سواء كان الذي تأكله رغيفا من خبز الحبوب العضوية الغنية بالألياف، أو كعكة “توينكي”، فما كنه هذا الشيء بالضبط ؟ نحن نعلم جميعا أن كعكات “توينكي” هي أحد الأغذية المصنعة التي نأكلها في نزوة شره، ولكن النصيحة التقليدية تخبرنا بأن الخيار الأول هو الأفضل للصحة، حيث إنه مصدر للألياف وفيتامين (ب)، وغني بالكربوهيدرات “المعقدة”.
ولكنَّ هناك جزءًا من القصة لم يرو بعد. فدعونا نتأمل جيدا مكونات هذه الحبوب ونحاول فهم لماذا يحتمل أن تكون لها تأثيرات غريبة على البشر – وذلك بغض النظر عن شكلها أو لونها، أو محتواها من الألياف، أو كونها عضوية أم لا.
القمح: الحبوب الغنية بالكربوهيدرات
إن تحويل ذلك العشب البري المستأنس في العصر الحجري الحديث إلى سينابون، أو معجنات مقلية فرنسية، أو إلى طعام يقدم في محلات “دانكن دونتس” الحديثة يتطلب مهارة حقيقية. لم تكن هذه الأشكال الحديثة لتتناسب مع عجين القمح القديم. فمحاولة عمل كعكة مقلية حديثة محشوة بالجيلي من القمح وحيد الحبة، على سبيل المثال، من شأنها أن تسفر عن فوضى من الفتات، بحيث لن تتحمل الفطيرة حشوتها، وسيكون طعمها، وملمسها، ومظهرها وكأنها، حسنا، فوضى من الفتات. وإلى جانب تهجينهم القمح لزيادة إنتاجية المحصول، سعى علماء الوراثة النباتية كذلك لتوليد الهجين الذي يحمل الخصائص الأنسب ليتحول إلى كيك الشيكولاتة والكريمة الحامضة، أو كعكة زفاف من سبع طبقات على سبيل المثال.
يحتوي دقيق القمح الطري الحديث من حيث الوزن في المتوسط على ٧٠٪ من الكربوهيدرات، بالإضافة إلى البروتينات والألياف التي لا يمكن هضمها بنسبة ١٠: ١٥٪ لكل منها. والوزن القليل المتبقي من طحين القمح الطري يحتوي على الدهون، ومعظمها من الدهون الفوسفاتية والأحماض الدهنية غير المشبعة. (ومن المثير للاهتمام، أن القمح القديم يحتوي على محتوى أعلى من البروتين. فالقمح ثنائي الحبة، على سبيل المثال، يحتوي على ٢٨٪ أو أكثر من البروتين).
يحتوي نشا القمح على الكربوهيدرات المعقدة التي يعشقها إخصائيو التغذية. إن كلمة “معقدة” تعني أن الكربوهيدرات في القمح تتكون من بوليمرات (سلاسل متكررة) من السكر البسيط، أي الجلوكوز، على عكس الكربوهيدرات البسيطة كالسكروز، والتي تتكون بنيتها من وحدة واحدة أو اثنتين من السكر (يتكون السكروز من جزيئين من السكر، وهما الجلوكوز + الفركتوز)، وتقول النصيحة التقليدية، كتلك التي يمنحك إياها اختصاصي التغذية أو وزارة الزراعة، إنه يجب علينا الحد من استهلاكنا من الكربوهيدرات البسيطة في شكل الحلوى والمشروبات الغازية، وزيادة استهلاكنا من الكربوهيدرات المعقدة.
من ضمن الكربوهيدرات المعقدة في القمح، تكون نسبة ٧٥ ٪ عبارة عن سلسلة متفرعة من وحدات الجلوكوز، وهي الأميلوبكتين، و ٢٥ ٪ منها عبارة عن سلسلة خطية من وحدات الجلوكوز، وهي الأميلوز. في الجهاز الهضمي، يتم هضم كل من الأميلوبكتين والأميلوز عن طريق إنزيم الأميليز في اللعاب والمعدة. ويتم هضم الأميلوبكتين بكفاءة عن طريق تحويل الأميليز إلى جلوكوز، بينما يُهضم الأميلوز بكفاءة أقل، فيصل بعضه إلى القولون غير مهضوم. وهكذا، يتم تحويل الأميلوبكتين في الكربوهيدرات المعقدة بسرعة إلى جلوكوز، ثم يتم امتصاصه في مجرى الدم؛ ولأنه يساعد على عملية الهضم بقدر أكبر من الكفاءة، يكون هو المسئول الرئيسي عن تأثير القمح على زيادة نسبة السكر في الدم.
كما تحتوي الأطعمة الأخرى الغنية بالكربوهيدرات على الأميلوبكتين، لكنه ليس نوع الأميلوبكتين نفسه الموجود في القمح. فالبنية المتفرعة للأميلوبكتين تختلف تبعا لمصدرها. إن الأميلوبكتين الموجود في البقوليات، ما يدعى بالأميلوبكتين سي، هو الأقل قابلية للهضم – وهكذا نسمع أنشودة تلاميذ المدارس التي تقول: “إن الفول مفيد للقلب، كلما أكلت منه، أخرجت ريحا”. يصل الأميلوبكتين غير المهضوم إلى القولون، فتجد البكتيريا التكافلية مأواها هناك بسعادة؛ حيث تتغذى على النشويات غير المهضومة، مولدة غازات مثل النتروجين والهيدروجين، ما يجعلك غير قادر على هضم السكريات.
يحتوي كل من الموز والبطاطس على أميلوبكتين بي، وبرغم أنه أكثر قابلية للهضم من أميلوبكتين سي الموجود في الفول، فإنه يقاوم الهضم إلى حد ما. إن النوع الأكثر قابلية للهضم من الأميلوبكتين، هو أميلوبكتين إيه، الموجود في القمح. ولأنه هو الأكثر قابلية للهضم، فهو أيضا النوع الذي يزيد من إفراز السكر في الدم. وهذا ما يفسر السبب الكامن وراء أن جرامًا من القمح، يزيد نسبة السكر في الدم بدرجة أكبر من جرام من الفاصوليا أو رقائق البطاطس مثلا. وإن أميلوبكتين إيه الموجود في منتجات القمح، سواء كان معقدا أم لا، يمكن اعتباره طعاما غنيا بالكربوهيدرات، وهي تلك الكربوهيدرات القابلة للهضم التي يتم تحويلها إلى سكر في الدم بصورة أكثر كفاءة من الأطعمة الأخرى التي تحتوي على الكربوهيدرات، سواء كانت بسيطة أو معقدة.
وهذا يعني أنه ليست جميع الكربوهيدرات المعقدة على حد سواء، فالقمح الذي يحتوي على أميلوبكتين إيه يؤدي إلى زيادة نسبة السكر في الدم بدرجة أكبر من الكربوهيدرات المعقدة الأخرى. ولكن احتواء القمح على أميلوبكتين إيه الفريد القابل للهضم يعني أيضا أن جرامًا من الكربوهيدرات المعقدة بمنتجات القمح ليس أفضل حتى من الكربوهيدرات البسيطة كالسكروز، بل في كثير من الأحيان يكون أسوأ.
يصدم الناس عادة عندما أقول لهم إن خبز القمح يرفع نسبة السكر في الدم إلى مستوى أعلى بالمقارنة بالسكروز. وبغض النظر عن بعض الألياف الإضافية، فإن تناول شريحتين من خبز القمح الكامل يختلف قليلا حقًّا، وغالبا ما يكون بصورة أسوأ، من تناول علبة من الصودا محلاة بالسكر أو تناول قطعة حلوى مليئة بالسكر.
وهذه المعلومات لا تعتبر جديدة. ففي دراسة بجامعة “تورنتو” في عام ١٩٨١ تمت الإشارة إلى مفهوم مؤشر نسبة السكر في الدم، وهو يعني الآثار النسبية للكربوهيدرات على مستوى السكر في الدم: فكلما ارتفعت نسبة السكر في الدم بعد تناول غذاء معين مقارنة بالجلوكوز، ارتفع مؤشر نسبة السكر في الدم. وأظهرت الدراسة الأصلية أن نسبة السكر في الدم بعد تناول الخبز الأبيض كانت ٦٩، في حين كان مؤشر نسبة السكر في الدم بعد تناول خبز الحبوب الكاملة ٧٢، أما بعد تناول حبوب إفطار القمح الكامل فكانت ٦٧، في حين أن نسبته من السكروز (سكر المائدة) كانت ٥٩.٥. نعم، مؤشر نسبة السكر في الدم من الخبز والحبوب الكاملة أعلى منه مقارنة بالسكروز. وبالمناسبة، فإن مؤشر نسبة السكر في الدم بعد تناول حلوى “مارس” هو ٦٨، وذلك يتضمن ما تحتوي عليه من نوجا وشيكولاتة وسكر وكراميل. إنه أفضل مقارنة بالخبز والحبوب الكاملة. ومؤشر نسبة السكر في الدم بعد تناول حلوى “سنيكرز” هو ٤١ -أفضل بمراحل منه بعد تناول الخبز والحبوب الكاملة.
في الواقع، لا تسبب درجة المعالجة، فيما يتعلق بنسبة السكر في الدم، سوى في إحداث فارق ضئيل: فالقمح هو القمح، سواء كان مصنَّعًا أم غير مصنَّع، بسيطًا أم معقدًا، ذا نسبة عالية من الألياف أو قليل الألياف، فجميع أنواعه تزيد من نسبة السكر في الدم على نحو مماثل. وتماما كما أن “الصبية سيظلون دائما صبية” فإن أميلوبكتين إيه. سيظل دائما أميلوبكتين إيه. وبالنسبة إلى المتطوعين الأصحاء والرشيقين، فإن شريحتين متوسطتي الحجم من خبز القمح الكامل زادتا من نسبة السكر في الدم لديهم بدرجة ٣٠ ملج / دل (٩٣-١٢٣ ملج / دل)، لا تختلف في ذلك عن الخبز الأبيض. وبالنسبة إلى مرضى السكري، فإن كلا من الخبز الأبيض وخبز الحبوب الكاملة يزيدان من نسبة السكر في الدم من ٧٠ إلى ١٢٠ ملج / دل أكثر من مستويات البداية.
من الملاحظات القوية المتضمنة كذلك في الدراسة الأصلية بجامعة “تورنتو” وفي الجهود المبذولة لاحقا، هي أن المكرونة لديها مؤشر أقل لنسبة السكر في الدم يستمر لساعتين، حيث يبلغ مؤشر نسبة السكر في الدم بعد تناول مكرونة القمح الكامل ٤٢ مقارنة بمؤشر نسبة السكر في الدم بعد تناول سباجيتي الدقيق الأبيض والذي يبلغ ٥٠. تختلف المكرونة بدرجة كبيرة عن منتجات القمح الأخرى، ويرجع ذلك جزئيًّا على الأرجح إلى انضغاط دقيق القمح الذي يحدث في أثناء عملية الصنع، وتباطؤ عملية الهضم بسبب الأميليز (إن لفائف المكرونة الطازجة، مثل الفيتوتشيني، تحتوي على خصائص سكرية مشابهة للباستا). وعادة ما تكون الباستا مصنوعة من القمح القاسي بدلا من القمح الطري؛ ما يجعلها أقرب إلى القمح ثنائي الحبة من الناحية الوراثية. ولكن هذا التصنيف المحابي للمكرونة هو تصنيف مضلل؛ لأنه لا يعتمد سوى على مراقبة استمرت لمدة ساعتين، والمكرونة لديها قدرة غريبة على رفع منسوب السكر في الدم لفترات تستمر من أربع إلى ست ساعات بعد استهلاكها، رافعة مستوى السكر في الدم بنسبة ١٠٠ ملج / دل لفترات طويلة عند مرضى السكري.
لم يكن علماء الزراعة والغذاء غافلين عن هذه الحقائق المزعجة، حيث كانوا، عبر التلاعب الجيني، يحاولون زيادة محتوى ما يسمى بالنشا المقاوم (النشا الذي لا يهضم بصورة كاملة) وتقليل الأميلوبكتين. ويعتبر الأميلوز هو النشا المقاوم الأكثر شيوعا، والذي من حيث الوزن يضم ما يصل إلى ٤٠٪: ٧٠٪ من بعض أصناف القمح المهجنة عن عمد.
وبالتالي، فإن منتجات القمح ترفع مستويات السكر في الدم أكثر من جميع الكربوهيدرات الأخرى تقريبا، بدءا من الفاصوليا وحتى الحلوى. وهذا له انعكاسات مهمة على وزن الجسم، بما أن الجلوكوز يترافق حتما مع الأنسولين، وهو الهرمون الذي يسمح بدخول الجلوكوز إلى خلايا الجسم، وتحويله إلى دهون. فكلما ارتفع مستوى السكر في الدم بعد تناول الطعام، ازداد مستوى الأنسولين، وتراكمت المزيد من الدهون. إن هذا هو السبب، مثلا، في أن تناول عجة البيض التي لا تحفز زيادة مستوى السكر في الدم لا يضيف إلى دهون الجسم، بينما ترفع شريحتان من خبز القمح الكامل نسبة السكر في الدم إلى مستويات عالية، فيحفزان إفراز الأنسولين ونمو الدهون، دهون البطن بشكل خاص، أو الدهون الحشوية العميقة.
وهناك المزيد فيما يتعلق بسلوك جلوكوز القمح الغريب. إن الزيادة التي يسببها أميلوبكتين إيه في الجلوكوز والأنسولين بعد استهلاك القمح هو حدث طويل يمتد إلى مائة وعشرين دقيقة بحيث يتسبب في” قمة” ذروة الجلوكوز، التي يليها الوصول إلى “القاع” الحتمي مع انخفاض الجلوكوز. وهذا الارتفاع والانخفاض يسببان المعاناة التي تستمر ساعتين من الشعور المتتابع بالشبع والجوع الذي يكرر نفسه طوال اليوم. إن الجلوكوز “المنخفض” هو المسئول عن قرقرة المعدة في التاسعة صباحًا، بعد ساعتين فقط من تناول وعاء من حبوب القمح أو فطيرة مافن إنجليزية، يليها اشتهاء للطعام قبل الغداء في الحادية عشرة، وكذلك شعور بالتشوش، والتعب، ثم رعشة ناتجة عن الانخفاض الكبير لمستوى سكر الجلوكوز في الدم.
يؤدي ارتفاع السكر في الدم بشكل متكرر، سواء كان ذلك لفترات طويلة أو لا، إلى زيادة تراكم الدهون. وتكون عواقب ترسب السكر والأنسولين والدهون واضحة خاصة في البطن – ما يسفر عن، نعم، كرش من القمح. وكلما كبر كرش القمح لديك، أصبحت استجابتك للأنسولين أكثر ضعفا، حيث ترتبط الدهون الحشوية العميقة لكرش القمح بضعف الاستجابة للأنسولين أو بضعف “مقاومته”، فهي تطالب بمستويات أعلى وأعلى من الأنسولين، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى الإصابة بالسكري. وعلاوة على ذلك، فكلما كبر كرش القمح عند الذكور، ازداد إفراز هرمون الإستروجين من الأنسجة الدهنية، وزيادة حجم الأثداء. وكلما كبر كرش القمح لديك، ازدادت استجابتك للالتهابات التي تنجم عنه: أمراض القلب والسرطان.
وبسبب آثار القمح الذي تشبه آثار المورفين (والتي نوقشت في الفصل التالي)، بالإضافة إلى دورة الجلوكوز والأنسولين التي يولدها أميلوبكتين إيه الموجود في القمح، فإن القمح يعتبر، في الواقع، محفزا للشهية. ووفقا لذلك، فإن الناس الذين يتخلصون من القمح في نظامهم الغذائي يستهلكون سعرات حرارية أقل، وهو ما سأتناوله لاحقا في الكتاب.
إذا كان استهلاك القمح الذي يحث على إفراز الجلوكوز والأنسولين والدهون يعتبر الظاهرة الرئيسية التي تكمن وراء زيادة الوزن، فإن التخلص من القمح في النظام الغذائي يجب أن يبطل هذه الظاهرة. وهذا هو ما يحدث بالضبط.
لسنوات عديدة، لوحظ أن مرضى الداء الزلاقي يعانون نقص الوزن المرتبط بالقمح، حيث يجب عليهم التخلص من جميع الأطعمة التي تحتوي على الجلوتين في وجباتهم الغذائية لوقف استجابة مناعية ليست في محلها، ما يؤدي إلى تدمير الأمعاء الدقيقة عند مرضى الداء الزلاقي بصورة خاصة. وفي أثناء حدوث ذلك، فإن الأنظمة الغذائية الخالية من الجلوتين والقمح تكون أيضا خالية من أميلوبكتين إيه.
ومع ذلك، فإن آثار نقص الوزن التي تتبع التخلص من القمح ليست واضحة تماما في الدراسات السريرية. وقد يتم تشخيص العديد ممن يعانون الداء الزلاقي بعد سنوات من المعاناة ويتسبب تغيير النظام الغذائي في سوء تغذية حاد بسبب الاسهال لفترات طويلة وضعف امتصاص العناصر الغذائية. ويمكن لمرضى الداء الزلاقي ممن يعانون نقص الوزن، وسوء التغذية اكتساب الوزن في الواقع عند التخلص من القمح وذلك بفضل تحسن وظيفة الجهاز الهضمي.
ولكن إذا نظرنا فحسب إلى أصحاب الوزن الزائد ممن لا يعانون سوء التغذية الشديد في وقت التشخيص، والذين يتخلصون من القمح من نظامهم الغذائي، سنجد أن ذلك يتيح لهم إنقاص قدر كبير من الوزن. وأظهرت دراسة مستشفى “مايو كلينيك” بجامعة “أيوا” أن ٢١٥ مريضا بالداء الزلاقي كانوا يعانون السمنة المفرطة قد فقدوا اثني عشر كيلوجرامًا من وزنهم في الأشهر الستة الأولى من اتباع نظام غذائي خال من القمح. وفي دراسة أخرى، أدى التخلص من القمح إلى تقليل عدد الأشخاص الذين يمكن وصفهم بالسمنة المفرطة (ممن يكون مؤشر كتلة الجسم لديهم ٣٠ أو أكثر) بمقدار النصف وذلك في غضون عام. ومن الغريب أن يعزو الباحثون الذين يقومون بتلك الدراسات عادة إنقاص الوزن بسبب الأنظمة الغذائية الخالية من القمح والجلوتين إلى عدم وجود تنوع في الأغذية (والتنوع الغذائي، بالمناسبة، يمكن أن يكون هائلا ورائعا جدًّا بعد التخلص من القمح، كما سأتطرق لاحقا).
لذا فإن النصيحة التي تدعو إلى زيادة استهلاك الحبوب الكاملة الصحية تتسبب في زيادة استهلاك الأميلوبكتين إيه، وهو شكل من أشكال كربوهيدرات القمح، وهي نوع من أنواع الكربوهيدرات يختلف قليلا من الناحية العملية عن غمر ملعقتك في وعاء من السكر، بل ويكون أحيانا أسوأ من ذلك.
الجلوتين: نحن نعرفك بالكاد!
إن أضفت الماء إلى دقيق القمح، وعجنت الخليط، ثم شطفت الوعاء تحت الماء الجاري لتنظيفه من النشويات والألياف، سيتبقى لك خليط من البروتين يدعى الجلوتين.
يعتبر القمح المصدر الرئيسي للجلوتين في النظام الغذائي، وذلك يرجع إلى أن منتجات القمح قد أصبحت مهيمنة ولأن معظم الأمريكيين غير معتادين استهلاك كميات وفيرة من الشعير، الجاودار، أو البرغل، أو القمح الطوراني، أو غيرها من مصادر الجلوتين. لذلك، ولأسباب عملية بحتة، فإنني عندما أتحدث عن الجلوتين، أشير في المقام الأول إلى القمح.
وعلى الرغم من أن القمح، من ناحية الوزن، يتكون غالبا من الأميلوبكتين إيه، فإن بروتين الجلوتين هو ما يجعل من القمح “قمحا”. فالجلوتين هو العنصر الفريد في القمح الذي يجعل العجين “عجينا”: قابلا للمد، والتكور، والدهن، واللف – كل هذه الرياضات الصغيرة المرتبطة بالخبز، والتي لا يمكن تطبيقها على دقيق الأرز، أو الذرة، أو على أي من الحبوب الأخرى. يسمح الجلوتين لصانع البيتزا بِلتِّ وعجن العجين لقولبته على الشكل المسطح لعجينة البيتزا؛ كما يسمح للعجين بأن يمتد ويرتفع عندما تتسبب الخميرة في ملئه بالجيوب الهوائية. إن جودة العجين المتميز المصنوع من مزيج بسيط من دقيق القمح والماء، والذي يطلق عليه علماء “التغذية المرونة اللزوجية” أو التماسك، تعود إلى الجلوتين. وفي حين القمح يتكون معظمه من الكربوهيدرات بينما يحتوى على البروتين بنسبة ١٠-١٥٪ فقط، فإن ٨٠٪ من هذا البروتين هو الجلوتين، وبدونه، سوف يفقد القمح مميزاته الفريدة التي تحول العجين إلى الخبز أو البيتزا، أو الكعك.
إليك درسا سريعا يخص هذا الشيء المسمى بالجلوتين (الدرس الذي قد تود وضعه تحت بند “اعرف عدوك”). إن الجلوتين هو بروتينات التخزين في نبات القمح، فهو وسيلة لتخزين الكربون والنيتروجين لإنبات البذور وتشكيل نباتات القمح الجديدة. والتخمير، أو عملية “الارتفاع” التي تحدث بسبب اقتران القمح بالخميرة، لا تحدث دون الجلوتين، وبالتالي فهو عنصر مميز في دقيق القمح.
يشمل مصطلح “الجلوتين” عائلتين أساسيتين من البروتينات، وهما الجليادين والجلوتينين. وينقسم الجليادين، وهو مجموعة البروتينات التي تحفز أقوى الاستجابات المناعية في مرض الداء الزلاقي، إلى ثلاثة أنواع فرعية: جليادين ألفا وبيتا، وجليادين جاما، وجليادين أوميجا. مثله مثل الأميلوبكتين، فإن الجلوتينين عبارة عن بِنَى ضخمة متكررة، أو بوليمرات، بالإضافة إلى مزيد من البنى الأساسية. وترجع قوة العجين إلى الجلوتينين البوليمري الهائل، وهي صفة مبرمجة وراثيًّا يتم اختيارها عن عمد من قبل مُرَبِّي النباتات.
يمكن لجلوتين القمح في إحدى السلالات أن يكون مختلفا تماما في بنيته عن سلالة أخرى. فبروتينات الجلوتين التي ينتجها القمح وحيد الحبة، على سبيل المثال، تختلف عن بروتينات الجلوتين داخل القمح ثنائي الحبة، والتي بدورها تختلف عن بروتينات الجلوتين داخل القمح الطري. ولأن القمح وحيد الحبة يحتوي على أربعة عشر كروموسوما، والتي يحتوي كذلك على ما يسمى بالجينوم إيه (مجموعة من الجينات)، فإنه يحمل أصغر مجموعة من الكروموسومات، مصاغة بأقل الجلوتينات عددا وتنوعا. أما القمح ثنائي الحبة ذو الثمانية والعشرين كروموسومًا، والذي يحتوي على جينوم إيه بالإضافة إلى جينوم بي، فيحتوي على العديد من شفرات الجلوتين. ويحتوي القمح الطري ذو الاثنين وأربعين كروموسومًا على جينوم إيه وبي ودي، حيث يحمل أكبر مجموعة متنوعة من شفرات الجلوتين، حتى قبل التلاعب البشري في تربيته. لقد أدت جهود التهجين في السنوات الخمسين الماضية إلى العديد من التغييرات الإضافية في الجينات المشفرة للجلوتين في القمح الطري، معظمها تعديلات تستهدف الجينوم دي الذي يمنح القابلية للخَبز، والخصائص الجمالية للطحين. في الواقع، فإن الجينات الموجودة في الجينوم دي هي التي يتم تحديدها في معظم الأحيان كمصدر للجلوتين الذي يتسبب في مرض الداء الزلاقي.
وبالتالي فإن الجينوم دي الذي يحتوي عليه القمح الطري الحديث، بما أنه كان في بؤرة اهتمام علماء وراثة النبات وعبثهم بالوراثة، أدى إلى ارتفاع معدل التغيير الجوهري في الخصائص المصممة وراثيًّا لبروتينات الجلوتين. ومن المحتمل أيضا أن يكون مصدر العديد من الظواهر الصحية الغريبة التي يعانيها المستهلكون.
الأمر لا يتعلق فقط بالجلوتين
إن الجلوتين ليس هو الشرير الوحيد المحتمل والمتربص داخل دقيق القمح.
فإلى جانب الجلوتين، يحتوي القمح على حوالي ٢٠٪ من البروتينات غير الجلوتينية، وتشمل الألبيومينات، والبرولامينات، والجلوبيولين، ويمكن أن يختلف كل واحد منها من سلالة إلى سلالة كذلك. وفي جملتها، هناك أكثر من ألف بروتين آخر مخصص للقيام بوظائف مثل حماية الحبوب من مسببات الأمراض، وتوفير المقاومة للتملح، وتوفير الوظائف الإنجابية. هناك الملزن، والبيروكسيديزات، والألفا-أميليز، والسربين، وأكسيداز أسيل تميم الإنزيم، ناهيك عن خمسة أشكال من الإنزيمات النازعة للهيدروجين المكونة من جلسرين ألدهيد ثلاثي الفوسفات. كما لا ينبغي إهمال الإشارة إلى بيتا بورو ثيونين، وبورو إندولسينز إيه و بي، وسينثاز النشا. فالقمح لا يقتصر على الجلوتين فقط، بالضبط كما أن الطهو الجنوبي لا يقتصر على البرغل فقط.
وكأن هذا التنوع من البروتينات والإنزيمات لا يكفي، حيث لجأ مصنعو المواد الغذائية كذلك إلى الإنزيمات الفطرية، مثل السليولاز، والجلوكو أميليز، والإكسلنس، وبيتا زايلوسيداز لتحسين عملية التخمير والقوام في منتجات القمح. ويضيف العديد من الخبازين دقيق الصويا إلى العجين كذلك لتحسين المزج ودرجة البياض، مضيفين بذلك مجموعة أخرى من البروتينات والإنزيمات.
وإلى جانب مرض الداء الزلاقي، مع ذلك، هناك ردود أفعال أخرى كالحساسية أو التأقي (وهو رد الفعل الحاد الذي يؤدي إلى حدوث صدمة) من بروتينات أخرى غير الجلوتين، مثل الألفا أميليز، والثيوريدوكسين، والإنزيمات النازعة للهيدروجين المكونة من جلسرين ألدهيد ثلاثي الفوسفات، بالإضافة إلى حوالي اثني عشر بروتينا آخر. إن تعرض الأفراد المصابين بالحساسية لأي منها يتسبب في الربو والطفح الجلدي (الإكزيما الاستشرائية والأرتيكاريا)، بالإضافة إلى حالة غريبة وخطيرة تدعى الحساسية المفرطة للقمح عند ممارسة الرياضة أو (WDEIA)، والتي يعاني فيها الفرد الطفح الجلدي، أو الربو، أو الحساسية المفرطة في أثناء ممارسة الرياضة. وعادة ما يرتبط هذا النوع من الحساسية أكثر ما يرتبط بالقمح (ويمكنه أن يحدث كذلك بسبب المحار)، وتتسبب فيها أنواع مختلفة من الأوميجا-جليادين والجلوتينين.
باختصار، القمح لا يتكون فقط من مجموعة من الكربوهيدرات المعقدة بالإضافة إلى الجلوتين والنخالة، بل هو عبارة عن مجموعة معقدة من المركبات الكيميائية الفريدة التي تختلف بحسب الشفرة الوراثية. فإذا تأملت كعكة من بذور الخشخاش، على سبيل المثال، فلن تستطيع من خلال النظر التمييز بين ذلك التنوع الهائل من الجليادين، وبروتينات الجلوتين الأخرى، والبروتينات غير الجلوتينية في داخلها، وكثير منها لا نظير لها في القمح القزم الحديث، الذي هو مصدر هذه الكعكة؛ ومع القضمة الأولى، سوف تستمتع فورا بمذاق الأميلوبكتين الحلو الموجود في الكعك ما سيرفع من نسبة السكر في الدم إلى درجة هائلة.