التصنيفات
جهاز المناعة

السرطان: مثل البنزين على النار: الضرر الناتج عن الالتهاب ج5

تبين أن أنواع السرطان الأكثر شيوعا في العالم مثل سرطان القولون، المريء، الرئة، الكبد، الثدي، العنق، المبيض والبنكرياس مرتبطة جميعا بالالتهاب. لا تؤدي جميع حالات الالتهاب إلى السرطان ولا تتأثر جميع أمراض السرطان بالالتهاب. إلا أن هذا الأخير يمكن أن يكون سريع الاستثارة بوجود الظروف الملائمة. أحيانا، يؤدي الالتهاب مباشرة إلى السرطان مثل عود الثقاب الذي يشعل النار. في حالات أخرى، يسمح الالتهاب لسرطان راسخ في الأصل بالنمو والانتشار فيشبه الأمر صب البنزين على النار. وفي الوقت نفسه، يمكن أن يهجم جهاز المناعة ويدمر السرطانات الصغيرة على أنها أجسام غريبة غازية.

كيف يبدأ السرطان

دائما ما تكون المفاجأة غير سارة عندما تشير نتيجة التشخيص إلى الإصابة بداء السرطان. فكأنه ظهر من العدم بطريقة غير متوقعة ومخيفة ومدمرة. ولكن لو كان من الممكن مراقبة ما يجري داخل الجسم، لكنا وجدنا أن السرطان ينمو ببطء. فهو يستغرق سنوات عدة وربما عقود قبل أن يحدث ما يكفي من الأعراض لعدم تجاهله.

من أين يأتي السرطان بادىء ذي بدء؟ يتفاجأ الكثيرون لمعرفة أن السرطان يبدأ من خلايا الجسم الطبيعية. تحدث الإصابة بالسرطان على ثلاث مراحل أساسية. أولا، في المرحلة الأولية، يحدث أمر ما فيغير الخلايا الطبيعية إلى خلايا قابلة لأن تصبح سرطانية. في الواقع، لا بد من حدوث عدة أمور لأن ما من حدث واحد معين يؤدي بخلية طبيعية إلى التحول لخلية خبيثة. يتفق العلماء بشكل عام على واقع أن الخلية قد تخضع لعشر عمليات تحول أو أكثر قبل أن تصبح قادرة على التحول إلى سرطان.

يمكن أن تتحول الخلايا لعدة أسباب بما في ذلك التهيج والالتهاب المزمن، التعرض للمواد الكيميائية السامة، الإصابة بفيروس، التضرر من العوامل البيئية مثل أشعة الشمس ما فوق البنفسجية أو بكل بساطة التقدم في السن. على سبيل المثال، يمكن أن تتحول خلايا الرئتين استجابة إلى المواد الكيميائية الموجودة في دخان السجائر وإلى التهيج والالتهاب الناتجين عن الدخان وحده. (لهذا السبب، تعتبر السجائر المحضرة من الأعشاب غير آمنة. فالدخان الصادر عن أي نوع منها مهيج ويمكن أن يسبب تغيرات خلوية.) إن احتمال إصابة مدخن سيىء الحظ في المستقبل بسرطان الرئة يتوقف جزئيا على علم الوراثة ولكن يعتمد كذلك على عدد السنين التي دخن فيها وكمية السجائر التي دخنها. كلما كانت الإصابة قوية وطويلة الأمد، كلما طال الالتهاب وزاد احتمال تحول الخلايا.

إلا أن الخلية المتحولة ليست خطرة بالضرورة. جميعنا لديه خلايا متحولة ولكن لا نعاني جميعا من السرطان. ما إن تتحول خلية بما يكفي لتصبح قابلة للسرطان، تترسخ في الجسم لسنوات بدون تشكيل أي أذى إلى أن يأتي منبه فيجعل الخلية خبيثة. خلال هذه المرحلة الثانية من السرطان المعروفة بمرحلة التعزيز، تبدأ الخلية بالتكاثر وتستهل عملية التحول إلى ورم. لا أحد يعلم تماما المسببات التي تنشط الخلية في كل حالة من السرطان، لكن العلماء يعرفون جيدا أن الإصابة الإضافية بالعوامل ذاتها التي سببت أولا التحول الخلوي يمكن أن تسبب أيضا تعزيز السرطان. لذا، إن الاستمرار في التدخين بعد تحول الخلايا في الرئتين يمكن أن يكون كافيا لتحويل الخلايا الكامنة وغير المؤذية إلى خلايا فعالة وسرطانية.

غالبا ما يرتبط الالتهاب بتعزيز السرطان. مثلا، يحدث اللذع عندما تحرق أحماض المعدة بطانة المريء. بالنسبة إلى معظم الناس، يشكل ذلك إنزعاجا مؤلما ولكن ثانويا. أما بالنسبة إلى البعض، يكون الضرر والالتهاب حادين جدا لدرجة تكوين تحول قابل ليصبح سرطانيا للخلايا في بطانة المريء وهي حالة تدعى مريء باريت. في هذه المرحلة، بدأ السرطان (المرحلة الأولى من الإصابة بالسرطان). إن إستمر التهيج، يمكن أن تدفع المواد الكيميائية التي أطلقها الجسم خلال الالتهاب بالخلايا إلى المرحلة الثانية أي تعزيز السرطان عندما تتحول الخلايا القابلة لتصبح سرطانية إلى خلايا فعالة وخبيثة. في هذه الحالة، يعمل الالتهاب كعود الثقاب الذي يؤجج نار السرطان وهو السبب الفعلي للسرطان. يمكن تفادي السرطان إن تم تفادي الالتهاب.

أما المرحلة الثالثة من الإصابة بالسرطان فتدعى مرحلة التطور، عندما تبدأ الخلايا السرطانية بالتكاثر والانتشار ويتعذر على دفاعات الجسم العادية التحكم بها. في مرحلة مبكرة من الإصابة بالسرطان، عندما تصبح الخلية المتحولة خلية خبيثة وسرطانية، يستطيع الجسم أحيانا السيطرة على السرطان وإزالته عبر العديد من عمليات الالتهاب وجهاز المناعة ذاته التي تسمح للجسم بإزالة الفيروس والبكتيريا. للأسف، لا يكون جهاز المناعة ناجحا على الدوام. تذكر أن جهاز المناعة مبرمج أولا لتدمير الأجسام الغريبة الغازية. ولأن السرطان يبدأ كخلية طبيعية، غالبا ما يتجاهل الجسم هذه الخلايا التي تصبح خبيثة. ففي النهاية، هي ليست أجسام غريبة بل تشكل جزءا منا!

ما إن يتطور السرطان، يصبح من الصعب على الجسم الدفاع عن نفسه. ينمو معظم السرطانات في طبقة من خلايا الجسم الطبيعية تدعى السدى. ويؤمن هذا الأخير الدعم والغذاء للخلايا السرطانية. هذا يحمي السرطان من دفاعات جهاز المناعة عبر تمويه الحالة السوية. يصعب إيجاد الخلايا الخبيثة عندما تكون محاطة بخلايا الجسم الطبيعية ويبدو أن السدى يؤمن حاجزا يمنع خلايا الجسم المنيعة من التقدم.

يمكن أن يؤمن السدى غطاء للورم لفترة وجيزة من الوقت. سرعان ما يصبح الورم كبيرا فيحتاج إلى مخزونه الخاص من الدم ليستمر في النمو. عندما ينمو الورم ليصبح حجمه ميلمترا واحدا، يعجز السدى عن دعم كل الخلايا السرطانية أو مدها بالمواد الغذائية. سيتوقف الورم الصغير عن النمو ويتلف إلا إذا وجد مصدر بديل للطاقة والمواد الغذائية. لسوء حظنا، يعالج السرطان هذه المشكلة بكل سهولة. ما إن يبلغ الورم حجما معينا، يبدأ بإطلاق مواد كيميائية تشكل أوعية دموية جديدة وهي عملية تدعى التكون الوعائي (تعني كلمة angio “الوعاء الدموي” وgenesis “تكون”.) تتعلق هذه الأوعية الدموية التي تكونت حديثا بجهاز الدوران الموجود في الجسم مما يسمح للورم بأن يتغذى مثل الطفيليات من المواد الغذائية في الجسم.

خلال مرحلة التطور هذه، يمكن للخلايا الالتهابية والمواد الكيميائية التي من المفترض أن تحمي الجسم، أن تساعد الورم أحيانا. مثلا، في المراحل الأولى من سرطان البشرة الخبيث (الورم الملاني)، هناك مادة كيميائية التهابية واقية تدعى إنترلوكين-6 (إل-6) (IL-6) بإمكانها المساهمة في وقف نمو السرطان. في خلايا الورم الملاني الأكثر رسوخا، تفقد (إل-6) (IL-6) قدرتها على تثبيط نمو السرطان. وتفرز خلايا الورم الملاني الناضجة مادة (إل-6) (IL-6) الخاصة بها حيث تعمل في هذه المرحلة كمنبه للنمو. ثم، تبدأ مادة (إل-6) بمحاربة السرطان وينتهي بها الأمر في مساعدته على النمو بشكل أسرع. إليك مثل آخر يتعلق بالبلاعم أي الخلايا الالتهابية المسؤولة عن المساهمة في تدمير الأجسام الغريبة والمحافظة على سلامة الجسم. أحيانا، تصبح البلاعم جزءا من السدى لأسباب مجهولة. تساعد في النهاية الورم عبر إفراز مواد كيميائية تعزز التكون الوعائي وتزوده بمخزون الدم الخاص به وتسمح له بالنمو إلى ما لا نهاية. في هذه الأمثلة، ليس الالتهاب ما يطلق فعلا السرطان ولكن بعض الخلايا والمواد الكيميائية التي تشكل جزءا من عملية الالتهاب تساعد السرطان في بحثه عن نمو لا متناه، المرادف الخلوي لصب البنزين على النار.

كيف يؤدي الالتهاب إلى السرطان

أي هجوم على الجسم يؤدي إلى التهاب طويل الأمد يقدر على التسبب بالسرطان. ترتبط هذه الأنواع من الالتهاب بشكل شائع بالخمج الجرثومي أو الفيروسي المزمن، التهيج الكيميائي أو الميكانيكي أو داء آخر. تبين أن الخلايا والمواد الكيميائية المختلفة المتعلقة بالالتهاب تسبب تحولات خلوية تجعل الخلية سرطانية، وتجعل الخلايا القابلة لتصبح سرطانية خلايا سرطانية نشطة، وتسبب نمو الخلايا، وتعزز التكون الوعائي فتتشكل أوعية دموية جديدة لتغذي أورام أكبر حجما. بعبارة أخرى، من شأن الالتهاب المزمن أن يعزز السرطان في كل مراحل النمو. من المهم التذكر أن السرطان مرتبط بالالتهاب الطويل الأمد. أما الالتهاب القصير الأمد أو الحاد أي النوع الذي يساعد الجروح على الشفاء ويدمر معظم الأجسام الغريبة الدخيلة فيساهم في حمايتنا من جميع الأمراض بما في ذلك السرطان. ولكن عندما يختل توازن الجسم، وعندما يدخل الجسم في حالة ثابتة من الالتهاب، يصبح ظهور السرطان أكثر احتمالا.

وعلى الرغم من كل ما نعرفه عن تكون السرطان، ما زلنا غير قادرين عن التكهن بشكل دقيق حول من سيصاب به ومن لن يصاب به. فالاختلافات الجينية ووجود أمراض أخرى بالإضافة إلى عوامل الخطر المتعددة جميعها تجعل الأمور أكثر تعقيدا. ولكن ما نستطيع تأكيده هو أنه كلما طالت فترة الالتهاب، كلما زاد خطر الإصابة بالسرطان. من بين العوامل المرتبطة ارتباطا وثيقا بالسرطان نذكر: الخمج، التهيج والالتهاب من جراء جسم آخر أو ظهور مرض ما.

الخمج

ستصاب بالالتهاب متى أصبت بالخمج. إنه أمر طبيعي ومرغوب فيه. فعملية الالتهاب تساعد الجسم على التخلص من الأجسام الدخيلة غير المرغوب فيها. تحدث الأجسام الدخيلة مثل الفيروس والبكتيريا والطفيليات فوضى بيولوجية شديدة قبل تدميرها بأسبوعين من قبل جهاز المناعة. ولكن يصعب أحيانا تدمير بعض هذه الأجسام. فيمكنها أن تترسخ في الجسم لسنوات وأحيانا طيلة حياة المرء مسجلة انخفاضا في معدل الالتهاب في منطقة معينة من الجسم ومسببة ارتفاعا في خطر الإصابة بالسرطان في هذه المنطقة بالذات.

مثالا على ذلك، الخمج من خلال إجهاد البكتيريا المعروف بالبكتيريا اللولبية البوابية. من المعروف أن البكتيريا مسؤولة عن تقرح المعدة. اكتشف العلماء مؤخرا أن المصابين بهذا النوع من الخمج هم عرضة لظهور سرطان المعدة أكثر من غير المصابين به. لا أحد يعلم تماما دور البكتيريا في سلسلة أمراض السرطان، ولكن العلماء يعتقدون أنه يمر بمرحلتين. أولا، تطلق البكتيريا كجزء من دورة حياتها الطبيعية بعض المواد الكيميائية أو المستقلبات. البعض منها غير مؤذية ولكنها قد تكون سامة بالنسبة إلى خلايا الجسم وقادرة على التسبب بتحولات خلوية.

ثانيا، يحدث وجود البكتيريا رد فعل على الالتهاب. كدعوة للدفاع عن الجسم، تنشط البلاعم وهي خلايا تشكل جزءا من آلية الدفاع في الجسم. قد تتحول هذه البلاعم البكتيرية إلى مركب كيميائي مختلف وأكثر سمية ويعمل على الأرجح كمسرطن. لذا، قد تسبب البكتيريا وحدها أو لا تسبب السرطان ولكن عندما يؤدي الالتهاب إلى تحويل المستقلبات غير المؤذية إلى مواد كيميائية سامة، يمكن أن يزيد هذا السلوك من احتمال حدوث السرطان.

إن البكتيريا اللولبية البوابية هي بكتيريا شائعة جدا. من المقدر أن نصف عدد سكان العالم على الأقل مصابون حاليا بها. ولكن معظمهم لا يعانون من سرطان المعدة. وبالتالي، لا بد من وجود عوامل أخرى ضرورية قبل حدوث السرطان. من الممكن أن يكون للعوامل الوراثية أو الغذائية أو أي عوامل أخرى دور في ذلك. ولكن من خلال فهم العلاقة بين البكتيريا اللولبية البوابية (أو أي بكتيريا أخرى) والسرطان، يصبح من المحتمل فسخ هذه العلاقة عبر تدمير الجرثومة.

مثال آخر على ذلك هو العلاقة بين خمج المسالك البولية وسرطان المثانة. يعتبر خمج المسالك البولية من أكثر حالات العدوى البكتيرية شيوعا لدى الأشخاص من جميع الأعمار. إن سرطان المثانة أكثر شيوعا لدى المصابين بخمج مزمن أو متكرر في المسالك البولية. أظهرت دراسة شاملة حول علم الأوبئة تم نشرها عام 1984 أن الإصابة بخمج المسالك البولية ثلاث مرات أو أكثر تضاعف احتمال حدوث سرطان المثانة في وقت لاحق. على الرغم من وجود صلة بينهما، إلا أننا نجهل الأسباب المحددة المؤدية إلى السرطان. كم من الوقت يجب أن يدوم الخمج قبل أن يصبح خطرا؟ هل تمت معالجة حالات الخمج الأساسية بفعالية؟ هل من حالات أخرى لم يتم معالجتها؟ بغض النظر عن العلاجات النوعية، لا يجب تجاهل حالات الخمج مهما بدا أنها غير مؤذية.

كذلك، يرتبط السرطان بالخمج من جراء فيروس خاص. ففيروس التهاب الكبد B وفيروس التهاب الكبد C مرتبطان بسرطان الكبد. إن فيروس إبستاين – بار الذي يسبب كثرة الوحيدات يرتبط بالورم اللمفي. كما أن بعض أنواع فيروس الورم الحليمي التي تسبب الثآليل التناسلية ترتبط بسرطان العنق.

من غير المعروف ما يحدث تماما خلال الخمج أو بعده فيؤدي إلى تغييرات سرطانية ولكننا نعرف أن الفيروسات تستطيع إدخال نسخ عن حمضها النووي الريبي المنقوص الأكسجين إلى الخلايا الطبيعية. قد تغير هذه التحولات وظيفة الخلية وقد تكفي لبدء التغيرات السرطانية. من الممكن أن تعمل الخلية المصابة بالفيروس بشكل مختلف عن المواد الكيميائية الالتهابية الطبيعية فعوضا عن تدميرها، تنمو الخلية استجابة إلى جهاز المناعة في الجسم. على الأرجح أن هذه الفيروسات تؤثر في كل مراحل نمو السرطان. فيؤدي الفيروس نفسه إلى إطلاق السرطان عبر تحويل خلية طبيعية ومن ثم يعمل الالتهاب المزمن على تعزيز نشر السرطان.

التهيج الكيميائي أو الميكانيكي

مثلما تتآكل الرياح والأمطار الجبال، يتآكل التهيج الطويل الأمد أجسامنا. وحيثما يتواجد التآكل، يتواجد الالتهاب الذي يحاول تصليح الضرر. إن طالت فترة الالتهاب، قد يؤدي ذلك إلى تحويل خلية الجسم الطبيعية إلى خلية خبيثة. يمكن أن يحدث هذا النوع من التآكل من جراء التهيج الكيميائي مثلما حين تحرق المواد الكيميائية الهضمية المريء، أو من جراء التهيج الميكانيكي مثل الإحتكاك المتواصل من قبل جسم ما. مثالا على التهيج الميكانيكي نذكر حصاة الكلى وهي أحجار صغيرة تتشكل من مادة متبلرة في البول عادة ما تكون من الكالسيوم. تبين أن الذين يعانون من حصى في الكلى هم أكثر عرضة للإصابة بسرطان الكلى تقريبا بسبب التهيج الميكانيكي الذي تحدثه الحصى الصلبة على النسيج الرقيق. لا تؤدي أنواع التهيج هذه إلى تحول الخلية إلا أن المواد الكيميائية التي يطلقها الالتهاب المزمن قد تعمل على تعزيز حدوث السرطان في خلية متحولة أصلا.

الالتهاب الذي يحدثه المرض

تؤدي بعض الأمراض إلى الالتهاب الذي يمكن أن يسبب السرطان في حال عدم معالجته أو فحصه منذ مدة طويلة. ظهرت بعض الأسباب الأولية لدور الالتهاب المزمن في حدوث السرطان من خلال مراقبة الأشخاص المصابين بالتهاب القولون التقرحي. إن الذين يعانون من التهاب القولون التقرحي هم عرضة للإصابة بسرطان القولون أكثر بخمسة إلى سبعة أضعاف من الأصحاء. ندرك أن الالتهاب وحده لا يسبب السرطان لأن ليس كل من يعاني من التهاب القولون يصاب بسرطان القولون. ولكن تماما مثل الصلة بين اللذع وسرطان المريء، لا يمكن إنكار العلاقة بين الالتهاب الطويل الأمد وسرطان القولون.

أمراض السرطان المرتبطة بالالتهاب

على الرغم من إدراكنا للأمور العامة التي يشملها نمو السرطان وانتشاره، إلا أن الكثير من الأساسيات ما زالت تشكل لغزا. في بعض الحالات، يكون دور الالتهاب بشكل واضح نسبيا، السبب والتأثير. وفي حالات أخرى، تكون الصلة أقل وضوحا ويشتبه بأن الالتهاب يلعب دورا فقط لأن الأدوية المضادة للالتهاب تقدم المساعدة. مثالا على ذلك، يتناول المصابون بالتهاب المفاصل الرثواني وهو مرض التهابي منيع للذات، مضادات للالتهاب بشكل منتظم. اكتشف العلماء أن اللواتي يعانين من التهاب المفاصل الرثواني أصبن بسرطان الثدي بمعدلات أكثر إنخفاضا من غير المصابات بالتهاب المفاصل الرثواني ويعتقدون أن السبب في ذلك يعود إلى مضاد الالتهاب. مع أن سرطان الثدي لا يبدو أنه يرتبط بالالتهاب بوضوح، ولكن إذا كان مضاد الالتهاب يخفف من الخطر، فإذا لا بد من أن المركب الالتهابي مزعوم.

سرطان القولون

يؤثر الالتهاب في ظهور سرطان القولون بطريقتين مختلفتين. أولا، من المعروف أن الالتهاب الطويل الأمد بسبب داء المعى الالتهابي يزيد من خطر الإصابة بسرطان القولون عبر التسبب بتحولات خلوية تؤدي إلى السرطان.

ثانيا، قد تلعب البكتيريا دورا كذلك. يزخر القولون بأنواع مختلفة من البكتيريا التي تعيش في أجسامنا بدون أن تؤذينا. في الواقع، تعتبر البكتيريا ضرورية لتعمل الأمعاء بشكل طبيعي ولكنها تبقى تحت مراقبة جهاز المناعة. لذا، يمكن القول إن القولون يبقى بحالة التهاب دائمة. إن الآليات المؤدية إلى سرطان القولون لدى الأشخاص المصابين أو غير المصابين بداء المعى الالتهابي قد تكون متشابهة، ولكن مع خطر إضافي لهؤلاء المصابين بداء المعى الالتهابي بسبب حدة الالتهاب ومدته.

أظهرت الدراسات أن دواء ميزالامين المضاد للالتهاب قد يخفف من خطر إصابة الذين يعانون من داء المعى الالتهابي بسرطان القولون بنسبة تقارب 75%. أما غير المصابين بداء المعى الالتهابي الذين يتناولون الأسبيرين أو غيره من الأدوية المضادة للالتهاب اللا ستيروئيدية التي تعطى بدون وصفة طبية يخففون من خطر إصابتهم بسرطان القولون بنسبة تتراوح بين 40 و50 %. على الرغم من عدم وضوح أسباب فائدة هذه الأدوية، إلا أن الباحثين يعتقدون أن هذه الأخيرة تعمل عبر كبت مادة تدعى الأكسيجناز الدوري-2، cyclooxygenase-2 (COX-2)، المعروفة بمساهمتها في تعزيز نمو السرطان. ظهر في دراسة أن تناول 300 ميلغرام من الأسبيرين يوميا (تقريبا حبة أسبيرين واحدة) يخفف خطر الإصابة بسرطان القولون بعد ستة أشهر من تناوله بشكل منتظم. تختفي فوائد الأسبيرين إن توقف المشاركون عن تناوله.

أظهرت دراسة أجريت على الحيوانات أن بعض مضادات الالتهاب وخاصة تلك التي تكبت (COX-2) قد تشكل علاجا مفيدا ما إن يكون قد تم تشخيص سرطان القولون. وقد أبلغ عن نتائج إيجابية شبيهة لدى أشخاص مصابين بداء معروف بداء السليلات الورمي الغدي العائلي. من يعاني من هذا الداء هو عرضة للإصابة بعدد كبير من السليلات في القولون مما يزيد من خطر الإصابة بسرطان القولون. وأظهرت الدراسات أن علاج سيليكوكسيب celecoxib المثبط لمادة (COX-2) يخفف حجم السليلات وعددها بعد مرور ستة أشهر مما يقلص خطر الإصابة بسرطان القولون. إنه مضاد الالتهاب ذاته الذي يتناوله آلاف الأشخاص لمعالجة التهاب المفاصل. من الضروري إجراء المزيد من الدراسات قبل أن يبدأ الأطباء بوصف سيليكوكسيب للوقاية من السرطان.

سرطان المعدة

كما ذكرنا سابقا، إن الإصابة بالبكتيريا اللولبية البوابية تزيد من خطر التعرض لسرطان المعدة؛ بحسب بعض التقديرات، إن الخطر أكبر بستة أضعاف تقريبا. لا تكفي البكتيريا وحدها للتسبب بالسرطان. يحمل الكثيرون في العالم هذا النوع من البكتيريا بدون أي مشاكل. إلا أن البعض الآخر يصاب بالتهاب حاد في المعدة مما قد يؤدي إلى حدوث تقرحات أو سرطان. من المعروف أن التهاب المعدة المرتبط بالبكتيريا يسبب الإجهاد المتأكسد مما قد يؤدي إلى إحداث مواد كيميائية مسرطنة، تضرر الحمض النووي الريبي المنقوص الأكسجين الخلوي، ونمو الخلايا السرطانية.

على الرغم من أن أحدا لا يعرف تماما السبب الذي يدفع بعض المصابين بالبكتيريا اللولبية البوابية للتعرض إلى السرطان على عكس غيرهم، يبدو أن الالتهاب الأكثر حدة يقود إلى السرطان. وتتأثر حدة الالتهاب بنوع معين من البكتيريا التي ترتبط بالخمج، علم الوراثة، أسلوب الحياة وحتى العوامل الغذائية. مثلا، إن المدخنين المصابين بالبكتيريا اللولبية البوابية يواجهون خطر التعرض لسرطان المعدة أكثر من غير المدخنين وغير المصابين بهذه البكتيريا بستة عشر ضعفا. كما أن المأكولات المالحة سواء أكان ملحا معالجا، ملح التخليل أو الملح المضاف، تزيد من حدة الالتهاب ومن خطر الإصابة بالسرطان.

على الرغم من أن الدراسات لم يتم إجراؤها لإظهار ما إذا كانت معالجة الخمج ستخفف من خطر الإصابة بالسرطان، إلا أنها تبدو منطقية. وبما أن هذه البكتيريا مسؤولة كذلك عن التقرحات، يبدو العلاج بالمضادات الحيوية أمرا حكيما. فيمكن معالجة معظم حالات الإصابة بالبكتيريا اللولبية البوابية بالمضادات الحيوية. كذلك، أظهرت دراسات عديدة أن بعض التغيرات الغذائية قد تساعد على تخفيف خطر الإصابة بسرطان المعدة بما في ذلك شرب الشاي الأخضر وتناول الكثير من النباتات الخضراء والصفراء.

سرطان المريء

لقد ارتفع عدد حالات الإصابة بسرطان المريء بدون معرفة السبب. وينتج هذا الداء عن التهاب طويل الأمد بسبب الجزر المعدي المريئي (دخول أحماض المعدة إلى المريء). فتحرق هذه الأحماض المريء غير المحمي مؤدية إلى تهيج والتهاب فوريين. إن إستمر الحريق والالتهاب وأصبح هذا الأخير مزمنا، يمكن أن تتحول خلايا المريء أحيانا إلى خلايا قابلة لأن تصبح سرطانية وهي حالة تدعى مريء باريت (Barrett’s esophagus). في هذه المرحلة، يمكن أن يفحص الطبيب هذه التغيرات ناظرا إلى أسفل الحلق بواسطة منظار داخلي، وهو أنبوب ضيق مضاء وله كاميرا مكبرة على طرف واحد. إلا أن الخلايا تؤخذ من المريء ويتم معاينتها تحت المجهر. إن إستمر تهيج المريء وأصبح الالتهاب مزمنا، يمكن أن تصبح الخلايا القابلة للتسرطن خلايا سرطانية.

ليس من الضروري أن ينتج التهيج عن الجزر وحده. فيعتبر الكحول ودخان السجائر مهيجين للحلق وقد يساهمان في الإصابة بسرطان المريء. في الواقع، إن الأشخاص الذين يشربون الكحول بإنتظام هم عرضة لخطر الإصابة بسرطان المريء بنسبة ضعفين أو أكثر من الذين لا يشربونه بإنتظام. كما أن المدخنين يتعرضون لهذا الخطر أكثر بسبعة أضعاف من الذين لا يدخنون بإنتظام. وقد يكون حتى تناول المشروبات الساخنة جدا (مثل الشاي المحرق) كافيا للتسبب بالتهيج والالتهاب الدائمين مما قد يؤدي إلى السرطان.

أي شيء يخفف من الالتهاب سيساعد على تخفيف خطر الإصابة بسرطان المريء. استشر طبيبك حول الطرق الفعالة للسيطرة على اللذع وحول ما إذا كان مضاد الالتهاب مناسبا لك. (لا تتناول أي دواء بدون إستشارة طبيبك أولا.)

سرطان الرئة

تعتبر الرئتان من الأعضاء الهشة نسبيا والتي تلقى الكثير من الإساءة في هذا العالم. فعندما نتنفس، يدخل إلى الرئتين كل ما يعلق في الهواء من فيروسات إلى مواد كيميائية فدخان وقذارات وملوثات وغبار وأي شيء خفيف بما يكفي لينتقل عبر الهواء. كل هذه تدخل إلى الرئتين وقد تسبب الالتهاب. في معظم الأحيان، تكون الرئتان قادرتين على إزالة قليل من الغبار وغيرها من الملوثات كعملية طبيعية. إلا أن بعض المواد الأكثر إزعاجا والتي لا يمكن إزالتها مثل الأسبستوس وغبار الفحم والسليكا تبقى في الرئتين وتسبب الالتهاب الدائم وتزيد من خطر الإصابة بالسرطان.

أما دخان السجائر فيسبب نوعا آخر من المشاكل. أولا، يعتبر الدخان بحد ذاته مادة التهابية فقط بسبب التهيج الذي يحدثه. سيؤدي الدخان في عينيك إلى الالتهاب. كما أنه يهيج نسيج الرئة الرقيق ويثيره. في الواقع، إن التهاب أنابيب التنفس في الرئتين يدعى التهاب القصبات ويظهر لدى الكثير من المدخنين إشارات التهاب القصبات المزمن متمثلة بالسعال مع البلغم الذي يدوم لثلاثة أشهر على الأقل. أظهرت دراسة نشرت عام 2002 أن غير المدخنين الذين يتنشقون دخان السجائر في مكان العمل هم عرضة للإصابة بالتهاب القصبات أكثر بضعفين من غير المدخنين الذين لا يتنشقون الدخان.

كذلك، يحنوي دخان التبغ على مئات من المركبات الكيميائية المختلفة، بعضها قادر على التسبب بتحولات سرطانية في خلايا الرئتين. يعتبر مزيج المركبات المسرطنة ونسيج الرئة المهيج مزيجا خطرا. من حيث الأضرار المحتملة، تخيل وضع منظف المرحاض على جرح دام وغير ملتئم. إن كان لنسيج الرئة أطراف عصبية حساسة مثل البشرة، سيكون الألم كافيا لمنع أحد من إشعال سيجارة أخرى. للأسف، يحدث الضرر في الرئتين بهدوء.

أظهرت دراسة شملت أكثر من أربعة عشر ألف إمرأة وأجريت عام 2002 أن النساء اللواتي تناولن الأسبيرين ثلاث مرات أو أكثر في الأسبوع لستة أشهر على الأقل، سجلن انخفاضا في خطر التعرض لسرطان الرئة حتى عند أخذ الدخان بعين الاعتبار. إقترح الباحثون أن الفوائد تعود على الأرجح إلى خواص الأسبيرين المضادة للالتهاب. على الرغم من صعوبة استنتاج ما يجب أن يفعله المرء استجابة إلى دراسة شاملة مثل هذه، إلا أنه من الضروري أن تستشير النساء المدخنات أطبائهن حول تناول الأسبيرين. لا تتناول أي دواء قبل مناقشة الأمر مع الطبيب أولا.

سرطان الثدي

ما زالت أسباب سرطان الثدي غامضة. فإن جمعت كل عوامل الخطر المعروفة، سوف تشكل أقل من نصف الحالات كلها. ولا يمكن تغيير عوامل الخطر هذه التي تشمل الوراثة، السن عند بدء الدورة الشهرية لأول مرة، والسن عند ولادة الطفل الأول. لذا، على الرغم من إدراك إمكانية الوقاية من سرطان الرئة من خلال عدم التدخين، لا تستطيع النساء اختيار الوالدين أو تأخير العادة الشهرية للوقاية من سرطان الثدي. إلا أن الدراسات الحديثة أظهرت أن تناول مضادات الالتهاب غير الستيروئيدية قد يخفف خطر الإصابة بسرطان الثدي بنسبة 20%.

جاء الاهتمام بمضادات الالتهاب غير السيروئيدية للوقاية من سرطان الثدي من ملاحظة أن المصابات بالتهاب المفاصل الرثواني (اللواتي يتناولن المضادات بانتظام) يتعرضن بنسبة منخفضة لخطر الإصابة بسرطان الثدي. قد يعود ذلك إلى وجود البروستاغلندين، وهي مواد تشبه الهورمونات وترتبط بنشوء السرطان، في نسيج الثدي السرطاني بنسبة أعلى مما هي عليه في نسيج الثدي الطبيعي. تعوق مضادات الالتهاب غير الستيروئيدية ظهور البروستاغلندين وبالتالي تعوق على الأقل سببا واحدا لحدوث سرطان الثدي. في تحليل ثانوي أجري عام 2001 لأربعة عشر دراسة من النوعية العالية، تبين أن مضادات الالتهاب غير الستيروئيدية قد تخفف بالطبع من خطر الإصابة لسرطان الثدي. وجدت كل الدراسات تقريبا نتائج مشابهة بغض النظر عن الهدف مع بمعدل انخفاض الخطر بنسبة 18%. ما زالت هيئة المحلفين تدرس النوع الأفضل للمضادات. فعلى ما يبدو أن الإيبوبروفين والأسبيرين لديهما مفعول مماثل ولا يوجد ما يكفي من المعلومات لتحديد الجرعة المثالية أو المدة المطلوبة للوقاية من سرطان الثدي. نظرا لهذه النتائج، لا بد من استشارة طبيبك حول تناول جرعة قليلة من مضاد الالتهاب. لا تتناول أي دواء بدون إستشارة الطبيب أولا. لكل دواء مخاطره حتى الأدوية المضادة للالتهاب والتي تباع بدون وصفة طبية مثل الإيبوبروفين أو الأسبيرين.

أمر آخر يرتبط بالالتهاب بشكل مثير وهو أن سرطان الثدي وسرطان القولون يصيبان المريض نفسه أكثر مما يمكن أن تتكهن به الإحصاءات. هل من رابط يجمع بينهما؟ يعتقد ذلك بعض الباحثين. يبدو أن هذين النوعين من السرطان يرتبطان بأسلوب الحياة و/أو النظام الغذائي الغربي فيما يصاب المهاجرون بمعدلات منخفضة نسبيا من سرطان الثدي والقولون ولكنهم سرعان ما يواجهون المخاطر ذاتها كلما طالت فترة إقامتهم في بلاد الغرب. كما أن زيادة الوزن تتعلق بخطر متزايد للإصابة بنوعي السرطان وترتبط البدانة بنسبة مرتفعة من الالتهاب. لا نعلم تماما سبب ارتباط هذين النوعين من السرطان ولكن إن إستطعنا السيطرة على العوامل الالتهابية في كامل الجسم، قد نتمكن من الوقاية من هذين  الدائين وغيرهما من أنواع السرطان المرتبطة بالالتهاب.

سرطان المبيض

يصب سرطان المبيض في خانة الأمراض الغامضة التي تتحدى إمكانية التكهن بها. في السابق، كانت عوامل الخطر تتمثل بالوراثة والعدد المرتفع من الإباضة مدى العمر (والتي تحدث في حال عدم حمل المرأة مثلا وبالتالي عدم حدوث “انقسام” من جراء الإباضة)، أو معدلات الهورمون المرتفعة. ولكن عام 1999، ذكر الباحثون في صحيفة المعهد الوطني للسرطان أن جزءا من السبب يعود إلى الالتهاب. فالإباضة بحد ذاتها هي عملية التهابية تؤدي إلى “تضرر” مؤقت للمبيض عند إنطلاق البيضة من الجريب. كما أن عوامل خطر أخرى لسرطان المبيض تشمل عامل الالتهاب مثل الداء الالتهابي الحوضي أو انتباذ بطانة الرحم.

بالطبع إذا كان الالتهاب مسؤولا جزئيا عن سرطان المبيض، عندئذ يجب أن يكون التخفيف من حدة الالتهاب كفيلا بتقليص نسبة الخطر. أظهرت دراسة صغيرة نشرت عام 1998 أن تناول حبة واحدة من الأسبيرين أسبوعيا ولمدة ستة أشهر أو أكثر أدى إلى تخفيف خطر الإصابة بسرطان المبيض بنسبة حوالى 25%. عام 2002، أثبتت نتائج دراسة أكثر شمولا بعد معاينة 76821 إمرأة طيلة عشرين عاما، عدم فعالية الأسبيرين ولكن مضادات أخرى للالتهاب غير الستيروئيدية (مثل الإيبوبروفين) قلصت خطر الإصابة بسرطان المبيض بنسبة 40%. هذه النتائج المتضاربة مربكة. من الضروري إجراء دراسات إضافية لإيضاح الفوائد المحتملة للأسبيرين أو مضادات الالتهاب غير الستيروئيدية في الوقاية من سرطان المبيض. ولكن إن كان لديك تاريخ عائلي في الإصابة بسرطان المبيض، قد يكون من المفيد استشارة طبيبك حول إمكانية تناول المضادات هذه بانتظام. لا تتناولي أي دواء بدون مناقشة الأمر مع طبيبك أولا.

تأليف: د. ويليام جويل ميغز