في نظرة سريعة على تطور الطب الوقائي والإنجازات الباهرة التي تحققت حتى يومنا هذا، بدءاً من اكتشاف اللقاح ضد شلل الأطفال في منتصف القرن الماضي، لنرى بعدها كيف فتحت الآفاق لاكتشاف لقاحات أخرى ضد أمراض قاتلة أو معيقة (الحصبة، الخانوق، داء السحايا)؛ وتطول لائحة اللقاحات لتصل حالياً إلى ستة وعشرين لقاحاً فعالاً ضد العديد من هذه الأمراض التي تشكل خطراً داهماً على صحة الكبار والصغار على السواء، ما أدى إلى التراجع الملحوظ لانتشار الأوبئة واندثارها مع حملات التلقيح المتواصلة سنوياً.
هذا ما يدفعنا إلى التحدث عن لقاح حديث العهد، وُضع قيد التداول منذ سنوات، ضد مرض في غاية الأهمية والخطورة لدى المرأة، عنينا اللقاح ضد سرطان عنق الرحم، وهو آخر ما توصل إليه الطب الوقائي في هذا المجال.
أسباب المرض
بادئ ذي بدء، من الطبيعي الإجابة على كثير من التساؤلات وردود الفعل المتعجبة عند الناس، أكثر الأوقات، عندما نتكلم عن لقاح ضد السرطان. طبعاً لهؤلاء الحق بالسؤال عندما يعرفون أن سبب هذا المرض الخطير هو ميكروب من نوع الفيروس (Virus)، وقد تم تحديد هويته بعد سنوات عديدة من الأبحاث والاختبارات في أكثر البلدان المتقدمة علمياً وطبياً (أوروبا، أميركا)، قبل وضع اللقاح في خدمة الإنسان.
ينتمي هذا الفيروس إلى عائلة الورم الحليمي البشري (HPV)، يتفرع من هذه العائلة الفيروسية حوالي مئة فئة تختلف عن بعضها بدرجة وحدة خطورتها من فئة إلى أخرى؛ وقد تبين علمياً أن أكثرها خطورة هي فئات (16، 18، 31، 33، 45) وتؤدي إلى تورمات خبيثة، إلى جانب فئتي (6 إلى 11) التي تسبب إصابات حميدة على شكل ثآليل.
أُخذت من خلال هذه الفئات عينات مجهرية تتكون من أجسام بروتينية، تؤلف الخصائص الوراثية للفيروس، بطريقة أن جسم المرأة يدافع ضد هذه الأجسام التي أُدخلت في اللقاح (أجسام غريبة على جسم المرأة)، فيقوم الجهاز المناعي للمرأة أو الفتاة بإنتاج أجسام مضادة لهذا اللقاح والتي تتمركز في مكان الإصابة وخصوصاً في غشاء عنق الرحم. ومن المهم أن نعلم أن جسم المرأة المصابة بهذا النوع من الورم الخبيث، لا ينتج أجساماً مضادة لهذه الجرثومة المسببة للسرطان نظراً لطبيعة تموضع هذه الجرثومة حيث تبقى كامنة داخل غشاء عنق الرحم أي في المكان الذي ينمو فيه الورم وعلى وتيرة بطيئة، ليكبر ويتضخم معلنا عن نفسه بعد فترة طويلة، ربما تمتد لسنوات ودون أن يحرك جسم المرأة المصابة ساكناً للدفاع والحماية.
الوقاية والحماية
هنا تأتي أهمية اللقاح للوقاية والحماية ضد هذا المرض الخطير والفتاك والذي يودي، حسب الدراسات المنشورة في أشهر الدوريات الطبية (الأوروبية والأميركية)، إلى وفاة امرأة واحدة كل دقيقتين عبر العالم بعد إصابتها بهذا الورم الخبيث، ما يعني وفاة نصف مليون امرأة كل عام في أرجاء العالم جراء هذا المرض القاتل والخطير.
وعندما نعلم أن هذا الفيروس يتمركز بخاصة في الجهاز التناسلي لدى المرأة في 93 % من الإصابات (هناك إصابات جلدية وغيرها) وفي عنق الرحم بالذات، ما يظهر أهمية اللقاح الذي أثبت فعاليته في 80 % من الحالات.
وقد توصلت نتيجة الدراسات المخبرية ونتائج التلقيح، أن اللقاح يؤمن نسبة حماية عالية تصل إلى 90 % كلما كانت عملية التلقيح باكرة وخصوصاً لدى الفتاة اليافعة (12 إلى 16 عاماً)، وأن ليس للأمر علاقة بمرحلة بلوغ الفتاة أو فترة النمو الجسدي التي تمر بها في هذا العمر.
من هنا نستنتج أن الحماية الباكرة للفتيات بالتلقيح ضد هذا المرض، وقبل فترة الزواج بسنوات، يؤمن لهن الحماية الكاملة، بينما تبين أن اللقاح الذي حصلت عليه المرأة الشابة بعد الزواج، أو في المراحل المتقدمة من العمر بعدها يعطي نتيجة مناعية أقل نسبياً ولكنه يبقى فعالاً. كما أنه من المهم الإشارة إلى أن الفتاة غير المتزوجة يمكن أن تصاب بهذا الفيروس الخطير، وقد سجلت إصابات قبل الزواج لدى فتيات بين 20 و25 عاماً من العمر.
وحسب تقديرات منظمة الصحة العالمية (WHO) فإن الإصابات بهذا المرض هي في ازدياد حتى حلول العام 2050، حيث أن المنظمة المذكورة تتوقع تكاثر نسبة المرض لتبلغ مليون حالة سنوياً، ما يشكل خطراً دائماً وفتاكاً، بينما يمكننا القضاء عليه بسهولة طالما أن اللقاح متوافر الآن بين أيدينا.
في لبنان، وحسب الجمعية اللبنانية للتوليد والأمراض النسائية، تسجل سنوياً تسعون حالة جديدة من إصابات سرطان عنق الرحم، غير أن هناك ما يشير إلى وجود ما يقارب 260 حالة إصابة، ويتم تشخيص نسبة خمسين إلى سبعين في المائة من إصابات سرطان عنق الرحم في مراحل متطورة من المرض، ما يستوجب العمل على توعية النساء على أهمية إجراء اختبار فحص يسمى اختبار باب أو تلطيخ عنق الرحم (Pap Smear) بشكل دوري، إذ يساهم هذا الفحص في الكشف المبكر عن سرطان عنق الرحم، وبالتالي معالجته في مراحله الأولى، والشفاء منه بشكل تام؛ ولكن من المهم الإشارة في هذا المجال إلى أن نظافة الفحص لا يمنع من الحصول على اللقاح، بالعكس هذا ما يشكل صمام أمان دائم ضد المرض، كما أن التلقيح لا يعفو من المداومة على إجراء هذا الفحص سنوياً.
ومع الاستنتاج العملي الواضح من خلال عمليات التلقيح الدورية والمنظمة، والتي أجريت في العقود الثلاثة الماضية بخاصة، نرى اندثار الكثير من الأمراض والتي كانت تنتشر على شكل أوبئة فتاكة وتودي بحياة الملايين من الناس عبر العالم، وأطباء الأطفال هم أكثر من توصل إلى هذا الاستنتاج؛ وآخر مثال على ذلك لقاح جدري الماء، مع العلم أنه مرض حميد عموماً، لكنه مزعج للطفل والأهل ويعرض حياة الطفل للخطر، وإن كان في حالات نادرة (التهاب الدماغ) ولذلك، نرى أنه منذ البدء باستعمال هذا اللقاح منذ سنوات، تدنت نسبة الإصابات بهذا المرض بشكل ملحوظ، وأطباء الصحة المدرسية هم في وضع من يشهد ويبين ذلك في صفوف التلامذة بين 3 و10 سنوات وذلك من سنة إلى أخرى.
كيفية العلاج الوقائي باللقاح
يشكل اللقاح ضد سرطان عنق الرحم علاجاً وقائياً بامتياز، وقد صادقت الوكالة الأميركية للدواء والغذاء (FDA) خلال عام 2006، على لقاحات الورم الحليمي البشري التي تحمي الفتيات والنساء من الإصابة بسرطان عنق الرحم. وفي العام 2010 حددت اللجنة العلمية في نقابة الأطباء في لبنان، إعطاء اللقاح للفتيات أو النساء اللواتي تتراوح أعمارهن بين الحادية عشرة والسادسة والعشرين عاماً، كما أعطت الحرية للأطباء في إعطاء اللقاح للفئات العمرية الأكبر سناً.
هذا مع العلم أنه يتوافر حالياً نوعان من اللقاح ضد هذا المرض، الأول يحوي على أربعة أنماط من الجرثومة المسببة للإصابة؛ اثنتان ضد الورم الخبيث (16 و18) واثنتان ضد الإصابة الحميدة التي تشكلها الثآليل التناسلية (6 و11)؛ أما اللقاح الثاني فهو يحوي النمطين الأولين ضد الورم الخبيث، ونتيجة اللقاحين متطابقة من ناحية الحماية المناعية، وهما يحميان 90 % من الإصابات السرطانية لعنق الرحم. وهذا ما يعد تطوراً بالغ الأهمية في مجال الطب الوقائي ومكافحته للأورام السرطانية عند المرأة؛ إذ يشكل سرطان عنق الرحم الإصابة الخبيثة الثانية للمرأة بعد سرطان الثدي الذي يحتل المرتبة الأولى.
ومن المفيد في الختام التركيز على نقطة أساسية للحماية والوقاية الباكرة لدى الفتاة، إذ أنها منذ طفولتها ولغاية 14 عاماً تكون في نهاية المرحلة التي حصلت فيها على الرعاية الطبية من قبل طبيب الأطفال والأولاد، لتبدأ بعدها فترة النمو الجسدي والسيكولوجي كفتاة يافعة، وتدخل من ثم في طور التحضير للأمومة في مرحلة لاحقة، وفي هذه الفترة بين 14 و21 عاماً، نادراً ما تكون الفتاة خاضعة لرقابة صحية متواصلة كما كانت في مراحل طفولتها الأولى، فلا هي بحاجة لطبيب الصحة العامة إلا عند الحاجة، ولا هي مضطرة لمراجعة الطبيب النسائي إلا في حالات خاصة ونادرة.
من هنا تأتي أهمية الحصول على اللقاح ضد سرطان عنق الرحم، والفتاة لا تزال تحت الرقابة الصحية لطبيب الأطفال والأولاد، نظراً لمعرفته الواسعة باللقاحات وخبرته الطويلة بالأمراض الخطيرة عند الأولاد وسبل الوقاية منها، كما هي الحال في هذا اللقاح، إذ هو على صلة دائمة بالأهل حيث يذكرهم بشكل دوري بمواعيد اللقاحات والجرعات التحصينية لها، ويضعهم في أجواء كل جديد يطرأ في هذا المجال.