يمسك الأهل بين أيديهم بمفتاح مساعدة أولادهم على التعاون معهم بمجرّد تذكّرهم هذه المعادلة المهمّة: قدرة زائد حافز تساوي أداء. فالإنسان، أياً كان عمره، لا يكفي أن يكون قادراً جسدياً وفكرياً على القيام بما يتعيّن عليه فعله فحسب، إنما يُفترض به أن يكون راغباً بالقيام به أيضاً. فإن أراد الأهل مثلاً من ولدهم أن يتعاون معهم ويُنفّذ طلبهم بأن يرتدي ثيابه، فينبغي على هذا الأخير أولاً أن يعرف كيف يرتدي ثيابه بمفرده، كما وأنه بحاجة أيضاً إلى سبب وجيه ومقنع يحثّه على ارتداء ثيابه.
في الواقع، إن مشكلة الأهل هي التاليّة: ما هو مهمّ بالنسبة إليهم، قد لا يكون كذلك بالنسبة لأولادهم. فربّما يريدون من أولادهم أن يرتدوا ثيابهم لكي يصحبوهم إلى الحضانة ويتمكنوا بالتالي من بلوغ عملهم في الموعد المحدّد، في حين أن أولادهم قد يرغبون بالإستمرار في اللعب بألعابهم، إذ ليس لديهم بعد أي علم بمفهوم الوقت. لذا يتعيّن على الأهل هنا أن يفعلوا ما يلي: أولاً، أن يتأكدوا أن بإمكان أولادهم أن يرتدوا ثيابهم بمفردهم، ثم أن يقدّموا لهم سبباً مغرياً يحثّهم على القيام بذلك.
إن تعليم الطفل على التعاون معنا يتطلّب الكثير من الوقت والصبر، غير أن الأمر يستحقّ العناء فعلاً. إذ إن فوائده تدوم مدى الحياة. ويمكن للأهل أن يبنوا علاقة رائعة مع أولادهم، وأن يعلّموهم قيمة العمل الجماعي، وأن يزيدوا أيضاً من قدرتهم على تحمّل الإحباط وتأجيل موعد حصولهم على مبتغاهم أو مصدر بهجتهم.
ويمكن للأهل أيضاً أن يساعدوا أطفالهم أو أولادهم على تعلّم كيفيّة التعبيرعن مشاعرهم وكيفيّة التعاطف مع الآخرين واتّخاذ القرارات المسؤولة؛ إذ إن هكذا مهارات يكتسبها الطفل بشكل أفضل في هذه المرحلة بالتحديد من مراحل نموه.
لماذا يقول الأولاد الصغار “لا”
يعيش الأطفال والأولاد في عالم مستقلّ خاص بهم وغالباً ما يكونون محوره. فهم يريدون أن يفعلوا كل ما يحلو لهم وفي الوقت الذي يريدونه. وهذا في الواقع أمر مهمّ وملائم لنموّ شخصيّتهم. وعلاوة على ذلك، يحبّ الأولاد الإستقامة والثبات على مبادئهم، كما وأنهم يحبون أيضاً أن يكونوا على علم بالأمور التي سيقومون بها مسبقاً. لذا نراهم يقولون “لا” لكي يتفادوا المجهول (“أنا لا أريد أن أصعد إلى الطائرة!”) ولكي يتفادوا التغيير (“أنا لا أريد أن أذهب إلى دار حضانة جديد!”) ولكي يتفادوا الفشل (“أنا لا أريد أن أتعلّم العزف على البيانو!”) وأيضاً لكي يتفادوا المواقف أو الحالات التي لا يمكنهم فيها أن يكونوا كالأسياد ويتصرّفوا على هواهم (“أنا لا أريد أن أذهب إلى الحضانة!”).
وبالإضافة إلى ذلك، غالباً ما نرى الأهل يتصرفون أحياناً وعن غير قصد بطريقة تشجّع أولادهم على عدم التعاون معهم، وذلك من خلال تجاهل أولادهم عندما يتعاونون معهم وأيضاً من خلال تركيز انتباههم عليهم عندما لا يفعلون؛ إذ بذلك يدرك الأولاد وبسرعة أنّ عدم تعاونهم مع أهلهم أسهل طريقة لكي يلفتوا انتباه والديهم إليهم. وأخيراً، إن الأولاد الصغار لا ينظرون عادةً إلى الأمور بالطريقة نفسها التي ينظر إليها الأهل عندما يتقدّمون من أولادهم بمطالب ملحّة. فالأولاد الصغار لا يكون لديهم إجمالاً أيّ علمٍ بمفهوم الوقت، وهم وفي العديد من الحالات لا يفهمون ما الداعي إلى كل العجلة التي يشعر بها الأهل.
خمسة أسئلة مهمّة
ينبغي على الأهل، وقبل أن يتصرفوا بطريقة سلبيّة حيال رفض أولادهم القيام بالأمور التي يطلبونها منهم، أن يطرحوا على أنفسهم الأسئلة الخمسة المهمّة التاليّة:
كيف كانوا ليشعروا لو كانوا مكان ولدهم؟ وهنا ينبغي على الأهل أن يأخذوا بعين الإعتبار وجهة نظر ولدهم في الأمور، فهذه هي الخطوة الأولى التي قد تساعدهم على اكتشاف طرق تحثّ ولدهم وتشجّعه على التعاون معهم. هل هو متعب؟ هل يستمتع باللعب بألعابه؟ أهو يشاهد برنامجه التلفزيوني المفضّل؟ هل هو خائف من الشيء الذي يطلبون منه القيام به؟ وبالتالي، وما أن يدرك الأهل مشاعر ولدهم وأهميّة الأمور التي يقوم بها بالنسبة له حتى يصبح بإمكانهم مساعدته على التعاون معهم.
ما هي الأمور التي يستطيع ولدهم القيام بها؟ هل تفوق توقعاتهم قدرات ولدهم الفعليّة؟ هل ولدهم قادر جسدياً على القيام بالأمور التي يطلبونها منه؟ هل يمكنه سماعهم جيداً؟ هل هو قادر على فهم الكلمات التي يستخدمونها معه؟ وهنا تجدر الإشارة إلى كون كل ولد فريد من نوعه ومختلف عن الآخرين من حيث نمط نموّه. أما في حال كان الأهل قلقين بشأن ناحيّة ما من نواحي نموّ ولدهم وتقدّمه فينبغي عليهم عندئذٍ أن يستشيروا طبيبه في هذا الصدد.
هل علّموا ولدهم القيام بالأمور التي يطلبون منه القيام بها؟ هل مرّنوه عليها خطوةً خطوة لكي يتأكدوا من كونه قد فهِم كل ما ينبغي عليه فعله؟ وفي حال عدم قيامهم بذلك، فينبغي عليهم عندئذٍ أن يعلّموه كيف يفرك أسنانه مثلاً قبل أن يطلبوا منه القيام بذلك بمفرده. وقد يضطر الأهل أحياناً إلى تمرين ولدهم على الأمور مرّات عديدة قبل أن يكتسب هذا الأخير تلك المهارات الجديدة. وهنا الصبر وحده هو سرّ النجاح!
ما هو عدد التعليمات أو التوجيهات التي يمكن لولدهم أن يتّبعها في آنٍ معاً؟ فهم إن طلبوا مثلاً من ولدهم أن يرتدي ثيابه، ويقفل التلفزيون، ويوضّب ألعابه في مكانها فهل سيتذكّر القيام بكلّ تلك الأمور؟ هل يمكنه أن يتّبع تعليماتهم من دون أن يحتار ويرتبك؟ ففي حال لم يكن قادراً على ذلك، ينبغي على الأهل عندئذٍ أن يمتحنوا قدرة ولدهم على اتّباع التوجيهات، وبعد أن يتحقّقوا من قدرته على اتباع تعليمة واحدة، يمكنهم عندئذٍ أن يرفعوا عدد توجيهاتهم إلى اثنين أو حتى أحياناً إلى الثلاثة في آنٍ معاً.
هل يؤدّون دور النموذج الجيّد والصالح أمام أولادهم؟ هل شاهدهم مرّةً أولادهم وهم يفركون أسنانهم أو يغسلون أيديهم أو يضعون حزام الأمان في السيارة؟ في حال كان الجواب لا، فينبغي عليهم إذن أن يتذكروا أنّ أولادهم يراقبونهم على الدوام إذ إنهم بمثابة مثالهم الأعلى.
الطرق السيّئة والمؤذيّة لتحفيز الأولاد وحملهم على القيام بما نطلبه منهم
من الطبيعي جداً أن يغضب الأهل عندما لا يتعاون أولادهم معهم. والغضب غالباً ما يؤدي إمّا إلى التذمر (” كم مرّة ينبغي عليّ أن أقول لك؟”) وإما إلى النعوت المؤذيّة والجارحة (“أنت كسول!”) وإما إلى التوسل (“إفعل هذا من أجل ماما!”) وإما إلى اللوم (لا تجعلني أتأخّر مرّة أخرى!”) وإما أيضاً إلى جعل الطفل يشعر بأنه قام بشيء مخجِل (“لقد خيّبت ظنّي فيك!”). وفي حال لم تكن هذه الاستراتيجيات مجديّة، فقد يلجأ الأهل عندئذٍ إلى الرشوة (“إن أطعتني وانتعلت الحذاء سأقدّم لك بعض السكاكر”) أو إلى التهديد كمَلاذ أخير لهم (“إن لم تنتعل الحذاء فسأضربك!”)
قد تبدو هذه التقنيات والأساليب ممكنة التبرير عندما يقول الأهل لأنفسهم إن عدم تعاون ولدهم معهم ناجم عن محاولته تحديهم، إذ قد يخشى الأهل أن يعتاد ولدهم على عدم طاعتهم أو ألا يتمكن من الإنسجام مع الآخرين وتدبّر أموره معهم أو أيضاً ألا يتمكن من تعلّم كيفيّة اتّباع التعليمات الموجّهة إليه في المدرسة. ومن المحتمل أن يكون أهلهم أيضاً قد تذمّروا منهم أو رشوهم أو هدّدوهم لعدم اتّباعهم تعليماتهم عندما كانوا صغاراً، لذا نراهم يتعاملون بالطريقة نفسها مع أولادهم في حال لم يطيعوهم أو يتعاونوا معهم. وعلاوةً على ذلك، فقد يشعر الأهل أحياناً بالغضب أو الحرج لشعورهم بأن أولادهم يجعلونهم يبدون وكأنهم أهل غير صالحين.
غير أن كل تفكيرهم هذا غير الصحيح وغير المنطقي ناجم في الأساس عن إدراكهم المخيف بأن لا سلطة لديهم على أولادهم. فهم يقولون بينهم وبين أنفسهم إنه ينبغي أن تكون لديهم سلطة على أولادهم، وإلا فسيضطرون لاحقاً إلى تحمّل العواقب الرهيبة والأليمة التي قد تنجم عن ذلك. في الواقع، إن غضب الأهل هو أبرز دليل على حاجتهم الماسة إلى تغيير طريقة تحدّثهم مع أنفسهم. وقد أظهرت الأبحاث أن تفكير الأهل المنطقي بينهم وبين أنفسهم قد يؤدي إلى ردود فعل غير منطقيّة وبالتالي إلى “المخاطر” التي يخشون أن يواجهوها في سلوك أولادهم. فإن كان الأهل مثلاً يعتقدون أن ولدهم يحاول تحديهم، فهذا قد يدفعهم إلى لومه وجعله يشعر بالذنب والخجل من نفسه ونعته نعوتاً جارحة ومؤلمة أو أيضاً إلى معاقبته محاولين ضبط طباعه المتحدِّيّة. ولكن في حال قال الأهل لأنفسهم إن سلوك ولدهم طبيعي جداً وملائم لنموّ شخصيّته فهذا قد يدفعهم إلى إعادة وضع هذه الحالة ضمن إطار آخر وجديد وكأنه لحظة تعليم. وهذا في الواقع ما يتيح أمامهم الفرصة لكي يعملوا مع ولدهم عوض أن يعملوا ضدّه.
في النهايّة، لا يمكن لأي شيء إيجابي أن ينجم عن التذمر من الولد أو رشيه أو تهديده. فهو قد يفعل ما نطلبه منه بداعي الخوف أو الشعور بالذنب أو الخجل، إلا أنه بهذه الطريقة لن يتعلم ولن يكتسب المهارات الضروريّة التي تخوّله تدبّر أموره بنفسه في هذا العالم على أنه إنسان مسؤول ومستقل ومراعٍ لحقوق الآخرين ومشاعرهم؛ إنما سيتعلم كيف يكون عكس ذلك تماماً: فسيتعلم مثلاً كيف يجعل الآخرين يقومون بما يطلبه منهم من خلال جعلهم يشعرون بالذنب والخجل من أنفسهم.
الطرق الصالحة والمفيدة لتحفيز الأولاد وحملهم على القيام بما نطلبه منهم
إن طبيعة الأولاد العاطفيّة بحاجة لأن تنشأ وتنمو في بيئة ملؤها الدفء والحنان والرعايّة. لذا ينبغي على الأهل أن يتعاطفوا مع أولادهم في أثناء تعليمهم والعمل معهم على اتباع الأنظمة والقوانين التي يضعونها لهم. فالأولاد يتعلمون كيف يهتمون بالآخرين ويقلقون عليهم من خلال اهتمام أهلهم بهم وقلقهم عليهم، كما وأنهم يتعلمون أيضاً كيف يحترمون الآخرين من خلال احترام أهلهم لهم. ويمكن للأهل أن يعززوا ثقة أولادهم بأنفسهم من خلال تعليمهم ومساعدتهم على اتخاذ القرارات واتّباع الأنظمة وتقبّل عواقب خياراتهم. على أيّ حال، إن التقنيات الإيجابيّة المذكورة أدناه ستعلّم الأهل كيف يتحلون بالصبر ويضبطون أنفسهم وأعصابهم وهم يواجهون التحديات اليوميّة في حمل أولادهم على التحوّل من- “لا” إلى “نعم”.
التعاطف مع الأولاد: يتعين على الأهل أن يظهروا لولدهم أنهم يتفهّمون همومه ومخاوفه، إذ إنهم بذلك قد يعززون ثقته بنفسه ويثبتون له أنهم يحترمون آراءه ومشاعره، الأمر الذي سيشجّع الولد بدوره على التعاون معهم على أنه عضو في فريقهم. ولكن في حال كان الأهل يوبّخون أولادهم، ويعنّفونهم باستمرار، ويلقون اللوم عليهم، ويتذمرون منهم، ويجعلونهم دائماً يشعرون بالذنب والخجل من أنفسهم، فسيتعلّم الأولاد بهذه الطريقة كيف يستخدمون هذه الاستراتيجيات المؤذيّة والجارحة نفسها مع الآخرين.
الإتفاق مع الولد على اتّباع قاعدة الجدّة: وتقول قاعدة الجدة إننا، “عندما ننجز كل ما يتعيّن علينا إنجازه، عندها فقط يحق لنا أن نفعل كل ما يحلو لنا”. ففي الواقع، إن هذا الحل السلمي للنزاعات بين الأهل وأولادهم يعلّم الأولاد قيمة تأديّة واجباتهم ومسؤولياتهم قبل أن يفعلوا ما يريدون فعله، كما وأنه يمرّنهم على تأجيل موعد حصولهم على مبتغاهم وأيضاً على تحمّل الإحباط. وعلاوةً على هذا كله، فإن هذا الحل السلميّ يعلّم الأولاد كيف ينمّون حوافزهم الداخليّة لكي ينجزوا كل أعمالهم وواجباتهم قبل أن يستمتعوا بما يسعدهم ويلذّ لهم. أما الفائدة الكبرى والأهم من اتّباع قاعدة الجدة فهي تعليم الولد كيف أنه وبواسطة العمل الجماعي يحصل كلٌّ من أعضاء الفريق على مبتغاه.
في حين تعلّم الرشوة، من جهة أخرى، الولد أنه “إن فعل ما نطلبه منه، فسنقدّم له مكافأةً خاصّة لقاء ذلك”. وهذا ما يعلّمه المطالبة بمكافأة ماديّة قبل التعاون. وعندما يدرك الولد أنه يمكن لتعاونه أن يُباع ويُشترى كأي سلعة أخرى يُتَّجر بها في السوق، تصبح عندئذٍ كل حماسته وحوافزه خارجيّة ومرتبطة بحجم المكافأة التي سيتلقّاها إرتباطاً كليّاً.
تعليم الولد من خلال إعطائه الخيارات: عندما يقدّم الأهل لولدهم خيارات عدّة، فإنهم بذلك يمرنوه على اكتساب مهارة اتخاذ قراراته بنفسه. فيمكنهم مثلاً أن يقولوا له، “يمكنك إما أن تلعب بلطف مع أختك، وإما أن تلعب وحدك. إختَر أنتَ ما تريد”. الأمر الذي قد يحثّه على اللعب بلطف مع أخته لكي يبقى برفقتها.
أما في حال حاول الأهل أن يجعلوا ولدهم يشعر بالخجل من نفسه من خلال تهديده بمعاقبته في حال لم يطعهم، فهذا يعني بالنسبة له أن لا خيار له في الموضوع. وبما أنه لم يُعطَ أي حقّ بإبداء رأيه في ما يحصل، فسيزداد غضبه وامتعاظه كما ورفضه لأي تعاون- وهذا كله ليس في النهايّة سوى عكس ما يريده الأهل. فالتهديدات تؤدي إلى الخوف والخوف يحثّ الولد إما على الهروب وإما على النفور والتمرّد والعصيان عوضاً عن التعاون.
وعلاوةً على ذلك، فإن التهديدات تضع الأهل في موقف صعب جداً. ففي حال لم يطعهم ولدهم فسيكونون عندئذٍ مجبرين على تنفيذ تهديدهم ومعاقبته، الأمر الذي قد يسيء إلى الولد كما وإلى علاقتهم به؛ أما في حال لم ينفّذوا تهديدهم فستتهدّم عندئذٍ مصداقيّتهم بنظر ولدهم، إذ في حال اكتشف الولد أن تهديد أهله له كان باطلاً، فهو لن يعود بعد ذلك ليصدّق أي كلمة يقولونها له. إنما على العكس، سيحلّ محلّ خوفه من العقاب خوف بأن لا شيء في الواقع هو على ما يبدو عليه. لذا فقد يكون من الأفضل تفادي هذه العواقب من خلال تفادي التهديدات.
تأليف: جيري وايكوف و باربرا أونيل