إذا بعد قول وفعل كل شيء، ماذا يجب أن يفعل المرء؟ إننا محاطون بالكتب الصحية، الأنظمة الغذائية المختلفة، إعلانات الأدوية، رسائل الخدمة العامة، إعلانات الفيتامينات والمكملات، إدعاءات طب الأعشاب ومختلف أنواع الدعايات حول الصحة وطول العمر. لقد أوشكنا على الوصول إلى مرحلة حيث يلام الأشخاص إن أصيبوا بالمرض وكأن الإصابة بالداء هي نتيجة إهمالهم. عندما يصاب المرء بنوبة قلبية، يواجه باللوم بدلا من التعاطف. لما كان حدث ذلك لو أنه اقلع عن التدخين، تناول المزيد من الخضار، مارس الرياضة وتناول ليبيتور ودواء معالجة ضغط الدم أو فعل عددا من الأمور الاخرى. أليس كذلك؟ خطأ.
إن الذين لا يدخنون ولكن يتناولون مأكولات صحية ويمارسون الرياضة يموتون أيضا من جراء النوبات القلبية. كان جدي يدخن السجائر غير المفلترة ويتبع نظاما غذائيا غنيا بالدهون المشبعة إلى أن توفي عن عمر يناهز التاسعة والثمانين. لقد كان محظوظا وعلى الأرجح أنه ورث بعض الجينات الجيدة. أما شقيقه غير المدخن فقد كان سليما إلى أن مات في حادث تحطم سيارة عندما كان في السادسة والتسعين من العمر. بعض الذين لا يدخنون أبدا يموتون في العشرينات والثلاثينات من أعمارهم. في ما يتعلق بالصحة والمرض، كان جون كينيدي محقا عندما قال هذا ليس عادلا.
الخطر هو ما نتعامل معه. ما من ضمانات في مسائل الحياة والموت والصحة. ولكن هناك مخاطر واضحة مثلما هناك طرق للتخفيف من هذه المخاطر. من بين الأمور التي يمكن القيام بها للتخفيف من المخاطر، يكون البعض منها خاص بالفرد خاصة عندما يتعلق الأمر بالالتهاب. بعض الأمور مفيد للجميع والبعض الآخر سيىء للجميع. ولكن بعض الأمور الجيدة يمكن أن تسبب الضرر للبعض.
أمور مفيدة للجميع
لنبدأ بالتوصيات المفيدة للجميع. أولا، تجنب السجائر وغيرها من منتجات التبغ. لا تدخنها ولا تتنشق الدخان الصادر عن هذه المنتجات. أظهرت دراسة أجريت في كاليفورنيا انخفاضا ملموسا في المشاكل التنفسية المزمنة لدى الساقين من غير المدخنين بعد حظر التدخين في البار. ولكن هذه البداية وحسب. يحتوي دخان التبغ على مواد مسرطنة كما أنه محرض للالتهاب. كذلك، يسبب داء القلب والسكتات الدماغية.
لا شيء مميز حيال دخان التبغ. فكل أنواع الدخان مضرة أكان صادرا من السجائر، موقدة الخشب، المستوقد، الفرن أو عادم المركبة. تجنب منتجات الاحتراق مهما كان المصدر. وجدت أعلى نسبة من الإصابة بسرطان الرئة في منطقة في المكسيك حيث تطهو النساء طيلة النهار فوق نار ينبعث منها الدخان. يواجه سكان المدينة من غير المدخنين معدلات مرتفعة للإصابة بسرطان الرئة والنوبات القلبية أكثر من الذين يقطنون في أماكن أقل تلوثا. كافح لتتنفس هواء نظيفا. كافحوا لتجعلوا مصنعي السيارات يزيدون المسافة التي يغطيها البنزين في الميل. ادعموا التكنولوجيا الجديدة التي تخفف نسبة تلوث الهواء في المدن مثل السيارات المختلطة والسيارات التي تعمل على الخلايا الوقودية الهيدروجينية.
الرياضة هي الأمر الإيجابي الوحيد الذي يمكن أن يمارسه المرء للحفاظ على الصحة. تخفف الرياضة من خطر أي شيء سيىء قد يصيب الصحة من النوبات القلبية والسكتات الدماغية إلى داء ألزهايمر. تؤخر الرياضة عامل تدهور المفاصل والعضلات والعظام الذي يحدث مع التقدم في السن. كما أنها تحسن المزاج وتؤمن الرفاهة. كذلك الرياضة ممتعة ما إن تمنح نفسك الوقت لتعتاد على تحريك جسمك.
إن اتباع نظام غذائي صحي لا يعني تناول مأكولات لطيفة أو غير مثيرة للشهية. تمتلىء متاجر البقالة بالفواكه والخضار اللذيذة من جميع انحاء العالم والتي يبدو أنها لا تنتهي مع إنتهاء موسمها. يمكن تحضيرها في عدة أطباق شهية. كما أنها تزخر بجميع أنواع المواد الصحية مثل الفلافونويد، مضادات الأكسدة، الألياف، الفيتامينات والمعادن. كما أن الأسماك مفيدة لك ويتوفر مكملات زيت السمك في الصيدليات ومتاجر السمانة في كل مكان. مع تناول مكملات زيت السمك، يقل خطر الوفاة من جراء النوبة القلبية المفاجئة التي تعتبر مشكلة تهدد حياة الجميع والأعزاء بنسبة 50%. إن تناول ثلاث وجبات من السمك أسبوعيا مفيد جدا للصحة.
علمنا أرسطو أمرا عظيما ألا وهو الإعتدال في كل شيء. كما أن الحياة الجنسية السليمة ذو فائدة. ولكن الجنس يحمل مخاطر كبيرة في حال عدم ضبطه أو اتقاء الحذر. كذلك، تشكل زيادة الوزن عبئا على الصحة ويجب ضبطها عبر اتباع نظام غذائي خاص وممارسة الرياضة. ويجب اعتماد سلوك عقلي إيجابي وضبط الإرهاق والعلاقات الاجتماعية الطيبة والدعم.
أمور جيدة للبعض
يواجه البعض مشاكل صحية خطيرة متعلقة بالالتهاب حتى عندما يفعلون الصواب. بعضنا يعاني من مشاكل مزمنة في الالتهاب أكانت في المسلك الهوائي (الربو والتهاب الجيوب الأنفية)، المفاصل (التهاب المفاصل)، العضلات (التهاب العضل)، الرأس (الشقيقة)، البشرة (التهاب البشرة)، أو في أي جزء آخر من الجسم. يميل الجسم بشكل طبيعي إلى عدم الالتهاب وإن كان هناك التهاب مزمن، فلا بد من وجود سبب. قد يكون إيجاد السبب صعبا، محبطا ومهدرا للوقت لأننا معرضون لآلاف الأمور التي قد تسبب الالتهاب لدى البعض منا بشكل غير لائق. فالهواء مليء بجميع أنواع المواد البيولوجية والكيميائية. تحتوي كل وجبة نتناولها على مئات البرويتنات والمواد الكيميائية، بعضها طبيعي والبعض الآخر مضاف. كما أن مياه الشرب قد تحتوي على كمية لا بأس بها من المواد الكيميائية ولو بكميات قليلة.
إن العوامل المثيرة للالتهاب والتي يمكننا كشفها هي ردود فعل أرجية تجاه البروتينات (الغلوبولين المناعي E- التواسطي). يعتبر اختبار البشرة الأرجية فعالا في إقامة علاقات بين الأرج وأمور كغبار الطلع، التراب، عث الغبار، الصراصير، السموم والحيوانات. إن تجنب المواد المؤدية إلى الأرج والحقن المعالجة له يمكن أن تبطل بفعالية ردود الفعل الالتهابية تجاه المواد الأرجية.
أما الطريقة الوحيدة المتوفرة للأشكال الأخرى من عدم تقبل الطعام والمواد الكيميائية فهي وسيلة المحاولة والخطأ المملة من خلال اختبار الإطراح. إمتنع عن تناول شيء ما ولاحظ إن كان هناك تحسن. تجنب تناول طعام معين لمدة أسبوع ولاحظ إن حدث أي تحسن. خذ إجازة وابتعد عن مبنى ملوث ولاحظ إن حدث تحسنا في الأعراض. يكمن التحدي الأكبر عند إصابة المرء بالمرض من جراء أكثر من عارض. على سبيل المثال، إن من يعاني من مشكلة عدم تقبل الطعام ويعمل في مكان ملوث يمكن أن يواجه صعوبة في حل المشكلتين. مع ذلك، من الممكن الشعور بكثير من التحسن عبر اكتشاف عامل واحد مسبب للالتهاب وإزالته.
بالنسبة إلى من يتمتعون بما يكفي من الحظ لإيجاد سبب إصابتهم بالالتهاب المزمن، إن الفائدة من حل مشكلة صحية تستحق العناء. لا يتمتع الجميع بالحظ الجيد ويتوفر القليل من المساعدة المهنية في هذا المضمار. في مرحلة من المراحل، كان هناك وحدات ضبط بيئية في هذا البلد حيث تم ضبط كل جانب من جوانب النظام الغذائي بالإضافة إلى الهواء والماء. إن التغييرات التي طرأت على التمويل وبنية تقديم العناية الصحية في هذا البلد أجبرت هذه الوحدات على التوقف عن العمل. لم يتواجد قط بحث بناء يعتمد على قاعدة معلومات لتحديد مؤشرات هذه الوحدات. مولت حكومة اليابان بحثا حول وحدة الضبط البيئية التي قد تولد معلومات تؤدي يوما ما إلى توفر هذه المرافق مجددا في الولايات المتحدة.
يمكن أن يؤدي الخمج المزمن إلى الالتهاب المزمن. لا يجب إهمال الحالات الخمجية المسببة للالتهاب. إن داء لايم، وهو عدوى ينقلها القراد، يمكن أن يسبب داء المفاصل وأنواع أخرى من الالتهاب التي تدوم إلى حين تحديد السبب فيتم إزالة الجرثومة بالمضادات الحيوية. يمكن أن تنتج القرحة الهضمية عن خمج مزمن في بطانة المعدة. في بعض حالات الالتهاب المزمن، يمكن أن تستحث البكتيريا أو الفطريات عملية الالتهاب إلا أن حالات الالتهاب من نمط معين والمرتبط بجرثومة محددة تعتبر محدودة. مع كل ما تكتنفه من غرابة، لا تعتبر هذه الأمراض خطيرة لأن لها علاجات. قد يصعب تشخيصها في البداية ولكنها تزول مع تناول الدواء المناسب. أما بالنسبة إلى الأمراض الأخرى، ما من علاج محتمل. في هذه الحالات، إن إزالة بعض الالتهاب قد يعني الفرق بين المرض والعجز.
لا يفوت الأوان أبدا لمكافحة المرض
إن الأنباء الجيدة حول الالتهاب هي أن نادرا ما يفوت الأوان للبدء في البحث عن الأسباب. مثالا على ذلك، المصابون بالتهاب في الشرايين التاجية في القلب. بعد رأب الأوعية وحتى جراحة المجازة، في حال زالت العوامل الحاثة، من الممكن أن يكون هناك فوائد عظيمة مع إجراء تحسينات في جودة الحياة. يتطور الداء لدى المدخنين الذين يعانون من انسداد في الشرايين ثم يخضعون لجراحة المجازة في حال عدم الإقلاع عن التدخين. قد يؤدي ذلك أيضا إلى انسداد في طعم المجازة. إن الذين يقلعون عن التدخين، يمارسون الرياضة، يحافظون على معدل ضغط الدم، يتناولون العوامل المضادة للكولسترول التي تخمد الالتهاب ويأكلون الكثير من الفواكه والخضار يمكن أن يشفوا من المرض.
ولكن لا مجال للعودة ما إن يتطور الالتهاب فيشكل ضرر العضو الدائم مثل تدمير المفصل (في حالة التهاب المفاصل الرثواني) أو فشل الكلية (في حالة أمراض الكليتين الالتهابية). من المهم معرفة ما يثير الالتهاب عاجله خير من آجله قبل حصول أي ضرر دائم. ولكن حتى بعد فوات الأوان، يمكن أن تحسن مصادر الالتهاب الأخرى من جودة الحياة وتخفف من آلام البعض.
يجب أن تبهجنا الأمور العظيمة التي تحصل في عالم الطب. فمعرفتنا تتوسع حول الالتهاب ودوره في العديد من الأمراض. ومن المؤكد أنها ستقودنا إلى اكتشاف علاجات جديدة لتخفيف المعاناة، تمديد العمر، وتحسين جودة الحياة فيما نتقدم في السن. أظهرت البحوث الجديدة التفاعل ما بين الجهاز العصبي وجهاز المناعة في إنتاج الالتهاب والكشف عن الآليات التي من خلالها تؤدي المواد الكيميائية البيئية إلى الالتهاب. تمنح صناعة التكنولوجيا البيولوجية الأمل في صنع علاجات جديدة لتغيير الاستجابة الالتهابية في الأمراض التي تتراوح بين التصلب المتعدد والتهاب المفاصل الرثواني. أما صناعة الصيدلة فتمنح الأمل في إيجاد علاجات جديدة للأمراض التولدية وعلاجات لتأخير الشيخوخة أو إنهائها. لا يمكن التشديد بما يكفي على أهمية العوامل البيئية ويتم إجراء المزيد من البحوث حاليا لاستكشاف الأسباب البيئية للكثير من الأمراض.
هناك مستقبل باهر للوقاية من أمراض الالتهاب ومعالجتها. لن يكون ذلك آخر ما تسمعه حيال الموضوع.
تعدد العلاقات
يؤثر الالتهاب في كل جوانب صحتنا. في سلسلة من الاكتشافات الطبية، وجد الأطباء أن الالتهاب يشكل خيطا مشتركا يرتبط بداء القلب، بعض أشكال السرطان، داء السكر، الفصال العظمي، الربو، نوبات الشقيقة، داء ألزهايمر، الورم الليفي، داء حوالى السن، التهاب الجيب، متلازمة المعى المتهيج، داء المعى الالتهابية ومتلازمة التعب المزمن. يتعلق الالتهاب بالتقدم في السن، البدانة، السكتة، التعب، الاكتئاب وردود الفعل الأرجية. كذلك، يشكل جزءا من عملية تضرر أنسجة الجسم في التصلب اللويحي، التهاب المفاصل الرثواني، الذأب الحمامي الجهازي بالإضافة إلى الأمراض الأخرى المنيعة للذات.
كجزء من المناعة، يمثل الالتهاب إحدى أهم العمليات البشرية. فمن السهل رصد الإشارات الرئيسة مثل الاحمرار، الحرارة، الألم والتورم. كما أن كل حالات الحمى، الصدمة القوية، الطفح أو الرضوض هي نتيجة الالتهاب. أما على المستوى المجهري، فتضم الاستجابة الالتهابية العشرات من المواد الكيميائية المختلفة، كل واحدة منها تؤدي عملها الخاص. يكمن الهدف من الالتهاب في وضع حد لتضرر الجسد بعد التعرض لإصابة أو غزو من أجسام غريبة مثل البكتيريا أو الفيروس. إن الحد من التضرر لأمر جيد، إلا أن المشاكل تظهر عندما يصاب الجسم بالتهاب حاد أو طويل المدى. أصبح هذا النوع من الالتهاب المتعذر ضبطه مركز الكثير من البحوث.
عالج الأطباء الالتهاب طيلة أكثر من ألفي عام ولكن استغرق العلماء الكثير من الوقت لفهم طريقة عمل هذه العملية. كل ما نعرفه تقريبا عن الالتهاب تم تعليمه خلال الأربعين سنة الأخيرة إلى أن منحت التكنولوجيا الطبية أخيرا العلماء فرصة لإلقاء نظرة على وظائف الجسم البشري الداخلية. ما ظنوه مجرد وظيفة بسيطة نسبيا، تبين أنها بالغة التعقيد فتضم أنواعا مختلفة من الخلايا وتحدث على مراحل متعددة. إن أبسط الأمور كالإصابة بضربة على الذراع تطلق وابلا من الآثار الفيزيولوجية. يشعر الجسم فورا بالرضح فيطلق مواد كيميائية مختلفة تشير إلى بدء عملية الالتهاب. تتمدد الأوعية الدموية وتصبح أكثر توسعا. كذلك، تصبح الأوعية الدموية الصغيرة التي تسمى الشعيريات راشحة أي أنها تسمح للسائل بالتسرب إلى خارج مجرى الدم وإلى داخل النسيج المحيط بالجسم. إن كانت الضربة على الذراع قوية، قد يظهر تورما من جراء تكتل هذا السائل المتسرب. عندئذ، تنشط الخلايا المنيعة ويطلق المزيد من الناقلات الكيميائية مما يدفع المزيد من الخلايا إلى التدخل. إنه ميدان من النشاط على الصعيد الخلوي. عند وقوع المزيد من المشاكل الخطيرة، مثل عندما يصاب الجسم بفيروس، تصبح العملية أكثر تعقيدا.
وعلى الرغم من أننا ما زلنا لا نعرف كل ما يجب أن نعرفه عن الالتهاب، إلا أننا توصلنا أخيرا إلى مرحلة حيث يمكننا أن نفهم ما هو معروف ونطبقه في حياتنا اليومية. وندين بذلك إلى الأطباء الذين تعرفوا على “العلاقة بالالتهاب”. حتى الآن، أجريت معظم بحوث الالتهاب حول داء معين ذلك لأن علماء الأبحاث يميلون إلى التخصص في جوانب محددة من الطب. فيركز أطباء الأسنان وأطباء مبحث حوالى السن على داء اللثة، وأطباء القلب على داء القلب وأطباء الرثية على داء التهاب المفاصل وإلى ما هنالك. ولكن في السنوات العديدة الماضية، تراجع بعض العلماء ونظروا إلى البحث ككل. عند تجاهل حدود التخصص الصنعية، ينبثق نمط ألا وهو أن الالتهاب ليس متعلقا بداء معين. إنه يصيب الجسم كله وليس بعض أجزائه وحسب. وأظهرت البحوث أن الأمراض التي اعتقدنا أنها لا تمت إلى بعضها بصلة هي في الواقع ترتبط ببعضها البعض بشكل وثيق. فقد اكتشف العلماء أن هناك روابط ما بين داء القلب وداء اللثة، بين داء السكر وداء الغدة الدرقية، وبين البدانة والاكتئاب والأرق ومتلازمة التعب المزمن. تطلعنا علاقة الالتهاب هذه على أن الاهتمام بصحتنا يعني أكثر من مجرد الاهتمام بأجزاء منفردة من الجسم. كما أن عوامل الالتهاب ذاتها التي تسبب النوبات القلبية يشتبه بأنها تؤدي إلى السكتة، داء السكر، داء اللثة، الولادة المبكرة بالإضافة إلى العديد من الاضطرابات الأخرى التي على ما يبدو أنها غير مرتبطة بها. عندما نعالج الالتهاب في جزء من الجسم، تصبح أيضا أجزاء أخرى من الجسم سليمة صحيا أكثر.
هذه العلاقة الالتهابية منطقية بديهيا. مثلا، تذكر المرة الأخيرة التي أصبت فيها بالزكام. يترسخ فيروس الزكام الشائع في الأنف ويسبب ردة فعل منيعة موضعية تتضمن أنفا راشحا والتهاب المجاري الأنفية. على الرغم من واقع أن الفيروس يبقى في أنفك، إلا أن جسدك بكامله يشعر بالتعب والثقل والكسل. تشكل أعراض التعب الكلي هذه أثرا جانبيا من عملية الالتهاب. فالفيروس موجود في أنفك، ولكنك تشعر بآثار الالتهاب في كل جزء من جسمك.
لذا، ماذا نفعل حيال هذه المعلومات عن علاقة الالتهاب؟ في البداية، نقر بالروابط ونستخدمها للوقاية من الأمراض أو لإجراء تشخيصات مبكرة. لنأخذ حالة داء القلب وداء اللثة. فبسبب الصلة الوثيقة بين المرضين، بدأ أطباء الأسنان بلعب دور مهم في الكشف المبكر عن التصلب العصيدي والوقاية من النوبات القلبية. تخيل أنك تذهب إلى طبيب الأسنان فيحيلك هذا الأخير إلى طبيب القلب! يحدث ذلك حاليا كل يوم بفضل الإدراك العام لعلاقة الالتهاب. كما أن أطباء العيون يحذون حذو باقي الأطباء. فلأن بعض أنواع التهاب العين تشير أحيانا إلى اضطراب التهابي أقوى على مستوى الجسم كله، مثل التهاب المفاصل الرثواني أو الرثياني أو الذأب، يساعد أطباء العيون الآن على الكشف عن هذه الأمراض في مراحلها الأولى قبل أن تسنح الفرصة للالتهاب بالتفشي في الجسم. فيبدأ أطباء القلب بفحص معدلات الدم لمادة تدعى بروتين ج التفاعلي. إن المعدل المرتفع لهذه المادة يشير إلى معدل مرتفع من الالتهاب ومعدل مرتفع من خطر الإصابة بالتصلب العصيدي (اضطراب آخر متعلق بالالتهاب). عند معالجة الالتهاب، ينخفض معدل بروتين ج التفاعلي وتقل نسبة التعرض لنوبة قلبية بسبب التصلب العصيدي. هناك مجموعة من أدوية تدعى الستاتين التي تعطى عبر وصفة طبية تستخدم على نطاق واسع لمعالجة التصلب العصيدي وتعمل جزئيا عبر ضبط الالتهاب. قد تكون هذه الأدوية وغيرها من مضادات الالتهاب في طليعة الأدوية التي لا تعمل أقل من تغيير الطريقة التي نعيش ونموت بها.
عملية توازن
السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو إلى أي حد تتأثر صحتنا بهذه العلاقة. هل يتأثر فقط بعض أجهزة الجسد أو الجسد كله؟ لا أحد يعلم الجواب حتى الآن ولكن لنأخذ حالة رجل أعطي دواء مضادا للالتهاب قوي المفعول وهو ستيروئيد قشري على مدى أسبوعين لمعالجة اضطراب في القدم. خلال هذين الأسبوعين، تمت معالجة هذا الاضطراب. كما أن الدواء أزال الطفح الخفيف على رأسه وساعده على التنفس بشكل أفضل على الرغم من حالات الأرج (الأرجية) ومحا الألم في ركبتيه مما مكنه من العدو مع كلبه للمرة الأولى منذ سنتين. عانى من الالتهاب في كامل جسمه وقد أزاله نهائيا الستيروئيد القشري المضاد للالتهاب. لو كان قد ذهب إلى أخصائي في الأمراض الجلدية، لكان تلقى علاجا للطفح؛ ولو كان قد ذهب إلى أخصائي في التهاب المفاصل، لكان تلقى علاجا لركبتيه. ولكن دواء واحدا مضادا للالتهاب خلصه من الأعراض التي يبدو أنها غير مرتبطة معا. كان الالتهاب المفتاح إلى كل مشاكله الصحية.
للأسف، إن أدوية الستيروئيد القشري مؤقتة ويمكن أن تسبب آثارا جانبية خطيرة إن تم تناولها لمدة طويلة. تذكر أن دور الالتهاب في المقام الأول هو حماية الجسم. يحبط الستيروئيد القشري ردود الفعل المنيعة التي تسبب الالتهاب. إن أقصينا الجانب الوقائي للالتهاب، يمكن أن نقع فريسة كل الجراثيم الخبيثة التي يزيلها عادة جهاز المناعة لدينا. هذه الازدواجية هي ما تجعل معالجة الالتهاب بالغة التعقيد. كما أن الآليات ذاتها التي تساعد على حمايتنا من الأجسام الغريبة يمكن أن تسبب لنا الأذى والألم.
يجب أن يوازن الجسم باستمرار بين الالتهاب ومضاد الالتهاب. يمكن أن يؤدي الكثير من الالتهاب إلى المرض وأحيانا الوفاة ـ ولكن القليل جدا من الالتهاب يعني معدلا منخفضا من المناعة مما قد يسبب المرض وأحيانا الوفاة. يمكن أن يبالغ الجسم في رد الفعل تجاه الخلايا الطبيعية فيظن خطأ أنها أجسام غريبة ويكون اضطرابا التهابيا منيعا للذات ولكن من الممكن أيضا أن يسيء التفاعل مع التغيرات الخلوية الخطرة مفسحا المجال للسرطان بالترسخ. ويمكن أن يؤدي الالتهاب الحاد في الدماغ إلى الغيبوبة أو الوفاة. إن الالتهاب الطويل الأمد حتى لو كان خفيفا يمكن أن يغير الوظيفة الخلوية ويسبب أكثر الأمراض خطورة على الجسم: داء القلب والسرطان.
لذا، ما الذي يحدد كيفية محافظة الجسم على توازن الالتهاب؟ إن الإجابة شاملة بشكل محبط. يتأثر الالتهاب بما نأكله، بمقدار التمارين الرياضية التي نمارسها، ومعدل المواد الملوثة في الهواء الذي نتنفسه، والمواد السامة الموجودة في منتجات التنظيف التي نستخدمها ومبيدات الحشرات التي نرشها، وكمية النوم التي نحصل عليها، والإرهاق الذي نشعر به، وحدة عواطفنا ونوعية علاقاتنا الإجتماعية. باختصار، كل ما نأكله ونتنفسه ونفكر ونشعر به ونفعله يؤثر في الالتهاب.
حتى العمر يوثر في ردود فعل جسمنا تجاه الالتهاب. أسبق لك أن تساءلت عن سبب “الانهيار” بعد سن الأربعين؟ (إن لم تبلغ الأربعين بعد، اسأل أحدا عما شعر به عند بلوغه هذه السن!) الالتهاب جزء من السبب. على الرغم من أن حالات الالتهاب مهمة في كل عمر، إلا أنها تصبح أمرا طارئا مع تقدمنا في السن. يرتبط التقدم في السن ارتباطا وثيقا بالالتهاب لدرجة جعلت العلماء يبتكرون عبارة التقدم في السن المتعلق بالالتهاب للإشارة إلى التغيرات في الجسم فيما نتقدم في السن والتي تجعل الإصابة بالالتهاب أكثر احتمالا. وعندما يكون من المحتمل الإصابة بالالتهاب، يكون من المحتمل أيضا الإصابة بالمرض.
عندئذ، من المنطقي الأخذ بعين الاعتبار ضبط الالتهاب كجزء من استراتيجيتك الصحية الشخصية الكلية مثل ضبط الوزن. ولكن في حالة ضبط الوزن، ندرك أساسيات ما يجب فعله مثل مراقبة السعرات الحرارية وإحصاء عدد غرامات الدهون وممارسة الرياضة، إلخ، إلخ. ولكن من أين تبدأ عندما تحاول ضبط الالتهاب؟ تبدأ ههنا.
السبيل إلى المعرفة الطبية
ظهرت مؤلفة كتاب حول كيفية وجوب تناول الطعام على شاشة التلفاز لمناقشة كتابها وصرحت باعتقادها أن الجزر هو أخطر الأغذية التي قد يتناولها المرء! يظن معظمنا أن الجزر صحية وآمنة ولا تجعلنا نشعر بأي خطورة عند تناوله. كيف علمت هذه المؤلفة أن الجزر من أخطر أنواع المأكولات التي يمكننا تناولها؟ هل من أدلة تدعم مزاعمها؟ هل جمعت المعلومات حول الحالة الصحية ومتوسط العمر المتوقع لآكلي الجزر مقارنة مع هؤلاء الذي لا يتناولون الجزر؟ الجواب هو كلا! كانت تحمل نظرية حول الكاربوهيدرات والبروتينات والدهون التي سمحت لها بإستنتاج خطورة تناول الجزر. إلا أنها لم تجري دراسة منضبطة عشوائية متوقعة ذات تعمية مزدوجة مقارنة بين الذين يأكلون والذين لا يأكلون الجزر وهي الطريقة لإثبات اعتقادها.
يطلب منا مؤلفو الكتب الصحية شراء كتبهم واتباع أفكارهم بعد جمع مزيج من النظريات، المعلومات والآراء. بالنسبة إلى مؤلفة نظرية الجزر، سيكون من الصعب جدا دراسة كل نقطة وجمع المعلومات حول كل احتمال. تماما مثل مؤلفة هذا الكتاب، لا أدعي اقتناء الأدلة العلمية لكل أمر مذكور هنا. في هذا القسم، أود أن أشرح للقارىء كيف يتوصل المرء إلى المعرفة الطبية وشكوك هذه المعرفة والنقص في عامل التكهن في الطب.
يمكن استخدام النهج العلمي للإجابة على الأسئلة التي تواجه المريض والطبيب على حد سواء. يكمن أن يلخص النهج العلمي بكلمتين وحسب: فرضيات الاختبار. تكون الفرضيات من المراقبة والتجربة. ويتم اختبار هذه الفرضيات عبر التجارب. من ثم، تستخدم النتائج لتغيير الفرضيات أو إعادة صياغتها. يبذل الآن الأطباء جهدهم لمزاولة الطب المرتكز على الأدلة. تغير البحوث فرضياتنا بشكل مستمر حيال التدابير والعلاجات المختلفة التي يتبناها الأطباء.
هناك حدود خطيرة للطب المرتكز على الأدلة. لن يكون هناك أي بحوث ذات قاعدة معلومات واسعة بما يكفي لمنح إجابة عقلانية على الحالات المتعددة التي يتم مواجهتها في مسائل الصحة والمرض. ستضعف دائما قاعدة معلومات الطب المرتكز على الأدلة أمام المقاربات والاكتشافات والعلاجات الجديدة. كما أن المعلومات الطبية تعطى دائما بالنسبة المئوية لأن على الأطباء دراسة الاحتمالات عند اتخاذ القرارات.
تعد التقارير عن الحالات ثم سلسلة الحالات في سلم أولويات المعرفة الطبية. تعتبر الدراسة الاستعادية التي تضم المرضى بعد الحدث أفضل بقليل. أما الدراسة المستقبلية فهي التي تضم المرضى قبل معرفة النتيجة؛ هذه الدراسة أكثر صحة. إن الدراسة الأكثر صحة هي الدراسة المنضبطة العشوائية ذات التعمية المزدوجة إلا أن القليل من الأسئلة والتوصيات تحقق هذه الدرجة من الإثبات.
على الأرجح أن المناظرة الفكرية الأهم في القرن العشرين جرت بين عالم الفيزياء الذرية والحائز على جائزة نوبل نيلز بور ومخترع نظرية النسبية والحائز على جائزة نوبل ألبرت آينشتاين. من جهته، دعم آينشتاين أقواله بدقة بتصريحه المهم بأن الله لا يلعب بالنرد. فجاء محور جدال بور بأن كل شيء محتمل فطريا في الطبيعة وأن الله يلعب النرد.
أثبت آينشتاين أن الفيزياء الكمية تقود إلى أمور منافية للعقل. ولكنه خسر المناظرة على أي حال عندما أظهرت التجارب أن الأمور المنافية للعقل المتكهن بها من قبل ميكانيكا الكم تحدث بالفعل. لو درس آينشتاين الطب، لتوجب عليه مواجهة دور الإمكانية في الطبيعة كل يوم.
الاحتمالية والإمكانية في الطب
ما سبب إثارة مسألة مناظرة آينشتاين – بور في كتاب طبي؟ لأن علم الإحياء والطب يشكلان جزءا من عالم الطبيعة كما أن الاحتمالية والإمكانية اللتين صاغهما بور تمتدان إلى علم الإحياء والطب. من إحدى النظريات التي تفسر سبب وجود الحياة، أي نظرية الموطن البيولوجي، تقول إن الجزيئات البيولوجية تتواجد بأزواج متتامة ذات علاقة وثيقة جدا. هناك احتمال ميكانيكي كمي كبير بأن أزواج الجزيئات هذه ستترابط. العالم موجه نحو الأنظمة الحية لأن الحياة هي الأمر الأكثر احتمالية الذي يمكن حدوثه.
إن كان علم الإحياء نظاما احتماليا، فبالتأكيد سيكون الطب احتماليا لأن الطب هو دراسة الانحراف عن الصحة السليمة في الأنظمة البيولوجية أكانت حيوانية (الطب البيطري) أو بشرية. ليس ضروريا سبر الأغوار لإيجاد الأدلة في الطبيعة الاحتمالية للطب.
إن الدليل الأكثر إبهارا في الاحتمالية والإمكانية في الطب يكمن في مبحث السموم. فالسؤال عن الكمية الضرورية لسم السيانيد لقتل إنسان يمكن الإجابة عليه بالاحتمال وحسب. كلما زادت جرعة السم، كلما زاد احتمال موت الشخص. LD50 هي الجرعة القاتلة التي تؤدي إلى موت 50% من الذين يتلقونها.
من الصعب تقبل الفرق الوحيد بين نصف عدد الأشخاص الذين ينجون والنصف الآخر الذين يموتون من جراء الجرعة القاتلة ألا وهو الحظ، ولكن هذه هي حال الطبيعة. يقول الناس إن الذين ماتوا ربما كانوا أكثر تأثرا. ولكن إن أعطينا جرعة قاتلة من السم إلى عشرة فئران من السلالة نفسها والجينات نفسها والجنس نفسه والقفص نفسه والطعام نفسه، سيموت نصف عددها ويعيش النصف الآخر وكأن شيئا لم يكن.
يخضع كل شيء في الطب إلى الاحتمالية. مثالا على ذلك نسبة المرضى الذين يتجاوبون مع العلاج، نسبة المرضى الذين يعانون من آثار جانبية خطيرة، ونسبة المرضى المصابين بداء معين والذين يبدونه بطريقة معينة.
الخطر والعلاقة السببية
هناك فرق بين الخطر والعلاقة السببية. عامل الخطر هو عبارة عن شيء يزيد من نسبة خطر التعرض للمرض أو الموت المبكر. أما السبب فهو الأمر الذي يؤدي مباشرة إلى المرض أو الموت المبكر. مثلا، ينتج الإيدز عن فيروس نقص المناعة البشري (HIV). إن ممارسة الجنس غير الآمن، وعملية نقل الدم في البلدان التي تعاني نقصا في معدات الدم، بالإضافة إلى مشاطرة إبر المخدرات بالوريد، جميعها تشكل عوامل خطر تؤدي إلى مرض الإيدز، ولكن هذه العوامل بحد ذاتها لا تسبب الإيدز. يزيد المعدل المرتفع للكولسترول في الدم من خطر الإصابة بداء الشريان التاجي والنوبات القلبية إلا أن أغلبية الأشخاص الذين يصابون بداء الشريان التاجي لا يعانون من ارتفاع في معدل الكولسترول بالدم.
إن تناول حبة أسبيرين يوميا لا يقي من حدوث النوبات القلبية إلا أنه يخفف خطر حدوثها بنسبة 50%. وفي الوقت عينه، يزيد من خطر الإصابة بالنزيف الدماغي. المغزى هو أن الطب يتعلق بالاحتمالات. يمكن أن تقلل التغييرات في أسلوب الحياة من خطر الإصابة بالمرض وتزيد من احتمالات تأخير عملية الشيخوخة. ما من ضمانات في الطب ولا تأكيد مما إذا كانت النصائح في هذا الكتاب ستجعل أي كان يتفادى أي شيء. إلا أننا نعلم أن بعض النصائح المذكورة ستقلص إمكانية الإصابة بالمرض وتزيد من احتمال عيش حياة مديدة وسليمة.
تأليف: د. ويليام جويل ميغز