في الوقت الذي يغلب فيه اهتمام الناس بوباء محدد يشغل بالهم، ويجعلهم يعيشون في حالة من التوجس، الخوف أو الهلع، كما جرى مع وباء الأنفلونزا منذ سنوات، أو جرثومة الإيكولاي (E.COLI) التي غزت عدة مدن ألمانية ومنها إلى بلاد أوروبية أخرى في الفترة الأخيرة؛ يبدو من المهم التنبه أيضاً إلى أمراض أخرى معدية لا تزال تجد أرضاً خصبة لها في بلدان عديدة، وخصوصاً حيث أماكن التجمعات العامة، المغلقة بخاصة (المدارس، دور الحضانة..).
يشكل مرض جدري الماء أحد أكثر هذه الأمراض تعرضاً للعدوى والانتشار بعد الأنفلونزا، بسبب سرعة انتقاله وإمكانية إحداثه إصابات، شكلت فيما مضى وباء بين الأولاد والأطفال، وحتى الكبار، لاسيما في الفترة التي سبقت وضع اللقاح قيد التداول منذ عقد ونيف.
يصيب هذا المرض الأطفال والأولاد بخاصة بين سن العامين والعشر سنوات، لمرة واحدة في العمر، ويؤدي إلى مناعة قوية تمنع معاودة المرض ثانية. وهو نادراً ما يصيب الأطفال قبل سن الستة أشهر، نظراً لوجود أجسام مضادة في دم المولود الجديد، نُقلت إليه من دم أمه عبر الحبل السري خلال فترة الحمل؛ وتدوم هذه المناعة فترة أطول في حال الرضاعة الطبيعية من الثدي.
العدوى
سبب جدري الماء فيروس نوعي يدعى الفيروس النطاقي الحماقي (varicella zoster virus) وهو ينتمي إلى عائلة فيروس هيربيس (Herpes) الذي ينتقل بسرعة فائقة وينتشر بين أفراد العائلة، مصيباً الواحد تلو الآخر، ومن ثم ينتقل إلى تلاميذ المدارس فالمجتمع.
تحصل العدوى بالمرض عن طريق الهواء بواسطة رذاذ اللعاب (خلال العطس، السعال أو التكلم)، أو باللمس المباشر للحويصلة التي تميز طفرة المرض في أنحاء محددة من الجلد، وهي زهرية اللون وتحوي سائلاً شفافاً.
تدوم فترة حضانة الفيروس لأسبوعين تقريباً، يكون المصاب خلالها شديد العدوى، وتختفي هذه العدوى عند جفاف الحويصلة التي ينتج عنها حدوث القشرة ومن ثم سقوطها.
علامات المرض
علامات المرض تبدو خفيفة عموماً، تتمثل بارتفاع معتدل في درجة الحرارة الداخلية في مجمل الحالات، يرافقها صداع في الرأس وألم في الحنجرة وبعض الأوجاع في المفاصل والعضلات، يواكب ذلك تعب عام وسرعة انفعال. يبدأ بعدها ظهور بثور جلدية خاصة بالمرض، على شكل طفرة جلدية حمراء اللون ومؤلفة من حويصلات تحتوي على سائل شفاف. تظهر هذه الحويصلات أولاً في الصدر والظهر ثم تنتشر في بقية أعضاء الجسم (الوجه، جلدة الرأس، الفم، الأعضاء التناسلية..)؛ وما يميز الحويصلة هو سرعة تطورها حيث تبدأ بالجفاف بعد يومين من ظهورها، لتبدأ حويصلات أخرى بالظهور (وهنا نستنتج ظهور حويصلات «بأعمار» مختلفة، ما يعطي للمرض علامة مميزة تفرقه عن أمراض جلدية أخرى)، وتحتاج القشرة أسبوعاً من الوقت حتى تتكون.
تدوم الطفرة بين ظهورها واختفائها أسبوعين في المعدل العام. ويرافق هذا المرض حكة حادة ومؤذية، إذ يمكنها أن تترك ندوباً إذا ما استمرت طويلا؛ وهي قد تتعرض للعدوى بالجراثيم فتحدث إنتاناً في الجلد على شكل دمامل صغيرة لتمتلئ من ثم بالقيح؛ مع إمكانية حصول مضاعفات عند انتقال الجرثومة إلى أعضاء أخرى في الجسم. لكن عموماً لا يؤدي المرض إلى مشاكل خطيرة أو جدية إلا في حالات نادرة، حين تحصل مضاعفات على مستوى الجهاز العصبي كالتهاب الدماغ أو الرئتين.
إجراءات الحماية والوقاية
تشكل إجراءات العزل الصحي للأطفال والتلاميذ، المصابين بجدري الماء، الوسيلة الأولى لمنع انتشار المرض، لا سيما في المدارس ودور الحضانة للحد من العدوى وسرعة انتشارها.
تتراوح فترة العزل في المنزل بين أسبوع وعشرة أيام، ومن المهم حماية الأولاد المصابين بالربو الذين يعالجون بدواء الكورتيزون أو مشتقاته، أو الذين يعانون اضطراباً في جهازهم المناعي (استئصال الطحال، السيدا أو الايدز..)، أو الأشخاص الذين خضعوا لعملية زرع أعضاء، أو المرضى الذين يتناولون الأسبرين بشكل دائم كالمصابين بداء المفاصل المزمن أو داء السرطان، والنساء الحوامل والأطفال الخدج (المولودين قبل أوانهم)، كل هؤلاء معرضون لارتفاع نسبة المضاعفات (نزيف حاد، إنتان خطر، التقاط جراثيم مقاومة للمضادات الحيوية..).
إلى جانب هذه الاحتياطات للحماية الفردية والجماعية على السواء، من المهم الإشارة إلى بعض الخدمات الصحية والوسائل الوقائية الواجب أخذها في الاعتبار، والمحافظة على قواعد النظافة العامة عند المصابين بجدري الماء وأهمها:
• غسل أيدي المصابين بمحلول مطهر بشكل متكرر، وهذا الأمر يسري على الأشخاص الذين يقدمون إليهم الخدمات الصحية.
• تقليم الأظافر جيداً لمنع انتقال عدوى جرثومية إلى الحويصلات (من خلال الحك).
• المحافظة على درجة حرارة معتدلة داخل غرف المنزل، حيث يجلس الأطفال المصابون وينامون، لأن الارتفاع الزائد في درجة حرارة الجو يفاقم إمكانية الحكة بسبب كثرة إفراز العرق.
• عدم تعريض الطفل لأشعة الشمس لفترة طويلة، منعاً لانتشار الطفرة الجلدية إلى الأماكن السليمة من الجلد.
• إعطاء كميات كافية من السوائل لمنع التجفاف، وتأمين التغذية بأطعمة سهلة العلك والهضم (ظهور بثور في أغشية الفم واللسان أغلب الأوقات)، على أن تكون التغذية بواسطة الحساء والحبوب المطحونة، الخضار المسلوقة والفاكهة، والابتعاد عن الأطعمة المالحة أو التي تحتوي على التوابل الحادة والحوامض لمنع إثارة الحويصلات في الفم.
• تبقى الوقاية الفعالة من مرض جدري الماء عن طريق اللقاح، وقد وضع قيد التداول منذ ما ينوف على عقد من الزمن، وهو يطبق حالياً في معظم بلدان العالم، ويحمي الأولاد والأطفال بنسبة عالية (85 %) لفترة طويلة الأمد.
يعطى اللقاح ابتداء من عمر 12 شهراً، بواسطة حقنة تحت الجلد على أن تعطى حقنة تذكيرية بحدود عمر 4 إلى 5 سنوات للحماية من التعرض فيما بعد لمرض الهربس النطاقي (Herpes zoster) المعروف بالعامية بالحزام الناري أو (زنار نار)، نظراً للألم المبرح الذي يحدثه عند إصابة الأعصاب المحركة للعضلات في القفص الصدري، ما بين الأضلاع خصوصاً.
من المهم الإشارة، قبل الختام، إلى حسنات اللقاح من ناحية عدم اضطرار المرأة العاملة للبقاء إلى جانب طفلها المصاب خصوصاً وأن العدوى تنتقل من طفل إلى آخر داخل العائلة الواحدة.