التصنيفات
الصحة العامة

الحرب على الميكروبات | المتعضيات المجهرية | التخمير | تربة صحية وأمعاء صحية

بالرغم من شن حرب من قِبل الطب الحديث على الميكروبات التي تُمرض وتقتل فقد بتنا نعرف اليوم أن الميكروبات أصدقاء لنا. في الحقيقة لا نستطيع أن نكبر، ونهضم ونؤيض طعامنا من دونها.

لمراجعة الجزء الأول من موضوع الحرب على الميكروبات، اضغط هنا

هدية المتعضيات المجهرية

هناك علاقة لا تنفصم بين أمعائنا والمتعضيات المجهرية. في شرحنا لعمل البكتيريا في الجسم نقسم المتعضيات المجهرية في الأمعاء إلى “بكتيريا نافعة” و”بكتيريا ضارة”. غير أنه، إذا توخينا الدقة المطلقة، نقول إن المعى مليء بالبكتيريا المتوسطة وهي متعضيات مجهرية انتهازية لا تنتمي إلى أي من الفئتين المذكورتين أعلاه.

معدلات البكتيريا في أمعائنا هي على وجه التقريب 20 بالمئة بكتيريا نافعة، 30 بالمئة بكتيريا ضارة والباقي أي 50 بالمئة بكتيريا متوسطة. الفئة الأهم من البكتيريا التي تؤثر في البيئة المعوية هي بكتيريا متوسطة، ذلك لأنه عندما تكثر البكتيريا الضارة نتيجة وجبات الطعام غير المنتظمة وغيرها من عادات تناول الطعام السيئة، تجنح البكتيريا المتوسطة إلى ناحية البكتيريا الضارة فتصبح أكثرية البكتيريا المعوية تعمل كبكتيريا ضارة تفسد الطعام الذي لم يهضم وتولد الغاز السام. في هذه البيئة الموبوءة تتدهور حالة الأمعاء مع الوقت وتظهر الأمراض المختلفة في كل مكان.

من جهة أخرى، عندما تزداد البكتيريا النافعة، تتلاءم البكتيريا المتوسطة مع البكتيريا النافعة مما يجعل الأمعاء تمتلئ بأعداد هائلة من البكتيريا النافعة التي تؤدِّي إلى استقرار الحال في البيئة المعوية. مع مرور الوقت تستقيم الأمعاء وتصبح نظيفة، وبنتيجة ذلك تُفتح السبل أمام الشخص لحياة صحية وطويلة من الناحيتين الجسدية والعقلية.

يمكن تشبيه البكتيريا المتوسطة بالناخبين المستقلين الذين يرجحون كفة الانتخابات بين الفريقين الملتزمين.

إن تقسيمي للبكتيريا المعوية إلى “نافعة” و”ضارة” هي للتوصيف ليس إلا. تذكَّر أن أكثرية البكتيريا التي تعيش في الأمعاء البشرية هي في المنطقة الضبابية – البكتيريا المتوسطة – ليست بالنافعة ولا بالضارة، وتصبح إما نافعة أو ضارة جراء تغيير بسيط بالبيئة. الناخب المستقل، أي أنت.

كيف تساعد البكتيريا النافعة في أمعائك من أجل أن تحيا حياة سليمة. ليست الصحة مسألة إفناء جميع البكتيريا الضارة الموجودة في الأمعاء بل هي مسألة العيش والأكل بطريقة تمنع البكتيريا المتوسطة أن تصبح ضارة. إن إحدى الطرق المتبعة في ذلك هي تناول الأطعمة المخمرة.

التخمير

تتسبّب الميكروبات في إفساد الأطعمة، ولكن يمكن استعمالها أيضاً كحافظة للأطعمة. وقد عرف الإنسان كيف يفعل ذلك منذ فجر التاريخ. فالأطعمة والمشروبات المخمرة موجودة في ثقافة التغذية في جميع أنحاء العالم.

الباسيل اللكتوزي هو بكتيريا نافعة نموذجية في الأمعاء البشرية. وهي أيضاً البكتيريا الضرورية لتخمير اللبن أو الجبن ولصنع الميزو الياباني (عجينة حبوب الصويا) وصلصة الصويا والمخللات والخل. ومع أن هذه الأطعمة تتخمّر بفعل مجموعة واحدة هي باسيل اللكتوز فهناك فرق شاسع بين اللبن أو الجبن الذي يستخرج من الحليب الحيواني وبين عجينة الصويا أو صلصة الصويا المستخرجة من النبات. باسيل اللكتوز يوجد في الخل وينتج الحامض اللكتوزي الذي يمنع نمو متعضيات مجهرية أخرى. في تحضير الميزو وصلصة الصويا لا يستعمل الباسيل اللكتوزي فقط بل تستعمل أيضاً عدة متعضيات مجهرية أخرى مثل الكوجي وباسيل الخميرة. في فئة فول الصويا هناك أكلة النتوُّ الياباني المصنوعة من باسيل النتوُّ وهي طعام مخمّر، وإن كان لا يستسيغه جميع الناس. هذه وغيرها من عمليات التخمير تزيد من المواد المغذية وتجعل الطعام ألذ طعماً وأسهل هضماً.

التخمير هو عملية لحفظ الأطعمة، غير أن ما هو أبعد من ذلك هو أن الطعام المخمّر جيد لصحتنا. دعنا ندخل هنا إلى صلب عملية التخمير لكي نفهم ذلك. تتحلل مواد الغلوكوز والبروتين والكربوهيدرات الموجودة في الأطعمة بواسطة المتعضيات المجهرية خلال عملية التخمير فتنتج مواد نافعة للجسم البشري.

المعى – الجزء من الجسم الذي تخصصت فيه – يستفيد بشكل خاص من الأطعمة المخمّرة إذ تساعد البكتيريا النافعة على الانتشار في الأمعاء. مثلاً: عندما تصل البكتيريا اللكتوزية، وهي بكتيريا مفيدة، إلى الأمعاء ينقلب معيار الحموضة داخل الأمعاء إلى الحامض فيمنع تكاثر البكتيريا التي لا تستطيع البقاء في بيئة حامضة. كثير من تلك البكتيريا خطر إذ إنها تنتج مواد دبالية كالأمونيا وكبريتور الهيدروجين. ولذلك يشار إليها عادة بالبكتيريا الضارة. تخسر البكتيريا الضارة قوتها من جراء ازدياد نشاط البكتيريا النافعة فتتحسن بذلك بيئة الجهاز المعوي.

نشاطات المتعضيات المجهرية هي أيضاً قسم هام من العلاقة بين الأمعاء وعمل المناعة. فهناك عدد من الخلايا المناعية (مثل البلاعم الكبيرة والكريفاوة والبنتروفيلات) تنشط داخل الجهاز المعوي. وهي تحمي الجسم من الكائنات الممرضة التي قد نبتلعها. وتقوم البكتيريا المفيدة كالباسيل اللكتوزي، بتنشيط هذه الخلايا المناعية. لهذا السبب تضعف مناعتنا ضد المرض عندما تكون أمعاؤنا في حالة سيئة.

ثلاثة أرباع الخلايا المناعية تتمركز في الأمعاء، أهم جزء من الجهاز الهضمي. عندما يتعكر جو الأمعاء أو يكون في حالة سيئة تكون المشكلة أكبر بكثير من مجرد صحة الأمعاء. إذا لم نتخذ خطوات ضرورية لتحسين صحة الأمعاء تستنفد قوة مناعة الشخص ونمط طاقته ويصبح معرّضاً لأمراض السرطان والأمراض المتصلة بنمط العيش والأمراض المعدية ومشكلات متصلة بالأرجيات وغير ذلك من المشاكل.

الأشخاص الذين يقتصر غذاءهم الأساسي على اللحم والألبان والأجبان والزبدة والطعام الشعبي الخشن، الطعام السريع، دون الأطعمة المخمرة يجب أن يولوا عناية خاصة. بناء على خبرتي السريرية عبر السنين، هؤلاء الأشخاص الذين لا يهتمون بصحة بيئتهم المعوية ويثابرون على تناول الأطعمة غير الصحية هم الذين يخسرون الطاقة وقدرة الاحتمال وتظهر عليهم أكثر فأكثر عوارض المرض مع تقدمهم في السن. ومنافع استهلاك الأطعمة المخمّرة تذهب بعيداً جداً فهي ضرورية لإفراز الأنزيمات الهامة لصحة الإنسان.

باختصار، الأنزيمات هي مواد بروتينية تدخل في جميع أطوار النشاطات الحياتية. من المعروف اليوم أنها هامة في عملية هضم الطعام ولكنها أيضاً تدخل في عمليات التنفس والأيض والإقصاء وإزالة السموم. وتعمل الأنزيمات كمواد حفّازة للتفاعلات الكيماوية الضرورية للكائنات الحية. وأهميتها ربما لا يكون معترفاً فيها بالكامل في الطب الحديث وعلم الغذاء، ولكن الحقيقة هي أنه مهما أخذنا من المغذيات لن نتمكن من الحفاظ على طاقتنا إذا لم يكن لدينا أنزيمات كافية في أجسامنا. لهذا أسمِّي الأنزيمات ينبوع طاقة الحياة.

إننا نعرف أن هناك 3.000 إلى 5.000 نوع من الأنزيمات في الجسم البشري. وهنا تكمن المشكلة المحيرة لعامل الميكروب في صحتك. إن البكتيريا المعوية هي التي تصنع غالبية هذه الأنزيمات. عندما تتعكر البيئة المعوية بتفشِّي ما يسمّى بالبكتيريا الضارة جراء ضعف نمو هذه الأنزيمات الحيوية.

تحتوي الأطعمة المخمرة على كميات كبيرة من الأنزيمات، لذلك تزداد هذه الأنزيمات في جسمك عندما تستهلك مثل هذه الأطعمة. والأنزيمات الموجودة في الأطعمة المخمّرة تُهضم وتُمتص في الجسم ثم تتحلل إلى بيبتيدات وأحمضة أمينية. وإنني أعتقد أن هذه الأخيرة يعاد تركيبها من جديد لتصبح ينبوع الأنزيمات العجائبي والذي يؤلف المادة الأساسية لسائر الأنزيمات في الجسم.

جميع ما تقوم به البكتيريا والأنزيمات والخلايا المناعية من عمل في أمعائنا لتغذيتنا والحفاظ على صحتنا مرتبطة بعضها بعضاً بشكل وثيق. لذلك نقول إن مفتاح الحيوية والصحة هو تحسين البيئة المعوية. وأعتقد في هذا المجال أن دور الأطعمة المخمّرة أكبر مما هو معترف به حالياً إذ إنها تزيد الصحة بوجه عام بما تولّده من بكتيريا نافعة في الأمعاء فتحسن أداء جهاز المناعة وتقلل من الحاجة إلى اتخاذ إجراءات لقتل البكتيريا المضرة بواسطة مضادات الجراثيم.

غير أننا قد نفقد الكثير من منافع التخمير التقليدية بسبب طرق إنتاج وتوزيع الأطعمة في القرن الواحد والعشرين. عدد كبير من الأطعمة الموجودة في السوبرماركت مخمّرة لوقت وجيز لأنها منتجة بالجملة، ومن أجل التعويض عن ذلك تزاد عليها مختلف تحفيزات التخمير وعقاقير واقية اصطناعية وألوان اصطناعية ومتبلات كيماوية. ومن الممكن أيضاً أن تكون أسمدة كيماوية ومبيدات للحشرات قد استعملت في زرع المحاصيل. فعجينة الميزو وصلصة الصويا وغيرها المنتجة بالجملة يستعمل فيها فول الصويا المرشوش بكميات كبيرة من المبيدات الزراعية، تعتبر مأكولات مخمّرة بالاسم فقط. لا يمكنك أن تتوقع منافع صحية من مثل هذه الأطعمة واستهلاك مثل هذه المأكولات على أساس يومي ربما تكون له مفاعيل سلبية على جسمك.

إن تصنيف المتعضيات المجهرية بالنافعة والضارة هو تصنيف مضلل لنا. فالبكتيريا ليست مفيدة ولا ضارة بل هي جزء من العالم الطبيعي. كل تلك التي نسمِّيها ضارة لها دور مفيد تلعبه في ظروف معينة في إفساح المجال لوجود المفيدة والضارة كليهما نستطيع أن نرى كيف تتكيف وظيفة أمعائنا مع طرائق العالم الطبيعية.

بخلاف البكتيريا، ليس هناك تصنيف للفيروسات إلى نافعة وضارة. ربما يعتبر البعض أن جميعها ضارة بمعنى أنها تهدد وجود الجنس البشري. إلا أنه في حال اعتبرنا أن جميعها ضارة فلن يكون أمامنا أي حل آخر سوى تدمير جميع الفيروسات، كما لو كانت الطبيعة نفسها عدوتنا. لا يمكن أن نرى طريقنا إلى الصحة بمحاولة تدمير فئات كاملة من أصناف الحياة.

لقد طوّرنا أدوية عديدة كمضادات الجراثيم من أجل التغلب على الأمراض. غير أنه لا يمكننا القول إن ذلك قد حسّن من مستوى صحتنا بوجه عام. الأدوية المصنوعة من مواد كيماوية هي غريبة عن أجسامنا ولذا تكون سامة من بعض نواحيها. ينتظر منا أن نتناول الأدوية عندما نمرض ونعتبر أننا شفينا عندما تختفي أعراض المرض. في مقاربتنا للمعالجة الصحية بهذه الطريقة لا نقدِّر المفاعيل السلبية لهذه الأدوية حق قدرها، فالمضادات الجرثومية مثلاً لا تقتل فقط البكتيريا الضارة بل البكتيريا النافعة أيضاً. لدى الحدّ من نشاط البكتيريا النافعة يختل ميزان البكتيريا المعوية ويتدنّى إفراز الأنزيمات اللازمة لجهاز المناعة. وتكون النتيجة تدهور عام في مجمل حالتنا الصحية.

من أجل الخروج من الحلقة المفرغة المتأتية من اتكالنا التام على المضادات الجرثومية لحمايتنا من المرض، سوف تجدنا مضطرين إلى زيادة التركيز على تقوية أجسامنا. والطريقة الحقيقية المجربة المؤدية إلى صحة أجسادنا تكمن في استهلاك الأطعمة المخمّرة ذات الجودة العالية المعروفة منذ أجيال سحيقة بتطويرها لبيئات معوية جيدة تزيد المناعة.

الرابط بين تربة صحية وأمعاء صحية

يمكننا أن ننظر إلى أساليبنا الزراعية الحالية بنفس الطريقة. اتكالنا المفرط على التطبيب ينطبق أيضاً على الزراعة. بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ المزارعون في الولايات المتحدة وبلدان متطورة أخرى في العالم بوضع كميات كبيرة من الأسمدة الكيماوية والمبيدات في الأرض في محاولة لزيادة المحصول وتحسين فعالية العمل الزراعي. المبيدات الوبائية هي، بوجه عام، عوامل كيميائية مثل مبيدات الحشرات ومبيدات الفطريات ومبيدات الحشائش تستعمل لقتل الحشرات التي تأكل أوراق وثمار الشجر والبكتيريا التي تتسبّب بأمراض النبات، أو لقتل الحشائش البرية.

يوجد اليوم ما يقارب 5.000 مبيد حشرات مسجل. منذ وقت قريب منعنا استعمال مبيدات الحشرات الفائقة السمِّية. يعتقد بعض الناس أنه لا يوجد أي مفعول ضار لجسم الإنسان طالما تستعمل المبيدات باعتدال. ولكن مبيدات الحشرات هي بالتأكيد عقاقير كيماوية منتجة اصطناعياً وغريبة عن مواد الجسم البشري. الطبيعة هي التوازن. لا يوجد شيء في الطبيعة يمكن تدميره بإزعاج شيء آخر: أن تسمِّي شيئاً في الطبيعة “وباء” ثم تستعمل مبيداً لقتله، يفضي إلى تعطيل توازن النظام البيئي، تماماً كما تعطل المضادات الجرثومية توازن بيئة أمعائنا.

الأسمدة مواد ضرورية للنبات وتنتج كيميائياً في المصانع. النيتروجين الذي يغذِّي الأوراق والفوسفات الذي يغذِّي الثمار (بوتاسيوم) الذي يغذِّي الجذور تسمَّى أسمدة العناصر الثلاث. عناصر هذه الأسمدة الكيماوية تُمتص على الفور، واعدة بنتائج جيدة في وقت قصير، وهكذا انتشر استعمالها بسرعة في الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

المشكلة تكمن في أن الاعتماد الكلي على هذه الأسمدة الكيماوية سيؤدِّي إلى تمزق في توازن المعادن في التربة جراء هيمنة هذه العناصر الثلاثة (النيتروجين والفوسفات والبوتاسيوم). في الطبيعة هناك ما يزيد على 100 معدن. ربما يقول البعض إن النقص في المعادن يتم التعويض عنه بإكماله ولكن سيكون من الصعب تحديد الحاجة إلى كل معدن بمفرده ونسبته إلى باقي المعادن لجعل التربة صحية كما يجب. وهناك أيضاً مشكلة وهي أن الأسمدة الكيماوية ليست أسمدة عضوية ولذلك لا تقوم بتغذية المتعضيات المجهرية في التربة، ولهذا السبب سيقود الاعتماد على الأسمدة الكيماوية إلى تراجع في نوعية التربة ما يجعل إنتاج المحاصيل منها صعباً للغاية، كما يؤدِّي ذلك إلى تدهور في نوعية المحاصيل المزروعة في تربة مُستنزفة. كما الحال في التربة التي زرع فيها، يكون المحصول خالياً من لمسات المعادن الموجودة في تربة سليمة وصحية.

نعلم أن وجباتنا اليومية تلعب دوراً هاماً في تحسين بيئتنا المعوية. ونوعية المحصول الذي نأكله في هذه الوجبات تحدِّدها نوعية التربة التي زُرع فيها. هناك عدد لا يحصى من المتعضيات المجهرية تعيش في التربة جنباً إلى جنب وهي مفتاح قوة الحياة الكامنة في النبات.

من الممكن جداً أن يعرِّض استعمال المبيدات والأسمدة الكيماوية المكثف صحتنا ونظامنا البيئي كله للخطر، وصولاً إلى أمعائنا بالذات.

الطبيعة، بالتأكيد، ليست بحاجة إلى مساعدة الإنسان لحفظ التربة مسمدة بالخليط الكافي من المعادن والميكروبات لتغذية النباتات والحيوانات التي تعيش عليها.

في الخريف تكسو الأرض الأغصان والأوراق المتساقطة من الشجر. خلال فصل الشتاء تتحلل هذه الأغصان والأوراق بفعل المتعضيات المجهرية ودود الأرض وتُحوَّل التربة إلى مهاد صالح لزرع المحاصيل. تصبح التربة غنية ولينة ومفككة ومليئة بحبيبات متجمعة من النفايات يستطيع الماء والهواء المرور عبرها. وبوجود المعادن المختلفة كالحديد والنحاس والزنك والمانغنيز وغيرها تنشأ بيئة مثالية لنمو المتعضيات المجهرية. الثلاثي، نيتروجين وبوتاسيوم وكاليوم، ليس لديه قدرة على تغذية التركيبات المجمعة، والمآكل المنتجة من مثل هذه الأتربة تحتوي على القليل من المعادن. وفق تقرير صادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتطور سنة 1992 (قمة الأرض)، انخفضت المعادن في أتربة المزارع في مختلف أنحاء العالم بمعدل 55–85 بالمئة في السنة المنصرمة.

لم نعد قادرين على القول “تناول الفواكه والخضار لتأخذ الفيتامينات والمعادن التي يحتاجها جسمك”. الفواكه والخضار متوفرة بكميات كبيرة في بلادنا ولكنها لا تحتوي بعض المغذيات الضرورية التي كانت تحتوي عليها في السابق. كانت الأسمدة العضوية التي استعملها آباؤنا وأجدادنا مثل روث الحيوانات وتفل الأسماك وجريش الزيت ورماد النبات وغيرها مصدراً غنياً للمعادن، وعندما تخلط بالتربة تنتج بيئة صديقة للمتعضيات المجهرية. كل واحدة من هذه الأسمدة العضوية هي غائط من معدة كائن حي، وعندما يُعاد إلى التربة يساعد في تغذية المتعضيات المجهرية فيساهم بذلك في نمو النباتات التي نأكلها. نحن جزء من دورة الحياة الطبيعية، فغذاءنا من محاصيل مسمدة بأسمدة عضوية يضعنا في تناغم مع أمنا الطبيعة وليس في حرب معها.

التربة التي تنمو فيها النباتات تعمل بنفس الطريقة التي تعمل فيها أمعاؤنا. ويمكنني القول إن أمعاءنا هي تربتنا. ففي كليهما للمتعضيات المجهرية المسماة ببكتيريا أمعائية أو بكتيريا ترابية دور مهم في الإبقاء على صحة مضيفهما. يستطيع الاستعمال المفرط للأسمدة الكيماوية ومبيدات الحشرات أن يزيد المحاصيل موقتاً مما يسهم في فعالية عملية الإنتاج، غير أنه في النهاية، تُستنفد التربة وتتحول إلى بيئة غير صالحة للزراعة. وهذا صحيح أيضاً في الطب، فإذا أخذت أدوية لتشفى من مرضك، فربما تستطيع أن تزيل أوجاعك موقتاً ولكن الأدوية ستقتل أيضاً المتعضيات المجهرية المفيدة وتتسبب بنتيجة عكسية على ترابك – أي أمعاءك.

بسبب فهمنا المحدود وسعينا وراء الربح السريع دأبنا على تدمير تربتنا وأعداد هائلة من المتعضيات المجهرية التي تعيش فيها. التلويث البيئي ليس إلا تلويثاً للمتعضيات المجهرية. جميع الكائنات في العالم مربوطة بعضها ببعض. فكلما أمعنا في تجاهل سلسلة الحياة، يصبح من الصعب منع تدهور التربة التي تسند محاصيلنا الزراعية إضافة إلى تربتنا الشخصية، أي أمعاءنا. وسوف تتدهور حتماً قوة حياة الخضار والفاكهة وقوة حياة البشر الذين يستهلكون هذه الأطعمة. ونتيجة لذلك سوف تتدهور قوة حياة النظام البيئي برمته.

والآن، كيف يمكننا أن نكسر هذه الحلقة المفرغة؟

لست خبيراً في الزراعة ولكن إذا كان لبيئة التربة تأثير مباشر على بيئة أمعائنا فإنني أقول إن كنه صحتنا يكمن في المتعضيات المجهرية. كما رأينا، هناك عدد لا يحصى من المتعضيات المجهرية في العالم، ويجب أن نركِّز على تلك التي لها قدرة على تحسين صحة تربتنا. مثلاً، هناك متعضيات مجهرية تعمل على المواد الكيماوية وبقايا المبيدات فتساعد على تحليلها وجعلها غير مضرة. وهناك متعضيات مجهرية تساعد على تحليل المهاد وأخرى تشتت عمل الكائنات الممرضة. هذه المتعضيات المجهرية التي تسهم في وجود البشر والطبيعة جنباً إلى جنب مع بعضهما تسمَّى كمجموعة “المتعضيات المجهرية الفاعلة”.

كانت الأبحاث في كيفية إنتاج متعضيات مجهرية لتحسين التربة جارية طوال القرن الماضي. في عصر انتشار التحديث على النطاق العالمي، ما تزال هذه الحركة موجودة رغم أنها مختلفة تماماً عن البحوث التي تستهدف الأسمدة الكيماوية ومبيدات الحشرات والتي تشدِّد كثيراً على الفعالية. تدرس البيولوجيا المجهرية الزراعية متعضيات التربة المجهرية وتحسين بيئة التربة.

لقد ثبت أن المتعضيات المجهرية فعّالة في تنقية مياه الأنهر وإزالة الروائح الكريهة من النفايات المنزلية ويمكن استعمالها حتى في تحليل الديوكسين وغيره من السمِّيات بالإضافة إلى السيطرة على السوس والعتّ والصراصير التي تنقل الأمراض وتحدث الأرجيات. في أعقاب بقعة النفط التي أحدثتها إكسون فالديز في ألاسكا سنة 1989 بدأ الكيماويون بتطوير عوامل جديدة لاستعمالها في الموجة الثانية من مكافحة بقع النفط. هذه العوامل المهندسة بيولوجياً تقوِّي فعالية البكتيريا الموجودة أصلاً والتي تستهلك الهيدروكاربون مثل النفط وتفرز ثاني أوكسيد الكربون والماء.

ما زال لدينا الكثير نتعلمه عن أفضل الطرق للتعامل مع المتعضيات المجهرية الفعالة. فبإحداث تغيير في الزراعة التقليدية التي اعتمدت منذ منتصف القرن العشرين بقوة على المبيدات والأسمدة الكيماوية، أصبحنا نعلم يقيناً أنه لا غنى عن المتعضيات المجهرية الفعالة في إعادة الصحة إلى تربتنا.

توفِّر الزراعة أساس معيشة البشر. نحن بالفعل ما نأكل، والمغذيات في “خبزنا اليومي” هي مفاتيح صحتنا. الزراعة هي الأساس الذي يقوم عليه هرم الغذاء، فإذا أردنا أن نتكلم عن الغذاء يجب علينا أن نبدأ بنقاش حول الزراعة.

لقد قلت لكم إن نسبة المعادن في الأراضي الزراعية في مختلف أنحاء العالم تدنّت بنسبة 55–85 بالمئة. وذلك صحيح بالنسبة إلى ما تحتويه الخضار من معادن في يومنا الحاضر إذا ما قورنت بالخضار قبل ستين عاماً.

إن السبب لشعوري بأن هناك مشكلة مع علم الغذاء في الولايات المتحدة هو أن ما من أحد يثير مسألة نوعية الخضار، وأن التوجيه الغذائي يستند إلى المقدمة المنطقية أن كل السبانخ، مثلاً، متساوية غذائياً.

في اليابان تابعت وزارة التعليم والثقافة والرياضة والعلم والتكنولوجيا، أثر المغذيات في مختلف خضار اليوم وقابلتها بالخضار في السنين الماضية ونشرت ذلك في الجداول القياسية لمركبات الغذاء. إذا قارنا محتوى الحديد في السبانخ نجد أنه كان 13 مغ في كل 100 غرام من السبانخ في سنة 1950 بينما كان 2 ملغ فقط سنة 2000. ويظهر الفيتامين C في الجزر هبوطاً من 10 ملغ إلى 4 ملغ والملفوف من 80 ملغ إلى 41 ملغ. هذا التدهور في محتوى المعادن نجده في الكثير من الخضار والفواكه.

في الولايات المتحدة، يبدو أنه يُفترض أنك تحصل على نفس المغذيات بصرف النظر عن كيف يتم زرع قوتك، ومن الصعب جداً على المزارعين أن يجدوا من يقيم نوعية محاصيلهم. في ظل مثل هذه الظروف من المستحيل توفير توجيه غذائي ذي معنى وإعادة بناء الزراعة في الولايات المتحدة. فما دمنا لم نتخلص من علم الغذاء الحاضر فإنني أخشى أن يصاب غذاء الأمة بمكروه مدوٍّ. شخصياً، أعتقد أن وباء البدانة المتفشِّي حالياً في الولايات المتحدة يعود في جزء منه إلى الغذاء “الخادع” الذي يؤول بالجسم إلى طلب المواد المانحة للصحة التي لم تعد متوفرة في غذائنا اليومي.

إنني أعلم كطبيب أن هناك القليل من التشديد أو الوعي من قبل أكثر الأطباء لمفاعيل الغذاء على مرضاهم. يتلقى الأطباء تدريباً على إعطاء وصفات طبية والاتكال على اختبارات باهظة الثمن لتشخيص الأمراض. نأمل أن يؤدِّي وعينا للعلاقة بين أجسامنا وسلسلة غذائنا وتربتنا إلى تغيير في مقاربتنا للطب الحديث – بعيداً عن “الحرب” واستعمال العقاقير والكيماويات، ونحو التوازن والتناغم مع العالم الذي نعيش فيه.

علم التغذية والغذاء العضوي

في الولايات المتحدة اتجاه متزايد نحو أساليب زراعية صديقة للبيئة. في الزراعة العضوية أو الزراعة الطبيعية لا تُستعمل المبيدات ولا الأسمدة الكيماوية.

يجب على المحصول المصنف عضوي أن يكون قد زُرع في تربة حيث لم تُستعمل المبيدات ولا الأسمدة الكيماوية لثلاث سنوات قبل الزرع، وعلى المزارع عدم استعمال المبيدات والأسمدة الكيماوية المحظورة خلال مدة الزراعة، ولا يجوز له استعمال بذور عُدِّلت جينياً. زيادة على ذلك يجب على الأطعمة المضمونة الجودة ألا يستعمل في تصنيعها إضافات اصطناعية أو كيماويات، وعلى جميع مكونات الطعام الهامة، باستثناء الماء والملح أن تحتوي على 95 بالمئة أو أكثر أطعمة مزروعة عضوياً وخالية من معالجات جينية. فيما يخص المحصول الحيواني، يجب أن تكون الحيوانات قد أُطعمت علفاً عضوياً وألا تكون حُقنت بمضادات جرثومية وألا تكون قد خضعت لتعديلات جينية.

ولكن من المهم ألا يلجأ المرء إلى حل سهل ويعتبر أن استهلاك محاصيل عضوية مصدّق عليها كافية لضمان سلامته. والمسألة، كما شدّدت مراراً، هي كيف يمكن تحسين التربة ومنها تحسين البيئة المعوية. أقترح أن تتخذ عادة في أن تتشاور دائماً مع جسمك. كيف يتغيّر حال جسدك بتغيير طعامك اليومي إلى محاصيل صديقة للبيئة؟ هل تشعر أنك أخف من قبل؟ هل تحسنت صحتك؟ أو أنك تشعر بعدم ارتياح مزمن؟

عندما تزوّد الأمعاء أو التربة بالطاقة تنشأ حالة مليئة بقوة الحياة. ليس من السهل علينا، ونحن نعيش في مجتمعنا الحديث المتقدم تكنولوجياً، أن نتعرف إلى مقدار الطاقة التي أُعطيت إلى الإنسان. مع الأسف، إن نمط حياة كثير من الناس ما فتئ يقودهم بعيداً عن كامل قوة طاقتهم الحياتية.

يجب أن نفهم أن الغذاء الذي نتناوله هو الحياة نفسها. إننا نأخذ الحياة من الفاكهة والخضار ونحوِّلها إلى طاقة حياتنا بالذات. الاستعمال الزائد للمبيدات والأسمدة الكيماوية يضرّ بطاقة الحياة المتوفرة في الفواكه والخضار التي نأكل.

تصبح قيمة الأنزيمات جلية عندما نبدأ بفهم طاقة الحياة. والسبب في أن علم التغذية في الولايات المتحدة واليابان يفشل في المساهمة بقدر كامل في صحتنا هو أنه يفتقر إلى مفهوم الأنزيم المجدد لطاقة الحياة.

طاقة الحياة هي بمثابة العمود الفقري لصحتنا. بطريقة ما، قمنا بتبديل قوة حياتنا الخاصة بنمط حياة فاعل وملائم.

هاك قصة شائعة جداً في اليابان. دوّن الدكتور فون بيرتز وهو طبيب ألماني ساهم في ترسيخ الطب الحديث في اليابان، قصة ممتعة في مذكراته. عندما سافر إلى نيكو التي تبعد 65 ميلاً من طوكيو وصل إليها بعد أن بدّل أحصنته 6 مرات وبعد رحلة استغرقت 14 ساعة. وكان رفيق له استعمل الجنريشكا (عربة لراكب واحد يجرّها رجل) وصل بعده بثلاثين دقيقة دون أن يبدل رجل الجنريشكا. تعجّب الدكتور بيرتز وسأل عن الطعام الذي أكله رجل الجنريشكا. كانت وجباته تحتوي على كرات من الأرز الأسمر مع خوخ مخلل وفجل مفروم مخلل في عجينة الصويا، فجل أصفر مخلل وغيرها. علم أيضاً أن سائقي الجنريشكا يتناولون عادة وجبات خفيفة تتألف من الأرز والشعير والبطاطا والدخن وجذور الزنبق دون أي أثر للمآكل من أصل حيواني.

كان الدكتور بيرتز يدرس آخر ما توصل إليه علم التغذية، ففكر أن رجل الجنريشكا ربما كانت له قوة أكبر لو أكل لحماً. لذلك استأجر رجلي جنريشكا في العشرينيات من العمر وزوّد واحداً بغذاء تقليدي يتكوّن في معظمه من الأرز الأسمر وزوّد الثاني باللحومات البقرية. ثم قام بتجربة، كان على كل من الرجلين أن يجرّ جنريشكا محمّلة بثمانين كيلوغراماً. الرجل الذي تناول أرزاً أسمراً ظل يركض لمدة ثلاثة أسابيع، بينما الرجل الذي أكل لحماً أصابه تعب كبير واضطر إلى التوقف بعد ثلاثة أيام فقط.

لو كنت تقرأ كتباً تاريخية لوجدت عدداً كبيراً من الأمثلة على قوة الوجبات الخفيفة لدى اليابانيين. نظرية أن اللحم يزيد قوة الناس ليست مبنية على أساس جيد.

إنني أحثك على أن تكون ملمّاً بدورات الطبيعة وأن تزيد معرفتك بالرباط بين الأمعاء والتربة التي تغذِّي محاصيلنا الغذائية، وبين هذه وعمل المتعضيات المجهرية التي لها صلة بإنباتها. من خلال هذا الجهد سوف تتمكن أن ترى لنفسك كيف يجب أن يكون النظام الطبي الجديد. يجب أن يرتكز على علم الغذاء، وعلى معرفة تامة ودقيقة بالأنزيمات والميكروبات. ونموذجك الشخصي للعناية الصحية يجب أن يتركز ليس على حرب كيماوية وصيدلانية على الميكروبات بل على معرفة غذاء صحيح مع إضافات صحيحة لهذا الغذاء.