التصنيفات
صحة ورعاية الطفل

تناول الطعام بشكل صحيح هل هو متعة للطفل والوالدين أم مدعاة للتوتر؟

يتناول هذا الموضوع

• خبرات الوالدين وخبرات الأطفال وذكرياتهم الجيدة والسيئة المرتبطة
• المشكلات التي تظهر في عيادة طبيب الأطفال، وفي أي سن تظهر هذه المشكلات؟
• قواعد وأصول التغذية السليمة في السلوك والمحتوى الإكراه والقسر الغذائي

تتعدد وتتنوع خبرات الأطفال وخبرات الأمهات في مجال تناول الطعام، ويحمل كل منا في جعبته الخبرات الأليمة والخبرات الممتعة والمرتبطة بالغذاء وبمائدة الطعام. ولا أزال أذكر حتى اليوم حساء الطحين المسمى “الحريرة” المعد من الطحين المحمص بالسمن والمطبوخ بالماء والذي كانت أمي تسارع إلى إعداده بناء على توجيهات الجدة كلما شكا واحد من الأطفال من بلعومه أو لوزتيه أو أصيب بارتفاع بسيط في درجة حرارته.

كانت أختي الأصغر تكره هذا النوع من الطعام، وبسبب الإكراه الذي كانت تتعرض له كانت لا ترغب بتناول أي شيء. ولذا، وعندما أحضرت لها أمها طبق “الحريرة” إلى سريرها، شعرت بأنها ستختنق لمجرد شمّ رائحة الطعام ناهيك عن أكله! فما كان منها إلا أن أطبقت شفتيها وأشاحت بوجهها بامتعاض. وهنا بدأت المناوشات.. وككل الأمهات تبدأ المحاولات باللطف والمحبة: “هيا يا لينا، ملعقة من أجل ماما، وأخرى من أجل بابا، هيّا وأخرى من أجل الجدة” ويتصعّد التوتر حين تبدأ لينا بالبكاء قائلة، وتتلقى لينا الأمر “أنا لا أحبه!”: “يجب أن تأكلي أم أنك لا تريدين أن تتعافي؟ ”

وبين أخذ و رد، وتحت وابل من الدموع وكثير من التهديدات والترغيب تطعم الأم الطفلة وتنتهي الوجبة وقد أنهكت كل من الأم والطفلة…

تقول السيدة لينا الآن على الرغم من أن مقصد أمي كان طيباً بالطبع، إلا أنني حتى الآن وبعد ثلاثين عاما أشعر بانزعاج شديد في معدتي حين أفكر “بالحريرة”! وحتى اليوم أكره كل ما يمت بصلة لهذا النوع من الطعام. حتى أنني حين أطعم أطفالي طعاماً مشابهاً فإني أعاني كثيراً عندما اضطر لتذوقه! ”

ماذا عنكم أيها الأهل؟ هل يخطر على بالكم ذكريات من طفولتكم الشخصية حول موضوع “تناول الطعام”؟ رائحة ما، شعور ما، ذكرى معاناة مزعجة لا تزال تلاحقكم حتى الآن؟

تخلّف الخبرات السلبية في الطفولة حتماً آثارها في النفس، من توتر شديد وأعصاب مشدودة وضغوطات مرتبطة بتناول الطعام. فإذا ما أضيف إليها عاداتنا اليوم في الأكل التي لا نرضى عنها والوزن المزعج زيادةً أو نقصاناً، أصبحت عملية تناول الطعام أمراً معقداً ومتعباً ومملوء بالمطبّات التي قد نقع فيها. ولكن طفلك -سيدتي الأم -يحتاج، إضافة لتقديم طعام جيد على المائدة، إلى منحه ثقتك ومنحه الشعور بالثقة والطمأنينة والمحبة، التي قد تكونين حرمت منها في طفولتك، عندها فقط يستطيع الاسترخاء والأكل بشكل سليم. ودون هذه الثقة تبدأ المعارك على المائدة مما يعني توتراً مصاحباً لكل وجبات الطعام!

تناول الطعام متعة للطفل وللوالدين

من ناحية أخرى، ولحسن الحظ، فإن الحال ليست دائما سلبية هكذا. ويوجد أناس كثيرون بيننا ممن يملكون في الذاكرة رصيداً من الذكريات الجميلة التي تعود لأيام الطفولة وترتبط بتناول الطعام.

حدثتني إحدى الأمهات الشابات قائلة: “لا زلت أذكر وبكثير من الرضا مقدار المتعة المرتبطة بوجبة الفاكهة في منزلنا بدءاً من عودة والدي إلى البيت وقد أحضر صناديق البرتقال شتاءً، أو أعداداً من البطيخ صيفاً حيث كنت وإخوتي نتسابق لدحرجتها ضاحكين عبر المطبخ إلى المكان المخصص لها، وانتهاءً بوضع الطعام على المائدة واجتماع الأسرة حولها بكثير من المحبة والتودد والرضا “.

ومثال آخر أذكره من خبرتي الشخصية: “شخصياً، أتشارك مع أطفالي الثلاثة بكثير من الذكريات الجميلة والأخرى الأقل جمالاً والمرتبطة بتناول الطعام فقد كنت أستمتع بوجبات الطعام المشتركة التي يغمرها الجو اللطيف والتي كان أولادي يحدثوننا خلالها عن خبراتهم اليومية التي يمرون بها وما تحمله من مشكلات أو مسرات، مما مكننا، كأهل، أن نتعرف على نواحي جديدة وهامة في مسيرة نمو أطفالنا.. وأن نسهم في تطورهم وفتح الآفاق أمامهم.

فمثلا حين كانت ابنتي رشا في الثامنة من عمرها، وكنا جالسين معًا إلى مائدة عليها كل ما لذّ وطاب من الأطعمة كانت قد حضّرت خصيصاً احتفالاً بنجاحها، طرحت رشا أسئلة محددة عن الفقراء ومدى قدرتهم على تأمين الطعام اللذيذ لأولادهم ثم عن الأطعمة التي تقدّم في الوقت ذاته بكميات كبيرة تفوق الحاجة في الموائد المفتوحة في الحفلات الكبرى وعن مصيرها. وتشعّب النقاش إلى الحديث عن الجمعيات الخيرية والدور الهام الذي تقوم به في الحفاظ على الأطعمة من الهدر والاستفادة منها بالطريق الصحيح، وخلصنا في النقاش إلى نتائج هامة حول موضوع “التكافل الاجتماعي” والمشاريع التي تحقق هذا التكافل مثل مشروع حفظ النعمة الواقعي الذي يسعى لحفظ النعمة وعدم الهدر وتقديم المعونة في مجال الغذاء والدواء والملابس والأثاث..”

تتواجد خبراتنا حول الطعام المستمدة من أيام طفولتنا معنا على مائدة الطعام يومياً. فإن كانت وجبات الطعام قد احتلت مكانة متميزة في ذكرياتنا الحلوة وإن كنا قد استمتعنا بها فإن هذه الصورة سترافقنا حتى اليوم في كل مرة نجلس فيها إلى مائدة الطعام وبالتالي فإن تناول الطعام سيكون لدينا “أمراً طبيعيا ً” وسيكون بمقدورنا أن ننقل هذه الصورة الحلوة بما فيها من عادات وأجواء، إلى أطفالنا، وسيغلف السرور والرضا وجباتنا. وحين لا يكون الأمر كذلك فإن الخبرات السلبية تلقي بظلالها على المائدة دون شك كما ذكرنا.

خبرات من عيادة طبيب الأطفال

قام أحد أطباء الأطفال بدراسة إحصائية الهدف منها تسليط الضوء حول أعداد الأهالي الذين يجدون صعوبات في تغذية أطفالهم، وكانت النتيجة: خلال الشهور الأولى من الحياة – أي أثناء فترة الإرضاع – يبدو أن الأمور كانت تسير بشكل جيد، حيث أن نسبة قليلة من الأهالي (أقل من 5٪) أحسوا بأن السلوك الغذائي لأطفالهم الذين تتراوح أعمارهم بين ثلاثة شهور وسبعة يشكل مشكلة. ولكن اختلف الوضع تماما لدى الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين سنة وخمس سنوات: فقد قيّم بين 20-30٪ من الأهل سلوك أطفالهم الغذائي على أنه مشكلة، و7٪ على أنه مشكلة “كبيرة”.

لقد عبّر الأهل عن همومهم بالشكل التالي:

• “إن طفلي قليل الأكل، كانت نسبة أهالي الأطفال حتى عمر السبعة أشهر، الذين عبّروا عن هذا الرأي فقط 1٪ ولكن هذه النسبة ارتفعت إلى 20٪ لدى أهالي الأطفال الذين بلغوا أربع إلى خمس سنوات من العمر.

• “إن طفلي أحادي النوع في الطعام”، هذه الشكوى ظهرت بشكل أكثر تواتراً لدى أهالي الأطفال الذين بلغوا سنتين من العمر. وبلغت نسبة الذين عبروا عن هذه الشكوى 20٪ من أهالي الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 4 و5 سنوات.

• “إن طفلي يأكل كثيراً”، لم يعبر عن هذه الشكوى إلا القليل النادر من أهالي الأطفال دون الخامسة من العمر. وقد ظهرت لدى 4٪ على أبعد تقدير بين أهالي الفئات العمرية كلها.

نجد من استبانة رأي الأهالي إلى أن ما يشغل بال أهالي كثيرين، على الأقل، بالنسبة للأطفال دون السادسة من العمر كون طفلهم نحيلاً أو قليل الأكل.

قواعد التغذية السليمة

أياً كانت نسبة الأهالي الذين يعتبرون أطفالهم من “الأكلة السيئين”، فإن هؤلاء الأهالي مخطئون، لأن الأطفال الأصحاء لا يمكن أن يأكلوا أقل من حاجتهم إذا قدم لهم الطعام بكميات كافية. فهم يعرفون جيداً كم يحتاجون من الغذاء. وهم يعرفون ذلك بشكل أفضل من الأهل. وكلما كانوا أصغر سناً كلما كانوا أكثر معرفة من أهليهم بهذا الأمر. فالرضيع حين يشبع لا يمكن لأي قوة أن تكرهه على متابعة الرضاعة وإن أُكره فإنه يتقيأ.

يدرك الأهالي، أن أطفالهم يعرفون جيداً مقدار ما يحتاجون إليه من الغذاء ويثقون بمعرفة أطفالهم هذه، مادام الأطفال في الأشهر الأولى من العمر، ولكن، وللأسف، ما يلبث سلوك الأهل أن يجعل الأطفال غير قادرين على تحديد حاجتهم من الغذاء. وذلك حين يفقد الأهل ثقتهم بقدرة الطفل على تحديد كمية احتياجه من الطعام ويبدلونه هذه الثقة بقولهم: “إنك لا تستطيع أن تحدد احتياجاتك بنفسك لذا سنقوم عنك بهذه المهمة ونقرر لك كمية الطعام التي يجب أن تأكلها” وهذا خطأ خطير وشائع بين الناس ويمكن بل يجب تلافيه.

لذا سنتعرف منذ الآن ونحن لا نزال في البداية على قواعد التغذية السليمة التي صاغتها خبيرة التغذية والطبيبة المعالجة الأمريكية إلين ساتر والتي ظهرت عام 1999 على الصفحات الأولى من دليل التغذية الرسمي الصادر عن اتحاد أطباء الأطفال الأمريكان.

إذا راعيت أيتها الأم هذه القواعد واتبعتها دوماً سواء أكنت تعانين من مشاكل في تغذية طفلك أم لا فلا يمكن أن ترتكبي أي خطأ أبداً. صحيح أنها تبدو بسيطة ولكن التصرف حسبها ليس سهلاً. فخطر التلاعب في تطبيقها وارد ولكنه مرفوض. ونؤكد دوماً على أن من الصعب إقناع الأهل بأهميتها وصحتها.

قواعد التغذية السليمة

الأم تقرر:

• ماذا تقدم لطفلها من طعام.
• متى تقدم له الطعام.
• كيف تقدم له الطعام.

الطفل يقرر:

• إذا كان يريد أن يأكل من الطعام.
• كم يريد أن يأكل منه.
هكذا يتحدد دور الأهل في موضوع الطعام بوضوح.

ماذا: تعني:

• تنتقي الأم نوعية الطعام وتستعين في ذلك بمعلوماتها حول التغذية الجيدة والصحية.
• تحضر الأم الطعام.

متى: تعني:

• تحدد الأم كم مرة تقدم الطعام وتحدد أوقات تناول الطعام.
• تضع الأم الطعام على المائدة.

كيف: تعني:

• تحدد الأم قواعد السلوك الواجب مراعاتها أثناء تناول الطعام.
• تحاول الأم تحقيق الالتزام بقواعد السلوك.

• إذا كان الطفل لا يستطيع أن يأكل وحده، تقدم له المساعدة بحدود ما هو ضروري وبأقل ما هو ممكن تاركة له المجال للاعتماد على نفسه.
• تسعى الأم كي يخيم جو مريح.
• الأم قدوة جيدة تستمتع بتناول الطعام.

وبهذا تنتهي “مهمتك” أيتها الأم. وكل ما تفعلينه فوق ذلك يدخل في إطار التلاعب والغش. والآن جاء دور طفلك.

دور طفلك واضح أيضاً ويتحدد بما يلي:

• يأتي الطفل إلى المائدة الموضوعة على مستوى نظره ليرى ما فيها.
• يرى الطفل ماذا يوجد من طعام. يحدد الطفل بنفسه: إذا كان يريد أن يأكل شيئاً من هذا الطعام.
• يختار الطفل بنفسه: ماذا يريد أن يأكل منه.
• يقرر الطفل بنفسه: كم يريد أن يأكل منه.
• يتوقف الطفل عن تناول الطعام، حين يكون قد أخذ كفايته.
• يراعي الطفل قواعد السلوك الخاصة بتناول الطعام التي تضعينها.

تصلح قواعد التغذية السليمة للطفل الصغير حتى يصبح فتى. وفي حالة الطفل الصغير الذي لا يستطيع بعد الأكل وحده يسمح لك أن تساعديه بشرط أن تفهمي إشاراته المتعلقة بالانتقاء والبدء والانتهاء وأن تفسريها بشكل صحيح.

لا تحتمل قواعد التغذية السليمة التأويل على عدة وجوه، ورغم هذا لا يزال أهالي كثيرون يعملون أكثر من اللازم في مجال تغذية أولادهم ويقحمون أنفسهم حيث دون أن يفسحوا المجال للطفل ليؤدي دوره. فهم يريدون أن يلعبوا دوراً في موقف الطفل فيما إذا كان يريد أن يأكل شيئاً أم لا يريد. ويريدون أن يكون لهم رأي فيما يختاره الطفل لنفسه من الطعام الذي قدم له. ويريدون أن يحددوا الكمية التي يأكلها الطفل. وهذه التصرفات كلها مخالفات للقواعد وتؤدي دائماً إلى النتيجة نفسها: التوتر على مائدة الطعام. تذكروا لينا الصغيرة المريضة التي تحدثنا عنها في بداية هذا الموضوع. لقد خرقت أمها قواعد اللعبة كافة حين أطعمتها وخلافاً لرغبتها وجبة الحريرة. حاولوا الآن أن تتذكروا خبراتكم الخاصة في التوتر على مائدة الطعام والتي كان سببها بشكل رئيس ارتكاب أهلكم لمخالفات لقواعد التغذية السليمة.

ومن جهة أخرى، يجب الانتباه إلى أن الأطفال يتصرفون ضد قواعد اللعبة حين يقصر الأهل في العمل، مثلاً حين يترك الأهل للطفل مهمة اختيار ما يوضع من طعام على المائدة، أو مهمة تحديد موعد تناول الطعام أو مهمة تحديد قواعد السلوك على مائدة الطعام، هذا إن وجدت أي قواعد سلوكية أصلاً. في هذه الحالات جميعها يؤدي خرق قواعد التغذية السليمة إلى التوتر والمسرحيات لدى تناول الطعام.

هل بمقدوركم أن تتصوروا، أن كل طفل يستطيع، حين يلتزم والداه تماماً بقواعد التغذية أن يتناول الطعام بشكل سليم. يعبر أهالي كثيرون عن قلقهم بقولهم: “إن كان طفلي هو الذي سيقرر فيما إذا كان يريد أن يأكل وكم يريد أن يأكل، فإنّ هذا لن يؤدي إلى نتائج إيجابية أبداً، لأنه لن يأكل أشياء مفيدة، كيف ذلك وهو من الآن متعب جداً في تناول بضع ملاعق من الخضار! ”

وأنتم أيضاً، أعزاءنا القراء، ربما لا يزال لديكم بعض الشك والقلق لذا فمن أهداف هذا الكتاب أن يمنحكم الشجاعة ويحرركم من الشك في أن طفلكم أيضاً يستطيع أن يأكل بشكل سليم إذا التزمتم بقواعد اللعبة وأن يصل بكم إلى القناعة أن من اختصاصكم تحديد ماذا يأكل طفلكم ومتى يأكل وكيف يأكل. ليس من السهل إنجاز المهمة، ولكن هذا لا يمنع من أن تركزوا على مهمتكم وتتركوا الباقي لطفلكم: إذا كان يريد أن يأكل وكم يريد أن يأكل.

الخلاصة في سطور

• تلعب ذكريات طفولة الأهل دوراً هاماً في تعاملهم مع أطفالهم في مجال التغذية.

• يقلق أهالي كثيرون حول سلوك أطفالهم تجاه تناول الطعام. وأثبتت دراسة اعتمدت على نتائج استبانة وزعت في عيادة طبيب الأطفال أن أهالي الأطفال دون السادسة من العمر عبروا عن مخاوفهم بعبارة: “إن طفلي قليل الأكل”، بينما عبرت قلة قليلة من الأهالي عن قلقها بقولها: “إن طفلي كثير الأكل”

• تقول القاعدة الحاسمة في التغذية السليمة:

أنت تقررين: ماذا تقدمين لطفلك من طعام، متى تقدمينه وكيف..
طفلك يقرر: إذا كان يريد أن يأكل وكم يريد أن يأكل.

تأليف: بشار بكور (استمتعي بتغذية طفلك من الولادة وحتى السادسة من عمره)
إعداد: أ. ناديا شبيب / د. محمد الشلاح