطيع هؤلاء الأفراد التواصل؟ كانت إحدى الطرق الناجحة عبر الجهود البسيطة للطرف بالعينين، وفي الواقع نشر جان-دومينيك بوبي كتاباً كاملاً بعنوان قناع الغوص والفراشة The Diving Bell and the Butterfly، بطرف أبجدية بعينه اليسرى. لقد ساعد اكتشاف أن هؤلاء الأفراد سليمين معرفياً، وليسوا في حال نباتية، في زيادة الأبحاث التي تُنفّذ في هذا المجال، ولأنه لا يمكن إحداث استجابات عضلية أو تقويمها لهؤلاء الأفراد، ذهب باحثون مباشرة إلى المصدر: الدماغ. في دراسة في كامبريدج، فُحص فرد شُخّص بأنه في حال نباتية (مؤقتاً) باستخدام تخطيط الدماغ (تصوير رنين مغناطيسي وظيفي)، ما منح الفرد الفرصة للإجابة عن أسئلة. جعل الباحثون الفرد يفكّر في نوعين محدّدين من النشاطات ويجيب عن أحدها بنعم وعن الآخر بلا، وعندما أراد الفرد قول نعم، كان ينبغي أن يفكّر أو تفكّر في “نشاط نعم” المحدّد هذا، وحين يكون الجواب “لا”، ينتقل التفكير إلى النشاط الآخر. وجد الباحثون أن الفرد استطاع التواصل عبر عملية التفكير هذه وتحديد، مثلاً، أسماء أفراد اسرته أو أسرتها، وأثبتت هذه الاستجابات المحدّدة للباحثين أن التواصل بالاستفادة من تفكير المرء ممكن. في متابعة لهذه التجربة، اقترح د. أوين؛ كبير الباحثين في هذه الدراسة، أنه قد يكون ممكناً أيضاً استخدام إشارات الدماغ للتواصل بنعم ولا كما يُرى في الماسح الضوئي. على كل حال، يستغرق إنتاج إشارة دماغية وجعلها تحدّد نشاطاً معيناً بعض الوقت، ما يجعل إجراء حديث حقيقي كما يحدث الآن صعباً. بالرغم من مشكلة التأخير في وقت الحديث، سيكون جديراً بالملاحظة بالتأكيد التفكير أن بمقدورنا استخدام استجابات دماغنا على أنها طريقة تواصل، من دون كلام أو حركات عضلية، وستخضع الطريقة التي يساعد بها هذا أفراداً يعانون أمراضاً مختلفة تؤثر على التواصل لمراقبة حثيثة من أجل رصد تطوّرات مستقبلية.
الدماغ، والحركة، والتغذية الحيوية الراجعة
في النقاش آنفاً، وصفت كيف تطوّرت التقانة لمعالجة قضايا تواصل متعلقة بانهيار في قدرات جسدنا على التواصل. كما تبين، تحقّقت تطوّرات جديرة بالملاحظة في هذا المجال من البحث، لكن ماذا عن قدرتنا على تحريك أشياء بعقولنا (تحريك ذهني)؟ هل هذا ممكن أيضاً؟ هذا، مجدداً، مثال على قوى خارقة استثنائية لوحظت في أدب شعبي ومُجّدت في أفلام يمكن أن تصبح أمراً واقعاً في المستقبل. نظراً إلى عدم حدوث هذا بعد، يقوم علماء بتطوير طرق تستطيع حواسب التفاعل معها لتلبية احتياجات أفراد قد يستفيدون من قوة خارقة مثل التخاطر.
لقد أظهرت التكنولوجيا الحالية أننا نتمتع بالقدرة على تصميم عدد من الأنظمة المتطوّرة التي تعمل عبر عملية تدعى تغذية حيوية راجعة، وهذه عملية يستخدم فيها فرد إشارات داخلية (مثال: أنماط نشاط دماغية أو عضلية) للتحكم بأشياء خارجية أو تحسين وظيفية داخلية. هدف التغذية الحيوية الراجعة هو منح المستخدم القدرة على فهم استجابات داخلية والتحكّم بها أو تعديلها من أجل تحسين داخلي أو كسب خارجي، ويمكن رؤية عمليات داخلية معدّلة، مثلاً، حين يستطيع أفراد متابعة عمليات بيولوجية مثل نبضهم أو ضغط دمهم. عندما تسنح الفرصة لمراقبة ضغط الدم أو النبض، يُظهر أفراد قدرة جيدة على تعديلها ومعالجتها، ما يشير إلى أن الدماغ يلعب دوراً حاسماً في العملية.
البحث في هذا المجال مثير للاهتمام؛ لأنه يُظهر أن بمقدور المرء تغيير حالات داخلية قائمة، لكن ماذا عن التحكّم بـ”أشياء” خارجية في عالمنا؟ أحد الأشياء الأكثر إقناعاً التي تُستخدم بها التغذية الحيوية الراجعة هو التحكّم بأشياء خارجية بالاستفادة من أفكار داخلية أو إشارات بيولوجية، وطريقة حديثة أُنجز بها هذا هي عبر عملية تدعى “وصلة حاسوبية-دماغية أو حاسوب العقل الوسيط أو واجهة الدماغ الحاسوبية” (BCI: Brain–computer interface)، التي تعمل بنقل إشارات عصبية إلى حاسوب، يستخدمها بعد ذلك للتحكّم بإحدى نماذج الأدوات الخارجية. يمكن الحصول على هذه الإشارات العصبية عبر إشارات دماغية كهربائية أو تدفق دماء في الدماغ، ويدل أيٌّ من هذين النوعين من القياسات على نشاط ضمن جزء دماغي معين. من ثم، من أجل قيام أفراد بحركة خارجية، مثل تحريك كرسي مُقعدين يساراً أو يميناً، برمج باحثون حاسوباً للاستدارة يساراً حين تنشط منطقة معينة من الدماغ أو يميناً حين تصبح منطقة مختلفة فاعلة. بالرغم من أن هذا يبدو بسيطاً، يُطلب من أفراد يحاولون استخدام هذه التقانة تنشيط أجزاء للتحكّم بالأداة، ما قد يستغرق وقتاً طويلاً. يفكّر الفرد عادة بشأن شيء محدّد ولا شيء آخر، ومع هذه المعدّات، يستخدمون أفكارهم للتحكّم بأدوات في العالم حولهم. ومع هذه الأنواع من الأنظمة، يستطيع أفراد التحكّم بأدوات عديدة حولهم، مثل حرارة الغرفة أو فتح ستائر أو إغلاقها، وفي أمثلة أخرى، يتحكّم أفراد بأدوات جراحية. يعدُّ تزويد أفراد قد فقدوا عضواً بأداة تسمح لهم بإمساك أشياء وتحريكها ذا فائدة كبيرة، وأصبح هذا ممكناً الآن مع هذه التطوّرات الحديثة.
إلى أي حد يمكن أن تصل هذه الأنواع من الأدوات؟ يصعب تحديد هذا، لكن المستقبل يبدو مشرقاً. يأتي أحد الأمثلة من شركة تدعى إموتيف Emotiv التي طوّرت نظاماً للتحكّم بحاسوب المرء عبر أفكار، وفي الواقع هناك عدّة عروض لهذه التقانة على الإنترنت، تُظهر أفراداً يتحكّمون بأشياء على شاشة حاسوب. تسوّق الشركة أداة رأسية لا تتطلّب إعداداً كبيراً، ويضع أفراد ببساطة هذه الأداة على رأسهم، ويصلون حسّاسات بنقاط معينة على الرأس (فوق أجزاء محدّدة من الدماغ)، من ثمَّ يبدؤون معايرة النظام، وكما تعرض الشركة، ينبغي على أفراد التفكير، مثلاً، في تحريك شيء في أثناء مرحلة المعايرة، ما يسمح للحاسوب بقياس قوة الإشارة والنشاط. يحاول الفرد بعد ذلك إنجاز هذه المهمة بشيء افتراضي على شاشة ليتوثق من إمكانية القيام بحركة، وتقدّم الشركة حالياً عدداً من الألعاب التي يستطيع أفراد ممارستها عبر هذا النوع من الأدوات التي تتحكّم أفكار بها. هذا بالتأكيد تقدّم جدير بالملاحظة يمكن أن يلائم نظام منزل ذكي، ويستطيع أفراد يعانون قيوداً معينة، عبر نظام مثل هذا، التحكّم بعدد من الأدوات في منزلهم بمجرد فكرة، أو، كما ذُكر آنفاً، قد يستطيع شخص فقد التحكّم بطرف الحركة مرة أخرى. ستعمل هذه الأنظمة جيداً إذا كان دماغك يعمل جيداً، لكن ماذا عن الدماغ نفسه؟ هل هناك طريقة لإحداث تغيير إيجابي أو حماية أدمغتنا اصطناعياً حين نتقدّم بالعمر؟ سيفحص القسم الآتي بعض الطرق التي قد نخدع بها عملية تقدّم عمر الدماغ.
الدماغ المنكمش
هل يمكن إيقاف أدمغتنا عن الانكماش اصطناعياً؟ أحد المكوّنات الرئيسة المسؤولة عن انكماش دماغنا هو انخفاض القدرة على إنتاج عصبونات جديدة (تخلّق النسيج العصبي). ينتج عن هذا فقدان مستمر لتكوين صلات دماغية جديدة والحفاظ على بُنى دماغية قائمة (مثال: في قرن آمون)، ما يسبّب انكماشاً مادياً حقيقياً في المادة الدماغية القشرية. تتكوّن عصبونات جديدة بمساعدة خلايا جذعية عصبية، وحالياً فقد أظهر البحث على حيوانات أن بمقدورنا إنتاج خلايا جذعية عصبية يمكن أن تتطوّر وتنمو حين تُزرع في الدماغ، وأن هذا قد يجري حتى في مناطق تعرّضت لأضرار بالغة، وتمتلك هذه الخلايا القدرة على تحفيز النمو في أنسجة قد ماتت أو تعرّضت لأذية. هذا نبأ مثير جداً للاهتمام، وقد يأمل المرء بإمكانية حل قضايا تتعلّق بمرض أو ضرر نتيجة هذا التقدّم العلمي. على كل حال، هناك قضية مهمة بهذه الخلايا الجديدة، فلأنها تدخل الدماغ من دون خبرة، يمكنها تحفيز نمو وصلات جديدة بين بعضها بعضاً، لكنها تواجه صعوبة في إنشاء صلات مع البنية الدماغية القائمة، من ثم في حالات عديدة لا تصبح مفيدة. إضافة إلى هذا، في حال أمراض تنكّس عصبي (مثال: داء ألزهايمر ومرض باركنسون)، لا تزال هذه العصبونات الجديدة عُرضة لعملية المرض نفسها التي تجري في دماغ المريض منذ عدّة سنوات. وبذلك قد يكون استبدال عصبونات ميتة ومحتضرة عملية لا تنتهي أبداً، لكن ماذا إن استطعنا تغيير هذا؟ ماذا إن كان ممكناً إخضاع الخلايا الجذعية العصبية إلى عملية إنضاج قبل زرعها في دماغ المرء؟
الأفكار الواردة آنفاً ممكنة بالتأكيد، وإيجاد طريقة لجعلها حقيقة واقعة هو الخطوة التالية، وقبل أن نفهم طريقة هندسة خلايا جديدة، ينبغي أولاً تحديد إن كان ممكناً إنجاز زيادة كثافة العصبونات، مفترضين أن كثافة عصبية أكبر ستضمن الحفاظ على حجم الدماغ.
زيادة حجم الدماغ
لقد أظهر باحثون فعلاً في نماذج حيوانية أن زيادة كبيرة في كثافة العصبونات ممكنة، وقد فعلوا ذلك بنجاح في أدمغة حيوانات قد تعرّضت لضرر. تبين أيضاً أن هذه العصبونات الجديدة يمكن أن تعيش وتنضج، وتُكرّر أداء عصبونات سابقة في هذه المنطقة، وفيه أداء سلوكي على مهمات حركية. هذا البحث الحديث جدير بالملاحظة، وإذا كان ممكناً مدّه إلى حالات دماغ بشرية، فقد تكون هناك مقاربة جديدة تماماً للعافية. على كل حال، الخلايا الجذعية الموجودة في هذه العملية تتطوّر إلى عصبونات تتقدّم بالعمر أيضاً، من ثم إذا أردنا خداع عملية تقدّم عمر الدماغ، ينبغي أن نجد طريقة للحفاظ على هذه العصبونات يافعة.
عندما نتقدّم بالعمر، تنضج خلايانا الجذعية وتتطوّر إلى “خلية مطلوبة”، وهذه الخلايا توجد في أوقات وأماكن محدّدة. تحدث هذه العملية منذ الولادة، وكل جيل جديد متعاقب من الخلايا، خاصة في المراحل الباكرة، تتبدّل وتتغير لتلبية احتياجات بيئتنا وضمان نمونا، والهدف طبعاً هو التجديد المستمر لهذه الخلايا، وضمان استقرار الصحة والجينات (المورّثات). على كل حال، لا تنتج أغلبية الأدمغة البشرية أو تجدّد خلايا، وبالرغم من إمكانية تعديل خلايا جذعية لتتفاعل مع أنسجة لإنشاء خلية أكثر شباباً، قد لا يكون هذا مفيداً لأدمغتنا المتقدّمة بالعمر. تقترح دراسات، على كل حال، على مستوى أساسي أنه يمكن إدخال خلايا من جلد حيوان يافع، أو عضلاته، أو نقي عظامه في بنية وراثية لحيوان متقدّم بالعمر، ما يُوجد هجيناً من الاثنين، ويؤدي إلى تحسّن في الحيوان المتقدّم بالعمر على مستوى خلوي. إذا كان ممكناً تعديل هذه العملية لتلبية احتياجات الدماغ، قد نخفض عدد خلايا الدماغ المتقدّمة بالعمر ونتفادى موت خلايا.
ظهر اقتراح آخر لمكافحة فقدان كثافة العصبونات وإحداث تأثير وقاية عصبية، نوعاً ما، في فحص حالات أذية وجلطة دماغية. لقد أثبت باحثون أنهم يستطيعون، بعد حدوث ضرر في الفص الجداري لدماغ فأر، إحداث نمو عصبي المنشأ بنجاح في أثناء التعافي، إضافة إلى حماية مناطق أخرى من الدماغ حول موقع الضرر باستخدام إريثروبويتين/إيبو (EPO)، وقد استعادت هذه الحيوانات قدرات معرفية أصابها خلل نتيجة تضرّر الدماغ. أبدى الباحثون أيضاً ملحوظة مثيرة جداً للاهتمام، واقترحوا أن ضرراً منفصلاً في الفص الجداري فقط لحيوانات في أثناء مرحلة النمو مرتبط بتنكّس عصبي شامل، وقد يرتبط بتقدّم عمر سابق لأوانه وإصابات جينية مثل داء ألزهايمر والفصام، وقالوا إنه بمعالجة إيبو، يمكن تفادي هذه الحوادث. إيبو مفيد لأنه يحمي الأنسجة، خاصة في حالات انخفاض الأوكسجين، ويُوصف أساساً على أنه هرمون لحماية كريات الدم الحمراء. من ثم، قد يكون إيبو مفيداً في الحفاظ على بنية الدماغ واستعادة استقراره. بحسب معرفتي، لم تكن هناك تجارب تختبر هذا الاحتمال في مرضى من البشر، لكن قد يثبت أن هذا مفيد في السنوات القادمة.
كانت هناك ملحوظة إضافية قدّمها هؤلاء الباحثون أنفسهم هي أن الفص الجداري يبدو مهماً نسبياً في تحقيق حال دماغ سليم عامة. من ثم، زيادة كثافة العصبونات في الفص الجداري قد تكون مفيدة جداً، ويمكن إنجاز استهداف أجزاء دماغية محدّدة عبر مواد مثل عامل نمو الأدمة، وإلى حد معين، كانت هذه العملية ناجحة في زيادة عدد الخلايا الجديدة، لكن الحفاظ على هذا النمو وضمان نجاحه سيكون العقبة التي ينبغي التغلّب عليها.
قد يكون استهداف الفص الجداري لتحقيق النمو مهماً؛ لأنه، كما قلت سابقاً، مسؤول عن جمع معلومات ونقل رسائل إلى عدّة أجزاء دماغية أخرى، ويحافظ أيضاً على صلات مهمة بكل الأجزاء الأخرى في الدماغ عبر مجموعة من قطع الألياف. إحدى الحكايات المثيرة للاهتمام عن الفص الجداري هي أنه في أثناء فحصٍ تالٍ للوفاة، قيل إن ألبرت أنشتاين كان يمتلك فصاً جدارياً متضخّماً، ولا يستطيع أحد التأكيد إن كان هذا مسؤولاً عن عقله الرائع، لكن كثافة أكبر لم تكن بالتأكيد علّة في حاله، وقد تشير إلى صحة دماغ أفضل، خاصة حين نتقدّم بالعمر.
خلايا كهربائية Electrical cells
حتى الآن في هذه الموضوع، عُرض عدد من النظريات التي تقترح إمكانية أن يضمن البشر صحة دماغية أفضل، وسلامة عموماً، حين نتقدّم بالعمر. وصلت العديد من العمليات الموصوفة هنا إلى نقاط تحول مثيرة للاهتمام، ويتطلّب ضمان طول العمر عملاً على مستوى خلوي، لكن إذا لم يكن ممكناً تقديم شيء حاسم لتجديد الخلايا في هذه المرحلة من الوقت، فربما يكون مهماً ضمان الحفاظ عليها كما ينبغي، أو بنحو أكثر تحديداً تعزيز الخلايا. إحدى الرغبات الرئيسة التي يعبّر عنها أفراد متقدّمون بالعمر هي امتلاك القدرة المعرفية نفسها التي كانوا يتمتعون بها، وربما حتى قدرة الذاكرة عينها. هل هناك طريقة لتحسين العصبونات اصطناعياً، من ثم بنى الدماغ، لجعلها تستجيب كما كانت تفعل أو يكون أداؤها أفضل؟ يقترح بحث حديث أن هذا بالتأكيد ممكن ويعرض “زيادة عصبية”. مثلاً، أجرى باحثون دراسة سجّلوا فيها إشارات كهربائية ضمن قرون آمون جرذان تنجز مهمة تتطلّب منها الضغط على المستوى الصحيح للحصول على الماء، وثبّت باحثون بنجاح نمط الإشارات الكهربائية التي كانت فاعلة في تكوين ذاكرة المستوى الصحيح في كلا مرحلتي المُدخل (تعرّف المهمة) والمخرج (إنجاز حركة واختيار صحيح). حُقنت الجرذان بعد ذلك بدواء لمحي ذاكرتها عن هذا النشاط، وطبّق الباحثون النمط نفسه من الإشارات الكهربائية على بنية الدماغ نفسها التي لُحظت في مرحلة التسجيل، ونجحوا في جعل جرذ لم يتذكر هذا التمرين يتصرّف مثل جرذ مدرّب. من ثم، أظهروا أننا نتمتع بالقدرة على تسجيل أنماط مُدخل ضمن دماغ، وتوقّع ما سيكون عليه نمط المخرج، وفعل هذا بنجاح لإحداث استجابة سلوكية ملائمة.
هذا البحث جدير بالملاحظة وقد يكون لا يُقدّر بثمن للبشر، فمناطق تأثّرت بمرض أو أذية قد تستفيد كثيراً من هذا النموذج من التحفيز الاصطناعي، ما يزوّد المرء بالقدرة على إنجاز استجابة سلوكية مرغوبة باستخدام أداة إشارات كهربائية مزروعة اصطناعياً. إضافة إلى هذا، قد لا يحدث بالضرورة انخفاض في الأداء المعرفي حين نتقدّم بالعمر، وعندما يجري انخفاض بنيوي محدّد، يمكن أن يملأ تحفيز كهربائي هذه الفجوة.
تحسين الدماغ
الغرس العصبي حقيقة حالية، وكما أُوضح باكراً، تعرض وصلات دماغية-حاسوبية أن علم الأحياء والحواسيب يمكن أن يتفاعلا على مستوى عال. يقود هذا إلى السؤال: هل يمكن إنجاز المزيد؟
إحدى الطرق الممكنة لتحسين قدرة دماغنا هي عبر تطوير دماغ اصطناعي artificial brain، ومنذ سنة 2000، كان هذا مفهوماً قابلاً للنقاش، وتساءل باحثون إن كان بمقدور حاسوب خارق تحقيق قدرة (مثال: سرعة) الدماغ البشري. في ذلك الوقت، كانت الحواسيب تعمل بمعدّل مئة تريليون (1410) حساب بالثانية، وهدف العلماء في 2000 هو تحقيق معدّل 1610 عملية حسابية بالثانية بحلول 2020، التي كان يُظنُّ أنها مماثلة لقدرة الدماغ البشري. على كل حال، لقد تقدّمت هذه القدرة كثيراً إلى ما بعد هذا الرقم الأوّلي، وتُقاس عمليات الحواسيب الخارقة بـ كدريليون Quadrillion عملية حسابية بالثانية، وتستطيع النماذج الأحدث إنجاز عشرة كدريليون عملية (1610). إضافة إلى هذا، يُتوقّع حالياً أن تصل السرعات إلى مجال كوينتليون بحلول 2019.
نظراً إلى تحقيق سرعات الحواسيب المطلوبة، يستطيع المرء القول إن قضية الأدوات قد حُلّت، وما يبقى بحاجة إلى حل، على كل حال، هو برنامج ذكاء اصطناعي. يقول كورزويل إننا بحاجة إلى “مهندس عكسي للدماغ البشري reverse-engineer the human brain”، وسيتطلّب هذا تفاصيل أساسية عن كل بنى الدماغ البشري وصلاته. لحسن الحظ، لقد زدنا كثيراً أيضاً قدرتنا على تخيّل الدماغ البشري، مع توافر حلول مكانية وصدغية بانقضاء كل عام. في الواقع، يستطيع البحث أن يتخيّل في الواقع إنتاج عصبونات المرء ومتابعة صلات بين-عصبية مرتبطة بمهمات محدّدة. نعرف أكثر كثيراً عن بنى الدماغ، والصلات المتنوّعة ضمنه، مما كانت عليه الحال قبل سنوات قليلة. إضافة إلى هذا، فقد طُوّرت نماذج حاسوبية لعدّة أجزاء دماغية، وفيها فهمٌ لصلات عصبية ثانوية كثيرة، ويمكن لهذه النماذج تحفيز عمليات كهربائية وكيميائية، مماثلة لإنتاج عصبونات وطريقة عمل الدماغ. مع كل هذه المعلومات، حان الوقت الآن لمحاولة بناء نماذج دماغية اصطناعية صحيحة بيولوجياً، ستكون بالتأكيد مفيدة في فحص حالات كثيرة مرتبطة بوظائف الدماغ وخللها.
لقد جاء أحد أروع الأمثلة على بناء نسخة مطابقة للدماغ البشري من برنامج يدعى “مشروع الدماغ الأزرق Blue Brain Project” في المملكة المتحدة، الذي كافح لبناء نماذج دماغية صحيحة تشريحياً وصولاً إلى مستوى العصبونات. قال الباحثون إنهم حفّزوا عشرة آلاف عصبون وعشرة ملايين مماس عصبي باستخدام حاسوب خارق، والعامل الرئيس، كما يظنّون، هو فهم القواعد البيولوجية للدماغ واستخدام هذا على أنه نموذج لتطوير عصبونات وصلات عصبية ستستجيب بطرق “طبيعية”. إذا بُني هذا الدماغ بنحو صحيح، يظن الباحثون أن عملية “دماغية” معينة ستحدث في النهاية من دون متطلّبات برمجة، وهذا مثير جداً للاهتمام وسيكون له تأثير كبير على قدرتنا لخفص مشكلات الرعاية الصحية التي تكلّف تريليوني دولار (في الدول الغربية فقط) والمرتبطة بوظيفية الدماغ. على كل حال، بالرغم من هذا التقدّم الحالي، يظن هؤلاء الباحثون أنهم لا يزالون بعيدين عشر سنوات عن تطوير نموذج كامل للدماغ البشري، وأن هذه السنوات ستبدأ فقط عند تحقيق مستوى ملائم من التمويل للمشروع، والهدف الحالي هو الحصول على نموذج دماغ بشري عملي بحلول 2023 أو 2024.
إذا استطعت أن تتخيّل لحظة أن هذه الاحتياجات قد لُبّيت (وكثير غيرها لم تُذكر لبناء نموذج حقيقي)، و”دماغ اصطناعي بشري” قد طُوّر، ماذا ستكون الإمكانيات؟ يوجد في بعض الأفراد حالياً رقاقة حاسوبية مزروعة مباشرة في أدمغتهم، وتتفاعل هذه الرقائق على مستوى عصبي، ويتمتع هؤلاء أيضاً بالقدرة على تحميل ترقيات إلى هذه الرقاقات، من ثم إلى دماغهم. تجري هذه التفاعلات في نظام حاسوبي-بيولوجي يستطيع الدماغ؛ عضو بيولوجي، التواصل عبره مع الحاسوب؛ نظام غير بيولوجي. مع هذه المعلومات، إذا قبلنا أن بمقدورنا تطوير فهم ضمني لكل بنى الدماغ البشري، ينبغي أن نستطيع آنذاك التفاعل مع كل بنية دماغية بمفردها. مثلاً، إذا أُصيب قرن آمون (مركز الذاكرة في الدماغ) بأذيّة، ربما يمكننا ربط قرن آمون خارجي به، وقد يكون هذا النظام تفاعلياً جداً، فإذا أُصيب قرن آمون البيولوجي بخلل، فسيكون بمقدورنا دعمه بآخر اصطناعي، ويمكننا أيضاً إضافة معلومات مباشرة إلى الذاكرة الخارجية لاستخدامها في دماغنا البيولوجي، أو تحميل مجموعة من الموسوعات مباشرة إلى دماغنا. هذه بعض الأمثلة فقط على الإمكانيات، وصعب حقاً جعل دماغك يدرك هذا المفهوم تماماً، لكن التخيّل هو غالباً الخطوة الأولى.
ماذا إن امتلكنا أيضاً القدرة على “تحميل” معلوماتنا وتجاربنا الخاصة في نظام محوسب؟ قد يزوّد هذا أساساً أشخاصاً بالقدرة على نقل خلاصة ما هم عليه إلى مجموعة ملفات، ويستطيع هذا النظام المحوسب تخزين كل تجاربنا وأفكارنا الداخلية، التي ستزوّده بإطار عمل ليستجيب باستمرار إلى أوضاع جديدة بناءً على أدائنا السابق، لذا سيصبح هذا النظام لاحقة “لنا”، وبالتعريف نسخة داعمة عن “أنت”. لدفع هذا خطوة أخرى قدماً، إذا استطعت نقل هذه المعرفة والتجربة إلى نظام حاسوبي، يمكنك نظرياً إنتاج نسخة محوسبة عن نفسك، يمكن أن تدعوها “صديق حاسوبي” سيمتلك القدرة على الاستجابة لطلبات أو أسئلة بطريقة مماثلة لك؛ لأنه سيضم أفكارك وتجاربك. هذا المفهوم “موجود” بالتأكيد، لكن التقانة غير متوافرة بعد، إضافة إلى إمكانية جمع كل هذه العناصر معاً.