لقد انتهت الأيام التي اقتصر دور طفلك فيها على المراقبة والإصغاء، وبدأ طفلك يظهر عدم سروره من اقتصار دوره على المشاهدة فقط. وبما أنه ما زال غير قادر على التحرك من مكان إلى آخر، يسرّ بك كمصدر لإحضار الأغراض واكتشافها. إنه الوقت المناسب للألعاب والنشاطات. ولكن مع أنك تشعرين بالحاجة إلى الاستراحة، إستغلي فرصتك بدلاً من تركه يلعب وحده.
مسألة توقيت
قبل الولادة، في بيئة وخيارات محدودة، يستمر النمو بوتيرة متواصلة فتدوم معظم حالات الحمل 266 يوماً مع إضافة أو حسم بضعة أيام. ولكن ما إن يولد الطفل في عالم الاحتمالات هذا، تمنحه بنيته الوراثية، وتفاعلاته مع والديه، وقطعة العالم التي يراها خيارات حول مكان تركيزه.
قد يهتم طفل بالتقلّب وآخر بالألعاب. قد يتقلب طفل في شهره الثاني ويلعب بالخشخاشة في شهره الرابع؛ وقد يتقلب آخر في شهره الرابع ويلعب بالخشخاشة في شهره الثاني. ليس من الضروري أن تكون أحدهما “أفضل” من الأخرى. قد تجدين بعض التواريخ في هذا الكتاب وفصولاً متلاحقة كنقاط مرجعية كي تساعد في إرشادك ولكن خذيها بتحفظ. فالأهم من مقارنة طفلك بأي جدول أو روزنامة هو ملاحظة ما يعمل عليه ومراقبة ما يفرحه. تواصلا معاً في أوج نموه.
اللعب عمل الطفل. يشجعه سروره في اللعب على الانغماس في هذه النشاطات التي تنبه نموه وتنميته شرط ألا يعيق هذه الآلية سيل من الترفيه اللافاعل (شيء تواجد فقط في السنوات الخمسين الماضية). يمكن أن ترضي النشاطات مثل مشاهدة التلفاز أو الألعاب التي تتحرك فيما يشاهد التلفاز رغباته الفطرية في اللعب والانتباه في آن معاً، مما يسلبه فرص النمو المليئة بالفرح (تماماً مثلما تستطيع الوجبات الخفيفة المعالجة والمهدرجة جزئياً أن تحل محل حبة خوخ ناضجة).
لمعرفة ماهية أفضل الألعاب في أي سن، أطفئي التلفاز، ضعي جانباً الألعاب السلبية وراقبي طفلك. سيبدأ أطفال كثر باللعب والتفاعل تلقائياً باستخدام ما هو بمتناول أيديهم؛ لاحظي كيفية اختيار طفلك للألعاب. إن فقد التوجيه أو أصيب بالإحباط، تفاعلي معه في إطار من اللعب وستبدأ خياراته بالظهور. يمنحنا اللعب التلقائي أفكاراً مهمة حول نمو الطفل.
يُبرز الطفل كثيراً من الطاقة في المهارات الجديدة. عادةً ما تكون النشاطات المبتدعة الأكثر إثارة للاهتمام والأكثر إمتاعاً. ما إنْ يبرع الطفل في شيء، سيود تكراره لينغمس في نجاحه، ولكنه في النهاية سيشعر بالملل فيغيّر النشاط ليبقى مثيراً للاهتمام أو ينتقل إلى نشاط آخر. ستحبطه النشاطات الجديدة أو الصعبة جداً ولن تتلاءم واهتماماته.
من مسرّات الأمومة أن تجدي نقطة التحدي لطفلك وتعدّي له فرص المتعة ليعلّم نفسه عبر الاستكشاف واللعب.
مع أن توقيت الإنجازات الفردية تختلف من طفل إلى آخر، ومع أن مناطق النمو كلها مترابطة ببعضها البعض، إلا أن كل مرحلة تشكّل جزءاً من قصة فريدة.
التمسك بالحياة
يمكن أن يتمسك الطفل بإصبع بالغ في يومه الأول من الحياة. وبفضل التصوير الفائق الصوت، نعلم أن الأطفال يستطيعون التمسك بأشياء في الرحم قبل أشهر. وندرك أن المنعكس ينبّه بعض أفعال الأطفال فيحدث بعض هذه المنعكسات مصادفةً ويكون البعض الآخر مقصوداً حتى لو لم يكن مضبوطاً أو منسقاً.
عندما يركّز الطفل ناظريه على شيء مثير للاهتمام، خاصةً في حالة اليقظة الهادئة، يتنشط على الأرجح. فقد يفتح يداه (وفمه) ويغلقهما. في النهاية، قد يحرّك الشيء بذراعيه و/أو ساقيه. هذا التفاعل خيار ينبهه شيء آخر يراه الطفل. قد لا تكون هذه الحركة قريبة حتى، ولكنها خطوة تجاه التنسيق الرائع بين اليد والعين الذي سينمّيه في السنوات المقبلة وسيسمح له بإتقان ربط شريط الحذاء، العزف على البيانو أو أداء عملية جراحية للأعصاب.
بسبب الفترة الفاصلة بين الاتصال بالعين والحركة، ولأن حركة اليد قد تكون بعيدة جداً عن الشيء، اعتقد بعض الباحثين أن هذه الحركة عشوائية أو منعكس بسيط (simple reflex) للحركة عندما يرى الطفل شيئاً. ولكن الباحثين في جامعة إثاكا (Ithaca) اكتشفوا أن الأطفال لا يضربون الشيء إنْ تذوقوه وكان المذاق مرّاً. بل إنهم يضربونه إن كان حلو المذاق. يعلم الطفل متى يريد ما يراه ويريده بين يديه. أحياناً، تحدث الضربة وأحياناً يمنحه أحد شيئاً مثيراً للاهتمام.
عندما يتمسك الطفل بإصبعك، غالباً ما يكون ذلك نتيجة منعكس جميل. والمنعكس فعل يحدث في بعض الحالات، ولا يتطلب خياراً واعياً لإحداثه. يُحدث المولودون الجدد سيلاً غنياً بالمنعكسات المبكرة.
إذا ضغط شيء على أخمص قدم طفلك، تتحرك أصابع قدمه نحو الأسفل ويتوقف (المنعكس الأخمصي). إن ضغط شيء على ذقنه، ستحاول يداه التقاط أي شيء في المتناول (المنعكس العقلي). وفي حال ضغط شيء على راحة يده، تنغلق أصابعه عليه (المنعكس الراحي) وتتوقف. سيمنحه الإحساس باللمس كثيراً من المعلومات حول هذا الغرض. سيعرف شعور وجود هذا الغرض في يده وما سيحدث عندما يتحرك ذراعه. سيصبح مألوفاً ومعروفاً بالنسبة إليه حتى من بين الأغراض المشابهة الأخرى. وسيستجيب بشكل مختلف إلى الأشياء المألوفة لديه.
بحلول الأسبوع الرابع من عمره، تنمو على الأقل مجموعتين من المعالجة البصرية في الدماغ. إحداهما مسؤولة عن الأغراض الصغيرة، المألوفة والقريبة من المتناول (مجموعة الفعل أو “كيف”). والأخرى مسؤولة عن الأغراض الأكبر حجماً والثابتة (مجموعة الإدراك أو “ماذا”). بحلول هذا الوقت، يزيد احتمال أن يضرب الطفل شيئاً إنْ كان قريباً من متناول اليد.
عندما يختفي منعكس التقاط الأشياء التلقائي شيئاً فشيئاً، يمكن أن يتعلم الأطفال فهم العالم من حولهم. كما يحدث في الواقع في أغلب الأحيان، يحل الخيار محل المنعكس. ويفسح الخيار المجال أمام سرور أكثر عمقاً. يزداد ذهول الأطفال بأيديهم ومن ثم بالأغراض التي يمكنهم حملها. إنّ اللعب معهم مصدر سرور كبير في هذه المرحلة.
أحب عرض لعبة جديدة على الطفل من وقت لآخر ليتمتع بفرحة الاكتشاف. يمكن أن تكون “الخشخاشة” الخفيفة ذات المقبض استثنائية. ويمكن أن تكون لعبة ناعمة ذات وجه بسيط ممتعة ومسلية. إنّ الوجوه الغريبة والمناظر والأصوات والبنى المثيرة للاهتمام ملائمة للاستكشاف. كما أن الكتاب الكرتوني المزيّن بالصور وخاصة الكتاب الذي قرأته لطفلك قد يشكّل لعبة عظيمة. ستدركين أي الألعاب تثير اهتمام طفلك وكيفية تغيّر ذلك مع الوقت.
لا يجب أن تكون الأغراض ألعاباً. يمكن أن تكون الأغراض المنزلية الشائعة أفضل للاستكشاف (إنْ كانت آمنة، وخالية من الأطراف الحادة أو الأجزاء الصغيرة التي قد يختنق بها الطفل). أحب إعطاء الطفل لفافة خالية من المناديل الورقية، وملعقة، وحبة كيوي، أو قطعة خشبية من لعبة الشطرنج التي رآني ألعب بها.
التواصل
مع الوقت، يصبح سلوك الطفل أكثر تطوراً ودقة. سينتقل من الحركات غير الموجهة عند رؤية الأشياء إلى الاهتزاز الهادف. ومن التمدد على بطنه ومدّ ذراعه لقلب لعبة قريبة إلى التقاط غرض بيده. عادةً، يلتقط الطفل الأشياء أولاً بالإصبع الصغير وينتقل إلى جانب الإبهام بتمرّس وهو يقهقه. ثم يظهر براعته المنبثقة عبر نقل الألعاب من يد إلى أخرى بمرح واضح، ثم عبر حمْل لعبتين في وقت واحد! بعدئذٍ، يضربهما ببعضهما البعض بسرور كبير. وسرعان ما يبدأ بالتحديق بالأغراض الأصغر حجماً مذهولاً بالأشياء التي بحجم حبوب الزبيب فيما يشكّل قبضة مُحكمة. في الوقت الذي يبدأ فيه بأخذ خطواته الأولى، لا يكون مستعداً للإمساك بالأشياء وحسب بل أيضاً لإنشاء شيء بها واستجماع قوته وعرضها عبر هدم ما أنشأه.
عاينت دراسة من فرنسا التغيّرات الحاصلة في التواصل. فقد حاول الأطفال الصغار التواصل عبر استخدام الذراعين والساقين. ومع نموهم، راحوا يحاولون الوصول إلى الأشياء بكلتا اليدين. بعدئذٍ، أصبحوا يميزون. فبدأوا يحاولون الوصول إلى الأغراض الكبيرة الحجم باليدين الاثنتين والأغراض الصغيرة بيد واحدة (ليس بالضرورة اليد التي ستصبح سائدة في السنة الثانية). في الوقت الذي استعدوا فيه للمشي، كانوا يتواصلون بيد واحدة مفتوحة بحجم الشيء.
الانضمام إلى رحلة الطفل
فيما تنضمين إلى طفلك في رحلة التواصل، ستصبحين بارعة في ملاحظة أنواع الأغراض والألعاب التي يتمتع بها أكثر من غيرها. قد تلاحظين أنه يحب التمدد على بطنه مع لعبة بعيدة عن متناوله، إن كانت قريبة جداً، فلا تحدٍّ في ذلك، وإنْ كانت بعيدة جداً، يصبح الأمر محبطاً. ولكن دعيه يتمطط قليلاً وراقبي ابتسامة الرضا والنجاح على وجهه. وقد تكتشفين أنه يحب التمدد على ظهره فيما تعلقين ألعاباً ملونة فوقه حيث تكون في متناوله. ستعلمين أنك على الطريق الصحيح فيما يقهقه عندما يصل إلى اللعبة بنجاح ويلتقطها ويضمها إلى صدره بفخر.
إنني أحب الألعاب كثيراً، ولكنني أشك في بعض الألعاب المنتشرة في السوق، لأنها تضغط على الأهل أو الأولاد أو لأنها تعيق رغبات الأطفال الفطرية للاستكشاف والمهارة. إنّ عربة المشي الخاصة بالأطفال (Walker) حيث يجلسون فيها ويدفعون بأنفسهم حول الغرفة هي خير مثال على ذلك. كانت هذه العربة معروفة جداً لأن الأطفال يستمتعون بها فيما يستغل الوالدان الفرصة للقيام بأمور أخرى. ثم اكتشفنا أن الأطفال الذين استخدموا عربة المشي حققوا رغبتهم في التحرك في أنحاء الغرفة بدون تكبّد عناء الحبو، مما أعاق نموهم الطبيعي. من جهة أخرى، إنّ الألعاب المتحركة التي يدفعها الأطفال ويستندون إليها مثل بعض الألعاب الرائعة ذات المقابض تساعدهم على تحقيق أهدافهم في التحرك في أنحاء الغرفة وتساهم في نموهم.
هناك فكرة تدعى “القفازات اللزجة” (Sticky mittens) ويمكن أن تكون ممتعة في إطار صحي للأطفال الذين يحاولون تعلّم كيفية التقاط الأشياء. لهذه القفازات راحتين من الفيلكرو (Velcro) تلتصقان بأطراف الألعاب مما يسمح للطفل بالتقاط الشيء وتحريكه قبل تمكنه من فعل العكس. من الواضح أن الأمر ممتع. راقبت آيمي نيدهام وزملاؤها في قسم العلوم النفسية والدماغية في جامعة ديوك، ما قد يحدث إذا لعب الأطفال (ما بين شهرين وثلاثة أشهر من العمر) بهذه القفازات خلال عشر دقائق يومياً على مدى أسبوع أو أسبوعين. هل يزيل ذلك الرغبة في الاستكشاف؟ على العكس، ما إنْ يُنزع القفازان، يظهر الأطفال الذين تمتعوا بوقتهم اهتماماً كبيراً بالأشياء الموجودة حولهم أكثر من نظرائهم. لقد أثبت الأطفال “الذين يستخدمون القفازات” أنهم مستكشفون تواقون بدأوا باستعمال أساليب أكثر تطوراً في التقاط الأشياء. كما أنهم أسقطوا الأشياء بمعدل أقل من نظرائهم عند إزالة القفازات.
ربما منحت قفازات الفيلكرو الناجحة الأطفال ثقةً ومعلومات حول كيفية التحرّك بحرية. وقد تكون الدقائق العشر الإضافية من الانتباه الذي يوليه الوالدان هي التي منحت الثقة. ولكن على المدى القصير، تبدو القفازات “مساعداً” حقيقياً للأطفال الذين يتعلمون تطبيق الفيزياء في المنزل.
يؤسر الأطفال بأشكال الأشياء فيما تنمو قدرتهم على التقاطها. ويزيد فضولهم (وإدراكهم) حول كيفية تناغم العالم من حولهم. في دراسة أولية جرت في جامعة ديوك، اكتشفت آيمي نيدهام أن الأطفال الذين يبلغون من العمر أربعة أشهر يهتمون بالأشكال المختلفة أكثر من الألوان أو الأنماط المختلفة. وأثبت العمل في جامعة رينيه ديكارت في فرنسا قدرة الأطفال في الشهرين الثالث والرابع على تمييز الأشكال الثلاثية الأبعاد حتى لو كانت في رسم ثنائي الأبعاد. فهم يلاحظون إن كان هناك أي شيء غير متناسب أو متناغم.
يراقبك طفلك وأنت تقومين بالأعمال في محاولة منه لفهم العالم من حوله. في دراسة رائعة أجريت في جامعة شيكاغو، أحضرت الباحثة أماندا وودورد شخصاً حيث وضع يده على إحدى اللعبتين فيما راقبه أطفال في الشهر الخامس من العمر. بعد رؤية هذا الأمر عدة مرات، وضع الشخص يده على اللعبة الأخرى أو شيء آخر مختلف. لم يبدِ الأطفال أي اهتمام. ولكن عندما حاول الشخص الوصول إلى اللعبة والتقاطها، تنبه الأطفال لذلك وأبدوا اهتماماً حيال نوع اللعبة التي بلغها وكيفية وصوله إليها. حتى في هذا العمر، انتبه الأطفال للحركات العشوائية مقابل تلك الهادفة وخاصة الحركات التي يحاولون تعلمها.
ويمكن أن يحدث ذلك في وقت سابق! في تعاون مثير للاهتمام، تعمل كلّ من أماندا وودورد وجيسيكا سومرفيل من جامعة شيكاغو مع آيمي نيدهام من جامعة ديوك لمعرفة كيف تتمكن القفازات اللزجة من تغيير نظرة الأطفال للعالم من حولهم. تقترح النتائج الأولية أن جلسة واحدة فقط مع استخدام القفازات تمنح الأطفال إحساساً بتوفّر الإمكانيات التي توقظ ذهولهم بالأشياء التي تلتقطينها قصداً قبل ملاحظتهم العكس بفترة طويلة.
محققون صغار
إن طفلك محقق في مهمة، محقق لا يحتاج إلى دفتر ملاحظات لتدوين النقاط الأساسية التي يكتشفها. إنه يولي انتباهاً لتعلّم الأسباب والنتائج المتعلقة بحركاته. أحضر باحثون من جامعة ميشيغان أطفالاً في الشهر الثالث من العمر ووضعوا كلاً منهم على حدة تحت شيء يثير اهتمامهم ويقبل التحرك. إن ثنى طفل ركبته اليمنى بمعدل يفوق 85 درجة، يكافئ العلماء الطفل عبر تحريك الشيء الذي يثير اهتمامه. اكتشف الأطفال تماماً ماذا يتطلب الأمر لإبقاء موضوع اهتمامهم يتحرك، وعندما أحضروا مجدداً للاختبار بعد 24 ساعة ثم بعد 72 ساعة، كانوا لا يزالون يحفظون الطريقة التي تحقق لهم مبتغاهم.
ينتبه الأطفال للأمور الأساسية التي تفوق ما يرونه ويشعرون به. أحياناً، يستغرقون بعض الوقت لمعرفة ماهية الأمور المناسبة. لقد أجرى الباحثون في جامعة سانت جون دراسة مماثلة حيث تعلم أطفال في الشهر الثالث من العمر ضبط هاتف جوال بوجود عبير يفوح في أرجاء الغرفة. عندما حاول الأطفال مجدداً في اليوم التالي، تذكروا ما تعلموه إنْ كانت الرائحة نفسها موجودة. أما إذا لم تكن الرائحة موجودة فلم يكونوا أكيدين من تطبيق القواعد نفسها لذا اختبروا مجدداً وتمكنوا من تحريك الهاتف. وارتبك الأطفال عندما اختلفت الرائحة في الغرفة وشعروا كأنهم لم يروا الهاتف من قبل. يتعلم الأطفال أيّ الأمور هي مهمة وأيها غير مهمة فيما يحاولون فهم العالم من حولهم.
وبصفتك أم، تصبحين محققة بنفسك فتتمكنين من حلّ اللغز المتغيّر دائماً حول ما سيجعل طفلك يبتسم. والمفاتيح الأساسية التي تكتشفينها هي أفضل مفاتيح النمو التي من المهم أن يتعلمها الطفل. يتحمس الأطفال كثيراً حيال المهارات التي سيبرعون فيها. إنْ حاولت إشراك طفلك في نشاط دون مستوى نموه، سيشعر فوراً بالملل. وإن حاولت إثارة اهتمامه في شيء غير مستعد لتعلّمه، سيشعر بالاستياء. تذكري أن الأطفال لا يميلون إلى البكاء عند الفشل إنما يبكون عندما يكون النشاط دون مستوى نموهم. ومهمتك هي إيجاد منطقة التحدي المعتدل أي منطقة المتعة. أمّني المتعة له بحيث يستطيع التعلّم من خلال الاستكشاف واللعب.
لا ترغمي الطفل على التعلّم ليحقق أقصى إمكانياته. إنّ الإرغام على التعلم يعيق النمو. تنطبق هذه المبادئ على الأطفال “الموهوبين”، و”المتوسطي الذكاء” و”ذوي الحاجات الخاصة”. لا يمكنك جعل طفلك عبقرياً عبر إرغامه. إسترخي. تمتّعي بوجوده. أمّني له بيئة محفزة، ومغذية، وجيدة وسيزداد نموه مثل جوزة البلوط التي تصبح شجرة تماماً كما نما قبل ولادته عندما كان في أحشائك. راقبي بتعجب فيما يحثه الدافع الداخلي للنمو على المُضي قدماً. تمتعا!
التقاط اللغة
هناك جانبان للغة: الفهم والكلام. وينمو الاثنان ترادفياً إلا أن الفهم أو اللغة التقبلية يقود في كل مرحلة. تنمو اللغة التقبلية قبل ولادة الطفل فيما يبدأ بتذكر الكلمات، الأصوات، والموسيقى والاستجابة إليها بالإضافة إلى نبضات قلب الأم المتواصلة. كل جزء صغير من اللغة التعبيرية التي تسمعينها هو غيض من فيض اللغة التي سمعها طفلك، وتعلمها، وتذكّرها.
سندع جانباً بكاء الطفل لبعض الوقت، أي الألفاظ التي تبدأ مع أول نَفس ثم تصبح أدوات تواصل معقدة مع أنواع مختلفة من البكاء ومتطلبات مختلفة. لن نأخذ بعين الاعتبار هنا صراخ الأطفال ولكن الهمسات، النمو الساكن للغة المحكيّة.
هديل الحمام
يبدأ الأطفال بإطلاق أصوات ليّنة، وناعمة، وجميلة لا تكسرها المقاطع اللفظية. مع مرور الأسابيع، يبدأ الأطفال بتغيير حجم أصواتهم. وفي غضون عدة أشهر، يتمرنون على طبقة الصوت. يحدث الأمر عينه مع الأطفال الصُّم. وبالطبع، ينتبه طفلك لمخارج الحروف فيتعلم منك. عرض باحثون في جامعة كولومبيا في بريطانيا أمام أطفال يبلغون أربعة أشهر ونصف الشهر من العمر، شريط فيديو لوجهي امرأتين تحيط بهما ستائر سوداء. لفظت إحداهما حرف اللين (vowel-i) فيما لفظت الأخرى وفي الوقت عينه حرف اللين (vowel-a). ولفظ مذياع يفصل بينهما، الحرفين في الوقت نفسه. استدار الأطفال لمراقبة الوجه الذي شكلت شفتيه الحرف الذي سُمع على المذياع. كما أنهم يحاكون هذا الحرف على الشاشة.
رسائل مشفرة
في فترة ما في النصف الثاني من السنة الأولى، يبدأ الطفل بالتكلم. إنه مزيج من حروف اللين والحروف الساكنة. تختلف كمية الكلام ونوعيته بحسب ما يسمعه الطفل وما يقوله له الآخرون.
بحسب التقاليد يشار إلى أن كلام الأطفال يحدث من جراء فتح وإغلاق الفم والفكين وتعلم كيفية استخدام الشفتين واللسان. ولكن الأبحاث الأخيرة أظهرت براعة الأطفال في فك الرموز السرّية التي يتواصل من خلالها الأهل. فهم يفعلون ذلك مثل الخبراء عبر تفكيك الرمز إلى أجزاء صغيرة. وتقدّم دراسة نُشرت في عدد 6 أيلول/سبتمبر 2001 من مجلة الطبيعة الأدلة حول هذا الأمر. درست الدكتورة لورا آن بيتيتو أطفالاً يسمعون بشكل طبيعي، ولكن وُلدوا من أب وأم مصابين بالصمم ويتواصلون بشكل أساسي بلغة الإشارات. تكلم هؤلاء الأطفال بأيديهم! وأنتجوا قليلاً من لغة الإشارات. أعتقد أن الكلمات “ماماما” و”بابابا” ليست مجرد ألفاظ عشوائية ولكنها جزء من عملية محاكاة، اختبار وفهم متطورة جداً تمكّن الأطفال من حلّ سر لغة غريبة أسرع مما أستطيع أن أفعل ذلك.
إنّ لفظ “بابابا” أسهل من قول “ماماما”. لا أعرف إنْ كانت الأم في ما مضى تسمع هذا اللفظ وتُخبر الأب بأن اللفظة تعني “أبي” (لجذب انتباه الأب وجعله يشعر بتحسن). أو ربما يحاول الطفل جذب الأب.
كلام الطفل
سرعان ما تحل لغة الرطانة محل التكلم المبهم، عندما يبدأ الطفل بمحاكاة ألفاظ البالغين وأصواتهم. ويواصل البربرة ولو لم تعلمي ذلك لأقسمتِ أنه يتكلم لغة حقيقية. خلال هذه الفترة، يبدأ الطفل بالإشارة إلى الأشياء من حوله. إن الإشارة هي مفتاح أساسي في تطور اللغة.
يبدأ الطفل بلفظ بضع كلمات مستخدماً اللفظ نفسه للشيء نفسه مراراً وتكراراً. قد تكون اللفظة “طا” للطابة أو “كا” للكلب. عادةً ما تكون الكلمات الأولى أسماء لأشخاص، حيوانات أو أشياء مهمة للطفل.
وتظهر أيضاً الإيماءات الرمزية (Symbolic gestures) في هذه الفترة. قد يحمل الطفل مثلاً جهاز التحكم عن بعد ويتوجه نحو التلفاز ليشير إلى أنه يعرف كيفية استعماله. كما أن وضع قبعة على رأسه والهاتف على أذنه كلها إيماءات رمزية.
غالباً ما تكون مدة تعلّم الكلمات الخمسين الأولى بطيئة جداً. قد يقول أو لا يقول الطفل كلماته الأولى قبل أخذ خطواته الأولى، ولكنه سيفهم معنى الكلمات قبل وقت طويل من نطقها. ويعمل الطفل على التلفّظ بها.
ما هي الكلمات التي يتعلّمها الطفل بسرعة؟ ليست الكلمات التي يسمعها باستمرار إنما الكلمات التي يسمعها في معظم الأحيان كتواصل أحادي الكلمة وفقاً للبحث الذي أجراه مايكل برنت، الحائز على دكتوراه في الفلسفة، والذي قدّم نتائج بحثه في اجتماع الجمعية الأميركية لتطور العلوم في سان فرانسيسكو في العام 2001. يتكلم الوالدان غريزياً مع الطفل مستخدمين كلمات أحادية إلا أن هذه الغريزة تعطي ثماراً حقاً. فحوالى 9 بالمئة من كل ما تقوله الأم لطفلها يتألف من كلمات منفردة. لا يهم إن كانت الكلمة اسماً، فعلاً، نعتاً أو ظرفاً. إنّ الكلمات المستخدمة في أغلب الأحيان بشكل منفرد تشكّل أساس اللغة.
عادةً ما تكون الكلمات الأولى بسيطة ومفيدة جداً للاستجابة إلى حاجات الأطفال. يبالغ معظم الأطفال في هذه الفترة في التعميم (كل الرجال هم “بابا”، كل الحيوانات “كلاب”) أو في الحصر (قطتي فقط هي “هرهور”). تظهر بعض الكلمات وتختفي أخرى في مفردات الأطفال مما يسبب القلق للعديد من الأهالي خاصة إنْ لاحظوا أن أطفالاً آخرين في العمر نفسه يتكلمون بطلاقة. ولكن خلال الانتظار الطويل لخروج الكلمات المنفردة، يتطور فهم غني ومعقد.
لغة جديدة
في النهاية، بعد سنة أخرى، تتفجر الكلمات في قاموس طفلك. هذا يحصل عندما يتعلم الطفل بسرعة جمع واستعمال مئات الكلمات بطرق فريدة. يتفوّه معظم الأطفال بألفاظ مبتكرة خلال هذه المرحلة مما يشكل ذكريات جميلة للطفل. فتدخل الأفعال والنعوت والضمائر في قاموسهم.
بعد مرحلة أخرى، تتفجر طاقات لغوية أخرى لدى معظم الأطفال تتعلق هذه المرة بتعقيد الجملة. في البداية، تنتهي كل العبارات بصيغة الماضي بنفس الطريقة بالإضافة إلى صيغة الجمع. تترسخ قواعد علم النحو والصرف كما تتضح الأمور في نفس الوقت. سيتمكن الأشخاص غير المقربين من فهم كل ما يقوله الطفل.
ستطور اللغة بسرعة مما يتيح للطفل التلاعب بالألفاظ. سيميز التلاعب اللفظي والدعابات هذه الفترة الرائعة من النمو. إلا أن غزارة الكلام لدى طفل في الرابعة من العمر تبدأ مع بدايته في التكلم وقبل ذلك أي عندما كان يسمع صوتك في الرحم.
رحلة مشتركة
ليس من الباكر أبداً البدء بالاعتياد على القراءة لطفلك. إنّ الكتب المقفاة ببساطة رائعة جداً (تركت كتب ذكريات الدكتور سوس أثراً كبيراً في نفسي منذ الطفولة)؛ بالإضافة إلى الكتب المصورة حيث يمكنك الإشارة إلى الصور (يفهم الطفل الصور). يمكنك وطفلك الاستمتاع بعادة القراءة خلال سنوات الطفولة والسنوات التي تليها (أحب الاستماع إلى والديّ فيما يقرآن لأطفالي أو أطفالي يقرؤون لهما، إنها لحظة حقيقية تجمع أفراد العائلة). من شأن القراءة أن تسرّع وتعمّق النمو اللغوي، والتقارب وفهم العالم.
إبتسم. وجد الباحثون في جامعات جورجيا ويوتا وميامي علاقة مثيرة للاهتمام بين الابتسام وتعلّم اللغة. لقد راقبوا الأمهات والأطفال في تفاعلات مباشرة وجهاً لوجه. تراوحت أعمار الأطفال الذين تمت مراقبتهم بين 4 و24 أسبوعاً. عندما كانت الأم تبتسم وتحدّق إلى طفلها أو عندما يبتسم الطفل ويحدق إلى أمه، كانت كمية ونوعية (شبه كلام) عند الأطفال تزداد بشكل ملاحظ. كما أن مقدار الأصوات الشبيهة بالكلام كان أكثر ارتفاعاً عند ابتسام الأم ابتسامة دوشين (أي عندما ترتفع الوجنتان) خاصةً إن كان الطفل يحدق في وجه أمه ويبتسم لها.
التفاعل اللغوي. تعلم طفلك نتيجة فترة طويلة من الاستماع إليك أن اللغة المحكية تبرز بشكل مفاجئ. قد يتكلم بإبهام ثم يتوقف وينتظر ما ستقولينه. والآن دورك. تكلمي بلغة طفلك واستخدمي كلماته. تصرفي وكأنكما تفهمان تماماً ما يقوله كل منكما للآخر. سيتعلّم طفلك مئات الكلمات من خلال هذه المحادثات مع أنه لن يتمكن من قول أي منها لفترة طويلة. في هذه الأثناء، ستفهمين ما يحاول طفلك قوله.
إشارة مهمة. سينبثق الكثير من الانصهار العاطفي الذي سيختبره الأطفال بين الشهر التاسع والشهر الثلاثين عن الإحباط من عدم تمكنهم من التواصل. فأفكارهم تسبق مهاراتهم اللغوية النامية. سيرتاح كل منكما أكثر كلما تعلم الطفل كيفية التعامل مع أفكاره المتضاربة والحادة.
إن هزّ الرأس أو تحريك اليد أسهل بكثير من تعلّم تحريك الشفتين، والفك، واللسان الضروريين للتفوه بكل كلمة جديدة. في العادة يتم تعلّم كيفية تنسيق حركة العضلات الكبرى قبل تعلم كيفية تنسيق العضلات الصغرى في الوقت نفسه الذي يودّ فيه الطفل التعبير عن نفسه.
يتحمس معظم الأطفال قبل عيد مولدهم الأول لتعلّم كلمات مهمة مثل “لا”، “إلى اللقاء = باي باي” وأسماء الأشخاص والحيوانات المقربين إليهم. يجعل الوالدان الأمر أكثر سهولة عندما يلوحان بيديهما كلما قالا “إلى اللقاء”، ويحركان رأسيهما مع كل كلمة “لا” ويمسدان باطن يديهما عند التكلم عن الهرة. قد تودين اختيار إشارات لتمييز كل فرد من أفراد العائلة.
لا يجب أن تتطابق الإشارات المستخدمة من قبل عائلتك وإشارات الغير. إن الإشارات تكون فعّالة إن كانت طبيعية وسهلة الأداء وإن استخدمها كل أفراد العائلة بشكل متناغم. بعبارة أخرى، لا تحاولي قول “هرة” بدون تمسيد اليد ولا تحاولي تمسيد اليد بدون قول “هرة”.
إن أردت اختيار إشارات جديدة خلال الأشهر العديدة التالية، سيكون من المهم مراقبة عما يريد الطفل التواصل. يفضل معظم الأطفال طرقاً بسيطة للتعبير عن متطلبات أساسية مثل “أنا جائع”، “أنا عطشان”، “غيّري حفاضي”، “إحمليني”، “أنزليني” أو “خذيني في نزهة”. قد يبدأ الطفل بكل بساطة بوضع يده على فمه للتعبير عن “الرغبة بتناول الطعام”؛ إرجاع رأسه إلى الخلف للتعبير عن “العطش” والتربيت على مؤخرته ليشير إلى “حاجته لتغيير الحفاض”. كما أن المقاطع الانتقالية يمكن أن تكون صعبة على الأطفال في هذا العمر، لذا قد تفيد إشارة بسيطة لقول “انتهى كل شيء” (راحتان ممدودتان أو النقر على ساعة اليد).
تنتج هذه الحركات البسيطة جداً طرقاً جيدة للوالدين للتواصل مع طفلهما. إنهما يجعلان الوقت أكثر غنًى ويعمقان الروابط العائلية. مع تدخّل أفراد العائلة الآخرين، لا تقلل الإشارات من النوبات المزاجية والإحباط لدى الأطفال فحسب بل تخفف أيضاً من حدة المنافسة بين الأخوة.
يُعدّ كتاب إشارات الأطفال من تأليف ليندا أكريدولو وسوزن غوودوين مورداً رائعاً لأهالي الأطفال ما دون الثلاث سنوات من العمر. وبالنسبة للعائلات أو العاملين في الحضانات الذين يستخدمون لغة الإشارات الأميركية، يمكن أن تؤمن هذه الأخيرة الفوائد نفسها مثل إشارات الأطفال طالما أن الإشارات بسيطة.
أعطني إياها. تشكل لعبة الأخذ والرد طريقة للتمرن على الالتقاط واللغة. قدمي لطفلك غرضاً مثيراً للاهتمام ليلتقطه. ثم مدّي يدك واطلبي أن يعيد الغرض إليك. يمكنك الاستمرار في هذه اللعبة قدر ما تشائين.