يعتبر حليب الأم الغذاء الطبيعي والأمثل لتغذية الأطفال، حديثي الولادة والرضع، هذا ما دأب عليه الإنسان منذ أقدم العصور.
الرضاعة من الثدي مدماك أساسي في بناء الطب الوقائي، تتبناه وتحث عليه معظم المؤسسات العالمية التي تعنى بمراقبة الأطفال والسهر على تأمين غذاء متكامل لهم وفي مقدمتها منظمتا الصحة العالمية واليونيسيف لرعاية الطفولة، وما تشجع عليه جمعيات أطباء الأطفال والمنظمات والهيئات الحكومية والأهلية، إلى المؤسسات كافة التي تهتم بشؤون تغذية ونمو وحماية الطفولة في مختلف المجتمعات الحضارية والنامية في العالم.
ويبدو واضحاً أن الرضاعة الطبيعية، أي من حليب الأم، تتميز بالخواص والفوائد الغذائية، النفسية، العملية والعلاقات المستقبلية بين الأم ووليدها آنياً وفيما بعد والتي ينصح الأخذ بها عندما تقرر الأم بعيداً عن وسائل الضغط المعنوي أو الإحساس بعقدة الشعور بالذنب اختيار طريقة التغذية التي تريد لطفلها، بعد التشاور مع طبيب الأطفال، نظراً لمعرفة الأخير الكافية بالوضع الصحي للمولود الجديد وما يستوجبه ذلك من اعتماد نوع محدد من الحليب، إذا كان الطفل يعاني مرضاً ما: نقص في مواد معينة أو عاهة تصيب الجهاز الهضمي ودون اتخاذ أدنى الذرائع لفطام الطفل عن أمه لاسيما لدى المرأة العاملة.
من هنا يمكن القول إن حليب الأم هو الأفضل والأجود من كل أصناف الحليب الأخرى: حليب البقر الطازج، مسحوق الحليب المجفف على أنواعه وما أكثرها في عصرنا الحاضر، حليب الماعز وحليب الناقة والأتان! (في العقود السالفة)؛ نظراً لأن حليب الأم يشكل غذاء متكاملاً، كماً ونوعاً، معقماً خالياً من أي عدوى جرثومية، إذا ما تمتعت الأم بالصحة السليمة، هو طازج وساخن ولا يحتاج للتحضير، يضاف إلى كل ذلك كونه حاضراً وغب الطلب في أي مكان أو زمان!.
• الرضاعة الطبيعية تؤمن الكثير من سبل الوقاية والحماية للأطفال الرضع، لاسيما حديثي الولادة منهم، ضد العديد من الأمراض الخطيرة؛ وتجعلهم في دائرة الأمان نظراً لضعف جهازهم المناعي وتحديداً في الأسابيع الأولى من الحياة، عندما نعلم أنه لا يمكن إعطاؤه أي لقاح قبل بلوغهم الستة أسابيع، وبالتالي فإن حليب الأم يحمي رضيعها من الاضطرابات المعوية الحادة (حمى الأمعاء أو الإسهالات الحادة) التي تسببها الجراثيم لاسيما في الأوساط الاجتماعية ذات الدخل المحدود أو في حالات النقص في قواعد النظافة العامة أو وسائل التعقيم. ويسجل هذا العوز بوضوح في البلاد التي هي في طور النمو أو تلك التي تعاني نقصاً في مياه الشفة، ما يوفر فرصاً أكبر للحماية من التجفاف وما له من مضاعفات بيولوجية على صحة الطفل في هذه الفترة السريعة العطب من العمر.
• إن التحسس على بعض مكونات مسحوق الحليب (بودرة حليب البقر المجفف عموماً) ومنها: البروتينات، السكر أو المواد الدهنية، وذلك عند ظهور علامات مرضية عدم تحمل أو سوء هضم وكلاهما ناجم عن غياب خمائر محددة في أمعاء الرضيع، بصورة كلية أو جزئية، (كنقص خمير اللاكتاز الذي يعمل على هضم اللاكتوز مثلاً)، ما يؤدي إلى اضطرابات هضمية مهمة، في كثير من الحالات التي يعتمد فيها تغذية الطفل بهذا الحليب، نذكر منها: الإسهال الحاد خارج نطاق الالتهابات الجرثومية في الأمعاء، أو حالات الاستفراغ المهم والمتكرر ما يؤثر سلباً على نمو الطفل (جسدياً، نفسياً وذهنياً) إذا ما بقيت هذه الاضطرابات دون علاج؛ بينما لا نرى هذه العلامات المرضية لدى الأطفال الذين يتغذون من حليب الأم إلا في حالات نادرة.
• في المقابل نرى أن نسبة الظواهر المرضية كالنزف المعوي (وهو مجهري، لا يرى بالعين المجردة داخل براز الطفل، في كثير من الإصابات) ما يؤدي في الحالات المتكررة أو المزمنة إلى علامات فقر دم، أو علامات مرضية تظهر في الجلد كالأكزيما؛ هذه الظواهر هي نادرة أو قليلة الوجود في نظام التغذية الطبيعية، يضاف إلى هذا وذاك نوعية مسحوق الحليب التي تقدم للطفل كغذاء وهي غير موائمة لعمره، كأن يعطى الطفل ابن خمسة أو ستة أشهر مثلاً نوعية حليب معدة لابن سنة أو ما يزيد، إذ إن هذا المسحوق الأخير يحوي كمية من البروتينات، كماً أو نوعاً، هي غير قابلة للهضم (ما يسبب النزيف غير المرئي والمزمن في الأمعاء)، أو نسبة عالية من الأملاح لها انعكاسات سلبية على وظائف الكليتين لديه. من هنا يجب القيام باستشارة الطبيب لوصف الحليب الموائم لكل طفل حسب عمره وفترة نموه وما يعتريها من مشاكل هضمية وعدم اللجوء إلى الاختيار الذاتي لنوع الحليب ولأسباب محض اقتصادية في أغلب الحالات.
• كثير من الأمراض البكتيرية التي تصيب الأطفال: التهاب الأذن الوسطى، ذات الرئة، تسمم الدم البكتيري والتهاب السحايا هي أقل حدوثاً عند الأطفال الرضع من الثدي، مما لدى الأطفال المعتمدين التغذية الاصطناعية لا سيما في الأشهر الأولى من العمر، حيث أن حليب الأم يحوي مادتي «لاكتوفيرين» و«ليزوزيم» اللتين توفران للرضيع حماية ضد الجراثيم أفضل من تلك التي يوفرها حليب البقر العادي.
• ومن مميزات حليب الأم احتواؤه على أجسام مضادة للعديد من الجراثيم، بكتيريا أو فيروس، على شكل «غاماغلوبيلين» والتي تمنع هذه الجراثيم من الالتصاق بجدار أغشية الأمعاء عند الأطفال الرضع.
• من المهم الإشارة إلى نسبة عالية من الأجسام المضادة لعدة أمراض فيروسية يحويها حليب الأم نذكر منها: شلل الأطفال، مرض النكاف (أبو كعب)، الأنفلونزا؛ وتتواجد هذه الأجسام المضادة في مادة الصمغ (اللبأ أو الكولوسترم) والحليب كذلك، في الأيام الأولى للرضاعة، وبمقدورها تأمين مناعة موضعية في الأمعاء ضد الجراثيم التي تخترق الجهاز الهضمي.
• حليب الأم يتمتع بدرجة حموضة أعلى من تلك التي يحويها حليب البقر بحيث يمنع تكاثر جراثيم تلعب دوراً هاماً في إصابة الأمعاء ومن ثم المجاري البولية لدى الأطفال عنينا جرثومة «الأشيريشيا كولي» وهي شائعة الانتشار في بلادنا وتصيب الأطفال والكبار على السواء.
• إلى جانب كل ما ذُكر، إن حليب الأم يوفر الفرصة، ومنذ الرضعات الأولى بعد الولادة، لبناء علاقة نفسية وعاطفية بين الأم ورضيعها، إذ إن الرضيع المغمور بذراعي أمه ومنذ أن «يفتح عينيه على الدنيا»، يحس بحرارة جسمها، يلمس جلدها، يشم رائحتها… ويعرف صوتها. هذا الالتصاق الوثيق الصلة يحضر لعلاقة باكرة، صحيحة وسليمة بين الأم وطفلها، ويساعد على بناء علاقات عائلية متينة، توفر الكثير من التفاهم المستقبلي لتكوين عائلة سعيدة، ونذكر هنا ما يجري حالياً في معظم دول العالم المتمدن حيث يوضع الطفل على ثدي أمه منذ الدقائق الأولى التي تلي الولادة.
العوامل النفسية، البيولوجية والغذائية المحفزة لإدرار الحليب
بعد الرضعة أو بالأحرى «المصة الأولى» التي يتلقاها الطفل من ثدي أُمه، والتي ُيفضل حصولها في الدقائق الأولى مباشرة بعد الولادة، تبدأ الحياة الغذائية، وقد استنشق المولود الجديد توّاً الجرعة الأولى من هواء العالم الخارجي، معبراً عن ذلك بالصرخة.. مبتدئاً رحلة العمر بالبكاء..! نتيجة انقطاع الأوكسجين عنه بعد قص حبل الوريد. خلال هذه الدقائق الأولى التي تلي الولادة يبدأ تاريخ العلاقة بين الأم ومولودها الجديد… ها هو بين يديها، تحضنه في كنفها الهادئ والدافئ، ترمقه بمقلتيها الضاحكتين تبللهما دموع الفرح، محياها يشع نوراً وابتساماً، ثغرها مفتر وشفتاها ترتجفان وجلاً… أجل هي ينتابها تناقض في الأحاسيس، فرح وسعادة في قرارة النفس.. وفي المقابل وجل وخوف على فلذة كبدها. الطفل بدوره له أحاسيسه أيضاً… يسمع صوت أمه، يلمس جلدها.. يلتصق بها، يحاول استكشاف وجهها فيما بعد، ويتأثر لتغير مزاجها.
• هذه العلاقة النفسية والعاطفية ذات الطابع فائق الخصوصية بين الأم ورضيعها دفعت العديد من الأوساط الطبية، التي تهتم بشؤون رعاية الأمومة والطفولة، على اعتماد عادة من عادات القبائل الأفريقية القديمة والتي تقوم على ملازمة الأم لوليدها ليلاً نهاراً لمدة أربعين يوماً، لا تفارقه فيها، نظراً لأهمية هذه المرحلة من الحياة، لتمتد إجازة الأمومة فيما بعد لفترة تطول أو تقصر حسب تطور المجتمعات ونظرتها المستقبلية للطفولة والعائلة على السواء. ومن المهم الإشارة في هذا المجال إلى مرحلة الأشهر الثلاثة الأولى من العمر (يسمى فيها الطفل بالمولود الجديد، ليكتسب اسم الرضيع بعد اكتمال شهره الثالث). هي مرحلة هامة جداً حيث يشهد الطفل تطوراً سريعاً من النواحي الجسدية، الحركية، النفسية والعاطفية. لذا فإن قرار الرضاعة من الثدي يعود إلى الأم وحدها، دون ضغط أو إكراه، مع تجنب وضعها في حالة الشعور بالذنب إذا ما أحجمت عن إرضاع طفلها، نظراً لوجود عامل نفسي مهم يؤثر على عملية إفراز الحليب وإدراره من الثدي بعيداً عن أي نظام غذائي تتبعه الأم أو راحة جسدية أو خدمات تقدم لها بعد الولادة.
• من الناحية البيولوجية من المفيد الحديث عن فترة الأيام الأولى من الرضاعة والتي تشكل مرحلة در الحليب، حيث تستغرق أياماً تمتد لأسبوع إذ تبدأ بعد هبوط نسبة هرمون الحمل في دم المرأة الأم ومباشرة بعد الولادة، وهي تلعب دوراً مثبطاً في إفراز الحليب؛ بينما يزداد إدرار الحليب تحت تأثير هرمون آخر يدعى برولكتين تنتجه الغدة النخامية في الدماغ، والذي يبدأ إفرازه بعد الولادة أيضاً ليلعب دوراً محفزاً على إنتاج الحليب. ومن خلال عملية الرضاعة في حد ذاتها يكون مفعوله جيداً لإدرار الحليب من الثدي. كذلك نشير إلى أن عملية الرضاعة من خلال مص حلمة الثدي تؤدي إلى استثارة ميكانيكية بواسطة رد ارتكاسي يعمل على تعبئة خلايا الغدد الثديية المدرة للحليب وإفراغها أيضاً.
إذن من المهم لفت انتباه الأمهات، اللواتي يرغبن إرضاع أطفالهن، إلى الأخذ في الاعتبار أهمية هذه الفترة التي تسمى «درة الحليب»، والتي تدوم من أسبوع إلى أسبوعين بعد الولادة، وعليها يركز أطباء الأطفال وأخصائيو التغذية لمتابعة الرضاعة وتكرارها عدة مرات في اليوم (من ست إلى ثماني) لمواصلة الرضاعة فيما بعد وعدم الملل والجنوح نحو الإحباط خشية النقص في كمية الحليب.
وهنا تنصح الأمهات بألا يسرعن لإعطاء أطفالهن الحليب الاصطناعي في هذه الفترة (إلا في حال وجود مانع طبي يقرره الطبيب)، لأنه بهذا التصرف يكن قد قررن إثباط الرضاعة من الثدي أو فعلن ذلك عن قصد أو عن نقص في المعرفة.
بالنتيجة يمكن القول أنه في كل مرة ترضع الأم طفلها في الفترة الأولى من الرضاعة، كلما كان ذلك عاملاً محفزاً ومركزاً لعملية ناجحة ومستديمة لدر الحليب كماً ونوعاً.
بالعودة إلى هرمون الرضاعة «برولاكتين» تؤكد الاستنتاجات العلمية، المفعول البيولوجي لهذا العنصر على وظيفة المبيض عند المرأة حيث يخفف من تأثير الهرمونات الأخرى المهيئة للحمل، وبهذا يمكن ل البرولكتين أن يلعب دوراً فيزيولوجياً لمنع الحمل خلال فترة الرضاعة (عامل يتوجس منه الكثير من الأمهات المرضعات).
• إلى العوامل النفسية والبيولوجية، من المهم أن تحافظ الأم المرضعة على صحتها والمساعدة على در الحليب، لذا ينصح باتباع نظام غذائي متوازن ومعتدل يؤمن التغذية الضرورية للأم والحصول في الوقت عينه على كمية ونوعية من الحليب كافية لنمو المولود الجديد، وبالتحديد في أشهره الأولى (من أربعة إلى ستة أشهر)، من خلال تناول كمية كافية من البروتين الموجودة في اللحوم والأسماك والدجاج والبيض، إلى الدسم الذي يحتويه حليب البقر الطازج (تنصح الأم المرضعة بتناول ثلاثة أو أربعة أكواب يومياً، ويمكن أن يستبدل الحليب، باللبن الرائب في حال وجود مانع صحي أو عدم احتمال لسبب أو لآخر)، ومشتقات الحليب من الأجبان والألبان. هذا إلى تناول الخضار والفاكهة باعتدال وكذا عصائر الفاكهة الطبيعية والخبز والحبوب والمواد النشوية.
• إلى كل ذلك ينصح بالانتباه لبعض الأطباق التي يمكن أن تؤدي إلى عسر الهضم أو تؤثر على نكهة الحليب (القنبيط، الملفوف، البصل، الثوم، الحر البهارات، المخللات….) كما من الواجب التذكير بالإقلاع عن التدخين (قبل وخلال فترة الحمل..! طبعاً) أكانت السيجارة أو النرجيلة، لأن النيكوتين الموجود في التبغ أو التنباك يؤدي إلى اضطرابات في نمو الجنين داخل الرحم، حتى لا يولد قليل الوزن. هذا إلى مضاعفات أشد خطورة على مستوى الدماغ والقلب، وكذلك التخفيف من تناول المنبهات (الشاي، القهوة، الكاكاو، الكولا…)، لما لها من عواقب سلبية على إدرار الحليب واضطرابات في نوم الطفل ووتيرة دقات قلبه.
• عدم تناول أي دواء طوال فترة الرضاعة قبل استشارة الطبيب، خصوصاً مهدئات الأعصاب أو تلك التي تخفف من إدرار الحليب (الأسبرين، الأدوية المضادة للاحتقان، المدرات للبول…) نظراً للتأثير السلبي لعدد من الأدوية على غدد الحليب وعلى صحة الرضيع.
• أخيراً، من متطلبات المحافظة على إدرار الحليب بشكل جيد تجب العناية بنظافة الثدي (الحلمة خصوصاً) للوقاية من الإصابة بالجراثيم نظراً لوجود مادة السكر في الحليب، التي تشكل مادة «دسمة» لتغذية، نمو وتكاثر الجراثيم (البكتيريا، الفطريات..) واحتقان الثدي ما يسهل انتقال العدوى للطفل، أو إمكانية تكوّن دُمل داخل الثدي، وما إلى ذلك، ما يسبب الألم وارتفاع الحرارة ويثبط العزيمة عند بعض الأمهات فيعمدن إلى إيقاف الرضاعة من الثدي.