يشكل الدم خليطاً من الكريات الحمراء (ودورها الأساس نقل الأوكسجين إلى أعضاء الجسم كافة) والكريات البيضاء (للدفاع ضد الجراثيم وتكوين جهاز المناعة) والصفائح الدموية (لبلسمة الجراح في حالات النزف)؛ تسبح كل هذه المكونات في سائل يدعى المصل الذي يحوي، إضافة إلى هذه المكونات الثلاثة الأساسية، مواداً أساسية للحياة: الأملاح المعدنية، الغليكوز (أو السكر)، الفيتامينات، الهرمون والأجسام المضادة لبعض الأمراض المكتسبة وغيرها من المكونات البيولوجية الضرورية لوظائف الجسم.
مما تتكون الكريات الحمراء؟
تمثل الكريات الحمراء، موضوع بحثنا، الوحدات الأساسية للدم الأحمر والذي تصبغه بلونها. هي على شكل دوائر لا يتعدى قطر الواحدة سبعة ميكرون (الميكرون يساوي واحد على ألف من الميليمتر). تحمل الكرة الحمراء في داخلها خضاب الدم (hemoglobin) الذي يتألف بدوره من جزأين، الجزء الأول مادة بروتينية (globin) تحتضن الجزء الثاني وهو الصباغ (الحديد) (Heme) ومن هنا جاءت التسمية (هيموغلوبين hemoglobin).
خلال عملية الشهيق يلعب الجزء المكون من الحديد دور «ساعي البريد» لعملية التنفس فهو يحمل الأوكسجين إلى أنسجة الجسم وخلاياه؛ ليعود محملاً بثاني أكسيد الكربون، للتخلص منه في الرئتين بواسطة الدورة الدموية الصغرى خلال الزفير.
من هنا يتبين لنا الدور الذي تلعبه الكريات الحمراء في وظائفها الفيزيولوجية العادية منذ الولادة وحتى الرمق الأخير من الحياة، وإن أي خلل في شكلها أو عددها (يتراوح عادة بين أربعة ملايين ونصف وخمسة ملايين في كل ملليمتر مكعب من الدم)، أو أي علة في تكوين الخضاب، يؤثران على عملية التنفس أولاً، ثم على بقية أعضاء الجسم (القلب، الدماغ…..) ويحدثان اضطراباً أساسياً لناحية التموين بالأوكسجين نتيجة لهذا النقص الحاد في الكريات الحمراء (كماً أو نوعاً)؛ هذا ما يسمى طبياً: فقر الدم أو «أنيميا» (Anemia)؛ وأشكالها السريرية متعددة تؤدي إلى مخالطات أو تداعيات مختلفة.
أعراض فقر الدم عند الأطفال
فقر الدم، أحد الأمراض الواسعة الانتشار في مختلف مراحل النمو عند الأطفال؛ حيث تتسم كل مرحلة بعلاماتها المرضية وتداعياتها المختلفة، لا سيما إذا كان فقر الدم حاداً (نزف مثالاً) أو هو يتكون تدريجاً، نتيجة نقص أو سوء في التغذية؛ هذا ما يحدث في كثير من البلدان التي تعاني الفقر والعوز (أفريقيا، آسيا وبعض دول أميركا الجنوبية أو الوسطى)؛ إلى جانب وجود أسباب أخرى لفقر الدم، منها ما هو تكويني، لخلل في إنتاج الكريات الحمراء من مصدرها الأساسي في النخاع العظمي، أو لعاهة في تكوين خضاب الدم، ما يؤدي في النهاية إلى النقص في الكريات الحمراء. عند الولادة يحوي جسم المولود الجديد 15 % من وزنه من الدم، أي ما يشكل 400 إلى 500 ملليتر لدى الطفل المولود في أوانه (مدة الحمل 42 أسبوعاً)؛ تزداد الكمية مع مراحل النمو لتستقر على 5 إلى 5.4 ليترات عند سن البلوغ.
تشكل مادة الحديد عاملاً أساسياً في تكوين الدم الأحمر، والمولود الجديد لديه مخزون من الحديد يكفيه لمدة ثلاثة شهور تقريباً؛ من هنا تبرز أهمية إمداد الرضيع بمحلول الحديد ابتداءً من هذا العمر، للوقاية من فقر الدم؛ لاسيما عندما نعلم أن الحليب الذي يتناوله الطفل (أكان من الثدي أو بواسطة مسحوق الحليب بالقنينة)، لا يحوي الكمية الكافية من الحديد لمد الكريات الحمراء بها، إذ إن للكريات فترة حياة لا تتجاوز 120 يوماً وهي عرضة للتكسر والانحلال؛ لتتجدد بعدها، ما يشير إلى أهمية إمداد الجسم بمادة الحديد في مختلف فترات النمو لسد الحاجة إليه وبخاصة عن طريق التغذية (لحوم حمراء، بقول، حبوب، أجبان، خضار، فاكهة مجففة كالمشمش مثلاً).
يؤدي فقر الدم لدى الرضيع إلى شحوب الجلد (Pallor) وخصوصاً على مستوى الملتحمة داخل جفون العيون (Conjunctiva) وهي علامة سريرية تظهر متأخرة نسبياً في حالات فقر الدم، وتسبقها علامة مرضية مهمة هي قلة الشهية للطعام (anorexia)، مع تغيرات في تصرف الطفل كالإثارة أو العكس، الركود والهمود وقلة الحركة.
يصاحب هده الأعراض ارتفاع الحرارة الداخلية لجسم الطفل (38 إلى 38.5) درجه مئوية مع تسرع في نبضات القلب (Tachycardia)، اضطراب في التنفس على شكل لهاث سطحي وخصوصاً عند الجهد (فترات الرضاعة)؛ كما يستنتج عند سماع القلب وجود نفخة في القلب (murmur) تعبر عن خلل وظيفي، ويبدو أثر ذلك واضحاً على نمو الطفل حيث يستنتج الطبيب المتابع الركود في وزن الطفل وأثره على نموه الجسدي العام (الوزن، الطول، محيط الجمجمة الذي يعبر عن نمو الدماغ داخلها)؛ مع وجود تأثيرات جانبية على نموه النفسي الحركي.
لدى الأطفال الأكبر سناً يضاف إلى تلك العلامات ظاهرة التعب (fatigability) وخصوصاً عند القيام بالجهد (صعود الدرج، الركض، ممارسة الرياضة في المدرسة) مع قلة شهية واضحة للطعام، لا تنفع معها فيتامينات الأهل، وما يتبع ذلك من تأثير على العطاء المدرسي من خلال النقص في التركيز في الصف أو النعاس والتعب العام.
أسباب فقر الدم عند الأطفال والأولاد
يختصر هذا البحث بالتركيز على أسباب فقر الدم الناتج عن نقص أو سوء التغذية، بغض النظر عن الأسباب الأخرى (فقر الدم المنجلي، عاهة التلاسيميا) أو غيرها من الاضطرابات التكوينية التي تصيب مصدر إنتاج الكريات الحمراء (في النخاع العظمي عموماً).
أهم أسباب فقر الدم هي: النقص في مادة الحديد عند الأطفال المولودين قبل الأوان (premature) والتوائم (twins) وحالات النزيف ما حول وخلال الولادة وأمراض الالتهابات في المصران والإصابات بالأمراض الطفيلية في بعض البلاد الاستوائية والإسهالات المزمنة والالتهابات المتكررة (المسالك البولية، دائرة الأنف الأذن والحنجرة)، إلى بعض حالات النزيف غير المرئي (المجهري من خلال تحاليل مخبرية: البول والبراز خصوصاً)، أو عند اتباع نظام غدائي يحوي نسبة عالية من البروتين لاسيما لدى الأطفال الرضع، يحدث غالباً عند التأخر في إدخال الوجبات المتنوعة بعد الشهر الخامس من عمر الطفل، والبقاء على مادة الحليب وحدها وبخاصة من نوعية حليب كامل الدسم.
ومن أسباب فقر الدم نذكر النقص في كمية البروتين المطلوب أن يحصل عليها الطفل يومياً، ما يؤثر سلباً على تكوين خضاب الدم، وبالتالي النقص في عدد الكريات الحمراء.
ومن العوامل التي تلعب دورها في التسبب بفقر الدم: النقص في بعض الفيتامينات اللازمة لتكوين الكريات الحمراء كالنقص في حامض الفوليك (Folic Acid)، أو العوز في فيتامين أساسي (Vitamin B12)، أو النقص في مادة الزنك (Zinc) التي تطبع أثرها في بعض أنواع فقر الدم، أو غيرها من المواد النادرة الوجود في جسم الإنسان.
أخيراً، إلى جانب العوامل المسببة لفقر الدم، من المهم لفت الانتباه إلى أسباب أخرى عائده لتناول بعض الأدوية التي يصفها الأطباء، من فصيلة المضادات للأوجاع والأورام (Anti-inflammatory) أو ضد الاحتقان في حالات الكدمات التي تترافق مع آلام؛ ليقوم بعدها بعض الناس بتناول هذه الأدوية بشكل شبه دائم، ودون استشارة الطبيب، لتخفيف آلامهم دون اعتبار مفعولها الثانوي السلبي على صحتهم، ما يؤدي إلى نزف بطيء ومزمن في الجهاز الهضمي لا يرى بالعين المجردة، ومن ثم ظهور حالة فقر دم ليس لها أية علاقة بأي نقص أو عوز.