كيف تبدأ المشكلات المتعلقة بالتغذية في الظهور؟
لماذا لا يأكل معظم الأطفال بشكل جيد؟ في أغلب الأحيان يكون السبب أن الآباء والأمهات يحاولون -بدافع من اهتمامهم الزائد المبالغ فيه- أن يجعلوا أطفالهم يأكلون جيدا! فنحن لا نصادف عددا كبيرا من مشكلات التغذية بين الحيوانات الأليفة، أو بين الأطفال في المناطق التي تفتقر الأمهات فيها إلى معرفة معلومات كافية عن الأنظمة الغذائية؛ مما لا يشعرهن بالقلق. إن بعض الأطفال يولدون بشهية قوية تظل مفتوحة حتى عندما يمرضون أو يشعرون بالحزن، أما سائر الأطفال فقد تتأثر شهيتهم بسهولة أكبر بالحالة الصحية والمعنوية، وغالبا ما يكون لدى الأطفال الرضع جميعهم شهية تمكنهم من الحفاظ على صحتهم واكتساب الوزن بمعدل معقول.
تبدو المشكلة في أن الأطفال لديهم غريزة فطرية تجعلهم يعاندون إذا ضغط الأهل عليهم بشدة، ولديهم غريزة أخرى قد تجعلهم يشعرون بالاشمئزاز من أنواع الأطعمة التي تتعلق في أذهانهم بتجارب مزعجة مروا بها أثناء تناولها. وثمة مشكلة أخرى أيضا؛ هي أن شهية الأطفال تتغير -في معظم الأحيان- بشكل لحظي، فقد يظل طفل يرغب في تناول كمية كبيرة من قرع العسل على الإفطار أو نوع جديد من حبوب الإفطار، بينما قد تصيبه الأطعمة نفسها بالاشمئزاز في الشهر المقبل.
إذا تفهمت ذلك فيمكنك أن ترى كيف يمكن أن تبدأ مشكلات التغذية
في مراحل مختلفة من نمو الطفل، فبعض الرضع قد يتصرفون بعناد في شهورهم الأولى إذا حاول الآباء والأمهات -في أغلب الأحيان- أن يجعلوهم يشربون كمية أكبر مما يرغبون من الحليب الصناعي، أما البعض الآخر فتظهر لديهم المشكلات عند بداية تقديم الأطعمة الصلبة. ربما يعانون وهم يتعلمون كيف يبلعون هذه الأطعمة من دون صعوبة أو ميل للقيء؛ إذ لا يعطيهم الآباء والأمهات الفرصة لكي يعتادوا على تلك الأطعمة بشكل تدريجي، أو ربما يضغط عليهم آباؤهم وأمهاتهم ليأكلوا عندما لا تكون لديهم رغبة في تناول الطعام. يصير العديد من الأطفال انتقائيين أكثر عندما يأكلون بعد الشهر الثامن عشر؛ ربما لأن معدل زيادة الوزن يتناقص بشكل طبيعي بعد هذا العمر، أو لأن رغبتهم في التعبير عن رغباتهم وآرائهم تتزايد، أو ربما بسبب بدء مرحلة التسنين، وعندما نضغط على الأطفال ليأكلوا فإننا بذلك نقلص شهيتهم للطعام أكثر ولفترة أطول. غالبا ما تبدأ مشكلات التغذية في الظهور في نهاية فترات المرض، فإذا دفع الشغف أحد الأبوين إلى الضغط على الطفل لكي يأكل قبل أن تعود شهيته إلى طبيعتها؛ فسرعان ما قد يزيد ذلك الضغط من اشمئزاز الطفل ويصبح ذلك الشعور سمة دائمة.
لا يبدو السبب وراء كل المشكلات المتعلقة بتناول الطعام هو ضغط الآباء على الأطفال؛ فقد يتوقف طفل عن تناول الطعام بسبب الغيرة من ولادة أخ له رضيع، أو نتيجة أي مسبب آخر من مسببات القلق، ولكن أيا كان السبب فتوتر الآباء وضغطهم على الأطفال غالبا ما يزيد المشكلة سوءا، ويمنع الطفل من استعادة شهيته الطبيعية للطعام.
للآباء مشاعر أيضا، وتزداد حدة تلك المشاعر عندما يواجه الآباء والأمهات مشكلة مزمنة من مشكلات التغذية، ويعد أكثر هذه المشاعر وضوحا هو شعورهم بالقلق من أن يصاب الطفل بنقص في إحدى المواد الغذائية، أو يعجز عن مقاومة الأمراض المعدية العادية، ويحاول الطبيب مرارا وتكرارا أن يؤكد لهم أن الأطفال الذين يعانون من مشكلات في التغذية لا يكونون أكثر عرضة للإصابة بالأمراض من الأطفال الآخرين، ولكن يصعب عليهم تصديق ذلك (وبالفعل عندما يستمر سوء التغذية لفترات طويلة بما يكفي يضعف الجهاز المناعي للطفل). يقع الأبوان فريسة للشعور بالذنب، ويتخيلان أن أقاربهما وأصهارهما وجيرانهما والطبيب الذي يتابع الطفل يعتبرونهما أبوين مهملين، ولكن ذلك ليس حقيقيا؛ فالأقارب والأصهار والجيران غالبا ما يكونون مدركين لهذه المشكلة؛ لأن لديهم -على الأقل- طفلا واحدا في أسرتهم لا يتناول هو الآخر الطعام بصورة جيدة.
ثم يأتي بعد ذلك الشعور الذي حتما ما ينتاب الأب والأم تجاه طفلهما الذي يحبط كل جهودهما من أجل أن تسير الأمور على ما يرام؛ وهو الشعور بالإحباط والغضب من هذا الطفل، وذلك هو أكثر المشاعر المسببة للانزعاج؛ لأنه يدفع الآباء والأمهات -الذين يتعاملون مع أطفالهم بكثير من الاهتمام- للشعور بالخزي من أنفسهم.
ومن المثير للاهتمام أن الكثير من الآباء الذين يعاني أطفالهم من مشكلات تتعلق بتناول الطعام يتذكرون أنهم هم أيضا كانوا يعانون من مشكلات مماثلة، كما يتذكرون جيدا أيضا أن الضغط والإجبار كانا يأتيان بنتائج عكسية، ولكنهم يجدون أنفسهم عاجزين عن التصرف بطريقة مختلفة. وفي تلك الحالات غالبا ما تكون مشاعر القلق والضيق والشعور بالذنب ما هي إلا مجرد بقايا لتلك المشاعر التي غرست بداخلهم أثناء الطفولة.
نادرا ما تشكل تلك المشكلات مصدرا للخطورة بالنسبة للطفل؛ فمن المهم أن نتذكر أن الأطفال تكون لديهم آلية فطرية يتعرفون من خلالها على كمية وأنواع الطعام التي يحتاجون إليها، فمن النادر أن نجد طفلا لديه ميول انتقائية لما يأكل يصاب بحالة خطيرة من حالات سوء التغذية. تلقي الدعم من أحد الأطباء قد يخفف من الضغط والقلق اللذين يصاحبان اهتمام الأبوين بطفلهما ذي الميول الانتقائية، ويمكننا أيضا أن نضمن حصول الطفل على ما يحتاجه من الفيتامينات المتعددة من خلال تناوله لمكمل يومي يحتوي على مجموعة مختلفة من الفيتامينات والمعادن.
علاج مشكلات التغذية
الهدف هنا ليس أن «نجعل» الطفل يأكل؛ ولكن أن نعطي الفرصة لشهيته الطبيعية أن تظهر على السطح حتى «يرغب» هو في أن يأكل. عليك أن تحاول ألا تتكلم عن أسلوب تناوله للطعام، سواء كان الهدف من كلامك التحذير أم التشجيع، ولا تمدحه حينما يأكل كمية أكبر مما اعتاد عليه، أو ترتسم علامات الإحباط على وجهك لأنه تناول كمية صغيرة من الطعام. وبالتمرين ستتمكن من أن تتوقف عن التفكير في هذا الأمر، وذلك يعد –بحق- تقدما حقيقيا، فعندما يشعر الطفل بأنه لا يتعرض لمزيد من الضغط من جانبك سيتمكن من أن ينتبه إلى شهيته.
فشهية الطفل مثل الفأر، والأبوان اللذان يستحثانه في شغف حتى يأكل هما القطة التي تخيف ذلك الفأر وتجعله يركض هاربا إلى جحره مرة أخرى، وليس من الممكن أن تقنع الفأر بأن يخرج من جحره ويظهر في جرأة لمجرد أن القطة أدارت وجهها إلى الجانب الآخر، ولكن على القطة أن تترك المنزل وترحل لفترة من الوقت.
رأي طبيب:
عندما توجد مشكلة متعلقة بالطعام لدى الطفل تحتاج تلك المشكلة إلى الوقت والتفهم والصبر من جانب الأبوين حتى تحل. يصبح الأبوان قلقين، ولا يستطيعان أن يستعيدا هدوءهما وطفلهما لا يأكل بصورة جيدة، ومع هذا فقلقهما وإصرارهما هما السببان الرئيسيان اللذان يحدان من شهية الطفل، وحتى بعد أن يعدلا من سلوكهما بعد بذل مجهود شاق ربما لا تعود شهية الطفل إلى طبيعتها قبل عدة أسابيع؛ فهو بحاجة لأن يأخذ وقته حتى ينسى -على مهل- كل التجارب السيئة التي ترتبط في ذهنه بميعاد تناول الطعام.
قد ينصحنا البعض –أحيانا- بأن نضع الطعام أمام الطفل من دون أن نتكلم، ونرفعه من على الطاولة بعد ثلاثين دقيقة بغض النظر عن كمية الطعام التي تناولها، ولا نعطيه أي شيء ليتناوله حتى ميعاد الوجبة التالية. صحيح أنه عادة ما يأكل الأطفال عندما يشعرون بالجوع؛ ولذا لا ضير من أن نجرب تلك النصيحة إذا كنا سنطبقها من دون أن نغضب أو نستخدمها كنوع من العقاب للطفل، وأن نكون في حالة معنوية ملائمة ونحن نطبق ذلك الأسلوب؛ بمعنى ألا يحاول الأب أو الأم إثارة أي ضجة بشأن طريقة تناول الطفل للطعام، وألا ينتابهما القلق بشأنها، وأن يتقبلا -على طول الخط- أي كمية يأكلها الطفل. ولكن الأبوين أحيانا ما يغلبهما الغضب عند تطبيق هذه النصيحة فيلقيان بالطبق بقوة على طاولة الغداء التي يجلس عليها الطفل ويقولان في تجهم: «إذا لم تنتهِ من طعامك خلال ثلاثين دقيقة فسوف نأخذه ولن نعطيك أي شيء لتأكله حتى موعد العشاء»، ثم يقفان وهما يحملقان فيه بغضب وينظران ما سيفعله. ولكن مثل هذه التهديدات تقضي على المشاعر الطيبة بداخل الطفل، وتفقده شهيته تماما، أما الطفل العنيد فعندما يتحداه الأبوان ويجرانه إلى معركة حول تناول الطعام فبإمكانه أن يصمد ويقاوم أكثر منهما.
إنك لا ترغب –بالطبع- في أن تجعل طفلك يأكل لأنه هزم في معركته معك، سواء لأنك أجبرته على تناول الطعام أو أخذت منه طعامه؛ ولكنك تريده أن يأكل لأنه يرغب في ذلك.
ابدأ بتقديم الأطعمة التي يفضلها أكثر من أي شيء بحيث يسيل لعابه عندما يرى الطعام، ولا يستطيع أن ينتظر حتى يمسك بملعقته ويبدأ في تناوله. أول شيء يجب أن تفعله حتى يتصرف ابنك بهذه الطريقة هو أن تقدم له -فقط لشهرين أو ثلاثة- الأطعمة التي يفضلها أكثر من أي أطعمة أخرى، ولا تقدم له أي طعام لا يحبه في الوقت الحالي، على أن تحافظ -بقدر الإمكان- على أن يكون النظام الغذائي لطفلك متوازنا بقدر الإمكان.
إذا كان طفلك لا يحب نوعا واحدا فقط من الأطعمة ولكن يتناول بقية الأنواع بشكل معقول فيمكنك أن تستبدل نوعا بالآخر؛ مثل أن تقدم له الفواكه بدلا من الخضراوات؛ حتى تتبدل شهية الطفل، أو حتى يتقلص التوتر والتشكك اللذان يراودانه عندما يحين موعد تناول الطعام.
تقبل ما يختاره طفلك من طعام
قد يقول أحد الآباء أو إحدى الأمهات: «إن هؤلاء الأطفال الذين يكرهون نوعا واحدا فقط من الطعام لا يسببون لآبائهم وأمهاتهم مشكلات حقيقية، فطفلي يحب أن يتناول زبدة الفول السوداني والموز والبرتقال والمشروبات الغازية فقط، وبين الحين والآخر قد يتناول شريحة خبز أبيض وملعقتين أو ثلاثا من البسلة، ويرفض أن يأكل أي شيء آخر”.
تعد هذه من مشكلات التغذية الأكثر صعوبة، ولكن طريقة التعامل معها لا تختلف عن طريقة التعامل مع مشكلات التغذية الأخرى؛ فبإمكانك أن تقدم لطفلك على الإفطار شريحة من الخبز المدعم بالفيتامينات وشرائح الموز، وعلى الغداء قليلا من زبدة الفول السوداني، وملعقتين من البسلة وبرتقالة، وفي العشاء أعطه شريحة أخرى من الخبز المدعم بالفيتامينات، ومزيدا من شرائح الموز، وأعطه مقدارا ثانيا أو ثالثا من أي نوع من الأطعمة يطلبه مرة أخرى، واجعله يتناول مكملا غذائيا متعدد الفيتامينات لكي تؤمِّن له احتياجاته من المواد الغذائية المختلفة، قدِّم له تنويعات مختلفة من هذه الأطعمة لبضعة أيام، ولكن لا تسمح له بتناول المشروبات الغازية أو الأطعمة السريعة، فإذا غمرت معدته بتلك المشروبات فسوف يختفي ما تبقى لديه من شهية للأطعمة الأكثر أهمية.
إذا أصبح الطفل يتطلع إلى تناول وجباته بعد مرور شهرين يمكنك أن تضيف ملعقتين (ولا تزد عن ذلك) من أي نوع من أنواع الطعام التي اعتاد أن يتناولها أحيانا (وليس الأطعمة التي يكرهها)، لا تخبره بتلك الإضافة التي وضعتها في طبقه، ولا تبدي أي تعليق سواء تناول الطفل ما وضعته أم لا، قدِّم له هذا الطعام مجددا بعد أسبوعين ثم حاول أن تجرب تقديم نوع آخر وهكذا، يعتمد مدى تحسن شهية الطفل ومدى تقبله للأطعمة الجديدة على مدى سرعتك في تقديم الأطعمة الجديدة له.
لا تميز بين أنواع الأطعمة المختلفة، فقد يرغب طفلك في تناول أربعة مقادير من نوع واحد من الطعام ويرفض تناول نوع آخر.
اسمح له بذلك طالما أن الطعام الذي يتناوله طعام متكامل، إذا لم يرغب طفلك في تناول أي شيء من الطبق الرئيسي وكان يرغب في تناول التحلية اسمح له بذلك من دون غضب أو نفور أو إحباط؛ ولكن بأسلوب محايد تماما، فإذا أخبرته بأنه لا يستطيع أن يتناول التحلية قبل أن ينتهي من تناول الخضراوات مثلا فأنت بذلك تقلل أكثر من شهيته للخضراوات أو الطبق الرئيسي وتزيد من شهيته للحلوى، وذلك عكس ما تريده أنت، أفضل طريقة للتعامل مع هذه المشكلة هي ألا تقدم أي تحلية أخرى سوى الفاكهة لأكثر من ليلة أو اثنتين في الأسبوع، وإذا قدمت تحلية أخرى غير الفاكهة يجب أن تقدم لكل أفراد الأسرة.
إنك بالطبع لا ترغب في أن يظل أطفالك يتناولون وجبات غير متوازنة للأبد، ولكن إذا كان أطفالك يعانون من مشكلة من مشكلات التغذية، ولديهم شعور بالتشكك نحو بعض الأطعمة؛ فالطريقة التي ستوفر لك أفضل فرصة لكي تجعلهم يعودون إلى تناول غذاء متوازن بشكل معقول هي أن تجعلهم يشعرون أنك لا تهتم بشكل أو بآخر بما يأكلون.
إنه لخطأ فادح أن يصر أحد الأبوين في كل مرة أن يتذوق أطفاله الذين يعانون من مشكلة في التغذية قطعة صغيرة من الطعام الذي يتشككون إذا ما كان سيعجبهم أم لا؛ فإذا كان عليهم أن يأكلوا أي شيء يشعرهم بالاشمئزاز ولو بقدر قليل فذلك يقلل من احتمالية أنهم قد يغيرون رأيهم ويرغبون في تناول ذلك الطعام، كما يقلل ذلك من شعورهم بالاستمتاع بأوقاتهم أثناء تناول الطعام، ويحد من شهيتهم تجاه جميع أنواع الأطعمة بشكل عام، وبالتأكيد لا يجب أبدا أن تجعلهم يأكلون في الوجبة التالية ما رفضوا تناوله في الوجبة التي سبقتها، فإنك بذلك تبحث عن المشكلات بنفسك.
قدم لهم كمية أقل من التي سيأكلونها وليس أكبر
عندما تقدم الطعام لأي طفل لا يأكل بشكل جيد قدم له كميات صغيرة، فإذا كومت كميات كبيرة من الطعام بطبقه فسوف تذكره بذلك الكم الذي سيرفض تناوله؛ مما يقلص شهيته، ولكن إذا وضعت له في البداية كمية أقل من تلك التي سيتناولها فسوف تشجعه على أن يفكر أن ذلك الطعام ليس كافيا، وأنت تريده أن يفكر بهذه الطريقة، أن يرى الطعام كشيء يتوق إليه، أما إذا كانت شهية طفلك منخفضة للغاية فقدم له كميات صغيرة جدا مثل أن تضع في طبقه ملعقة من البقوليات وملعقة من الخضراوات وملعقة من الأرز أو البطاطس، وعندما ينتهي من تناول الطعام لا تسأله في شغف إذا كان يريد المزيد؛ ولكن دعه يطلب هو المزيد حتى إذا تطلب ذلك الأمر أن تظل تقدم له هذه المقادير الضئيلة لعدة أيام حتى يتذكر أن يطلب المزيد، ومن المفيد أن تضع هذه المقادير الضئيلة في طبق صغير حتى لا يشعر الطفل بالإهانة عندما يجد كميات ضئيلة للغاية من الطعام في طبق ضخم.
هل يجب أن يبقى الأبوان في الغرفة بينما يتناول الطفل الطعام؟
لتبق داخل الغرفة… أو لتخرج منها… هذا يعتمد على ما اعتاد عليه الطفل وما يرغب به وعلى مدى استطاعة الأبوين من التحكم في قلقهما، إذا كان الأب والأم معتادين على أن يجلسا بصحبة طفلهما دائما فانسحابهما المفاجئ حتما سيزعجه.
فإذا كان بإمكان الأبوين أن يحافظا على هدوئهما وأسلوبهما الودود مع الطفل ولا يفكران في طريقة تناوله للطعام فلا ضير من أن يظلا جالسين معه سواء كانا يتناولان طعامهما أم لا، أما إذا عجزا حتى مع التمرين على التوقف عن التفكير في الكيفية التي يتناول بها طفلهما طعامه والكمية التي يأكلها، أو لم يستطيعا التوقف عن دفعه لتناول المزيد فمن الأفضل ألا يجلسا معه عند تناول الطعام، ولكن يجب ألا يغادرا الغرفة في غضب أو بشكل مفاجئ، ولكن بطريقة لبقة وبصورة تدريجية، فيمكن أن يزيدا من فترة عدم تواجدهما قليلا كل يوم حتى لا يلحظ الطفل وجود أي تغيير. لا تغري طفلك أو تعده بمكافأة أو تهدده حتى يأكل: بالتأكيد يجب ألا تعِد الطفل بمكافأة لكي يتناول طعامه؛ فيجب ألا تحكي له قصة صغيرة في كل مرة يضع فيها ملعقة في فمه، أو تعده بأن يقف على رأسك إذا تناول كل ما في طبقه من السبانخ مثلا، فمع أن مثل هذا النوع من الإقناع يبدو فعالا في البداية، لكنه مع الوقت سيثبط من شهية الطفل، فمع الوقت سيتطلب الأمر منك أن تزيد تلك المكافآت التي تعطيها لطفلك لكي تصل إلى نفس النتيجة، فسوف تضطر في النهاية إلى تمثيل فقرة منوعة مرهقة من أجل أن يأكل طفلك خمس ملاعق من الطعام.
لا تطلب من الطفل أن يأكل حتى يحصل على تحليته، أو على قطعة من الحلوى، أو على ملصق لنجمة ذهبية، أو أي جائزة أخرى، ولا تطلب منه أن يأكل من أجل إحدى خالاته أو عماته أو حتى يسعد أمه أو أباه، أو حتى يكبر ويصبح قويا، أو حتى لا يمرض أو حتى يصبح طبقه نظيفا، ويجب ألا يتعرض الأطفال للتهديد بالعقاب البدني أو فقدان ما لديهم من مزايا إذا لم يأكلوا طعامهم.
دعونا نذكر القاعدة مرة أخرى: لا تطلب من طفلك أن يأكل أو تعده بمكافأة حتى يأكل أو تجبره على أن يأكل، فلا ضير من أن يقص الأب أو الأم على طفلهما حكاية في وقت العشاء، أو يشغلا له بعض الموسيقى إذا كانا معتادين على ذلك طالما أن ذلك لا يرتبط بكون الطفل يأكل طعامه أم لا.
رأي طبيب
كانت هناك أم غارقة في مشكلة متعلقة بالتغذية مع ابنتها ابنة السبع سنوات، كانت تستحثها وتجادلها وتجبرها على تناول الطعام، وعندما أدركت الأم أن ابنتها ربما يكون لديها شهية طبيعية غير ظاهرة على السطح ورغبة في تناول غذاء متوازن، وأن أفضل طريقة لإنعاش تلك الشهية وتشجيع تلك الرغبة هي التوقف عن الدخول في معارك حول تناول الطعام، عندما تفهمت الأم ذلك انقلبت إلى النقيض، وأصبحت تتصرف بطريقة يشوبها الكثير من مشاعر الأسف والاعتذار، وفي ذلك العمر كان الصراع الطويل قد رسب الكثير من مشاعر الضيق بداخل الطفلة وبمجرد أن أدركت أن أمها أصبحت تنصاع إلى رغباتها استغلت البنت ذلك السلوك من جانب أمها؛ فكانت تضع كل ما في الإناء من سكر في حبوب الإفطار التي ستتناولها وتنظر بجانب عينها إلى أمها الصامتة وقد ارتسمت علامات الذعر على وجهها، كانت أمها تسألها قبل كل وجبة ماذا تود أن تأكل؟ وإذا رغبت الطفلة في تناول الهمبورجر كانت الأم تنصاع إلى رغبتها وتذهب لشرائه لها، ثم تقول لها الطفلة: «أنا لا أرغب في تناول الهمبورجر، بل أريد النقانق!» فتركض الأم إلى المتجر لتشتري لها بعضا من النقانق.
هناك دائما أسلوب معتدل يمكن للآباء والأمهات اتباعه، فمن المنطقي أن يأتي الطفل لتناول وجباته عندما يحين موعدها، وأن يتصرف بلطف مع الآخرين أثناء تناول الطعام وألا ينتقد الطعام أو يفصح عن الأشياء التي لم تعجبه فيه، وأن يلتزم بآداب الطعام المناسبة لسنه، ولا ضير من أن يأخذ الأبوان في الاعتبار الأطعمة التي يفضلها الطفل بقدر الإمكان (مع الأخذ في الاعتبار الأطعمة التي يفضلها باقي أفراد الأسرة أيضا) عند التفكير في محتويات الوجبات المختلفة، أو أن يدللاه ويسألاه من حين إلى آخر عما يود أن يأكل، ولكن الطفل لن يستفيد مطلقا إذا نمى إلى علمه أنه هو الوحيد الذي تؤخذ رغباته في الاعتبار، ومن المنطقي والسليم للأبوين أن يضعا حدودا على استهلاك السكريات والحلوى والمشروبات الغازية والكيك وغيرها من الأطعمة الأخرى التي لا تعد أطعمة متكاملة بالقدر الكافي، وكل ذلك يمكن أن يتحقق من دون جدال مادام الأبوانِ يتصرفان بثقة وحزم.
احتياج الطفل لمن يطعمه
هل يجب أن يطعم الأبوان الطفل الذي لا يأكل جيدا؟ الطفل الذي يحصل على قدر مناسب من التشجيع سوف يصبح مسئولا عن إطعام نفسه فيما بين الشهر الثاني عشر والشهر الثامن عشر، ولكن إذا استمر الأبوان في إطعامه حتى الثانية والثالثة والرابعة من العمر، وغالبا ما يكون ذلك مصحوبا بمجهود كبير لدفعه لتناول الطعام فلن تحل تلك المشكلة بأن يطلبا منه ببساطة «أن يطعم نفسه».
فالطفل الآن لا تكون لديه رغبة في أن يطعم نفسه، فبالنسبة له وجود شخص يطعمه هو أمر مسلم به، وهو يرى قيام أبويه بإطعامه كإحدى علامات حبهما واهتمامهما به. ومن الممكن أن يمتنع عن الطعام تماما ليومين أو ثلاثة؛ وهي فترة أطول من أن يحتملها أي أب أو أم وهما جالسان لا يفعلان شيئا، وعندما يعود الأبوان إلى إطعامه من جديد يكون قد تولد لدى الطفل إحساس بالحنق منهما، وعندما يحاولان مرة أخرى أن يتوقفا عن إطعامه فسيكون الطفل قد أدرك مواطن القوة والضعف لديهما.
إذا كان الطفل قد بلغ العامين أو تخطاهما فلا بد أن يصبح مسئولا عن إطعام نفسه في أسرع وقت ممكن، ولكن لكي نجعله يفعل ذلك فهي مهمة حساسة قد تستغرق عدة أسابيع، فيجب ألا نعطيه إحساسا بأننا نسحب منه أحد امتيازاته، ولكننا نرغب في أن يفعل ذلك لأنه يود أن يفعل ذلك.
قدم إليه أطعمته المفضلة وجبة تلو الأخرى ويوما بعد الآخر، وعندما تضع طبق الطعام أمامه، اذهب إلى المطبخ أو إلى الغرفة المجاورة وكأنك نسيت شيئا، وفي كل يوم يمكنك أن تبقى بعيدا لفترة أطول، ثم عد مرة أخرى وأطعمه وأنت مبتهج من دون أن تبدي أي تعليقات سواء كان الطفل قد تناول أي شيء وأنت خارج الغرفة أو لا، إذا شعر الطفل بالملل وأنت في الغرفة الأخرى ونادى عليك لتطعمه فعد فورا واعتذر له عن تأخرك بطريقة ودودٍ. لن يتقدم الطفل بوتيرة ثابتة في الغالب، فخلال أسبوعين أو ثلاثة أسابيع قد يطعم الطفل نفسه خلال وجبة واحدة ويصر على أن تطعمه أنت بقية الوجبات، لا تجادله مطلقا خلال القيام بخطوات تلك العملية، فإذا تناول الطفل نوعا واحدا من الطعام، لا تستحثه ليجرب نوعا آخر، وإذا بدا عليه أنه سعيد بنفسه لأنه قام بإطعام نفسه دون مساعدة يمكن أن تمدحه لأنه أصبح ولدا كبيرا، ولكن لا تستخدم أسلوبا حماسيا للغاية حتى لا ينتاب الطفل شعور بالتشكك.
لنفترض أنك لمدة أسبوع مثلا ظللت تقدم لطفلك أطعمة محببة إليه وتتركه في الغرفة وحده لعشر أو عشرين دقيقة دون أن يأكل شيئا، عليك إذا أن تتركه يشعر بالجوع أكثر، ويمكنك أن تقلل بصورة تدريجية من مقدار الطعام الذي اعتدت تقديمه لطفلك إلى النصف على مدار ثلاثة أو أربعة أيام، سيجعله ذلك مشغوفا للغاية باللحظة التي سيبدأ فيها بإطعام نفسه، ولكن عليك أن تفعل ذلك بكياسة وود.
عندما ينتظم الطفل في أن يأكل بنفسه نصف كمية الطعام المقدم له، أعتقد أن ذلك هو الوقت المناسب لكي تشجعه أن ينهض من على طاولة الطعام بدلا من أن تطعمه ما تبقى في طبقه، لا تقلق من كون الطفل لم يأكل بعضا من طعامه فمع الوقت سيزداد شعوره بالجوع ويدفعه لأن يأكل أكثر، ولكن إذا ظللت تطعمه النصف المتبقي من طعامه فربما لا يقوم الطفل مطلقا بالاعتماد على نفسه عند تناول الطعام، يمكنك أن تقول له إنك تعتقد أنه تناول ما يكفيه وإذا طلب منك أن تطعمه مزيدا من الطعام فأعطه ملعقتين أو ثلاثة منه؛ حتى لا يغضب ثم قل له ببساطة إنه قد شبع.
إذا ظل الطفل يأكل بنفسه لأسبوعين أو ثلاث فلا تعد مجددا لعادة إطعامه بنفسك من جديد، فإذا كان متعبا في يوم من الأيام وطلب منك أن تطعمه أعطه بضع ملاعق دون أن تنتبه له ثم قل له إنه ليس جوعان بدرجة كبيرة، فالأب أو الأم اللذان ظلا يشعران بالقلق من أسلوب تناول طفلهما للطعام لشهور وسنوات وظلا يطعمانه بأنفسهما لفترة طويلة جدا ثم سمحا له بأن يقوم بإطعام نفسه يكون لديهما ميل كبير لإطعامه من جديد عند أول مرة يمرض فيها الطفل أو يفقد شهيته وهنا يكون عليهما أن يقوما بكل الخطوات السابقة من جديد مرة أخرى.
الميل للقيء
الطفل الذي لا يستطيع تناول أي شيء سوى الأطعمة المهروسة بعد تخطيه العام الأول غالبا ما كان أبواه يطعمانه بالقوة أو على الأقل يستحثانه بشدة لكي يأكل، لا يكون السبب الرئيسي في هذه المشكلة هو أن الطفل لا يستطيع أن يتناول قطعا متماسكة من الطعام؛ ولكن ما يجعله يرفض أن يبلعها ويحاول أن يتقيأ أو يخرجها من فمه هو أن أبويه يدفعان بتلك القطع داخل فمه، وغالبا ما يعلق مثل هؤلاء الآباء والأمهات على هذا الأمر بأنه أمر غريب لأن الطفل يستطيع أن يبتلع الأطعمة جيدا عندما يتناول شيئا يحبه لدرجة أن بعض الأطفال يستطيعون أن يبتلعوا قطعا كبيرة من اللحم الذي يقضمونه بأسنانهم من على العظم.
هناك ثلاث خطوات يجب أن نتبعها لكي نحل مشكلة الطفل الذي يعاني من الميل للقيء، أولا أن نشجعه على أن يأكل بنفسه (انظر الجزء السابق)، وثانيا أن نساعده على التغلب على الشعور بالتشكك الذي ينتابه تجاه الأطعمة المختلفة بشكل عام، وثالثا هي أن نبدأ في تقديم أطعمة له ذات قوام أكثر خشونة ولكن ببطء وعلى مهل، اجعله يتناول الأطعمة المهروسة لعدة أسابيع أو حتى عدة أشهر إذا اقتضى الأمر ذلك حتى يتخلص تماما من شعوره بالخوف من عملية تناول الطعام ويشعر بالاستمتاع بها بالفعل، يمكنك ألا تقدم له أي نوع من أنواع اللحوم إذا لم يكن يستطيع أن يستمتع بتناولها عندما تكون مفرومة جيدا.
وبمعنى آخر يمكنك أن تعدل من وتيرة إضافتك للأطعمة ذات القوام الأكثر خشونة تبعا لمدى تقبل الطفل لذلك، هناك عدد قليل من الرضع لديهم حلوق حساسة للغاية لدرجة أنهم لا يستطيعون ابتلاع الأطعمة المهروسة ويبدو أن السبب في ذلك هو القوام اللين لتلك الأطعمة الذي يجعلها تلتصق بالفم والحلق، يمكنك أن تخفف هذه الأطعمة بكمية قليلة من الماء أو الحليب، وبالنسبة للخضراوات والفواكه يمكنك أن تقطعها إلى قطع صغيرة للغاية بدلا من أن تقوم بهرسها.
في معظم المستشفيات يكون هناك أخصائيون في علاج اضطرابات اللغة والكلام (أخصائيو التخطاب) وأخصائيو العلاج الوظيفي في علاج مشكلات الميل للقيء وصعوبات البلع، ويمكن أن يستفيد الأبوان والطفل كثيرا عند استشارة أحد هؤلاء الأخصائيين.