إذا كان مقدراً للإنسان أن يخسر الحرب مع الميكروبات أو إذا كان على طريقنا للصحة والحيوية أن تمر بإقامة سلام مع الطبيعة وتقوية جهاز مناعتنا الداخلي، سوف نحتاج إلى معرفة كل ما يمكن معرفته عن كيفية عمل هذه الأجهزة الطبيعية.
ولحسن الحظ كان علم الطب يكتشف الكثير عن المناعة في السنين القليلة الماضية، وأحد هذه الاكتشافات كان أن لدينا على الأقل خطين لدفاع المناعة – المناعة المكتسبة التي نعرف جيداً وأخرى أساسية، جهاز مناعة صلبي يعمل على الدوام ليحفظنا خلواً من الأمراض في أكثر الأوقات بالرغم من أننا معرضون للجراثيم في كل يوم.
كيف يعمل هذا الجهاز الطبيعي؟ لنأخذ مثلاً الزكام العادي. تتسبّب الفيروسات، التي هي عناصر غريبة عن جسمنا، بالزكام. وتنتج العوارض التي نشعر بها، سيلان الأنف أو العطس، من محاولة الجسم التخلص من هذه الفيروسات الممرضة، ولكن بعض هذه الكائنات الممرضة تتمكن من البقاء لتهدِّد الجسم. عند هذه النقطة تدخل الكريات البيض. هناك أنواع من الكريات البيض ولكن أولى الكريات البيض التي تبادر إلى المقاومة هي البلاعم الكبيرة والعدلات. تقبض هذه الخلايا على الكائنات الممرضة وتبتلعها. ومع ذلك فهناك مرات يفشل فيها هذا العمل في التخلص من جرثومة الزكام. في مثل هذه الحالات تبرز الخلايا الليمفاوية وتعمل على إبادتها. هناك نوعان من الخلايا الليمفاوية يعملان كفريق واحد. أولاً خلايا ت لينف تتلقى معلومات عن بنية الكائنات المميتة. ترسل هذه المعلومات إلى البلاعم الكبيرة التي تصدر تعليمات إلى خلايا ت لينف لإنتاج الأجسام المضادة. هذه الأجسام المضادة تقذف من قبل خلايا ب كالصواريخ للالتصاق بالكائنات المميتة وتجميد حركتها عند ذاك تقوم البلاعم الكبيرة والعدلات – بالتهامها. في حالة “الزكام العادي” تأخذ هذه العملية أسبوعاً أو أسبوعين، خلال هذا الوقت نصاب بعوارض الوهن والتهاب الجيب والتهاب الحلق وسيلان الأنف. هذا الجهد المشترك بين الخلايا الليمفاوية وغيرها يُسمَّى “التفاعل المركب لمولِّد المضادات والأجسام المضادة”. بهذه الطريقة نتلقّى الحماية بواسطة طبقات من أجهزة الدفاع.
ولكن مهمات “التفاعل المركب لمولد المضادات والأجسام المضادة” لا تقتصر على إزالة الكائنات الممرضة المهاجمة.
بعد هضم كائن ممرض يقوم البلعوم الكبير بتقديم مولد المضاد (جزيئ، في أكثر الأحيان بروتيين موجود على سطح الكائن الممرض يستعمله جهاز المناعة لتحديد الهوية) التابع للكائن الممرض إلى خلية ت المساعدة.
عندما تتعرف خلية ت على المولد المضاد الخاص بها المتواجد على سطح الخلية الشاذة تصبح خلية ت خلية محفزة مستجيبة فتنتج وسطاء كيميائية تعرف بلينكوفين تحفز البلعوم الكبير ليصبح أكثر عدوانية. هذه البلاعم الكبيرة المحفزة تتمكّن حينذاك من ابتلاع وهضم الخلايا المصابة بسهولة أكبر.
يستعمل الجسم الأجسام المضادة كي يخزّن معلومات عن بنية الكائنات الممرضة المهاجمة مسهلاً بذلك عمل المناعة في حال هاجمت الكائنات الممرضة نفسها الجسم في المستقبل. المعلومات من الإصابة الأولى بالمرض تخزّن لصالح الجيل التالي من الأجسام المضادة. في كل مرة تقوم الكائنات الممرضة بهجوم يتمّ إنتاج عدد أكبر من الأجسام المضادة لتقوية المناعة اللازمة للمهاجمة.
هذا النظام ممتاز جداً ولكنه ليس كاملاً إذ إنه يستجيب بالضبط إلى الكائنات الممرضة ذاتها، فالفيروسات التي تتحول بسرعة يمكنها التكيف بسهولة للالتفاف حوله. ذلك ما يجبر خبراء المناعة بإنتاج لقاح للزكام مختلف كل سنة، ولن يكون أبداً لقاحاً يستطيع منع الإصابات الفيروسية الأكثر انتشاراً المعروفة “بالزكام العادي”. والنظام هذا بطيء جداً في إنتاج مفاعيله. إنه يأخذ من عدة أيام إلى عدة أسابيع ليتمكن من إنتاج الأجسام المضادة، وهكذا فإن الكائنات الممرضة المهاجمة لا يتمّ التخلص منها على الفور.
وظيفة المناعة هذه المرتكزة على عمل الخلايا الليمفاوية والمسماة بالمناعة المكتسبة هي بالفعل منقذة للحياة، تطورٌ “عالي التقنية” خلال ملايين السنين من تقدم الفقاريات. في الحقيقة، يعتقد العلماء اليوم أن المناعة المكتسبة ظهرت إلى الوجود فقط بعد نشوء الحيوانات الفقرية ذات المنقار المفصلي. ولكن ذلك لا يعني أنه في خلال ألوف السنين قبل نشوء الحيوانات الفقرية لم تكن للكائنات الحية مناعة. فالكائنات الحية منذ المراحل الأولى لنشوئها كانت بالتأكيد تجابه المهاجمين أو تطور طرقاً تمكِّنها من الوجود جنباً إلى جنب معهم. النظام الأساسي والأقدم هو المناعة الصُلبية أو الملازمة. الجهاز الموجود منذ المراحل الأولى للنشوء، مع أننا نكتشف اليوم فقط كيف يعمل. ومع تقدمنا في معرفة كيفية عمل المناعة يصبح واضحاً أن عمل المناعة الأساسي وكيفية هذا العمل متصل اتصالاً وثيقاً بمستوى صحة الشخص.
قوة المناعة الصُلبية
لقد ركّزنا حتى الآن على عمل البلاعم الكبيرة والعدلات. هذه الخلايا المناعية التي تدمِّر الكائنات الممرضة عن طريق التهامها ربما تبدو بدائية إذا ما قورنت بعمل الخلايا الليمفاوية الأنيق ولكن، والحق يقال، إن الخلايا الليمفاوية لم تكن لتستطيع القيام بعملها بدون البلاعم الكبيرة. في التفاعل المركب لمولِّد المضادات والأجسام المضادة، لا يمكن إنتاج الأجسام المضادة ما لم تقم البلاعم الكبيرة بتقديم معلومات عن الكائنات الممرضة إلى الخلايا ت.
في المراحل الأولية للنشوء كان على كل خلية أن تذيب وتتخلص من كل مادة غريبة مهاجمة في داخل تلك الخلية الواحدة من أجل البقاء. لم يكن هناك أي خلايا مناعية – بلاعم كبيرة. كان لازماً أن يكون هناك قوة مناعة أكثر بداءة وأصولية، قوة مناعة داخل الخلية نفسها، وكان واجباً أن توجد داخل كل خلية في عهد لم تكن توجد فيه سوى متعضيات مؤلفة من خلايا مفردة. في الواقع من المعروف أن هناك متعضيات تتألف من خلية، كالبكتيريا مثلاً، تملك أجهزة أنزيمات تحميها من الإصابات الفيروسية. وهناك أجهزة مناعة أولية نشأت في “اليوكاريوتس” ولا تزال موجودة في سليلاتها الحالية كالنباتات والحشرات. وبما أن جميع الكائنات الحية اليوم تتألف من خلايا، فعلى الخلايا البشرية أن يكون لها بعض المناعة الصلبية. كل واحدة من خلايانا البالغة 60 تريليون خلية تتمتع بقوة مناعة صلبية إلا إذا كانت الخصائص التي كانت موجودة في الكائنات الأولية قد ضاعت بشكل ما. لا أظن أن ذلك قد حدث. إنني أعتقد أن قوة المناعة التي وُجدت في الخلايا البدائية، أو قوة المناعة الصلبية هي الينبوع الطبيعي الحقيقي لقوتنا الحالية ولصحتنا ولقوة حياتنا. هذه هي القوة التي تحفظ بعض الأشخاص من الإصابة بالزكام الذي ينتاب الآخرين. بكلام موجز، إن قوة المناعة الأولية الموجودة في البنية الأساسية لكل خلية حية هي مصدر المناعة الأعلى التي تحفظ أكثريتنا بصحة جيدة في أكثر الأوقات، حتى في منتصف بحر من الجراثيم.
كيف تعمل قوة المناعة الصلبية داخل كل خلية؟ الإجابات على هذا السؤال بدأت تصدر عن البحوث البيوطبية فقط خلال السنوات القليلة الماضية. البروفسور شيزود أكيرا وفريقه في مركز أبحاث المناعة في جامعة أوساكا في اليابان وجدوا مجسات لخلية واحدة أسموها المتقبلات الغريبة أو الرائعة؛ وما تفعله هذه المتقبلات رائع بالفعل. فهي تقبض على الغزاة الخارجيين وتفرز مضادات للبكتيريا ومضادات للفيروس. وهذا العمل لا يقتصر على الخلية التي هوجمت. بواسطة عمل المجس يتم إنذار الخلايا المجاورة بالخطر فتفرز جميعها مواد مضادة للبكتيريا والفيروسات وتوجهها نحو الكائنات الممرضة. وتكمن قوة عملها في أنها ترد على الأعداء المهاجمين على الفور مما يوفِّر الوقت الكافي للخلايا الليمفاوية لترد بفعالية على الأعداء المتبقين باستعمال الأجسام المضادة. تبدأ الخلايا المناعية مثل البلاعم الكبيرة والخلايا الليمفاوية عملها بعد هذا الجهاز الدفاعي الأولي فقط. فإذا كان الدفاع الفوري في المرحلة الأولية فعالاً تُمنع الأمراض المعدية التي بدأت بهجوم البكتيريا أو الفيروسات. وعلاوة على ذلك فإن الكائنات الممرضة التي تخرق الخلايا هرباً من هجمات مضادات البكتيريا ومضادات الفيروس تجابَه بمزيلات السم ضمن الخلايا. إنها، حرفياً، تُفرم على مستوى الخلايا في عملية تعرف بالتأكل الذاتي. تحدَّد هوية الكائنات الممرضة في داخل الخلايا ثم تُعلّبها الأنزيمات وتفرمها.
إن الاتكال على الرد الثاني مع ما لديه من خلايا مناعية متخصصة يصبح ضرورياً فقط عندما تكون قوة المناعة الصلبية لا تعمل بفعالية كما يجب. وكلما أحرز علم الطب معلومات أفضل عن جهاز خط دفاعنا الأول يمكننا التوقع أننا سنستطيع أن نقوِّيه وأن نجد، بعد طول انتظار، دفاعات أكثر فعالية ضد الزكام والأنفلونزا وغيرهما من الأمراض البكتيرية والفيروسية التي ألمّت ببني البشر منذ عهود سحيقة.
إذا كانت المتعضيات المؤلفة من خلية واحدة كالبكتيريا تستعمل الأنزيمات لتحمي نفسها ضد الغزاة من الفيروسات فذلك يشير إلى أن الأنزيمات هي المفتاح لردة فعلنا الأولية على الخطوط الأولى من مناعتنا.
الأنزيمات هي مواد حفازة تشترك في جميع التفاعلات الكيماوية اللازمة لحياة. فحتى لو زوّد جسمك بالمغذيات الكافية، فلن يتمكن من هضم هذه المغذيات وامتصاصها وتحويلها إلى طاقة إلا إذا كانت الأنزيمات تعمل بطريقة صحيحة. فالأنزيمات ضرورية لهضم الطعام الذي تأكل ولكن أهميتها تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير. إنها تدخل في جميع النشاطات الحياتية: التنفس، دقات القلب، نزع السموم من الخلايا، إدراك جميع المعلومات الخارجية من خلال الحواس الخمس، التفكير، الاستجابة العاطفية والكثير غيرها.
هناك أنزيمات محددة مكرسة لكل وظيفة من وظائف الحياة. لقد تمّ تحديد ثلاثة إلى خمسة آلاف نوع من الأنزيمات في جسم الإنسان حتى الآن، والسبب في هذا العدد الهائل هو أن كل أنزيم له وظيفته الخاصة به ولا يمكن إحلال أنزيم آخر محله. كل نوع من الأنزيمات فريد بحدّ ذاته. مثلاً يوجد في الريق أنزيم يحلِّل الكربوهيدرات وآخر في المعدة يحلل البروتين، وآخر في البنكرياس يحلل الدهون. في استجابة المناعة الصلبية يوجد حامض يهضم الكائنات الممرضة في داخل الخلايا.
قسّم العلم الغربي الأنزيمات إلى فئتين كبيرتين، الأنزيمات الهضمية والأنزيمات الأيضية، غير أن الفئتين المحددتين ليست بالضرورة صالحة للبحوث الحالية للأنزيمات. أودّ أن أبتعد عن هذه التعريفات التقليدية واركز على عمل الأنزيمات داخل الخلايا للتخلص من الكائنات الممرضة والنفايات التي إذا ما بقيت تمتص الطاقة من الجسم.
الأنزيمات كعمال لتعزيز الصحة العامة
داخل الخلية تستعمل عضيات تسمّى المتقدرات الغذاء والأوكسجين لإنتاج ثالث فوسفات الأدينوسين لتوفير الطاقة اللازمة لمختلف نشاطات الجسم، وهناك أنزيمات داخل الخلايا تساعد في هذه العملية. في نفس الوقت، أنزيمات أخرى داخل الخلايا تقوم بنزع السموم، هي تشبه عمال التصحاح داخل الخلايا حيث توزّع الأغذية المهضومة وتعمل على تحليل الفضلات والمواد الغريبة. هذه العملية تسير في جميع الأوقات داخل الخلايا في جميع أنحاء الجسم وليس فقط في القناة الهضمية. إن أنزيمات عمال التصحاح هذه تقوم بإبعاد النفايات لكي تتمكن الخلايا من العمل بشكل طبيعي.
لماذا يرتبط أنزيم “التصحاح” بوثوق في حيوية الإنسان؟ من أجل أن نرى الصلة بوضوح، يجدر بنا أن نفهم ماذا تعني عبارة أن نكون أحياء بالمعنى الكامل للكلمة. بفهمنا لذلك نبدأ بتقدير الأنزيمات تقديراً كاملاً، إذ إنها في جذور جميع نشاطات الحياة.
لدى الثقافات الآسيوية اسم تطلقه على قوة الحياة. فالصينيون يسمّونها “شي” واليابانيون يسموّنها “كي”. الأوروبيون يجنحون إلى اعتبار قوة الحياة كمفهوم فلسفي، ولكنني أعرف أن لها أساساً علمياً. إن قوة حياة قوية أو “كي” تعني أن الخلايا الستين تريليون، أو أكثرها، في الجسم تعمل بنشاط. إذا كانت خلايانا، التي تؤلف الوحدات الأساسية في جسمنا الطبيعي، حيوية، إذاً فنحن، المصنوعين من هذه الخلايا، حيويين أيضاً. والعكس صحيح، إذا لم تكن خلايانا تعمل كما يجب أو إذا كان شيء ما قد أثر عليها سلباً، سيكون لدينا حالة فيزيائية سيئة ومستوى منخفضاً من الحيوية وفي النهاية أمراض مختلفة.
فكِّر في ذلك بالطريقة التالية: كل خلية في أجسادنا هي كائن حي وليست “شيئاً”. يحمل دمنا الغذاء من الطعام الذي نأكل والأوكسجين الذي ينشأ عن تنفسنا إلى جميع الخلايا في جسمنا. لكل خلية جزيئة عضوية تسمّى حبيبة خيطية أو متقدرة تحتوي على مواد جينية وأنزيمات عديدة هامة للأيض، بما فيها تلك المسؤولة عن تحويل الطعام إلى طاقة قابلة للاستعمال، في شكل ثالث فوسفات الأدينوسين. وعندما يُنتج ثالث فوسفات الأدينوسين بشكل لطيف نمتلئ حيوية ونتمكن أن نعيش حياة مليئة بالطاقة.
إذا شعر المرء بالكسل وقلة التحفيز أو ببقاء التعب بعد راحة، فذلك يعني أن الغذاء الذي أدخله إلى جسمه لم يتحوّل بما فيه الكفاية إلى طاقة في الخلايا. هذا الشخص إما ليس بصحة جيدة أو مريض. فما سبب هذا التحويل المنتقص للغذاء والهواء إلى طاقة؟ بكلمة واحدة: القمامة. هناك تكديس للنفايات في خلايا الجسم.
لكي تقوم الخلايا بعملها جيداً يجب أن تنظف من نفايات توليد الطاقة ومن أية كائنات ممرضة قد تكون تسللت إليها. عندما تتم هذه العمليات بشكل جيد، تُولَّد الطاقة بلطف فيمتلئ الجسم بالحيوية. ولكن إذا لم تتم إزالة السموم بلطف يشوّش إنتاج الطاقة ويتسبّب بتدهور في نشاط الخلايا. إزالة السموم من داخل الخلايا أو، بكلام آخر، التنظيف الذي يتم داخل كل خلية بمفردها يلعب دوراً هاماً في إنعاش الخلايا لتجديد الجسم.
دعني أشرح بطريقة أخرى أنزيمات “عمال التصحاح” الذين يعملون على تنظيف الخلية من السموم الداخلية.
تعمل الأنزيمات في داخل الخلية بجُزيئة عضوية تسمَّى جُسيمٌ حالٌّ. في هذه الجزيئة العضوية هناك ما يقارب 60 نوعاً معروفاً من الأنزيمات – تدعى أنزيمات الجسيم الحالّ – تقوم بأعمال إزالة السموم.
الجسيم الحالّ هو في الحقيقة “مركز لإعادة التدوير” في داخل كل خلية يلفه غشاء وداخله حامض ويحتوي على أنزيمات حلمئية تستعمل الماء لتحليل جزيئات الطعام وبخاصة البروتينات والجزيئات المركبة. تُنقل الجزيئات المهضومة عبر غشاء الأجسام الحالّة للاستعمال داخل الخلية أو للنقل إلى خارجها. السبب في أهمية هذا التدوير هو أن خلايانا، البروتينات التي تؤلف أنسجتنا وأعضاءنا، هي في عملية إنتاج دائم، وينتج عن عملية الإنتاج هذه بروتينات كثيرة ناقصة. وتتضرّر بروتينات أخرى من جراء الأوكسجين الجذري والجذور الحرّة أو البروتينات المتحللة داخل الخلايا. في عملية التهام ذاتي تُطوَّق هذه البروتينات الناقصة بغلاف رقيق لتحليلها والتخلص منها، بينما تظل البروتينات العادية على حالها. والأجسام الحالّة تدعم هذا العمل بإنتاج الأنزيمات لتحليل البروتينات.
تستطيع الأنزيمات تحليل المتقدرات بالإضافة إلى البروتينات الناقصة. تلعب المتقدرات دوراً محورياً في إنتاج الطاقة داخل الخلايا. هناك 500–2.500 متقدرة في الخلية الواحدة في أية لحظة، وتستمر في التكاثر. وبما أن عدداً كبيراً من المتقدرات تتوالد وتتكاثر فمن الطبيعي أن يكون عدد منها غير فعّال في عمله أو غير طبيعي. عندما يزيد عدد المتقدرات غير الفعالة، تتدهور قدرة الخلايا على إنتاج الطاقة وتضعف نشاطات الخلايا نفسها، وبكلام آخر، تتدهور حيويتنا. إن دور أنزيمات “التصحاح” هو تطويق المتقدرات غير الفعالة وتحليلها. إضافة إلى ذلك تنتج الجسيمات الحالّة أنزيمات لإخراج السموم وتحليل البروتينات. هناك أيضاً نظام للتنظيف يشبه “حاوي قمامة في داخل الخلايا” يحلل الأنزيمات التالفة.
التأكل الذاتي، عملية هضم المغذيات داخل الخلية، بالإضافة إلى تحليل البروتينات الناقصة والمتقدرات غير الملائمة، يوفِّر الطاقة إلى الخلايا الجائعة. في الحقيقة، هذه الوظيفة لتوفير الطاقة هي الوظيفة الأساسية للتأكل الذاتي أو التهام الذات. إنها تعمل كاستراتيجيا للبقاء عندما يكون كائن حي في حالة جوع مميت لأن تزويد المغذيات الضرورية انقطع. في هذه الحالة تكون مهمة التأكل الذاتي تحليل المغذيات كالبروتينات المخزونة داخل الخلايا وتحويلها إلى حموض أمينية وغلوكوز وحموض دهنية لتوفير الطاقة لاستمرار عمل الجسم إلى أن تصل مغذيات جديدة.
وسبب تسميتي للجسيمات الحالّة “مراكز تدوير” في داخل الخلية هو أنه بالإضافة إلى تحليل الفضلات فإن الجسيمات الحالّة تقوم بإعادة تركيبها وإعادة استعمالها. وبالتأكيد هناك أنزيمات خاصة تقوم بذلك. مثل على ذلك عندما يولد طفل، فهو في حالة جوع لأنه خرج من سائل السَّلس وانفصل عن الحبل السُّري الذي كان يتلقّى عبره المغذيات في الأشهر السابقة. نتيجة لذلك يعمل التأكل الذاتي لتعويض البروتينات وإزالة السموم من الخلايا تحفظ الطفل حياً بينما هو يقوم بالانتقال الصعب من الرحم إلى العالم الخارجي.
وكما رأينا أعلاه، للتأكل الذاتي أيضاً وظيفة هي تطويق البكتيريا أو الفيروسات التي اخترقت الخلايا وتدميرها وتحليل بقاياها. بهذا العمل تُجمع معلومات من المواد المتحللة وتُعمّم لكي تستعملها وظائف المناعة في الخلية، وهي إذن نظام دفاعك البيولوجي الصُّلبي.
إزالة السموم من داخل الخلية
هناك أنزيم هائل يعمل بطريقة مختلفة، مستقل عن الجسيمات الحالّة وعملية التأكل الذاتي. هذا العامل التصحاحي القوي هو أنزيم البروتياز، “آلة التمزيق” داخل الخلية. وكما يدل اسمه، أنه يعين البروتينات الناقصة ويهاجمها من أجل تحليلها أو تمزيقها. يعرف هذا العمل بـ “النظام البروتيازي الكلي الوجود” والعلماء الثلاثة الذين اكتشفوه نالوا جائزة نوبل في الكيمياء سنة 2004. تُولَّد البروتينات الناقصة يومياً داخل الخلايا ولذلك من الضروري وجود نظام جماعي يعمل على نطاق واسع مثل معمل إعادة التدوير داخل الخلية – التأكل الذاتي – بالإضافة إلى أنزيمات تتكيّف بسهولة في تحليل البروتينات الناقصة واحدة بواحدة كآلة ممزقة داخل الخلايا. بكلام بسيط، تستعمل خلايانا هاتين الوظيفتين بفعالية من أجل تنظيف ذاتها من المواد الغريبة والبروتينات الناقصة على دوام الساعة لكي تحفظ صحة الخلايا.
من المؤكد أنه إذا لم يكن نزع السموم من الخلايا يعمل على ما يرام، تضعف القدرة على إنتاج الطاقة بواسطة المتقدرات مما يسبِّب تدهور الخلايا مؤدِّياً إلى الإصابة بالأمراض. مثلاً في الدماغ المتوسط الذي يُسيِّر قسماً من الوظائف الحركية داخل الدماغ هناك نقطة سوداء حيث يُفرز هرمون يدعى دوبامين. وسبب سواد هذه البقعة في الدماغ المتوسط هو تجميع المتقدرات فيها. وكثير من البروتينات التي تنتج هنا مصابة بالنقص. فإذا لم تكن الممزقات في داخل الخلايا تعمل بفعالية في هذا المكان الصغير والمكتظ، لا تتمكن المتقدرات من القيام بمهمتها ويتعطل إفراز الدوبامين مما يسبب مرض باركنسون.
يعرف الدوبامين بالهرمون الدماغي الذي يحكم اللذة والتحفيز، ولكن في هذه النقطة السوداء من الدماغ الأوسط فمهمته الأساسية هي تنظيم الوظائف الحركية. والسبب في أن مرضى الباركنسون يعانون من رجفان في اليدين والأصابع وتقلُّص في العضلات وانعدام التعبير الوجهي واضطراب فريد في المشي وغير ذلك هو نقص في إفراز الدوبامين هناك. وأيضاً سبب العته في مرض ألزهايمر هو أبوبنوز – موت الخلايا المبرمج – خلايا الأعصاب جراء تجمع البروتينات الناقصة (البروتينات النشوانية). إن مرض التصلب الضموري الجانبي الذي يسبِّب عدم قدرة الأعصاب الحركية على تحريك عضلات اليدين والرجلين والبلعوم واللسان هو نتيجة للبروتينات الناقصة المتجمعة في الدماغ. وعمل الأنزيمات “الممزِّقة” هو مفتاح منع أو تحسين هذه الأمراض التي تصيب الدماغ أو الأعصاب وتجعل من الصعب تحريك اليدين والأصابع والتكلم بطلاقة ومضغ الطعام. وليست اضطرابات الدماغ والأعصاب الأمراض الوحيدة التي يسبّبها الفشل في وظائف نزع السموم من داخل الخلايا (التأكل الذاتي و”ممزقات” نظام البروتياز الكلي الوجود). وتكثر البينات على أن مشكلة ما تتعلق في نزع السموم داخل الخلايا لها صلة بأمراض نظام المناعة كالسرطانات والأرجيات. إن التركيز على نزع السموم من الخلايا سيكون أحد أهم تطورات المعالجات الطبية في السنين القادمة.
بينما كنت أبحث في وظائف مختلف طرق نزع السموم من داخل الخلايا، لاحظت حقيقة ممتعة. هناك وظائف مثيلة لوظائف نزع السموم من داخل الخلايا من قِبل الجسيمات الحالّة في النباتات والمتعضيات المجهرية. الجسيم الحالّ جزيئة عضوية موجودة في خلايا الحيوانات بما فيها الإنسان. كيف تعمل في النباتات؟ هناك جزيئات عضوية في خلايا النبات تؤدِّي وظائف شبيهة بوظائف الجسيمات الحالّة اسمها الجويفات.
كما يدل اسمها الجويفة كيس مملوء بسائل، وأكثر من 90 بالمئة من خلية النبات مؤلفة من الجويفة والسائل الذي تحتويه. لذلك نجد أن الخضار والفواكه الطازجة كثيرة العصارة. كثير من أنزيمات عمال التصحاح تتولّد في جويفات خلايا النبات وتقوم بعملها في نزع السموم من الخلايا، محللة النفايات والمواد الخطرة.
في السنين القليلة الماضية أحرز أنزيم جويفي يقوم بوظيفة محددة عندما يتسرّب إليه كائن ممرض كثيراً من الانتباه من قبل مجتمع البحوث الطبية. عندما تهاجم الكائنات الممرضة خلية يتولد هذا الأنزيم في جزيئة عضوية تسمَّى الكيس الصغير ويبدأ عمله داخل ستوبلازم الخلية فيدمِّر غشاء الستوبلازم ويدمِّر الخلية المصابة.
هذه العملية المسماة أبوبتوز، أو موت الخلية المبرمج، تبدو وكأنها مدمرة ولكنها بالفعل مفتاح بقاء جميع الكائنات الحية، ما ينتج عن عدم كفاية الأبوبتوز هو تكاثر بدون قيود، أي سرطان. يموت كل يوم في الحالات الطبيعية ما بين 50 و70 مليار خلية في جسم الإنسان البالغ. عملية الأبوبتوز هذه، حيث تقوم الخلايا المصابة بإنتاج الأنزيم الذي يدمِّرها، ربما تعتبر أهم عملية نزع سموم داخل الخلية. في ظاهرة خاصة بالنبات هناك عناصر مضادة للحموضة أو مواد كيماوية نباتية كالبوليتينول تزيل الأوكسجين الجذري وهو جذر حرّ يتوالد من القمامة أو البروتينات المتدنية. تدعم عملية نزع السموم هذه وظيفة الأنزيمات داخل الجويفة، ما يمكّن النبات من الاحتفاظ بقوة حياة نضرة.
هناك أيضاً سموم من فئات قلوانية في جويفات بعض النباتات، قلوانيات مثل الكوكايين والنيكوتين والكافيين وغيرها. وقد وُجدت هذه في الدرجة الأولى، كسلاح لإبعاد الأعداء من الخارج كالكائنات الممرضة والحشرات. وبما أن النباتات متجذرة في الأرض لا تقدر على الحراك مثل الحيوانات، فهي بحاجة إلى كثير من الحماية. لذلك فهي مليئة “بحكمة الحياة”؛ استراتيجيات مختلفة لتنفيذ نزع السموم من داخل الخلايا بصورة فعالة.
تدعم نشاطات المتعضيات المجهرية الحياتية مجموعات مختلفة من عمال التصحاح، أنزيمات تساعد على تحليل السموم، عندما تجابه بعض البكتيريا الخطر كالجوع مثلاً، تنتج مثيلها (بويغ) فيقوم حينذاك بهضم الأصيل مستعملاً أنزيماً مفرزاً. هكذا تبتغي العيش بتقديم جثمانها إلى البويغ كغذاء ويمكن أن يكون ذلك الطراز الأصلي لنزع السموم من داخل الخلايا. فالفطريات وهي يوكاريوت ولذلك متقدمة على البكتيريا، كبكتيريا الخميرة أو الكوجي، لها جويفات داخل خلاياها. وبالتأكيد، كما هي الحال في النبات، نزع السموم من داخل الخلايا يتم بعمل أنزيمات داخل هذه الجويفات.