الحصبة هي مرض فيروسي حاد، شديد العدوى وسريع الانتشار، يتفشى على شكل وباء في بعض الأمكنة ويصيب الأطفال بين 3 و12 سنة عموماً، من دون استثناء الكبار فيما مضى، كما لايزال يصيبهم بكثرة في عصرنا الحاضر. هذا ما تورده الأخبار الطبية الفرنسية حيث سجل في العام الماضي خمسة آلاف إصابة لدى الكبار، وسجلت إصابات عديدة في كثير من الدول الأوروبية (بريطانيا، ألمانيا، هولندا..) ما استرعي اهتمام الأوساط الطبية في فرنسا، والتوقف عند هذا الحدث الطبي المفاجئ، لمعرفة الأسباب الحقيقية وما ينبغي القيام به للوقاية في المستقبل القريب، والحد من عودة المرض لدى الأطفال الذين لم يحصلوا على اللقاح في طفولتهم، لأسباب أثنية ومعتقدات دينية. وربما يعود سبب تفشي العدوى بين صفوف هؤلاء البالغين إلى عدم حصولهم على اللقاح خلال الطفولة، مما يحدث حلقة مفرغة في تطور المرض مجدداً.
في العقود الماضية سميت الحصبة بالمرض الإجباري، بحيث كانت تصيب نسبة 90 إلى 95 % من المجموعات البشرية لا سيما في المدارس وحضانات الأطفال وداخل العائلة الواحدة.
ومنذ بدء العمل باللقاح في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي (1958)، أخذت حملات التلقيح الجماعي تؤدي دورها في محاولة القضاء على المرض، حتى أنه انقرض في كثير من بلاد العالم، لنعلم أنه في الولايات المتحدة الأميركية لا يسجل أكثر من ألف إصابة سنوياً، ما يشكل أقل من إصابة لكل نصف مليون أميركي؛ واستطاعت فرنسا التوصل إلى عتبة 90 % من الحماية لمواطنيها ضد هذا المرض الذي كان يفتك بالطفولة فيما مضى، كذا سائر بلاد أوروبا الغربية باستثناء ايطاليا والدانمرك والجزر البريطانية وهي لا تزال تشهد موجات دورية لهذا المرض. كما ويلاحظ إعادة تفشي الحصبة في بعض دول أميركا اللاتينية (كولومبيا وفنزويلا).
أما في لبنان فإن مصادر منظمة الصحة العالمية، اليونيسيف لرعاية الطفولة ووزارة الصحة، تفيد عن انحسار المرض بشكل ملحوظ خصوصاً في العقد الأول من القرن الحالي، حيث يسجل تغطية ضد مرض الحصبة تصل نسبته إلى 90 % من الأطفال والأولاد، وذلك عائد إلى البرنامج المستمر الذي وضعته المنظمات الآنفة الذكر، للتلقيح الدائم تحت إشراف وزارة الصحة بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية ومشاركة الهيئات الأهلية التطوعية غير الحكومية إلى جانب القطاع الطبي الخاص، وكان الهدف المبتغى القضاء على مرض الحصبة بحلول العام 2006؛ وبالواقع ورغم عدم وجود إحصاءات دقيقة في لبنان في هذا المجال، يمكننا القول، ومن ناحية عملية، إن المرض وصل إلى درجة الانقراض، اللهم إلا في حالات فردية التي تسجل في مناطق محدودة في بعض المواسم، ومن المؤكد أننا لم نعد نرى المرض شبه الوبائي كما في العقود الماضية.
في بقية بلدان العالم ولاسيما في أفريقيا، لا يزال المرض ينتشر بنسبة مرتفعة، حيث تورد الإحصاءات الفرنسية الأخيرة حصول ما بين 30 إلى 40 مليون إصابة و900 ألف حالة وفاة في العالم سنوياً، يحصد المرض نصفها في أفريقيا (كينيا، تنزانيا، أوغندا، الكاميرون وغيرها).
ما هو سبب مرض الحصبة، متى يحصل وما هي أعراضه؟
الحصبة مرض فيروسي، معد جداً، يحصل عادة على شكل وباء وخصوصاً في فصلي الشتاء والربيع مسجلاً إصابات فردية في بقية فصول السنة في البلاد التي لا تزال معرضة للوباء، لا سيما تلك التي تعاني من نقص في الوقاية وحملات التحصين المستمرة.
ينتمي فيروس الحصبة النوعي إلى عائلة (Paramyxoviruses) ويتم انتقال العدوى عن طريق الهواء بواسطة رذاذ اللعاب من المريض عبر السعال، العطس، التكلم أو من خلال إفرازات المصاب (سائل مخاطي، دم، بول) أو من خلال ملامسة ثيابه وأغراضه الخاصة.
يمر تطور المرض وظهوره الواضح بثلاث مراحل، تسمى الأولى فترة حضانة تكون فيها العلامات السريرية قليلة النوعية (رشح، سعال خفيف الحدة، شعور بالتعب..)؛ تلي هذه المرحلة فترة ظهور بثور داخلي أو طفح باطن (enanthem) وإفرازات في الأغشية الداخلية كالرشح (coryza) مع احمرار جفون العيون واحتقانها (التهاب الملتحمة Conjunctivitis)، التهاب في الفم واحتقان في اللوزتين، يصاحب كل ذلك سعال حاد وناشف وارتفاع في حرارة تتصاعد تدريجاً على مدى 3 إلى 4 أيام لتصل في اليوم الخامس إلى 39.5 إلى 40.5 درجة مئوية، يبدأ عندها ظهور طفرة جلدية زهرية اللون تتمركز أولاً في الرأس (خلف الأذنين عادة) لتجتاح نزولاً مناطق الصدر، الظهر، الجذع والأطراف وتكتمل في اليوم الثامن أو العاشر من بدء المرض.
بعد انتشار الطفرة تبدأ مرحلة اختفاء البثور الجلدي الاحمراري تدريجاً لتترك الجلد مدبوغاً، مرقطاً كجلد النمر بعد ذلك لمدة أسبوع.
يعتمد التشخيص الإيجابي للمرض على مجموعة من العلامات السريرية ومراقبة تطوراته بالانتباه إلى استمرار ارتفاع الحرارة، التي تسفر في اليوم الخامس عن علامة بثور بيضاء تلمع كحبات اللؤلؤ على غشاء الخد الداخلي بالقرب من قناة الغدة النكفية (التي تفرز اللعاب في الفم) هي علامة نوعية هامة تؤكد التشخيص المبكر قبل ظهور أية طفرة.
أما التشخيص التفريقي للحصبة فيشمل بعض الإصابات البكتيرية كالحمى القرمزية (أو الحميرة)؛ أو الفيروسية كالحصبة الألمانية والطفرة الفجائية عند الأطفال، فلكل منها علامات فارقة وواضحة لطبيب الأطفال، ما يساعده على مراقبة تطور الحرارة والطفرة على السواء، ومدة حضانة واختفاء كل منها والعلامات السريرية النوعية الخاصة بكل حالة.
ما هي مضاعفات الحصبة؟
هي أمراض تصاحب الحصبة أو تليها نذكر أهمها: التهاب الأذن الوسطى، احتقان الحنجرة الحاد، التهاب القصبة الهوائية، التهاب الرئة الحاد، التهاب الأمعاء….
جميع هذه الاشتراكات ناجمة عن إصابة الطفل بجراثيم (بكتيرية عموماً) وليس لها أية علاقة بفيروس الحصبة، عندما نعلم أن مرض الحصبة يؤثر سلباً على قوة الدفاع المناعية لدى الطفل وتجعله معرضاً للإصابة بجراثيم أخرى، أهمها وأخطرها على الإطلاق إصابة السحايا والدماغ (التهاب السحايا والدماغ Meningoencephalitis).
إرشادات ونصائح لعدم الأخذ بنظريات بائدة تشكل خطراً على الطفل أكثر من الحصبة
يبقى أن نلقي نظرة على ما كان يجري في بلادنا في العقود الماضية، من طريقة التصرف الخاطئ مع الطفل المصاب بالحصبة في أغلب الحالات، وهي نظريات لا تمت إلى الثقافة الصحية والعناية الطبية بأية صلة، ويؤمل ألا تحدث في أيامنا الحاضرة مع الأجيال المثقفة من الأمهات الشابات بخاصة. تلك النظريات كانت تودي بحياة العشرات من الأطفال والأولاد حيث كان الطفل المصاب بالحصبة فريسة وضحية لهذا التصرف الجاهل عندما يطرح في الفراش ويغطى (بلا مبالغة) بكمية من الأغطية الصوفية والبطانيات، وتسد عليه جميع النوافذ مع القيام بالتدفئة الفائقة (إشعال المدفئة أو كانون الفحم في المناطق الجبلية)! وتغذيته بالأطعمة الساخنة (شوربة العدس خصوصاً)؛ كان هذا التصرف الخطير على صحة الطفل، يعتمد على أن المصاب بالحصبة يجب تدفئته جيداً مع عدم القيام بتخفيض درجة الحرارة العالية بالأدوية (التي يصفها الطبيب) لأنه حسب اعتقادهم الذي لا مجال للنقاش فيه أنه مع هبوط الحرارة يحول دون ظهور الطفرة في الجلد وتبقى كامنة داخل جسم الطفل فتقتله..!!!؟ وفي هذه الحال يمنع الطفل من معاينة الطبيب تفادياً لوصف دواء للحرارة. وتكون النتيجة تعرض الطفل لأخطر أنواع الاشتراكات أهمها وأخطرها، إصابة الدماغ، عندما نعلم أن حرارة الحصبة تصل إلى 40 إلى 40.5 درجة مئوية ويزاد عليها التدفئة لتصل إلى 41 إلى 42 درجة، واستمرارها على هذا المنوال بشكل مستمر، يؤدي إلى خسارة كمية كبيرة من الماء والأملاح من جسم الطفل (نتيجة التعرق الزائد والمفتعل) ما يشكل سبباً إضافياً خطيراً لإصابة دماغ الطفل ورئتيه وغيرهما من أعضاء جسمه. خلافاً لذلك يتوجب احترام فترة حضانة الجرثومة في الجسم (وهذا ما يشرحه الطبيب عادة للأهل) والعمل على تخفيض درجة الحرارة عندما تتجاوز 39 درجة حتى لا تشكل خطراً.
لذا تأمل جمعية أطباء الأطفال من الأمهات، وأكثرهن مثقفات في عصرنا الحاضر، الأخذ بإرشادات الطبيب لأنه هو الأعلم بالمرض وتطوراته، وبوسائل الوقاية من مضاعفاته الخطيرة.
ما هي سبل الوقاية من الحصبة؟
تبقى الوقاية خيراً من العلاج، وخير علاج للحصبة هو اللقاح والتحصين بلقاحات تذكيرية.