ربما أنك الآن تمارس التأمل منذ عدة أيام أو أسابيع مضت. وربما أنك تعتقد أنك بدأت تتقنه. فأنت تستطيع أن تسترخي وتتنفس وتركز. وفجأة، تجد أن كل ما كسبته طار أدراج الرياح. فأنت تستطيع التركيز للحظة أو لحظتين، ثم تجد أن ذهنك قد سرح وبدأت تتخيل نفسك في المطبخ أو في السيارة أو تطارد أطفالك أو تتخيل نفسك جالساً مع أصدقائك. ما تفعله الآن ليس له أي علاقة بالتركيز. ولعلك الآن بدأت تتعجب لماذا لا تستطيع أن تمارس ذلك الشيء البسيط المسمى بالتأمل.
حسناً، لعله قد حان الوقت الآن لكي تهنئ نفسك أنك تتأمل بالطريقة التي يفترض أن تتأمل بها تماماً! إن جزءاً من ممارسة التأمل هو أن تسمح لأي شيء يريد أو يحتاج أن يخطر على بالك بأن يخطر على بالك بالفعل. عندما تكون مشغولاً بمهامك اليومية، فإنك لا تترك لذهنك مساحة كافية لكي يفعل هذا. فلديك أفكار تمر بذهنك كل لحظة، ولكنها لا تأتي من أعماقك، وإنما تتوالى على ذهنك واحدة تلو الأخرى في أثناء محاولاتك لحل مشاكلك اليومية.
يجب عليك تطوير “انتباه إيجابي غير مشروط” تجاه تلك الأفكار التي تظل ترد على خاطرك أثناء عملية التأمل. إن هذه هي أفكارك أنت، ولا يوجد أحد آخر يضعها في ذهنك! وهذه الأفكار يمكن أن تكشف لك قدراً كبيراً من المعلومات حول الكيفية التي يعمل بها ذهنك، وهي من الأدوات القيمة للغاية التي تساعدك على الوصول إلى حالة من الاسترخاء العميق، والتخلص من الانشغالات القديمة، وإفساح المجال لتطوير أشياء جديدة. إن هذه الأفكار توضح لك طبيعة عاداتك الذهنية. وأنت لا تستطيع أن تغير عادة حتى تفهم الغرض منها. والتأمل يعطيك فرصة كبيرة لتجربة عاداتك الذهنية.
ومن العناصر المهمة الأخرى في تلك الأفكار العشوائية التي تأتيك أثناء التأمل أنها تبين لك مراكز أو مناطق التعقيد في طاقتك الذهنية أو العاطفية. ومناطق التعقيد هذه، إذا كانت صارمة أو مشوشة، تُسمى “العُصاب” (الاضطراب العصبي الوظيفي). وأنماط التفكير العصابي تؤدي إلى سلوك عصابي يؤدي بدوره إلى حدوث خلافات مع ذاتك أو في علاقاتك بالآخرين. وحقيقة فإنك تجد بعض الأفكار التي تطرأ على ذهنك أثناء التأمل تبين أنك على وشك الوصول إلى فهم أوضح لمشتتاتك الذهنية التي تفرض بعض القيود على حياتك بشكل أو بآخر.
كل سلوك يبدأ كاستجابة مبدئية لحاجة أو رغبة. وبينما أنت مشغول بمحاولة حل الوضع الذهني الذي تصادفه أثناء عملية التأمل، تذكر أنه في وقت ما في الماضي كان لتلك السلوكيات غرض إيجابي. في الواقع، فإن هناك غرضاً إيجابياً -أو كان هناك غرض إيجابي في الماضي- لكل سلوك نقوم به. وربما أننا اعتدنا على هذا السلوك بحيث أصبح عادة واستمررنا في القيام به رغم أن الحاجة التي دفعتنا إلى القيام به لم تعد موجودة لدينا. إن فحص الأفكار التي تؤدي إلى سلوك معين يعكس قدرتك على تركيز انتباهك على نفسك. فأنت بذلك تحترم خياراتك وسلوكياتك، وتبدي “انتباهاً إيجابياً غير مشروط” تجاه نفسك. وعند التأمل، فإن المكان الوحيد الذي يمكن أن تبدأ منه هو عقلك. وبغض النظر عما يوجد هناك، ستُتاح لك الفرصة لكي تركز انتباهك عليه. سوف “ترى صوراً” و”تسمع أصواتاً” وتمر بتجارب بدنية حسية وتحس بردود فعل عاطفية. وبغض النظر عما تمر به من تجارب، فإنه نابع منك؛ إنه أنت. وربما أنه لا تُتاح لديك إلا لحظات قليلة بالفعل لتكون نفسك ببساطة. والآن، أمامك الفرصة، كن رءوفاً بنفسك، حتى وأنت تنتقد أساليب التأمل الذهني التي تتبعها!
كن رفيقاً بأفكارك
ابدأ التأمل باتخاذ وضع مريح. أحضر ورقة وقلم الرصاص لكي تستخدمهما إذا أردت أن تدوّن أي ملاحظات لنفسك.
1. ابدأ التركيز على ذهنك، ولاحظ كيف يبدأ جسدك في الاسترخاء. ربما تلاحظ أن تنفسك قد أصبح أبطأ. ستبدأ بعض المجموعات العضلية في التخلص من التوتر الموجود بها.
2. عندما تبدأ الأفكار الشاردة في الدخول إلى ذهنك، لاحظها، ودعها تمر.
3. أعد التركيز على ذاتك.
4. ربما تخطر على ذهنك فكرة مزعجة بصورة خاصة. فقط لاحظ هذه الفكرة ودعها تمر. إذا رفضت الفكرة أن تمر، فاكتب جملة أو اثنتين حولها.
5. ارجع إلى التأمل. كرر ما سبق لمدة خمس دقائق.
كم عدد الأفكار التي اضطررت إلى تسجيلها؟ هل هناك بعض الأفكار التي تبدو مهمة للغاية؟ هل مرت بعض الانطباعات بذهنك بدون أن تترك تأثيراً يُذكر؟ هل هناك بعض الأفكار التي ظلت تلح عليك وتخطر على بالك مراراً وتكراراً؟ عن طريق تركيز انتباهك بهذا الشكل، وكتابة الأفكار الملحة على الورق، أنت تعترف بالعملية الذهنية الخاصة بك. لا يوجد نقد هنا، ولا يوجد ناقد. أنت ببساطة تلاحظ الطريقة التي يعمل بها ذهنك.
في أثناء التأمل، ربما أتذكر شيئاً يجب أن أشتريه من المتجر. عندها، أمسك بالورقة والقلم وأكتب هذا الشيء. بهذه الطريقة، يمكن أن أسمح لهذا الشيء أن يمر من ذهني دون أن أخشى أن أنساه بعد انتهاء جلسة التأمل. في بعض الأحيان، أجد صورة أحد أصدقائي تلتصق بذهني. عندها، أكتب اسم هذا الصديق لكي أتذكر أن أتصل به أو أكتب له. وإذا ثارت في ذهني ذكرى لشيء حدث في الماضي وسبب لي شعوراً بالسعادة أو الغضب أو الحزن، فإنني أكتب جملة للاعتراف بهذا الجزء من تاريخ حياتي. وبعد فترة من التأمل، أجد أن عدد الأفكار الملحة قد قلّ كثيراً، وأن الأفكار التي تظل تلح عليّ تتخذ أهمية أكبر. ورغم أن تلك العملية لم تغير الكثير من حياتي الاجتماعية أو العملية، فإنني أشعر بأنني مررت بعلاقة متجددة مع نفسي، وفرت لنفسي فيها الاحترام والانتباه.
عن معنى التأمل، كتب خينبو كارثار رينبوش:
إن ممارسة التأمل شيء مهم في الحياة اليومية لأي شخص. والتأمل يعني أن نطبق الأسلوب المناسب للوصول إلى حالة ذهنية أكثر رقة وهدوءاً. وهو يشير أيضاً إلى عملية الاعتياد على هذه الحالة الذهنية الصحية. (من كتاب Transforming، ص 8).
ربما تجد أن هذه الحالة المسترخية والتي تبعث على احترام الذات تعطيك شعوراً بالتجديد والانتعاش. فكّر في الأمر: لماذا تلوم نفسك على كل شيء صغير يحدث في حياتك؟ أنت تقدم أفضل ما لديك طوال الوقت. بالإضافة إلى ذلك، فإن من حولك ينتقدون قراراتك وتصرفاتك بما يكفي من القسوة. وعندما تقضي بعض الوقت في تقدير ذاتك بدون أحكام وبصورة إيجابية أثناء التأمل، فإنك تقدم لنفسك هدية لا تُقدر بثمن.
ملاحظة أفكارك
يمكنك أن تقوم بهذا التدريب في أي وقت. كل ما تحتاج إليه هو بضع دقائق. من الممكن أن تقوم بهذا التدريب بدلاً من قراءة المجلات أثناء انتظارك موعد ما. إذا كان هناك بعض الناس حولك، ربما ترغب في إغلاق عينيك. سيعطي هذا إشارة واضحة لمن حولك أنك لا ترغب في الكلام. وإذا كنت وحدك، يمكنك أن تتخذ وضعية التأمل التي اعتدت عليها.
1. ابدأ التأمل كالمعتاد.
2. لاحظ أول فكرة تخطر على بالك.
3. بدلاً من أن تترك هذه الفكرة تمر، ركز انتباهك عليها للحظة. قيّم الفكرة أو أعد صياغتها في ذهنك.
4. ارجع إلى التأمل، مع عقد النية على البحث عن مزيد من المعلومات حول الفكرة.
5. لاحظ الفكرة التالية. قارنها بالفكرة الأولى. هل هناك علاقة بينهما؟ إذا لم يكن كذلك، فتخيل وجود رابط بينهما، ثم ارجع إلى تأملك.
6. لاحظ الفكرة التالية، وهكذا.
الهدف من هذا التدريب هو أن تلاحظ أفكارك بدون الحكم عليها. في هذا التدريب، تصبح أفكارك هي موضع تركيزك. ربما تشعر ببعض الفضول حول العلاقة بين الأفكار وبعضها البعض، ولكن لا تجهد نفسك في إنشاء روابط بينها. فقط لاحظ أن الأفكار تطرأ واحدة بعد الأخرى. وعندما تنتهي، في الغالب ستجد أن الفكرة الأولى مرتبطة ببقية الأفكار الأخرى. لقد بدأت هذه الفكرة وحدها ثم وضعت نفسها في صورة أكبر. هذه العملية تُشبه “أحلام اليقظة”. فأنت ببساطة تسمح لأفكارك بأن تطفو على السطح ثم تفحص هذه الأفكار بفضول.
ملخص
التدريب الأخير في هذا الفصل يوحي بإمكانية التعرف على الفكرة أو المشكلة ثم إتاحة الفرصة لذهنك بالانتقال إلى فكرة أخرى، بدون ضغط أو اتخاذ قرارات. ويعد هذا أسلوباً من أساليب حل المشكلات الذي يمكنك استخدامه في حياتك اليومية.
لقد وجدت أن عملية تنظيف مكتبي تُشبه عملية التأمل إلى حد كبير: فكل ورقة أو كتاب أو ملف يُشبه الأفكار التي تخطر على ذهني أثناء التأمل. وعندما أضع الأشياء في أماكنها، فإنني أسمح لذهني أن ينتقل بحرية من شيء إلى آخر بدون أي ارتباطات معينة. وعندما أنتهي، فإنني أعود إلى المهمة التي كنت أقوم بها بذهن أكثر صفاءً. بهذا الشكل، فإني ترفقت بنفسي بعدة طرق. فقد جعلت مكتبي أكثر نظاماً وجاذبية، وأعدت اكتشاف الأشياء التي بدا أنني قد فقدتها، وأعدت تنظيم حاجياتي بشكل أفضل بحيث أتمكن من العثور عليها في المستقبل بسرعة، وأعطيت لنفسي فترة راحة لمدة خمس أو عشر دقائق من الموضوع الكبير الذي كنت أتعامل معه. وأخيراً، قدمت لنفسي معروفاً بأن جعلت الأشياء المحيطة بي أكثر راحة.
في الفصل التالي، سنتعرف على أحد الأنماط التقليدية للتأمل، وهو الشاماتا أو الشيناري.