التصنيفات
القلب | جهاز الدوران | أمراض الدم

محيط الخصر وصحة القلب: برنامج القلب ج6

هناك حالة طبية هامة واضحة جدا بحيث إنني أستطيع أن أشخصها دون إجراء أي اختبار تشخيصي. بإمكاني أن أكتشفها في اللحظة التي يدخل فيها مريض إلى عيادتي. هي شائعة جدا بحيث إنني أراها في كل مكان؛ في مراكز التسوق، والمطاعم، وملعب الغولف، وفيما أسير على طول الشارع مشيا على الأقدام. لقد وصلت إلى نسب وبائية في الغرب، وتحديدا في الولايات المتحدة. أنا متأكد بأنك قد رأيتها أيضا بين أفراد عائلتك وأصدقائك، وربما عندما تنظر إلى المرآة.

لهذه العلة أسماء عديدة، بما فيها المتلازمة الأيضية، ومقاومة الإنسولين، ومتلازمة إكس، والاسم الذي سأستخدمه أنا وهو مقدمة داء السكر. لماذا هي سهلة التشخيص إلى هذا الحد؟ هناك دلالة واحدة بمثابة إفشاء تام غير مقصود: إنه محيط خصرك. يقول أحد زملائي بأنه عندما يكون بطن المريض هو أول ما يدخل عيادته، فإن التشخيص يكون قد تحدد بالفعل. إذا كنت قد اكتسبت وزنا وأنت في منتصف العمر وكان معظمه في بطنك، فأنت على الأرجح جزء من وباء مقدمة داء السكر. وإذا لم تكن قد بدأت باتباع نظام غذائي جيد وبممارسة الرياضة البدنية، فإن إصابتك بداء السكر في مستقبل حياتك ستكون شبه مؤكدة.

لماذا سيهتم أي طبيب قلب بشأن محيط خصرك إلى هذا الحد؟ لا يتعلق السبب بكيفية مظهرك من الخارج بقدر ما يتعلق بكيفية مظهرك من الداخل. أنا قلق بشأن ما تفعله مقدمة داء السكر وداء السكر نفسه بشرايينك. يمكن لكلتا الحالتين أن تصيبا بطانة أوعيتك الدموية وأن تعجلا إنتاج اللويحات، ما يزيد إلى حد كبير خطر إصابتك بنوبة قلبية أو سكتة دماغية.

العلاقة السببية بين الدهن البطني وداء السكر واعتلال القلب

يفكر معظم الناس بداء السكر على أنه مرض مترافق مع المستويات العالية لسكر الدم (الغلوكوز). رغم صحة هذه الفكرة، إلا أنها مجرد جزء من القصة. فالحقيقة هي أن داء السكر له علاقة كبيرة بالطريقة التي يعالج فيها الجسم الدهن كعلاقته أيضا بطريقة معالجة الجسم للسكر. في الواقع، قبل أن تصبح بوقت طويل مصابا فعليا بداء السكر، أي عندما تكون في مرحلة ما قبل داء السكر، أنت تختبر بالفعل تغيرات مؤذية في دهون الجسم. يقلل الكثير جدا من مرضاي من أهمية تحذيراتي لهم بأنهم معرضون لخطر الإصابة مستقبلا بداء السكر – والنوبة القلبية – لأنهم يحسبون بأن لديهم ما يكفي من الوقت لتغيير أساليبهم. ولكنهم مخطئون؛ مخطئون كليا. كثيرا ما تحدث النوبات القلبية والسكتات الدماغية والموت في طور ما قبل داء السكر (مقدمة داء السكر). إذا كانت كل هذه المعلومات جديدة بالنسبة إليك، فهذا لأن العلاقة السببية بين داء السكر والدهون لم تكن مفهومة حتى عهد قريب إلى حد ما. ولكنها مهمة جدا وغالبا ما تكون جزءا مهملا من قصة داء السكر.

إذا كنت لا تعرف الكثير عن داء السكر، فدعني أخبرك بآخر التطورات بسرعة. هناك نوعان رئيسيان من داء السكر: النوع 1 والنوع 2. يحدث النوع 1 عندما يتكبد البنكرياس إصابة من نوع ما (يحتمل أن تكون من إنتان ما) ولا يصنع ما يكفي من الإنسولين. الإنسولين هو الهرمون المسؤول عن نقل سكر الدم والأحماض الدهنية (المكون الأساسي للدهون) المكتسبة من الطعام خارج مجرى الدم وإلى داخل خلايا الجسم حيث تستخدم لإنتاج الطاقة أو تخزن كدهن جسمي. ينشأ النوع الأول من داء السكر نموذجيا في مرحلة الطفولة، ويمكن معالجته بحقن الإنسولين. أما النوع الثاني من داء السكر، وهو الشكل الأكثر شيوعا منه في العالم الغربي اليوم، فهو قصة أخرى. ففي هذا النوع ينتج الجسم ما يكفي من الإنسولين، ولكن الخلايا لا تستطيع استخدامه بشكل ملائم. تدعى هذه الحالة بمقاومة الإنسولين، ولدى الناس الذين يعانون منها، تبقى مستويات السكر والدهن مرتفعة في مجرى الدم لفترة أطول من اللازم بعد تناول وجبة طعام، ما يتسبب في النهاية بمشاكل صحية خطيرة.

مقاومة الإنسولين هي عامل أساسي في النوع 2 من داء السكر، ومن المهم أن نفهم كيف تؤثر على الجسم. بعد تناول الطعام، وعندما يرتفع سكر دمك، يتم إفراز الإنسولين بواسطة البنكرياس في مجرى الدم ومن ثم يتم حمله إلى أنسجتك. وهناك يعلق على مستقبلات الخلايا ويسهل دخول سكر الدم والدهن إلى داخل هذه الخلايا. بينما يحدث هذا، ينخفض سكر دمك تدريجيا. وهذا هو السبب في أن سكر دمك يستغرق عادة ساعات عديدة بعد وجبة طعام لينخفض بما يكفي لتحفيز جوعك لوجبة طعام أخرى.

تنحل هذه العملية المنظمة عندما تنشئ ذلك الدولاب الاحتياطي حول خصرك. كلما خزنت دهنا أكثر حول خصرك، كلما أصبحت خلايا بطنك الدهنية أكبر. المشكلة هي أن الإنسولين لا يعلق بالخلايا الدهنية المنتفخة بنفس الكفاءة بعد وجبة طعام. لا بد من إنتاج المزيد من الإنسولين بواسطة البنكرياس للتغلب على مقاومة الإنسولين من قبل هذه الخلايا الأكبر حجما كي يصار إلى إخلاء مجرى دمك من السكر والدهن.

ترتفع مستويات سكر دمنا بشكل أكبر عندما تكون هناك مقاومة إنسولين ويتم إنتاج المزيد من الإنسولين. وما إن يدخل الإنسولين الإضافي، حتى ينخفض سكر الدم بشكل مفاجئ. هذا الانخفاض السريع في سكر الدم يدعى نقص سكر الدم التفاعلي، وهو يحدث قريبا بعد تناول وجبة طعام بدلا من الانخفاض التدريجي الطبيعي في سكر الدم. هذا التأرجح المبالغ فيه في سكر الدم ينتج عنه جوع واشتهاءات حادة للطعام.

ماذا عن الدهون العائمة في مجرى الدم؟ لا تنس بأنها وظيفة الإنسولين، فبعد وجبة طعام، يساعد الإنسولين في نقل الدهون بالإضافة إلى السكر من الدم إلى الأنسجة. عندما تنشأ لديك مقاومة الإنسولين، تتراكم الدهون في مجرى دمك وتمكث هناك أكثر من المعتاد. خلال هذا الوقت، تحدث تغيرات في دهون دمك؛ تصبح جسيمات LDL وHDL أصغر حجما وتقل مستوياتك من HDL الإجمالي. تسهل هذه التغيرات حركة الكوليسترول من مجرى دمك إلى جدران شرايينك. كلما كانت جسيمات LDL أصغر حجما وأكثر كثافة، كلما زاد احتمال تحركها إلى داخل جدران أوعيتك. وكلما كانت جسيمات HDL أصغر حجما وأكثر كثافة، كلما أصبحت أقل كفاءة في إزالة الكوليسترول من جدر الأوعية هذه. تترافق هذه التغيرات أيضا مع المستويات المرتفعة من دهن الدم المقاسة على شكل تريغليسيريد. وحقيقة أن هذه الدهون تبقى في مجرى دمك لفترة أطول مما ينبغي يسهل أيضا تراكمها في جدران الأوعية.

إذا، إذا كنت كراشد قد اكتسبت دهنا بطنيا بالدرجة الأولى وهناك إصابة بداء السكر في عائلتك (حتى لو حدثت لأحد والديك أو جديك في مرحلة متأخرة من الحياة)، فأنت على الأرجح مقاوم إنسولين ومصاب بمقدمة داء السكر.

يتم تشخيص إصابتك بمقدمة داء السكر إذا تحققت لديك ثلاثة من المعايير الخمسة التالية:

●   بدانة مركزية: محيط خصر أكبر من 102 سنتم للرجال و89 سنتم للنساء.

●   تريغليسيريد مرتفع: أكثر من 1.7 ميلي مول/ليتر أو مساو له.

●   HDL كلي منخفض: أقل من 1.0 ميلي مول/ليتر للرجال أو مساو له، وأقل من 1.3 ميلي مول/ليتر للنساء أو مساو له.

●   ضغط دم مرتفع: ضغط دم انقباضي أكثر من 130 ملم زئبق أو مساو له، وضغط دم انبساطي أكثر من 85 ملم زئبق أو مساو له.

●   غلوكوز راسخ مرتفع: أكثر من 5.6 ميلي مول/ليتر أو مساو له.

يتم تشخيص إصابتك بالنوع الثاني من داء السكر عندما يفشل البنكرياس لديك في إنتاج ما يكفي من الإنسولين للتغلب على مقاومة الإنسولين للخلايا الدهنية المنتفخة، ويزداد سكر دمك الراسخ إلى قيمة أكبر من 1.7 ميلي مول/ليتر أو مساوية لها. يمكن للخلايا الدهنية البطنية أن تنكمش مع خسارة الوزن والتمرين الرياضي، وهو ما يسمح باستخدام الإنسولين بكفاءة أكثر. يمكن بهذه الطريقة عكس مقدمة داء السكر وداء السكر في كثير من الأحيان. ومع ذلك، يمكن أن يؤدي الضغط على البنكرياس لإنتاج ذلك الإنسولين الإضافي إلى الوصول إلى مرحلة ينطفئ فيها البنكرياس فعليا. لا يعود باستطاعة البنكرياس في هذه المرحلة أن ينتج ما يكفي من الإنسولين حتى بعد خسارة الوزن. وبالتالي، من المهم على نحو حاسم أن يتم البدء بتغييرات أسلوب الحياة في أقرب وقت ممكن.

لماذا لم نعرف كل هذا في وقت سابق؟ الحقيقة هي أننا عرفنا بشأن داء السكر منذ العصور القديمة لأن المستويات المرتفعة من السكر في دم مرضى النوع الأول من داء السكر أريقت في بولهم الذي فاحت منه رائحة السكر. الناس المصابون بداء السكر سيهزلون فعليا بسبب عدم دخول مقدار كاف من السكر والدهن إلى أنسجتهم لإمدادهم بالسعرات الحرارية اللازمة (نادرا ما يحدث هذا في النوع الثاني من داء السكر بسبب عدم إنتاج ما يكفي من الإنسولين لنقل ما يكفي من السعرات الحرارية إلى الخلايا). ولكن بالرغم من أننا تمكنا من قياس مستويات سكر الدم لعقود عديدة الآن، إلا أن التغيرات التي تحدث أيضا في دهون الدم لم يتم تمييزها حتى عهد قريب.

أحد الأسباب وراء هذا هو أننا اعتدنا على الاعتماد بشكل كامل على اختبار كوليسترول كلي صومي (راسخ) لتحديد مستويات دهن (شحم) الدم. تمثلت المشكلة في أن الاختبار الصومي (الراسخ) لم يكن يخبرنا بالقصة الكاملة. كان يعطي قراءة دقيقة للكوليسترول الإجمالي، ولكن ليس للتريغليسيريد الذي يمكن أن يعود للمستوى الطبيعي أو قريبا منه بعد صوم ليلة. وهذا لأنه خلال مرحلة ما قبل داء السكر (مقدمة داء السكر)، سيقوم الإنسولين في النهاية بعمله ويخلي مجرى الدم من السكر والدهن، رغم احتمال وجود تأخير مدته عدة ساعات. وحتى عهد قريب، لم نقدر أهمية الشحوم غير الصومية (اللاراسخة). وعندما كنا نقوم عرضيا باختبار غير صومي (لا راسخ) ونرى المستويات المرتفعة للتريغليسيريد بعد الأكل، كنا نهمل النتائج.

علاوة على ذلك، لم تكن اختبارات الكوليسترول القياسية، قبل توفر اختبار الدم المتقدم، تقيس الأحجام المختلفة للكوليسترول. وهكذا، بينما كانت جسيمات LDL وHDL تنكمش وتصبح أكثر خطورة، كان مستوى الكوليسترول الإجمالي ينخفض وهو ما حسبناه أمرا جيدا!

كل هذا أبعدنا عن الحقيقة. في الواقع، إن متلازمة ما قبل داء السكر (مقدمة داء السكر) التي كانت تعرف أساسا بمتلازمة إكس، وصفت بداية بواسطة الدكتور جيرالد ريفن في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي. لكن في العقد الأخير فقط تمكنا من الوصل بين النقاط وفهمنا أخيرا لماذا يصبح الناس في هذا البلد وحول العالم مصابين بمقدمة داء السكر وداء السكر.

من سخرية القدر أن الداء الذي يقتلنا اليوم ينشأ عن ثلاث آليات بقاء كانت حاسمة لوجود الإنسان الأول. نجحت آليات البقاء هذه بصورة جيدة في البيئات الطبيعية التي عشنا فيها لأكثر من مليون سنة، ولكنها تعطي عكس النتائج المرجوة في عالمنا الحديث ذي الطعام السريع. الآليات الثلاث هي: (1) الميل لتخزين الدهن. (2) توق للسكر والدهن والملح. (3) القدرة على التكيف مع المجاعة بإبطاء الأيض. دعنا نلقي نظرة على آليات البقاء هذه في بيئات ذلك الزمان والعصر الحالي.

الميل لتخزين الدهن

آلية البقاء الأولى وربما الأكثر أهمية هي قدرتنا على تخزين الدهن. منذ أيامنا الأولى على الأرض، كان أسلافنا البشر صيادين – حصادين تمحور وجودهم حول الصيد والبحث عن الطعام (بدأت حراثة المحاصيل قبل نحو 10,000 سنة فقط). ولأن البشر الأوائل كانوا مضطرين لأن يأكلوا ما هو متوفر في محيطهم المباشر، فقد اختبروا بانتظام دورات من الولائم والمجاعات. كما كانوا أيضا تحت رحمة الطقس: ففي الطقس الدافئ كان الطعام وفيرا عادة، ولكن في الطقس البارد، كان قليلا عادة. عندما كان الطعام متوفرا، استهلك الإنسان الأول المزيد منه وخزن السعرات الحرارية الزائدة كدهن بطني. وعندما تضخمت الخلايا الدهنية البطنية، نشأ عن ذلك مقاومة الإنسولين وتأرجحات مبالغ فيها في سكر الدم. تسبب هذا في جعل الإنسان أكثر جوعا، وفي تخزينه المزيد حتى من الدهن البطني. عمل الدهن البطني مثل خزان نفط احتياطي يتم اللجوء إليه في فصل الشتاء أو في أوقات المجاعات. تلك هي فعليا الكيفية التي صمم بها حمضنا النووي الريبـي المنقوص الأكسجين DNA منذ زمن بعيد، ولم يتغير بشكل ملحوظ في العصر الحديث.

المشكلة هي – على الأقل في الغرب – أننا نادرا ما نختبر المجاعة. إنه وقت ولائم على مدار العام، ولهذا نحن نستمر في تخزين الدهن في بطوننا وأماكن أخرى من أجسامنا. يؤدي هذا إلى انتفاخ خلايانا الدهنية البطنية أكثر، ما يتسبب في مزيد من مقاومة الإنسولين، وزيادة تأرجحات سكر الدم، ومزيد من الجوع، ومزيد من تخزين الدهن. يصبح الأمر كحلقة مفرغة. اليوم، من بين كل أربعة أشخاص في المملكة المتحدة بين عمري الأربعين والرابعة والسبعين هناك شخص واحد مصاب بمقدمة داء السكر. وهذا يعني أنهم يسيرون فيما حولهم وهم يعانون من تأرجحات كبيرة في سكر الدم وجائعون لمعظم الوقت. لا عجب في أن كل شيء قد أصبح خارق الحجم.

ربما يكون بعضكم قد شاهد فيلم 2004، أنا الخارق الحجم Super size me، والذي يوثق فيه صانع الأفلام مورغان سبيرلوك التغيرات التي طرأت على صحته حين كان يعيش حصريا على الطعام السريع لمدة شهر كامل. هذا الفيلم الوثائقي هو توضيح ممتاز لآلية البقاء المتمثلة في تخزين الدهن. في بداية الفيلم، كان سبيرلوك شابا أنيقا نشيطا يتمتع بصحة ممتازة. وبعد ستة أيام من استهلاك وجبات الطعام المؤلفة من شطائر البرغر الضخمة والطلبات العملاقة من المقالي التي كان يتناولها مع أوعية الكولا بحجم الدلاء، اكتسب سبيرلوك 4.5 كلغ (10 أرطال). وبعد ثلاثة أسابيع من اتباع هذا النظام الغذائي، بدأ يشكو من اشتهاءات الطعام. أشار هذا إلى المرحلة التي وصلت فيها خلاياه الدهنية البطنية إلى الحجم الذي أصبحت فيه مقاومة لفعل الإنسولين. والنتيجة: تأرجحات مبالغ فيها في سكر دمه بالإضافة إلى تغيرات هرمونية أخرى. ومع انقضاء أربعة أسابيع، أصبح سبيرلوك محطما كليا شكلا وشعوراً. كان قد نما لديه البطن الدهني المعهود لدى مرضى ما قبل داء السكر، وحلق الكوليسترول لديه حول 1.3 ميلي مول/ليتر، وسحق مستوى نشاطه ورغبته الجنسية.

أطلق على استعدادنا الجيني لتخزين الدهن اسم نظرية الجين المزدهر. ما أجده مذهلا بشأن الجين المزدهر اليوم هو ما يبدو من إظهار نفسه بمنتهى القوة في مجتمعات اختبرت المجاعة في الأزمان الحديثة. أحد الأمثلة المعروفة جدا للباحثين هو قصة هنود البيما. لقد بقي هؤلاء على قيد الحياة في صحراء جنوب غرب الولايات المتحدة متبعين نظاما غذائيا بقائيا حتى عهد قريب إلى حد ما. لقد كانت المجاعة دوما تشكل تهديدا. وبالنسبة لهم، كانت القدرة على تخزين الدهن بكفاءة أمرا حاسما للبقاء. وقد نفعهم جينهم المزدهر جيدا إلى أن انتقلوا تدريجيا قبل بضعة عقود من نظامهم الغذائي البقائي إلى النظام الغذائي الغربي، مع أسلوب حياة أقل حركة. إنهم يختبرون الآن بدانة عالمية تقريبا، وأكثر من 50 بالمائة من شعب البيما يصابون بداء السكر مع بلوغهم الأربعين من العمر. والأسوأ من هذا أن أطفالهم بدينون ويصابون بالنوع الثاني من داء السكر بوتيرة قياسية. كما ابتلي هنود البيما بالنوبات القلبية والسكتات الدماغية المبكرة كنتيجة لجمع جينهم المزدهر مع نظام غذائي رديء.

يبدو أيضا أن المجموعات الأخرى التي اختبرت العيش البقائي في الأزمان الحديثة تصبح أكثر عرضة للبدانة وداء السكر واعتلال القلب عندما تتحول أنظمتها الغذائية إلى النظام الغذائي الغربي. الصينيون والآسيويون هما مثالان على ذلك. عندما نصدر أسلوب حياتنا المتسم بتناول الطعام السريع إلى مجتمعات حول العالم، نحن نرى زيادة عالمية في هذه العلل الخطيرة.

اتباع حليمات التذوق الخاصة بنا

آلية البقاء الثانية التي نجحت جيدا في المحافظة على صحة الصيادين – الحصادين ولكنها لا تنفع صحة الإنسان الحديث هي توقنا للأطعمة الحلوة والمدهنة والمالحة.

إن التوق إلى الحلاوة قاد الصيادين – الحصادين إلى البحث عن تنوع من الفاكهة والخضار الغنية بالمغذيات والألياف. ولكن لأنهم أكلوا على نحو ملحوظ أليافا أكثر مما نأكله اليوم (كانت متواجدة في الفاكهة والخضار)، فهم لم يعانوا من مقاومة الإنسولين. الألياف هي إحدى طرق الطبيعة لمنع مقاومة الإنسولين، حيث تبطئ هضم الكربوهيدرات، لتمنع بذلك الارتفاع المفاجئ في مستويات سكر الدم الذي يمكنه أن يتسبب في حدوث نقص سكر الدم التفاعلي، واشتهاءات الطعام، وأخيرا مقاومة الإنسولين التي تؤدي إلى داء السكر.

لقد كان توق الصيادين – الحصادين إلى الدهن هو الذي قادهم لأن يخاطروا بحياتهم بانتظام بحثا عن الطرائد الكبيرة التي تحوي دهنا شهيا يسيل له اللعاب. في ذلك الحين، لم يكن الدهن في لحم الطرائد الكبيرة يبدو مثل شرائح اللحم المجزعة التي نحصل عليها اليوم في السوبر ماركت والمطاعم. كان غنيا بالأحماض الدهنية أوميغا – 3 المضادة للالتهاب والصحية للقلب (من الأعشاب الطبيعية التي كانت ترعى عليها الحيوانات)، كما كان محتواه من الدهن المشبع أقل بكثير مما نحصل عليه من ماشية اليوم القليلة الحركة والمتغذية على الحبوب.

أخيرا، أدى أيضا توق الصيادين – الحصادين الصلبي للملح إلى مساعدتهم على البقاء. نحن نعرف اليوم بأن الصوديوم ضروري من أجل المحافظة على حجم السوائل في الجسم. بدون مأخوذ صوديوم ملائم، سنصاب بالتجفاف ونموت. ولكن الملح هو مثال على شيء مفيد يمكن أن يصبح ضارا إذا أخذ بكميات كبيرة: فالمأخوذ الزائد من الصوديوم على شكل ملح هو عامل خطر مهم لضغط الدم المرتفع. إن المجتمعات ذات المستويات المنخفضة من مأخوذ الملح (مقارنة بتلك للصيادين – الحصادين) لا تملك تلك الزيادة في ضغط الدم والنقصان في وظيفة الكلية المرتبطين بالعمر واللذين نشاهدهما في العالم الغربي.

من سخرية القدر أن يكون التوق إلى الأطعمة الحلوة والمدهنة والمالحة الذي قاد أسلافنا إلى غذاء عالي القيمة الغذائية هو ما يقود الرجال والنساء والأطفال المعاصرين مباشرة إلى الطعام السريع الفقير بالقيمة الغذائية. وهو سبب مهم وراء إصابة العديد من الغربيين فعليا بسوء التغذية رغم ما يبدو من تخمتهم.

لسنا مصممين اليوم لدورات الولائم والمجاعات

آلية البقاء الثالثة التي تؤذي متبعي الحميات اليوم تتمثل في النقصان الحاصل في عمليات أيضنا والذي يحدث عندما نكون متبعين لحمية منخفضة السعرات الحرارية ومقيدة بصورة وخيمة، وهو ما يمكن مقارنته بالإبطاء الذي يختبره الناس عندما يجوعون جوعا شديدا. أنا غالبا ما أخبر مرضاي وأصدقائي بأنهم إذا كانوا يعانون من مشاكل بأنظمة اليو – يو الغذائية (ما يعني أنهم يفقدون وزنا بسرعة، ثم يكتسبونه مرة أخرى، ومن ثم يضطرون لخسارته من جديد، فقط ليكتسبوا المزيد من الوزن لاحقا)، فذلك لأن عمليات الأيض لدينا لم تصمم لأجل خسارة وزن سريعة.

بالنسبة للإنسان الأول الذي كان يختبر بانتظام فترة مجاعة وخسارة وزن تالية لها، كان الانخفاض في عمليات الأيض يعني أن سعرات حرارية أقل كانت ضرورية للبقاء. في الحقيقة، تلك هي الطريقة التي صمم عليها البشر. عندما نخفض بشكل هائل مأخوذنا من السعرات الحرارية، نحن نحرق في النهاية البروتين من العضلات والعظام للمحافظة على سكر دمنا. تحتاج العضلات إلى سعرات حرارية أكثر من الدهن للحفاظ على نفسها. عندما نملك عضلات أقل، نحن نحرق سعرات حرارية أقل حتى عندما نكون في وضع راحة. إن كمية السعرات الحرارية التي نحتاجها في وضع الراحة تدعى المعدل الأيضي الأساسي.

كيف يؤثر هذا الإبطاء في الأيض على متبعي الحميات الحديثين الذين يرغبون في إنقاص وزنهم بسرعة؟ عندما يفقد هؤلاء وزنا بسرعة أكثر مما ينبغي، وخاصة بدون تمرين (الذي يبني الكتلة العضلية والعظمية بالإضافة إلى المنافع القلبية الوعائية وحرق السعرات الحرارية)، فهم يفقدون العضل وينشطون آلية البقاء التي تخفض معدلهم الأيضي. تبطؤ خسارة الوزن ومن ثم تتوقف، وعندما يعود متبعو الحميات إلى نظامهم الغذائي المعتاد، يؤول بهم الأمر بأن يكتسبوا الوزن الذي فقدوه ومن ثم المزيد فوقه. وبالتالي، تؤدي خسارة الوزن السريعة جدا وعدم التمرين إلى إعطاء عكس النتائج المرجوة وتقود إلى متلازمة يو – يو التقليدية.

أنا آمل أنه بفهم آليات البقاء المتأصلة فينا، ستتمكن من أن تفهم بشكل أفضل ما الذي نواجهه اليوم في بيئتنا الحديثة غير الطبيعية المتسمة بالطعام السريع. تتمثل الخطوة الأولى لعكس أسلوب حياتنا السام غالبا في اكتساب فهم جيد لكيفية وصولنا لهذه المرحلة. ففي حين أن التكنولوجيا قد حسنت حياتنا في القسم الأكبر منها في هذا الزمن الحديث، إلا أنها أيضا كان لها تأثيرات هامة معاكسة على صحتنا. الأخبار السارة هي أننا نملك الآن بالفعل فهما أفضل بكثير من ذي قبل لأسباب البدانة وداء السكر واعتلال القلب وغيرها من الأمراض المزمنة في العالم الغربي، وهو ما يمنحنا الفرصة لتطوير استراتيجيات فعالة لتحسين صحتنا وإطالة أعمارنا.

الالتهاب: لعنة المدنية

الالتهاب هو آلية بقاء هامة أخرى كانت حاسمة لأسلافنا الصيادين – الحصادين بقدر ما هي اليوم. كانت الحياة خطرة للإنسان الأول، وكانت الإصابة حدوثا شائعا. ففي ذلك العصر، إذا عضك حيوان بري في الغابة أو جرحت نفسك أثناء عملية تحضير عشائك، فأنت ستموت ما لم يحدث شيئان: أولا، يجب أن يتخثر دمك بسرعة كي لا تنـزف حتى الموت. وثانيا، لا بد من أن ينشط جهازك المناعي لضمان عدم إصابة جرحك بإنتان.

ما وصفته لتوي هو استجابة الجسم الالتهابية للإصابة. هذه الاستجابة هي مفيدة من ناحية معينة لأنها تساعد الجسم على أن يستجيب بسرعة للاعتداءات. ومن ناحية أخرى هي سيئة عندما تستمر على نحو مزمن، لأن الاستجابة الالتهابية يمكن أن تبدأ في إيذاء الخلايا والأنسجة السليمة مثل البطانة الوعائية الفارشة للشرايين التاجية. تلك هي الطريقة التي يسهم بها الالتهاب المزمن في النوبات القلبية.

المشكلة هي أنه نتيجة لغذائنا الحالي الرديء وأسلوب حياتنا القليل الحركة، أصبح العديد منا في حالة فرط التهاب باستمرار. القياس الأكثر شيوعا لهذه الحالة هو بروتين يدعى بالبروتين التفاعلي – C، أو CRP، والذي نقيسه باختبار دم بسيط.

إذا، لماذا أشمل مناقشة عن الالتهاب في موضوع يتعلق بمحيط الخصر؟ لقد تبين بأن الالتهاب، الذي يعكسه الـ CRP المرتفع، يترافق مع الدهن البطني. وهذا لأن الاستجابة الالتهابية تتطلب قليلا من الطاقة. إذا لم تكن تملك احتياطا من بعض الدهن البطني على الأقل، فأنت لا تستطيع أن تقدم هذه النفقة الطاقية. وهذا هو السبب في أن الناس الذين يموتون جوعا والذين يفتقرون إلى الدهن المخزن، لا يستطيعون إحداث استجابة التهابية. يعرف عن هؤلاء الأفراد الذين يعانون من سوء تغذية بهذا الشكل بأنهم عرضة تحديدا للإنتانات. تخزين الدهن الطبيعي يعني استجابة التهابية طبيعية.

المشكلة اليوم هي أننا نحمل احتياطا من الدهن البطني لم يسبق إلى مثله؛ أكثر بكثير مما احتاج إليه أسلافنا أبدا لضمان بقائهم. يؤدي هذا الدهن الزائد إلى حدوث الالتهاب الذي يسهم في داء السكر واعتلال القلب، كما يظن بأنه عامل خطر يسبب السرطان وداء الزهايمر والتنكس العضلي والتهاب المفاصل وأمراض عديدة أخرى في المدنية الحديثة. إن اتباع قواعد الأكل الصحي التي أوجزها في الخطوة 1 من برنامج ساوث بيتش للقلب يمكن أن يكون ذا منفعة كبرى نحو تقليل الدهن البطني ومعاكسة الالتهاب المؤذي.

تأليف الدكتور آرثر أغاتستون