إن سرطان الدم عند الأطفال هو إحدى قصص النجاح القليلة في حربنا مع السرطان، فمعدل البقاء عشر سنوات بعده تجاوزت نسبته ٩٠٪. إلا أنه لا يزال هو الأكثر مهاجمة للأطفال من أي سرطان آخر وبنسبة تزيد عشر مرات عن نسب إصابة البالغين به، والذين تقل معهم فاعلية العلاجات الحالية.
ما الذي يمكننا فعله للمساعدة على الوقاية من سرطان الدم؟
يشار إلى سرطان الدم أحيانًا بأنه الورم السائل، حيث تدور الخلايا السرطانية في أرجاء الجسم بدلًا من التمركز في كتلة صلبة محددة. عادة ما يبدأ سرطان الدم دون ملاحظة في نخاع العظم، ذلك النسيج الإسفنجي الذي يملأ الفراغ الداخلي للعظام, حيث تولد هناك كرات الدم الحمراء والبيضاء والصفائح الدموية. في حال الصحة، تقوم الكرات الحمراء بنقل الأكسجين عبر الجسم، وتقوم الكرات البيضاء بمحاربة العدوى والإصابات، والصفائح الدموية تساعد على تجلط الدم. ومعظم أنواع سرطانات الدم ناجمة عن تحور في كرات الدم البيضاء.
ويمكن وضع سرطان الدم في ثلاث فئات: اللوكيميا، والليمفوما، والميلوما؛ اللوكيميا (المشتقة من الكلمتين اليونانيتين “ليكوس” بمعنى أبيض و”هيما” بمعنى “دم”) هو مرض يقوم فيه النخاع العظمي بإنتاج كرات دم بيضاء غير طبيعية. وهذه بخلاف الكرات الطبيعية، وهذه الكرات الزائفة لا تكون قادرة على محاربة العدوى. وهي تتلف كذلك قدرة النخاع العظمي على إنتاج كرات دم بيضاء وحمراء طبيعية, وهو ما يؤدي إلى الأنيميا والعرضة للعدوى وأخيرًا الوفاة. وفقًا لجمعية السرطان الأمريكية، تشخص حالة اثنين وخمسين ألف أمريكي باللوكيميا ويموت بها أربعة وعشرون ألفًا كل عام.
أما الليمفوما فهي سرطان دم الخلايا الليمفاوية، وهي نوع خاص من كرات الدم البيضاء. تتكاثر الخلايا الليمفاوية بسرعة وتتجمع في العقد الليمفاوية، وهي عناصر مناعية صغيرة تنتشر في كل أنحاء الجسد، ومن تلك الأماكن الإبطان، والرقبة، والفخذ. وتساعد العقد الليمفاوية على فلترة الدم. وكما هي الحال في اللوكيميا، تتلف الليمفوما الخلايا الصحية وتتلف قدرتك على محاربة العدوى. لعلك سمعت بالليمفوما اللاهودجيكينية. الليمفوما الهودجينكية تهاجم البالغين الصغار، لكنها نادرة وقابلة للعلاج. أما الأخرى وكما يبدو من الاسم، فالليمفوما غير الهودجينيكية تشمل جميع الأنواع الأخرى من الليمفوما. وهي أكثر شيوعًا وأصعب في علاجها، وتزيد احتمالات الإصابة بها مع السن. تقدر جمعية السرطان الأمريكية أن سبعين ألف حالة من الليمفوما غير الهودجينكية تظهر كل عام وتسعة عشر ألفا منهم يموتون.
وأخيرًا، الميلوما هو سرطان خلايا البلازما. وهي كرات دم بيضاء تنتج الأجسام المضادة، وهي البروتينات التي تلتصق بالدخلاء والخلايا المصابة لتحييدها أو تعليمها لكي تستهدف بالتدمير. ويمكن لخلايا البلازما السرطانية أن ترحل الخلايا السليمة من النخاع العظمي وتصنع أجسامًا مضادة غير طبيعية يمكنها أن تسد كليتيك. إن ٩٠٪ تقريبًا من مرضى الميلوما تكتشف حالتهم بكتل من الخلايا السرطانية التي تنمو في العديد من عظام الجسد، ولهذا فإن الاسم الشائع لهذه الحالة هو الميلوما المتعددة. كل عام يصاب ما يقرب من أربعة وعشرين ألف شخص بالميلوما المتعددة، ويموت بها أحد عشر ألفًا.
إن معظم مَن تكتشف لديهم الميلوما المتعددة يموتون بعد سنوات قلائل من تاريخ التشخيص. ورغم كونها قابلة للعلاج فإنها غير قابلة للشفاء؛ ولذا فإن الأصل هو الوقاية. ولحسن الحظ يمكن للتغييرات الغذائية أن تقلل من مخاطر إصابتنا بجميع أنواع سرطان الدم.
الأطعمة التي ترتبط بتراجع احتمالات الإصابة بسرطانات الدم
بعد تتبع أكثر من ستين ألف شخص لمدة تزيد على اثنتي عشرة سنة، انتهى باحثو جامعة أوكسفورد إلى أن أولئك الذين يكثرون في نمطهم الغذائي من الأطعمة النباتية تقل احتمالات إصابتهم بجميع أنواع السرطان. وأعظم حماية توفرها تلك الأطعمة هي في مواجهة سرطانات الدم. فنسب الإصابة باللوكيميا والليمفوما والميلوما المتعددة بين من يتبعون الأنظمة الغذائية النباتية هي نصف نسبتها لدى من يأكلون اللحوم. فلماذا تقل نسب الإصابة مع الأنماط الغذائية النباتية؟ انتهت دورية ذا بريتيش جورنال أوف كانسر إلى أن “هناك حاجة لمزيد من الأبحاث لفهم الآليات التي تقف خلف هذا”. ومع أنهم خمنوا فعلًا الأسباب، لِمَ لا تبدأ فورًا وتجرب إضافة المزيد من الأطعمة الصحية إلى نظامك الغذائي؟
الخضراوات والسرطان
إن الأساس في الوقاية من السرطان وعلاجه هو منع خلايا الورم من التكاثر على نحو يخرج عن السيطرة مع السماح للخلايا السليمة بالنمو الطبيعي. والعلاج الكيماوي والإشعاع يقومان بعمل رائع في التخلص من الخلايا السرطانية، لكن الخلايا السليمة قد تروح ضحية هذه النيران الصديقة. إلا أن بعض المكونات النباتية تستطيع التمييز بين الخلايا السليمة والسرطانية.
فالسلفورفاين، مثلًا، وهو من أكثر العناصر نشاطًا في الخضراوات القنبيطية، يقتل خلايا سرطان الدم دون تأثير يذكر على تكاثر الخلايا الطبيعية. وكما سبق أن ذكرنا، تشمل هذه الفئة من الخضراوات البروكلي والقنبيط والكالي، لكن هناك العديد من الأصناف الأخرى في هذه العائلة، مثل الكولارد جرينز، والبقلة، والبوك تشوي، والكرنب السلقي، واللفت الأصفر، واللفت، والجرجير، والفجل (ومنه الفجل الحار)، والوسابي وكلها من أنواع الكرنب.
كان مثيرًا للاهتمام أن تقطير مكونات الكرنب على الخلايا السرطانية أظهر تأثيرًا عليها في الحدود المختبرية، لكن المهم هو إذا ما كان مرضى سرطان الدم الذين يكثرون من تناول الخضراوات سيطول بهم العمر أكثر ممن لا يأكلون. على مدى ثماني سنوات تقريبًا، تتبع باحثون بجامعة يال أكثر من خمسمائة امرأة مصابة بالليمفوما غير الهودجينيكية. أولئك اللاتي بدأن في تناول ثلاث وجبات أو يزيد من الخضراوات يوميًّا تحسن معدل البقاء لديهن بنسبة ٤٢٪ مقارنة باللاتي لم يكثرن منها. إن الخضراوات الورقية الخضراء، سواء في سلطة أو مطبوخة، والموالح هي الأكثر وقائية. لكن ليس من الواضح إن كان تحسن معدل البقاء عائدًا للتمكن من تحجيم الخلايا السرطانية أم لتحسين قدرة المرضى على تحمل العلاج الكيمياوي والإشعاعي الذي يتلقونه. المقال الافتتاحي الملحق لدورية لوكيميا آند ليمفوما يرى أن “تشخيص الليمفوما ربما يكون لحظة حسم فارقة لتحسين نوعية الغذاء…” وأرى ألا تنتظر هذه اللحظة كي تبدأ بتنظيف غذائك.
دراسة صحة نساء أياوا، والتي تتبعت أكثر خمس وثلاثين امرأة لعقود، وجدت أن النساء اللاتي يكثرن من تناول البروكلي وغيره من خضر القنبيطيات كن أقل نسبة في احتمالات الإصابة بالليمفوما غير الهودجينيكية ابتداء. كذلك انتهت دراسة أجريت في مايو كلينك أن تناول الخضراوات الورقية الخضراء أكثر من خمس مرات في الأسبوع يقلل إلى النصف فرص الإصابة بالليمفوما مقارنة بأولئك الذين يأكلونها أقل من مرة أسبوعيًّا.
هناك بعض من الحماية التي توفرها الأطعمة النباتية ناتجة عن القدرات المضادة للأكسدة في الفواكه والخضراوات. فكلما زاد ما تتناوله في طعامك من مضادات أكسدة، قلت احتمالات إصابتك بالليمفوما. ولاحظ أنني قلت: “في طعامك” ولم أقل من خلال المكملات الغذائية. إن المكملات المضادة للأكسدة لا تجدي على ما يبدو. فمثلًا، زيادة ما تتناوله من فيتامين سي في غذائك يترافق معه انخفاض في نسب الإصابة بالليمفوما، لكن أخذ المزيد من فيتامين سي في حبوب لا يبدو أنه ينفع. الشيء ذاته وجد في مضادات أكسدة الكاروتينويد مثل بيتا كاروتين. ومن الواضح أن ما يقابلها من أدوية لا يؤتي الأثر نفسه في محاربة السرطان.
حين يتعلق الأمر بأنواع أخرى من السرطان، مثل تلك التي تصيب الجهاز الهضمي، فإن المكملات مضادة الأكسدة ربما تكون أسوأ أثرًا. إن مزيجًا من فيتامين إيه وفيتامين إي وبيتا كاروتين في حبة دواء قد يكون مرتبطًا بزيادة نسب الوفاة لمن يأخذونه. إن المكملات لا تحتوى إلا على قلة مختارة من مضادات الأكسدة، بينما جسمك بحاجة للتقوِّي بالمئات من هذه المضادات، يعمل جميعها في حال من التناغم لخلق شبكة عمل تساعد جسمك على التخلص من الجذور السائبة. لكن جرعات عالية من نوع واحد بعينه من مضادات الأكسدة قد يخل بذلك التوازن الدقيق وقد يقضي على قدرة الجسم على مقاومة السرطان.
حين تشتري مكملات مضادات الأكسدة، فإنك ربما تدفع مالًا أكثر لتعيش حياة أقصر. وفر مالك وصحتك وتناول شيئًا يفيدك بشكل حقيقي: الطعام.
توت الآساي Acai Berries وابيضاض الدم Leukemia
اكتسب توت الأساي شهرة كبيرة في العام ٢٠٠٨ حين تحدث عنه شخصية تليفزيونية شهيرة هو الدكتور محمد أوز في برنامج أوبرا وينفري شو. وأطلق هذا موجة مسعورة من مكملات غذائية ومساحيق وخلطات مقلدة وغيرها من منتجات تدعي احتواءها على توت الآساي, لكنها قد لا تحوي بالضرورة أي توت. حتى الشركات الكبرى قفزت إلى هذا السباق المحموم، ومنها شركة أنهوسر-بوش بمشروبها ١٨٠ بلو “بطاقة الآساي” وشركة كوكاكولا بمشروب بوزا نوفا. هذا سلوك شائع جدًّا في سوق المشروبات والمكملات “السحرية الخارقة”، حيث لا يكون في المنتج المبيع من المحتويات المكتوبة على عبوته أكثر من ربعها أو أقل. إن الفوائد المزعومة لهذه المنتجات هي بأحسن الأحوال محل شك، لكن ثمة أبحاثًا أولية حول فائدة توت الآساي الحقيقي، والذي يمكن شراؤه في هيئة لب مجمد غير محلى.
هناك أول دراسة طبية نشرت حول أثر الأساي على النسيج البشري, وهذه الدراسة أجريت على خلايا سرطان الدم؛ حيث قطر الباحثون مستخلص توت الآساي على خلايا لوكيميا مأخوذة من امرأة تبلغ من العمر ستًّا وثلاثين سنة. وقد ظهر أنه يثير رد فعل التدمير الذاتي في أكثر من ٨٦٪ من الخلايا. كذلك فإن رش بعض من توت الآساي المجفف المجمد على خلايا مناعية تسمى الأكولة الكبيرة ( macrophages ، وهي من الكلمتين اليونانيتين makros و phagein وتعني الآكل الكبير) في طبق مختبري يمكِّن على ما يبدو الخلايا من الإحاطة والتهام الميكروبات بزيادة قدرها ٤٠٪ من القدرة العادية.
ومع أن دراسة اللوكيميا تمت باستخدام مستخلص الأساي بالتركيز الذي يتصور وجوده في تيار الدم عقب تناول هذا التوت، إلا أنه ما من دراسة أجريت على مرضى سرطان فعليين (فقط خلايا سرطانية في أنبوب اختبار)؛ ولذا فإن هناك حاجة لمزيد من الأبحاث. والحقيقة أن الدراسات التطبيقية التي نشرت حتى الآن عن توت الآساي كانت لتجربتين صغيرتين ممولتين من جهات صناعية وتظهر فوائد متواضعة يؤديها لمن يعانون هشاشة العظام وزيادة في معدلات التمثيل الغذائي لمن يعانون السمنة.
أما فيما يخص مضاد الأكسدة، فلتوت الآساي مكانة عظيمة، متجاوزًا في هذا الصدد أشهر النباتات فيه، مثل الجوز والتفاح والعنبية. إلا أن المركز الثالث في ترتيب مضادات الأكسدة يذهب للقرنفل، ويذهب المركز الثاني للقرفة، ويفوز بالأول دون منازع – وفق قاعدة بيانات وزارة الزراعة الأمريكية للأطعمة الشائعة – الكرنب البنفسجي. إلا أن توت الآساي أفضل مذاقًا.
الكركمين Curcumin والورم نخاعي متعدد Multiple myeloma
الميلوما المتعددة أو الورم نخاعي متعدد هي أحد أخطر أنواع السرطان. عمليًّا لا يمكن الشفاء منها حتى مع أعنف العلاجات الطبية. تسيطر خلايا الميلوما على النخاع العظمي، مع تراجع في أعداد كرات الدم البيضاء السليمة، وهو ما يزيد قابلية التعرض للعدوى. وتناقص أعداد كرات الدم الحمراء يؤدي إلى الأنيميا، ونقص الصفائح الدموية يؤدي إلى حالات نزيف خطرة. بمجرد تشخيص الحالة، لا يعيش أصحابها أكثر من خمس سنوات من تاريخه.
لا يصاب المرء بالميلوما المتعددة بلا سابقة إنذار؛ حيث إنها تسبق غالبًا بحالة قبل سرطانية تسمى جاموباثي وحيدة النسيلة مجهول الأثر، حين اكتشف العلماء هذه الحالة للمرة الأولى، سميت بهذا الاسم تحديدًا؛ لأن أهمية وجود مستويات غير طبيعية من الأجسام المضادة في جسم أحدهم لم تكن واضحة. لكننا الآن نعلم أنها نذير إصابة بالميلوما المتعددة، و٣٪ من القوقازيين بعد الخمسين يصابون بها، بينما يتضاعف هذا المعدل بين الأصول الإفريقية.
لا تسبب هذه الحالة أية أعراض؛ لذا لن تعرف أبدًا بها إلا حين يكتشفها طبيبك قدرًا خلال اختبار دم روتيني. وفرص تطور الجاموباثي إلى ميلوما هي ١٪ كل عام، ما يعني أن أغلب من يصابون بها قد يموتون لأي سبب آخر قبل أن تتطور هذه الحالة إلى ميلوما. لكن حيث إن الإصابة بالميلوما المتعددة هي بمثابة حكم إعدام، فقد حاول العلماء جاهدين إيجاد طرق لقتل تلك الحالة في مهدها.
نظرًا لعاملي الأمان والفاعلية المتوافرين في عنصر الكركمين الموجود في تابل الكركم في مواجهة بقية أنواع الخلايا السرطانية، قام الباحثون في جامعة تكساس بجمع خلايا ميلوما متعددة ووضعوها في طبق الاختبار. ودون أي تدخل، تضاعفت الخلايا السرطانية أربع مرات في غضون أيام – وهو ما يعطيك فكرة عن سرعة انتشار هذا النوع من السرطان. لكن حين أضيف قليل من الكركمين، قلل من نمو خلايا الميلوما أو جعله يتوقف كليًّا.
نحن نعلم أن إيقاف السرطان مختبريًّا شيء، وإيقافه في أجساد المصابين به شيء آخر؟ ففي عام ٢٠٠٩، انتهت دراسة تجريبية إلى نصف (خمسة من عشرة) العينات المصابة بالجاموباثي غير محدد الأثر ممن يعانون مستويات غير طبيعية من إنتاج الأجسام المضادة استجابت إيجابًا مع مكملات الكركمين. ولم يحقق أي ممن حصلوا على الشراب الوهمي (صفر من تسعة) أي انخفاض في مستويات الأجسام المضادة. وتأثرًا بهذا النجاح، أجرى العلماء تجربة عشوائية مزدوجة التعمية بمجموعة مقارنة ودواء وهمي وحققوا نتائج مشابهة مشجعة على مرضى حالة الجاموباثي وكذلك مرضى الميلوما في مراحل مبكرة. هذه نتائج تقول إن تابلًا بسيطًا متوافرًا في محلات البقالة قد تتوافر فيه القدرة على إبطاء أو إيقاف هذا النوع الرهيب من السرطان في نسبة معينة من المرضى، إلا أننا لن نتمكن من معرفة الكثير إلى أن تجرى دراسات أطول لمعرفة إذا ما كانت هذه التغيرات الإيجابية في مؤشرات عمل الدم ستترجم إلى تغير عام في حالة المريض. وإلى ذلك الحين، لن يضيرك أن تضم هذا التابل إلى طعامك.
هل للفيروسات الحيوانية علاقة بسرطانات الدم عند الإنسان؟
السبب وراء انخفاض معدلات الإصابة بسرطانات الدم لدى من يلزمون نمطًا غذائيًّا نباتيًّا قد يعود إلى الأطعمة التي يختارون تناولها و/أو تلك التي يتفادون تناولها. ولبيان الدور المختلف الذي قد تلعبه المنتجات الحيوانية في الإصابة بمختلف سرطانات الدم، نحتاج لإجراء دراسة كبيرة جدًّا. وهنا تأتي دراسة التحقيق الأوروبي المستقبلي في السرطان والتغذية، والتي كانت كذلك. حدد الباحثون أكثر من أربعمائة ألف شخص من كل أنحاء العالم وتتبعوهم على مدى تسع سنوات. ولعلك تذكر أن استهلاك الدجاج ارتبط بزيادة في احتمالات الإصابة بسرطان البنكرياس. وقد أتت النتائج مشابهة فيما يخص سرطان الدم. ومن بين جميع المنتجات الحيوانية التي خضعت للدراسة (بما في ذلك الفضلات، أو الأحشاء والأعضاء)، جاءت الدواجن في مقدمة المنتجات الحيوانية من حيث زيادة معدلات الإصابة بالليمفوما غير الهودجينيكية، وجميع درجات الليمفوما الجريبية، وليمفوما الخلية بي، مثل ابيضاض الدم الليمفاوي المزمن (بما في ذلك مرض اللوكيميا الليمفاوية الصغير واللوكيميا قبل ليمفاوية). وقد انتهت الدراسة إلى زيادة احتمالات الإصابة بين ٥٦٪ و٢٨٠٪ مع كل ٥٠ جرامًا من الدواجن يوميًّا. وللمقارنة، صدر الدجاجة المخلي المطبوخ يزن ٣٨٤ جرامًا.
لماذا تزيد مخاطر الإصابة باللوكيميا والليمفوما مع تناول هذه الكميات القليلة نسبيًّا من الدواجن؟ يرى الباحثون أن هذه النتيجة ربما تكون قدرية، أو ناجمة عن استخدام العقاقير، مثل المضادات الحيوية، التي غالبًا ما تحقن بها الدواجن والرومي بغرض تسريع النمو. أو لعلها بسبب الديوكسينات التي توجد في بعض لحوم الدواجن، والتي ترتبط بالإصابة بالليمفوما. لكن الألبان كذلك قد تحتوي على الديوكسينات، ولم يرتبط شرب اللبن بالليمفوما غير الهودجينيكية. فقد اعتقد الباحثون أن السبب هو الفيروسات المسببة للسرطان في الدواجن؛ حيث لم يرتبط تناول اللحوم كاملة التسوية (حيث تموت أية فيروسات) بزيادة في مخاطر الإصابة بالليمفوما. ويتسق هذا الطرح مع نتائج دراسة NIH – AARP ، والتي انتهت إلى الربط بين تناول الدجاج والإصابة بأحد أنواع الليمفوما في حين أن التعرض المتزايد للمادة المسرطنة MeIQx مع تناول اللحوم المطهوة ارتبط بنسب إصابة أقل بسرطان الدم.
فكيف إذن يرافق التعرض الكبير لأحد المسرطنات بنسبة إصابة أقل به؟ إن مادة MeIQx هي أحد الأمينات الحلقية غير المتجانسة التي تنشأ بطهو اللحم في درجة حرارة عالية، مثل طهو الفرن، والشواء، والقلي. لكن في حالات سرطانات الدم، إن كان أحد الأسباب فيروس دواجن، فإنه كلما زاد طهو اللحم، كان تدمير الفيروس أشد. إن فيروسات الدواجن المسببة للسرطان – بما في ذلك فيروس هيربس أفيان الذي يتسبب في داء ماريك، والعديد من الفيروسات القهقرية مثل فيروس الشباك البطاني، وفيروس أفيان ليكوساس الذي يصيب الدجاج، وفيروس الداء التكاثري الليمفاوي الذي يصيب الدجاج الرومي – تفسر لك ارتفاع نسب السرطان بين الفلاحين، وعمال السلخانات، والجزارين. وتتسبب الفيروسات في حدوث السرطان بإدخال مباشر للجين المسبب للسرطان في دي إن إيه العائل.
إن الفيروسات الحيوانية يمكنها إصابة الإنسان الذي يعد اللحوم بأمراض جلدية، مثل مرض الأرف. بل إن هناك حالة طبية معروفة باسم بثرة الجزار تصيب أيدي من يتعاملون مع اللحوم الطازجة، بما في ذلك الدواجن والأسماك. حتى زوجات الجزارين أكثر عرضة للإصابة بالسرطان العنقي، وهو مرتبط تحديدًا بالتعرض لفيروس داء بثرة الجزار.
لقد وجد أن العاملين في مسالخ الدواجن يسجلون مستويات أعلى من الإصابة بسرطان الفم، والجيوب الأنفية، والحلق، والمريء، والشرج، والكبد، والدم. فعلى مستوى الصحة العامة، يتمثل الخطر في أن الفيروس حاضر في الدواجن وهي منتجات تنقل بعد ذلك للجمهور العام الذي يتناول أو يأكل هذه الدواجن التي تتم طهوها على نحو غير صحيح. كما أن هذه النتائج تكررت مؤخرًا في أكبر تحقيق جرى حتى الآن، حيث يدرس حالة أكثر من عشرين ألفًا من العاملين في مسالخ الدواجن ومصانع حفظ الأغذية. وقد أكدت نتائج ثلاث دراسات أخرى أجريت حتى الآن: العاملون في هذه الأماكن تزيد احتمالات وفاتهم بأنواع معينة من السرطانات، منها سرطانات الدم.
بدأ الباحثون أخيرًا في وصل النقاط ببعضها؛ فالمستويات المرتفعة من الأجسام المضادة في فيروسات ليكوساس/ساركوما وفي فيروسات الشباك اليطانية التي وجدت مؤخرًا لدى عمال الدواجن تمنح الدليل على إمكانية إصابة الإنسان بسرطانات الدواجن. حتى عمال الخطوط والذين يقتصر عملهم على تقطيع المنتج النهائي ولا يتعرضون أبدًا للطيور الحية ارتفعت في دمهم كذلك الأجسام المضادة. وبعيدًا عن شروط الأمان الوظيفي، فإن التهديد المحتمل للناس عمومًا، وحسب قول الباحثين: “ليس هينًا”.
ويمكن عزو ارتفاع معدلات الإصابة بسرطان الدم إلى المزرعة. فقد وجد تحليل أجري على أكثر من ألف شهادة وفاة أن من ينشأون في مزارع ترعى فيها الحيوانات كانوا أكثر عرضة للإصابة بسرطان الدم في مراحل متأخرة من حياتهم عمن ينشأون في مزارع ترعى فيها المحاصيل. والأسوأ من ذلك أن المعدلات تزيد بمقدار ثلاث مرات لدى من ينشأون في مزارع الدواجن.
لقد ثبت كذلك أن التعرض للماشية والخنازير يرتبط بالإصابة بالليمفوما غير الهودجينيكية. في دراسة أجريت عام ٢٠٠٣ بجامعة كاليفورنيا كشف الباحثون عن أن ثلاثة أرباع العينات البشرية التي تم فحصها جاءت إيجابية لتعرضها لفيروس لوكيميا البقر، وذلك على الأرجح لاستهلاك منتجات اللحوم والألبان. و٨٥٪ من قطعان الألبان جاءت عيناتها إيجابية في هذا الفيروس (و١٠٠٪ في عمليات المستوى التصنيعي).
لكن ليس مجرد تعرض البشر لفيروس يسبب السرطان في البقر أن يصاب البشر به فعليًّا. ففي عام ٢٠١٤، قام باحثون، مدعومون جزئيًّا ببرنامج الجيش الأمريكي لأبحاث سرطان الثدي، بنشر تقرير لافت في مجلة تابعة لمراكز الوقاية والتحكم بالأمراض. وذكروا أن فيروس لوكيميا البقر قد يصبح نسيجًا عاديًّا أو سرطانيًّا في الثدي البشري، ما يؤكد أن بالإمكان إصابة البشر بالفيروسات المسببة للسرطان في الحيوان. لكن إلى الآن لا يبدو معروفًا أثر فيروسات الدواجن وغيرها من حيوانات المزرعة على إصابة الناس بالسرطان.
فماذا عن فيروس لوكيميا السنوريات؟ لحسن الحظ، ترتبط مرافقة القطط المنزلية بمعدلات أقل في الإصابة بالليمفوما، وهو خبر مريح لي نظرًا للعدد الكبير من الحيوانات الأليفة التي شاركتني حياتي. وكلما طالت مدة هذا العيش المشترك، قلت نسب الإصابة أكثر. ففي إحدى الدراسات، وجد أن أقل نسبة إصابة بالليمفوما هي بين من يحتفظون في بيوتهم بحيوانات أليفة لعشرين سنة ويزيد. لذا يظن الباحثون أن السبب قد يعود إلى حقيقة التأثير الإيجابي لتربية الحيوانات الأليفة على الجهاز المناعي.
هناك دراستان من جامعة هارفارد انتهتا إلى أن زيادة استهلاك الصودا قد تزيد من فرص الإصابة بالليمفوما غير الهودجينيكية والميلوما المتعددة، لكن هذا الارتباط وجد فقط في الرجال ولم تؤكده دراستان أخيرتان كبيرتان أجريتا على الصودا المحلاة. إلا أن الامتناع عن الصودا لن يضرك، فضلًا عن التغييرات الغذائية الموضحة سلفًا.
إن الأنماط الغذائية النباتية تقل معها نسبة الإصابة بسرطانات الدم إلى النصف، والحماية في هذا النظام تتوافر غالبًا من تحاشي الأطعمة التي ترتبط بشدة بالأورام، مثل الدواجن، وكذا زيادة المستهلك من الفاكهة والخضراوات. وتفيد الخضراوات على وجه الخصوص في الليمفوما غير الهودجينيكية ويفيد الكركم مع المايلوما المتعددة. ودور الفيروسات المسببة للسرطان في الحيوانات غير محدد تمامًا، لكن يجب أن يكون بحثه أولوية نظرًا لتعرض الجمهور العام له.