بالتأكيد ليس هناك خطأ في أن يرغب المرء في إنجاز المهام على نحو صحيح؛ فمعظم الناس لا يرغبون في القيام بعمل تشوبه الأخطاء. ولكن عندما تتحول هذه الرغبة إلى وسواس، فربما تتحول إلى النزعة المثالية، التي تمثل في الغالب أحد الأسباب الضارة المؤدية للضغوط والتوتر. ولا يشعر الباحثون عن الكمال أبدًا بأنهم أدوا المهام على النحو الأفضل، ويشعرون بأنهم لا يستطيعون إنجاز أي شيء. ويتسبب هذا في حدوث تأثير متدرج؛ حيث تنمو النزعة المثالية إلى وسواس أكبر، وتقترن وقتها مع الشعور بالعجز. وربما تكون الضغوط الناتجة عن هذا مدمرة، مثل مواجهة موقف يشعر فيه المرء بأن الحياة تخرج عن نطاق سيطرته.
التحدي
منذ وقت ليس بالبعيد، كان ينظر إلى النزعة المثالية على أنها حالة جيدة، وكان الباحثون عن الكمال هدفًا مرغوبًا فيه؛ حيث كان الاعتقاد السائد بأنهم سيقضون المزيد من الوقت وسيبذلون المزيد من الجهد من أجل إنجاز الأمور على النحو الصحيح. ولقد أدرك الرؤساء والمدرسون الآن شيئًا فشيئًا أن النزعة المثالية ربما تقف في طريق إنجاز الأمور بأية حال من الأحوال، بدلًا من المساعدة على إنجازها، فيتم ترك الأعمال أو يتم تقديمها بعد المواعيد النهائية؛ لأن العامل أو الطالب لا يشعر بالرضا عنها. وربما يؤدي الشعور بالسخط إلى حدوث ضغوط رهيبة؛ لأن الشخص المثالي لا يستطيع إنهاء أي مشروع فحسب. ويؤدي تراكم الأعمال بسبب النزعة المثالية إلى تزايد الضغوط وتزايد الاستغراق في التفكير بالقيام بكل شيء على نحو مثالي. ويصعب التعامل مع هذه النوعية من السلوك بشكل خاص؛ حيث يبدو أنه يتضمن جوانب إيجابية، ويريد معظم أرباب العمل أو المعلمين أن يبذل الموظفون أو الطلاب أكبر قدر ممكن من الجهد. ولكن يجب على صاحب العمل أو المعلم الجيد أن يدرك الآثار الموهنة للنزعة المثالية، وأن يعمل مع الموظفين أو الطلاب على تخطيها. وبالنسبة للأشخاص الذين يعانون النزعة المثالية، ربما يصعب فهم هذه الحالة؛ لأنها تبدو شيئًا إيجابيًّا في البداية، وربما تكون قد حققت النجاح في الماضي. ويتمثل التحدي في معرفة ماهية النزعة المثالية، والوقت الذي ربما تقف فيه عائقًا أمام إنجاز المشروعات، ونوعية الضغوط التي ربما تسببها في حياتك، وكيفية التعامل مع هذه النزعة بحيث تبقى جوانبها الإيجابية، مع طرح الجوانب السلبية جانبًا أو التعامل معها في إطارها الصحيح. وربما لا يفقد الشخص المثالي إيقاع العمل تمامًا أبدًا، ولكن يمكنه التعامل مع نزعته المثالية واستخدامها للمساعدة في حياته، وليس المعاناة جراء جوانبها السلبية.
الحقائق
ربما تؤثر علينا النزعة المثالية في العديد من المجالات:
– الحياة المنزلية حيث يبدو أن الموضوعات أو المشروعات العائلية في حاجة إلى لمسة شخص ميال للكمال؛
– المدرسة حيث تأخذ الواجبات والمشروعات طويلة المدى مستوى من النزعة المثالية لا يتناسب مع أهمية الواجبات؛
– العمل حيث تبدو المشروعات اليومية والكبيرة مخيفة للغاية لدرجة تصبح معها النزعة المثالية الأسلوب الوحيد، وهو الأمر الذي يمنع العامل من إنهاء المشروع أو المهمة بشكل مُرْضٍ دائمًا، حسبما يراه.
وتشير النزعة المثالية إلى مجموعة من الأفكار والسلوكيات العكسية التي تستهدف الوصول إلى أهداف عالية وغير واقعية بشكل مبالغ فيه. وبشكل عام، توجد ثلاثة أسئلة يجب أن تطرحها على نفسك إذا كنت تعتقد أنك شخص تنشد الكمال والمثالية:
– هل تشعر بأن ما تنجزه غير جيد بدرجة كافية؟
– هل غالبًا ما تؤجل تقديم الأبحاث والمشروعات، بسبب رغبتك في القيام بها على نحو صحيح فحسب؟
– هل تشعر بأنه يجب عليك أن تقدم أكثر من 100% في كل شيء تقوم به، وإلا فسيحكم عليك بأنك شخص متوسط القدرات أو حتى فاشل؟
إن النزعة المثالية لا تمثل حالة نولد بها؛ فهي سلوك مكتسب، وهي تتطور مع مرور الوقت واكتساب الخبرة. وإذا كنت تعاني النزعة المثالية، فمن المحتمل أنك اعتقدت في مرحلة مبكرة من حياتك أنك تجد التقدير حسب كمية الإنجازات التي تقدمها. وربما يؤدي هذا إلى تعلمك تقدير نفسك اعتمادًا على إدراكك قبول الآخرين. وربما يعتمد تقديرك لذاتك في الغالب على معايير خارجية ربما لا تكون صحيحة. وربما يؤدي هذا إلى أن تكون ذا حساسية مفرطة تجاه آراء الآخرين وانتقاداتهم، سواء كانت حقيقية أم متخيلة. وربما تريد حماية نفسك من هذه الانتقادات، وربما يؤدي هذا إلى إثارة الدفاع عن النزعة المثالية.
ها هو ذا عدد من المشاعر والأفكار والاعتقادات السلبية التي ربما ترتبط بالنزعة المثالية:
– الخوف من الفشل: حيث يساوي الشخص الذي ينشد الكمال بين الإخفاق في تحقيق أهدافه ونقص جدارته أو قيمته الشخصية.
– الخوف من ارتكاب الأخطاء: حيث يربط الشخص الذي ينشد الكمال بين الأخطاء والفشل؛ فهو يوجه حياته نحو تجنب الأخطاء وإضاعة فرص الاستفادة من الأخطاء للتعلم والنمو.
– الخوف من الرفض: حيث يعتقد الشخص الذي ينشد الكمال أنه إذا ترك الآخرين يرون أخطاءه، فإنهم لن يتقبلوه. ويمثل السعي وراء تحقيق المثالية طريقة لمحاولة حماية نفسه من الانتقادات، والرفض، والاستهجان.
– طريقة التفكير في كل شيء أو لا شيء: حيث يعتقد الشخص الذي ينشد الكمال أنه بلا قيمة إذا كانت إنجازاته غير مثالية؛ فهو يواجه صعوبة في رؤية المواقف في إطارها الصحيح.
– التأكيد المبالغ فيه على التوجه نحو الأمور الواجبة: حيث ترتكز حياة الشخص الذي ينشد الكمال على قائمة لا نهاية لها من الأمور الواجبة التي تعمل كقواعد صارمة. ويعني هذا الاعتماد أن الشخص المثالي نادرًا ما يضع احتياجاته ورغباته في الاعتبار.
– الاعتقاد بأن الآخرين يحققون النجاح بسهولة بجهد ضئيل، وأخطاء أقل، وضغوط انفعالية قليلة، وثقة كبيرة النفس. يرى الشخص الذي ينشد الكمال أن جهوده أبدية وغير كافية أبدًا.
وغالبًا ما تتسبب النزعة المثالية في وجود حلقة مفرغة؛ حيث يقوم الأشخاص الذين ينشدون الكمال أولًا بوضع أهداف لا يمكن الوصول إليها، ثم يفشلون في تحقيق هذه الأهداف، ويعانون الضغوط المستمرة لتحقيق المثالية مع الفشل المزمن المحتوم؛ مما يتسبب في انخفاض الإنتاج ومستوى الفاعلية. وتدفع هذه الحلقة الأشخاص الذين ينشدون الكمال إلى المبالغة في الانتقاد الذاتي ولوم النفس؛ مما يؤدي إلى انخفاض تقدير الذات. وربما تدفع هذه الحلقة هذه النوعية من الأشخاص إلى التفاعل مع الانتقادات بطريقة دفاعية، واستخدام معايير غير واقعية مع الآخرين، وتجنب رؤية الآخرين أخطاءهم المشروعة. وربما تمتد النزعة المثالية، بسبب هذه الحلقة، إلى ما وراء الدراسة والعمل، وربما تؤدي إلى العجز عن الاقتراب من الناس؛ مما يتسبب في الشعور بالوحدة والعزلة.
الحلول
يجب أن تدرك أن النزعة المثالية ليست شيئًا مرغوبًا في العادة, فلقد أظهرت الدراسات الأكاديمية الحديثة أن السعي وراء الكمال ربما يتعارض مع تحقيق النجاح في المنزل، أو المدرسة، أو مكان العمل. وربما تسلبك الرغبة في تحقيق المثالية الإحساس بالرضا الشخصي، وتسهم في فشلك في تحقيق الكثير مثل الأشخاص الذين يضعون توقعات ويقومون بمحاولات أكثر واقعية.
وهناك اختلاف مميز بين النزعة المثالية والسعي الصحي وراء تحقيق الهدف؛ حيث يميل أصحاب النوع الثاني إلى وضع أهداف تعتمد على احتياجاتهم ورغباتهم الخاصة، وليست مجرد استجابة للتوقعات الخارجية فحسب. وتنبثق الأهداف عن الأمور التي تم إنجازها بالفعل. ويستمتع الساعون الأصحاء بعملية متابعة المهمة المطروحة، أكثر من التركيز على النتيجة النهائية. وعندما يواجهون الفشل، فإن ردود أفعالهم عادة ما تكون مقصورة على مواقف محددة، ولا تمتد إلى تقديرهم الذاتي ككل.
وتتمثل إحدى الخطوات الأساسية في التغلب على النزعة المثالية في تحدي الأفكار والسلوكيات التي تدعم هذه النزعة. وهناك إستراتيجيات معينة ربما تكون مفيدة في التعامل مع النزعة المثالية:
– وضع أهداف واقعية وقابلة للتحقيق ترتكز على ما تم تحقيقه في الماضي. سوف يساعدك هذا على تحقيق النجاح وإيجاد الإحساس بالتقدير الذاتي.
– وضع أهداف تالية بطريقة متسلسلة. ووضع كل هدف في مكانة أعلى من التي قمت بتحقيقها بالفعل.
– تجربة معاييرك لتحقيق النجاح. بدلًا من تحقيق 100% من النجاح، جرب تحقيق 90%، أو 80%، أو حتى 60%. وربما تدرك أن العالم سوف يستمر، حتى لو لم تكن مثاليًّا.
– استخدم شعورك بالقلق أو الاكتئاب لتسأل نفسك عما إذا كنت قد وضعت توقعات مستحيلة أمام نفسك.
– عليك أن تدرك أن النزعة المثالية ربما ترتكز على الخوف، وأن تواجه هذه المخاوف عن طريق تخيل أسوأ الأمور التي يمكن أن تحدث، وكيف سيمكنك التعامل معها.
– اعلم أن ارتكاب الأخطاء ربما يكون إيجابيًّا ويريك كيفية القيام بالأشياء بشكل أفضل في المرة التالية.
– صنف مهامك حسب الأهمية التي تمثلها، وجرب عدم القيام بكل شيء على الفور. ابذل أقصى جهدك في أكثر المهام أهمية، وامنح المهام الأخرى أقل جهد.
وإذا شعرت بالأعراض التالية، فربما تعاني الضغوط بسبب السعي للكمال:
– الاكتئاب؛
– القلق من الأداء؛
– القلق من الاختبارات؛
– القلق الاجتماعي؛
– العجز عن التفكير في شيء لكتابته؛
– السلوكيات الهاجسية؛
– السلوكيات القهرية؛
– الأفكار الانتحارية؛
– الشعور بالوحدة؛
– ضيق الصدر؛
– الإحباط؛
– الغضب دون سبب تجاه النفس، أو العائلة، أو رئيسك في العمل أو زملائك.