دماغك يكذب عليك كثيراً. نأسف لإخبارك بهذا، ولكنه صحيح. وحتى في أثناء قيام دماغك بعملٍ أساسيٍّ وصعب، أنت لا تكون مدركاً لمعظم ما يجري.
لا يقصد دماغك أن يكذب عليك بالطبع. ففي أغلب الأحوال، هو يقوم بعملٍ عظيم، مشتغلاً بكدّ لمساعدتك على الصمود وتحقيق أهدافك في عالم معقّد. ونظراً إلى أنك تحتاج غالباً إلى التصرّف بسرعة في مواجهة الحالات الطارئة والفرَص على حدّ سواء، فإنّ دماغك يهدف عادةً إلى الحصول على إجابة نصف حمقاء، مستعجلاً، بدلاً من إجابة مثالية يستغرق التوصّل إليها فترة من الوقت. وإذا أضفنا إلى هذا تعقيدَ العالم، فإنّ هذا يعني أنّ دماغك مضطرٌ إلى اللجوء إلى الطرقات المختصرة وإلى القيام بالكثير من الافتراضات. إنّ أكاذيب دماغك تصبّ في مصلحتك – لمعظم الوقت – ولكنها تقود أيضاً إلى أخطاء متوقّعة.
يتمثّل واحدٌ من أهدافنا بمساعدتك على فهم أنواع الطرقات المختصرة والافتراضات المخفية التي يستخدمها دماغك ليمكّنك من اجتياز الحياة. نأمل أن تجعلك هذه المعرفة تتوقّع بسهولةٍ أكثر متى يكون دماغك مصدراً لمعلومات موثوقة ومتى يُرجَّح أن يكون مضلِّلاً لك.
تبدأ المشاكل مباشرة عندما يستقبل الدماغ معلومات من العالم عن طريق الحواس. فحتى لو كنت تجلس بهدوء في غرفة، فإنّ دماغك يستقبل معلومات أكثر بكثير مما يمكنه أن يحتفظ به، أو مما أنت بحاجة إلى أن تقرّر كيف ستتصرّف حياله. قد تكون مدركاً لنمط الألوان المفصّل على السجادة، والصور الفوتوغرافية على الحائط، وأصوات الطيور في الخارج. يعي دماغك أوجهاً عديدة أخرى من المشهد بدايةً ولكنه ينساها بسرعة. عادةً ما تكون هذه الأشياء غير مهمة حقاً، ولهذا نحن لا نلاحظ غالباً حجم المعلومات التي نخسرها. يتورّط الدماغ في أكاذيب إغفال عديدة، عندما يطرح معظم المعلومات في العالم حالما تُعتبَر غير جديرة بالملاحظة.
يعرف المحامون هذا المبدأ. يشتهر الشهود على نحوٍ سيئ بأنهم غير جديرين بالثقة، ويرجع سبب ذلك جزئياً إلى أنهم يتخيّلون – كما يفعل معظمنا – أنهم يرون ويتذكّرون تفاصيل أكثر مما يستطيعون حقيقةً. بإمكان المحامين أن يستخدموا هذه المعرفة لإضعاف الثقة بالشهود من خلال إغوائهم ليقولوا إنهم رأوا شيئاً يمكن للمحامي أن يدحضه، ما يثير الشكّ في بقية شهادة الشاهد.
بالإضافة إلى طرح المعلومات، فإنّ على الدماغ أيضاً أن يقرّر ما إذا كان سيسلك طرقات مختصرة، اعتماداً على كيفية تقييمه للسرعة مقارنةً بالدقّة في حالة معينة. يفضّل دماغك السرعة في معظم الأوقات، حيث يفسّر الأحداث بناءً على أحكامٍ تستند إلى التجربة العملية يسهل تطبيقها ولكنها ليست منطقية دائماً. أما في بقية الأوقات، فهو يستخدم المقاربة البطيئة الدقيقة الملائمة لحلّ مسائل الرياضيات أو الألغاز المنطقية. نال العالم النفساني دانييل كاهنيمان جائزة نوبل في الاقتصاد لدراسة أحكام التجربة هذه وكيف تؤثّر في سلوك الحياة الواقعية (كان أموس تفيرسكي شريكاً له في هذه الدراسة ولكنه مات قبل أن يشاركه شرف نيل الجائزة).
كانت خلاصة بحثهما أنّ التفكير المنطقي يتطلّب الكثير من الجهد. على سبيل المثال، حاول أن تحلّ المسألة التالية بسرعة: ثمن مضرب وكرة معاً هو 1.10 دولار. إذا كان ثمن المضرب يزيد عن ثمن الكرة دولاراً واحداً، ما هو ثمن الكرة؟ جواب معظم الناس هو 10 سنتات، وهي إجابة حدسية ولكنها غير صحيحة (ثمن المضرب 1.05 دولار، وثمن الكرة 0.05 سنتات). إنّ مثل هذه الطرقات العقلية المختصرة هي شائعة جداً: في الحقيقة إن معظم الناس يستخدمونها، على الأرجح، في جميع الحالات تقريباً إلا إذا تمّ الإلماح إليهم بشدة بوجوب استخدام المنطق بدلاً منها. تكون الإجابة الحدسية، في معظم الأوقات، جيدة بما يكفي لاجتياز الموقف، حتى عندما تكون غير صحيحة.
لا يُطلَب منا عادةً في سياق حياتنا اليومية أن نحلّ مسائل منطقية، ولكن غالباً ما يُطلَب منا أن نحكم على أناسٍ لا نعرفهم جيداً. استخدم كاهنيمان وتفيرسكي مقاربةً أخرى لإظهار أنّ هذه الأحكام ليست منطقية أيضاً. على سبيل المثال، كانا يبدأان تجربةً بإخبار الناس ما يلي عن ليندا: “ليندا فتاة في الحادية والثلاثين من عمرها، عازبة، وصريحة، وذكية جيداً. تخصّصت ليندا في الفلسفة، وكانت، كطالبة، مهتمة بشدة بقضايا العنصرية والعدالة الاجتماعية، وشاركت أيضاً في مظاهرات ضدّ الأسلحة النووية”. ومن ثم طلبا من الناس أن يختاروا من قائمة سمات مُصاغة بعناية العبارة التي بدا أنها تصف ليندا بشكلٍ أفضل.
اعتبر معظم الناس أنّ (أ) “ليندا هي أمينة صندوق في مصرف ناشطة في الحركة النسائية” هي إجابة مرجّحة أكثر من (ب) “ليندا هي أمينة صندوق في مصرف”. يبدو الاختيار (أ) منطقياً بالحدس لأنّ العديد من خصائص ليندا الأخرى – اهتمامها بالعدالة الاجتماعية وما إليه – تقترح أنها قد تكون ناشطة في الحركة النسائية. ومع ذلك، ليست تلك هي الإجابة الصحيحة لأنّ كل من (أ) “أمينة صندوق في مصرف وناشطة في الحركة النسائية” هي أيضاً (ب) “أمينة صندوق في مصرف”. وبالطبع تشمل المجموعة (ب) أمناء صناديق آخرين هم رجعيّون أو غير مبالين.
في مثل هذه الحالة، فإنّ المشاركين المحنّكين مثل طلاب الدراسات العليا في علم الإحصاء يرتكبون هم أيضاً خطأ التوصل إلى استنتاج يناقض المنطق مباشرة. إنّ هذا الميل القوي إلى عزو مجموعة من الخصائص المرتبطة إلى أناسٍ من دون وجود دليل كافٍ هو طريقة سريعة لتقدير النتائج المرجّحة، ولكنه قد يكون أيضاً سبباً جوهرياً للعديد من الآراء المقولبة والأحكام المسبقة التي هي شائعة في المجتمع.
وما يزيد الأمر سوءاً أنّ العديد من القصص التي نخبرها نحن أنفسنا لا تعكس حتى ما يحدث فعلياً في رؤوسنا. توضِّح دراسة شهيرة حول مرضى التلف الدماغي هذه الفكرة. عولِج المرضى المصابون بصرعٍ وخيم بإخضاعهم لعمليةٍ جراحية فصلت النصف الأيمن لقشرتهم الدماغية عن النصف الأيسر، وذلك لمنع النوبات من الانتشار من جانبٍ إلى آخر. وقد عنى هذا أنّ النصف الأيسر لم يعد يعرف فعلياً ما كان النصف الأيمن يقوم به، والعكس صحيح.
في واحدةٍ من التجارب، عرض العلماء صورةً لمخلب (ظفر) دجاجة على الجانب الأيسر من دماغ مريض، حيث تقع مناطق اللغة، وصورةً لمشهد ثلج على الجانب الأيمن من الدماغ، الذي لا يستطيع إنتاج الكلام. وحين طُلِب منه أن يختار صورة مرتبطة من مجموعة أخرى من الصور، اختار المريض على نحوٍ صحيح مجرفة بيده اليسرى (التي يسيطر عليها الجانب الأيمن من الدماغ) ودجاجة بيده اليمنى (التي يسيطر عليها الجانب الأيسر من الدماغ). وعندما سئل عن سبب اختياره، أجاب: “آه، هذا بسيط. مخلب الدجاجة يتلاءم مع الدجاجة، وأنت بحاجة إلى مجرفة لتنظيف قنّ الدجاج”. استنتج العلماء أنّ الجانب الأيسر من الدماغ يحتوي على “مفسِّر” وظيفته أن يفهم العالم منطقياً، حتى عندما لا يكون مدركاً لما يحدث فعلياً.
إنّ هذه المشاكل المتمثّلة بطرح معلومات، وسلوك طرقات عقلية مختصرة، واختراع قصص معقولة ظاهرياً، تجتمع معاً في ما يطلق عليه علماء النفس اسم “عمى التغيير”. على سبيل المثال، انظر إلى الصورتين التاليتين. ما الفرق بينهما؟ (تلميح: على الرجال من عمرٍ معين أن يحترسوا!).
عندما ينظر الناس إلى صور معقّدة مثل الصورتين المبيّنتين سابقاً، فبإمكانهم أن يعيّنوا الاختلافات إذا بقيت الصور ساكنة. ولكن إذا تذبذبت الصورة خلال الانتقال من صورةٍ إلى أخرى، فسيواجهون صعوبة أكبر بكثير، وهذا لأنّ ذاكرتنا البصرية ليست جيدة جداً.
قادت تجارب من هذا النوع العلماء النفسيين إلى تجربة طرائق أكثر غرابة لجعل الناس يخفقون في ملاحظة الأشياء. في واحدةٍ من تجاربنا المفضّلة، يقترب باحثٌ من أحدهم في الشارع ويسأل عن توجيهات بشأن الطريق. وفي أثناء جواب الشخص، يمرّ عمّالٌ يحملون باباً كبيراً بين الشخصين، مُعيقين رؤية أحدهما للآخر. وخلف الباب، يتمّ استبدال الباحث السائل عن التوجيهات بباحثٍ آخر، يستمر في المحادثة وكأنّ شيئاً لم يحدث. وقد وُجِد أنه حتى لو كان الشخص الثاني مختلفاً جداً عن الأول من ناحية الشكل، فإنّ احتمال ملاحظة الشخص المجيب للتغيير هي تقريباً 50 بالمئة فقط.
وفي تجربةٍ أخرى، يشاهد الخاضعون للتجربة فيلم فيديو يقوم فيه ثلاثة طلاب بقمصان بيضاء بتمرير كرة سلة في ما بينهم، بينما يقوم ثلاثة طلاب آخرين بقمصان سوداء بتمرير كرة سلة ثانية. يُطلَب من المشاهدين أن يعدّوا التمريرات التي قام بها فريق القمصان البيضاء. ومع اختلاط الفريقين، يدخل شخص متنكّر بصورة غوريلا الملعب من جانب ويخرج من الجانب الآخر، بعد أن يقف ليواجه الكاميرا ويضرب على صدره. أخفق نصف المشاهدين تقريباً في ملاحظة هذا الحدث. توضّح هذه التجارب أنك تدرك عن طريق حواسك جزءاً فقط مما يجري في العالم حولك.
لقد أثبتنا أنّ ذاكرتك للماضي ليست موثوقة وأنّ إدراكك الحسّي للحاضر هو انتقائي للغاية. عند هذه المرحلة، لن تكون مندهشاً إذا سمعت أنّ قدرتك على تخيُّل المستقبل هي أيضاً جديرة بالشكّ. كما يشرح دانييل غيلبيرت في كتابه العثور على السعادة مصادفة، فإنّ من شأن أدمغتنا، عندما نحاول أن نتصوّر أنفسنا في المستقبل، أن تضيف إلى الصورة تفاصيل عديدة قد تكون غير واقعية، وأن تُهمل تفاصيل عديدة قد تكون هامّة. معتمدين على حقيقتنا المتخيَّلة كما لو كانت فيلماً للمستقبل، نحن عرضةً لأن نغفل عن مآزق مستورة وفرَص على السواء بينما نخطّط حياتنا.
يُحتمل أنّ علماء الأعصاب الأوائل قد وجدوا بعض الصعوبة في اكتشاف وظائف مناطق الدماغ الجبهية لأنهم كانوا يعملون على فئران مخبرية. إنّ حياة الفئران في المختبر بسيطة تماماً. يجب أن تكون قادرة على رؤية طعامها، والاقتراب منه، والتهامه. وفي ما عدا ذلك، فليس عليها أن تقوم بالكثير لتعيش. لا شيء مما تفعله يتطلّب المناطق الجبهية للدماغ، وقد طوّر بعض علماء الأعصاب الأوائل فكرة أنّ وظائف هذه المناطق ربما كانت محدودة جداً. لاحقاً، دحضت اختبارات أكثر تعقيداً وجهة النظر هذه، ولكنّ الخرافة كانت قد رسخت بالفعل.
لعلّك تتساءل الآن إن كان بإمكانك أن تثق بأي شيء يخبرك به دماغك. يعالج دماغك انتقائياً تفاصيل في العالم كانت تاريخياً وثيقة الصلة بالبقاء، منتبهاً بصورة خاصة إلى أحداث غير متوقّعة. كما رأينا، نادراً ما يخبرك دماغك بالحقيقة، ولكنه، على كل حال، يخبرك بما تحتاج إلى معرفته في معظم الأوقات.