كثير من الناس لديهم فهم مشوش عن الدهون؛ فمعظمنا يدرك أن هناك دهونًا مفيدة وأخرى ضارة، ولكن الإعلانات قد تمدنا بأفكار مغلوطة عن الدهون الصحية. فالدهون تزودنا بمصدر كبير للطاقة، فهي غنية للغاية بالسعرات الحرارية، وهي تشكل الأغشية الخلوية، كما أنها بمنزلة اللبنات التي تتألف منها الهرمونات وغيرها من المواد الموجودة في الجسم. والدهون ضرورية لنقل الفيتامينات القابلة للذوبان في الدهون إلى أجزاء الجسد. وتشمل تلك الفيتامينات كلًّا من فيتامين هـ، أ، د، ك. وتتكون الدهون (وتعرف أيضًا بالشحوم) بصورة أساسية من أحماض دهنية. وهناك أنواع مختلفة من الدهون يمكننا أن نحصل عليها من خلال نظامنا الغذائي، وأخرى موجودة في أجسامنا.
ما الأحماض الدهنية Fatty acids؟
إن الأحماض الدهنية عبارة عن سلاسل من ذرات الكربون وذرات الهيدروجين تملأ الروابط الكيميائية الموجودة. ومعظم الدهون الموجودة في أجسامنا دهون ثلاثية، وهي عبارة عن ثلاثة أحماض دهنية مرتبطة بجزيء واحد من جزيئات الجليسرول. ويُمكن تصنيف الأحماض الدهنية بأنها دهون مُشبَّعة، وقد تُصنَّف بأنها دهون أحادية اللاتشبع، أو دهون متعددة اللاتشبع. ويتحدد ذلك من وجود الروابط المضاعفة بين ذرات الكربون.
الأحماض الدهنية المشبعة Saturated Fatty Acid
تحتوي على ذرات كربون يرتبط بعضها ببعض من خلال روابط فردية، فلا توجد روابط مضاعفة بين ذرات الكربون، أما الأجزاء المتبقية في ذرات الكربون فتحتلها إحدى ذرات الهيدروجين، ومن ثم فإننا نقول إن الجزيء مُشبع بذرات الهيدروجين. ويمكن أن تتألف سلاسل الأحماض الدهنية المشبعة ما بين أربع و28 ذرة من ذرات الكربون. وهذه الأحماض الدهنية تعد شديدة الثبات، أي أنها لا تتفاعل مع جزيئات أخرى، ولا تدخل في مرحلة التزرنخ، ولا تنفجر. فهي تتحمل الحرارة بشكل جيد. ولا تتأكسد بسهولة. وتكون الدهون المشبعة صلبة في درجة حرارة الغرفة. وعادة ما توجد في الأغذية الحيوانية، مثل الزبد، والدهن الحيواني، والوَدَك، أو الدهون المستخرجة من النباتات الاستوائية، مثل جوز الهند، وزيت النخيل. ويقوم الجسم بتصنيع الدهون المشبعة من السكر، والكربوهيدرات التي تم هضمها، وغالبًا ما تكون الدهون المشبعة مسئولة عن ارتفاع مستوى الكوليسترول، والتسبب في أمراض القلب.
الأحماض الدهنية أحادية اللاتشبع Monounsaturated Fatty Acid
تحتوي على رابطة مضاعفة واحدة بين ذرات الكربون في سلسلة جزيء الكربون؛ ما يعني أن هناك ذرتين مفقودتين من ذرات الهيدروجين. وهذه الأحماض عادة ما تكون سائلة في درجة حرارة الغرفة، وتصبح صلبة عند وضعها في الثلاجات. والدهون أحادية اللاتشبع أيضًا مستقرة إلى حد كبير، ولا تتحول إلى حالة التزرنخ أو يسهل تأكسدها؛ ما يعني أنه يمكن استخدامها في الطهو. إن حمض الزيت هو الدهن الأحادي غير المشبع الأكثر انتشارًا في نظامنا الغذائي. ويوجد بكميات كبيرة في زيت الزيتون، ويتكون من سلسلة مؤلفة من 18 ذرة من ذرات الكربون. وهناك رابطة مضاعفة بين ذرتي الكربون رقم 9 ورقم 10. ويذوب حمض الزيت في درجة حرارة 13 مئوية. وهذا هو السبب في أن زيت الزيتون قد يبدو ذا لون ضبابي، ويبدو صلبًا عندما يوضع في الثلاجة، أو عند اشتداد البرد. أما الزيوت الأخرى الغنية بالدهون الأحادية غير المشبعة فهي زيت الكانولا، وزيت الفول السوداني. ويمكنك أن ترى تركيب حمض الزيت في الشكل التالي.
الأحماض الدهنية متعددة اللاتشبع Polyunsaturated fatty acid
تحتوي على رابطة أو أكثر من الروابط المضاعفة بين ذرات الكربون في السلسلة. وهذه الدهون الحمضية تكون في حالة سائلة في درجة حرارة الغرفة، حتى عندما توضع في الثلاجات؛ حيث إن درجة حرارة ذوبانها منخفضة للغاية. والأحماض الدهنية متعددة اللاتشبع الأكثر شيوعًا في أنظمتنا الغذائية هي حمض اللينوليك الذي يحتوي على رابطتين مضاعفتين، ويُطلق عليه أوميجا 6 أيضًا، وحمض ألفا-لينوليك الذي يحتوي على ثلاث روابط مضاعفة، ويُطلق عليه أوميجا 3. وكلمة أوميجا تشير إلى مكان الرابطة المضاعفة الأولى، فعلى سبيل المثال تبدأ الرابطة المضاعفة الأولى في حمض اللينوليك عند ذرة الكربون رقم 6، وتكثر دهون أوميجا 6 في زيوت نباتية مشهورة، مثل: زيت عباد الشمس، وزيت العُصْفُر، وزيت السمسم، وزيت الذرة. وهي زيوت يُروَّج لها بأنها زيوت “صحية للقلب”. وتوجد دهون أوميجا 6 أيضًا في زيت زهرة الربيع المسائية، كما توجد دهون أوميجا 3 في زيت بذر الكتان، وزيت السمك.
مشكلة الدهون متعددة اللاتشبع
تحتوي الروابط المضاعفة على إلكترونات مفردة، وتحتوي الدهون متعددة اللاتشبع في معظمها على روابط مضاعفة؛ ما يعني أنها تجعل الزيت غير مستقر بدرجة كبيرة، حيث يمكن أن يتزرنخ، أو يتأكسد بسهولة. وتتفاعل الدهون متعددة اللاتشبع بسهولة مع الأكسجين، والضوء، والماء، والجزيئات العديدة الموجودة في الجسم، فإذا تأكسدت من خلال الحرارة، أو التعرض للأكسجين (كما يحدث عند المعالجة أو القلي)، فإنها تعمل عمل الجذور الحرة في الجسم، ويمكن لتلك الدهون أن تحدث ضررًا بالغًا للجسم من خلال تدمير أغشية الخلايا والحمض النووي.
وقد يسبب تدمير الحمض النووي الإصابة بالسرطان، ويؤدي تدمير الجذور الحرة للجلد إلى ظهور التجاعيد، أما الضرر الذي يلحق بالأوردة الدموية, فيمكنه أن يساعد على الإصابة بتصلب الشرايين. ولهذا السبب، لا يجوز أبدًا استخدام الدهون متعددة اللاتشبع في الطهو؛ وهذه على وجه الدقة هي الزيوت التي تباع في المتاجر، ويكتب عليها أنها مخصصة للطهو.
وتحتوي جميع الزيوت والدهون الموجودة في الطبيعة على خليط من الأحماض الدهنية أحادية اللاتشبع ومتعددة اللاتشبع، في حين تحتوي الدهون المستخلصة من الحيوانات، مثل الزبد، والقشدة، والدهن الحيواني بصورة رئيسية على الأحماض الدهنية المشبعة، وتحتوي الدهون المستخلصة من النباتات بصورة رئيسية على أحماض دهنية أحادية اللاتشبع ومتعددة اللاتشبع. وتكون الدهون متعددة اللاتشبع صحية للغاية في حالتها الطبيعية عندما توجد في المكسرات والبذور الخام، ولكنها عندما تتحول إلى زيوت نباتية من خلال المعالجة يصبح ضررها أكثر من نفعها.
وتزعم العديد من الجهات المسئولة في مجال الصحة، أن النظام الغذائي الغربي التقليدي يحتوي على نسبة مرتفعة للغاية من دهون أوميجا 6 (الموجودة في معظم الزيوت النباتية) ويحتوي على نسبة منخفضة جدًّا من دهون أوميجا 3 (الموجودة في السمك، وبذور الكتان، والجوز). وهذا النقص في التوازن قد يساعد على الالتهاب، ويسهم في زيادة الوزن، ويُثبط جهاز المناعة ويساعد على الاكتئاب.
طول سلاسل الأحماض الدهنية
ويمكن تصنيف الأحماض الدهنية بناءً على طولها؛ الأمر الذي يزودها بخواص مختلفة.
الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة Short chain fatty acids
تحتوي على ما بين أربع وست ذرات من الكربون، ودائمًا ما تكون تلك الدهون مشبعة. ومن أمثلتها حمض الزبدة الذي يحتوي على أربع ذرات من الكربون، ويوجد في الزبد، وحمض الديكانويك الذي يحتوي على 6 ذرات من الكربون، ويوجد في لبن الماعز. والأحماض الدهنية قصيرة السلسلة لها تأثير مضاد للميكروبات في الجهاز الهضمي؛ فهي تحمينا من عدوى البكتيريا، والفيروسات، والخمائر. ولا تحتاج إلى العصارة الصفراوية لكي يتم هضمها, حيث يتم امتصاصها مباشرة في الأمعاء، وتستخدم بشكل مباشر في إنتاج الطاقة.
الأحماض الدهنية متوسطة السلسلة Medium Chain Fatty Acids
تحتوي على ما بين 8 و12 ذرة من الكربون. وتوجد بكثرة في دهن الزبدة والزيوت الاستوائية، مثل زيت جوز الهند، وهذه الدهون أيضًا لا تحتاج إلى العصارة الصفراوية لكي تُهضم، ومن ثم تزودنا بمصدر سريع للطاقة. ولعلك سمعت ب الدهون الثلاثية متوسطة السلسلة المستخدمة في الأنظمة الغذائية لمن يعانون أمراض الكبد والأمراض المتعلقة بها. وأحيانًا ما تستخدم من قبل الرياضيين، وهي مشهورة لأنها لا تتطلب سوى القليل من الجهد لكي يتم هضمها، وسرعان ما يتم حرقها لتتحول إلى طاقة، ولا يتم تخزينها على هيئة دهون, ولديها أيضًا خواص مضادة للميكروبات. وتعتبر دهون جوز الهند غنية للغاية ب حمض اللوريك ، وهو حمض دهني متوسط السلسلة، ويتحول في أجسامنا إلى مادة المونولورين. ويحتوي هذا الدهن على خصائص مضادة للفيروسات والبكتيريا، كما أن له خواص مضادة للأوالي وتعمل على تدمير الفيروسات المغلفة بالدهون، مثل فيروس الهربس، والإنفلونزا، والفيروس المُضخم للخلايا، وفيروس نقص المناعة، ويعمل على تدمير بعض أنواع البكتيريا، مثل الليسترية، وجرثومة الملوية البوابية، بالإضافة إلى الكائنات الأولية بما فيها داء الجيارديا، أو حمى القندس. لذا فإن دهون جوز الهند المكررة أو البكر تعد إضافة ممتازة لنظام غذائي صحي.
الأحماض الدهنية طويلة السلسلة Long Chain Fatty Acids
تحتوي على ما بين 14 و 18 ذرة من الكربون، وقد تكون مشبعة أو أحادية اللاتشبع أو متعددة اللاتشبع. وحمض الشمع مثال للأحماض الدهنية المشبعة التي تحتوي على 18 ذرة من الكربون، وهو يوجد بصورة رئيسية في دهون الضأن والعجول. والأحماض الدهنية المشبعة ذات السلسلة الطويلة تكون في حالة صلبة تحت درجة حرارة الجسم، وهي ذات طبيعة لزجة. وإذا تناولنا كميات كبيرة من هذا النوع من الدهون، فقد تصبح دماؤنا ذات قوام لزج؛ ما يجعلنا معرضين بشدة لخطر الإصابة بأمراض القلب. ويمكن للجسم أن يحول الكربوهيدرات المكررة والسكريات التي تناولناها إلى أحماض دهنية مشبعة طويلة السلسلة، ومن ثم فإن الإكثار من تناول السكريات يرفع نسبة الدهون المشبعة والكوليسترول في الجسم.
وهناك مثال آخر للأحماض الدهنية أحادية اللاتشبع التي تحتوي على 18 ذرة من الكربون، ويتمثل في حمض الزيت، وهو حمض موجود في زيت النخيل، كما أن حمض اللينوليك الدهني الغني بأوميجا 6 وحمض ألفا-لينوليك الغني بأوميجا 3 يصنفان بأنهما حمضان دهنيان متعددان غير مشبعين وذوا سلسلة طويلة، وهما أيضًا يتألفان من 18 ذرة من الكربون.
وتحتوي الأحماض الدهنية ذات السلسلة الطويلة جدًّا على ما بين 20 و 24 ذرة من الكربون. وتشمل الأحماض الدهنية الأساسية الموجودة في الأسماك، وتحتوي على أوميجا 3. وحمض إيكوسابنتانويك وحمض الدوكوساهيكسانويك، بالإضافة إلى حمض الأراكيدونيك الموجود بشكل رئيسي في اللحوم الحمراء. ومعظم هذه الدهون تستخدم في إنتاج البروستاجلاندين، وهو عبارة عن مواد شبيهة بالهرمونات الموجودة في الجسم.
وتسمى الستيرولات النباتية والإستانولات بالفايتوستيرولات (مركبات كحولية)، ولها تركيب شبيه جدًّا بتركيب الكوليسترول. وتوجد الستيرولات النباتية في الزيوت المستخرجة من نباتات مثل المكسرات والبذور، ويسمى الستيرول النباتي الرئيسي بالبيتا سيتوستيرول، ويتم تكرير الستيرولات وتركيزها، ثم تضاف إلى السمن النباتي، حيث يُدعى أنها تعمل على خفض مستويات الكوليسترول، ولكنها تحول دون امتصاص الكوليسترول في الأمعاء.
هضم الدهون وامتصاصها
في هذا الجزء سنبين بإيجاز ما يحدث للكوليسترول والدهون التي نتناولها بمجرد أن تدخل الجسم.
إن الجسم لا يتعامل مع الدهون بدرجة كبيرة عند وجودها في الفم والمعدة، فعملية هضم الدهون تحدث في الأمعاء الدقيقة. وتلعب الكبد دورًا رئيسيًّا في هضم الدهون؛ لأنها تنتج العصارة الصفراوية التي تُختزن في المرارة، وتُفرز في الأمعاء الدقيقة بعد تناولنا وجبة تحتوي على الدهون.
وهناك جزء كبير من العصارة الصفراوية يتم إنتاجه من الكوليسترول، كما تحتوي تلك العصارة على الأحماض الصفراوية والليسيثين. وتعمل الانقباضات المعوية على خلط الطعام الذي نتناوله مع المرارة التي تستحلب الدهون، أو تحللها إلى قطيرات أصغر حجمًا. وتعمل العصارة الصفراوية بشكل أساسي على تكسير جزيئات الدهون إلى أجزاء أصغر، ومن ثم يمكن للإنزيمات الهاضمة للدهون أن تعمل بشكل أكثر فاعلية. فالأشخاص الذين قاموا باستئصال المرارة يجدون أن تناول الوجبات الغنية بالدهون سيضرهم بشكل بالغ؛ لأنهم قد لا يكونون قادرين على إنتاج ما يكفي من العصارة الصفراوية لتكسير الدهون.
ويقوم البنكرياس بتصنيع أحد الإنزيمات الهاضمة للدهون، ويدعى الليباز، ويعمل على هضم الدهون الثلاثية، والدهون الفوسفورية، والكوليسترول في الأمعاء الدقيقة، وتتألف الدهون الفوسفورية من الدهون والفوسفور، وهي المكون الرئيسي لأغشية الخلايا. ويتم تكسير الدهون الثلاثية والدهون الفوسفورية والكوليسترول إلى أحماض دهنية حرة، كما يتم تكسيرها إلى مكونات أخرى، وتُمتص في الخلايا المُخاطية التي تُبطِّن الأمعاء الدقيقة. وتقوم الخلايا المخاطية بتعديل المكونات الدهنية لتصبح نواقل تسمى كيلوميكرونات (بروتينات دهنية). وهي غنية بالدهون الثلاثية، وتنقل الدهون إلى الأوعية اللمفاوية، ثم إلى الكبد، ومنها إلى مخازن الدهون في الجسم، وتقوم الكبد بتصنيع العديد من الجزيئات الناقلة للدهون، مثل البروتينات الدهنية مرتفعة الكثافة، والبروتينات الدهنية منخفضة الكثافة جدًّا، والبروتينات الدهنية منخفضة الكثافة التي تنقل الدهون من الأغشية المتعددة للجسم وإليها.
وتلعب الكبد دوراً شديد الأهمية في تنظيم الدهون في مجرى الدم، فهي تحدد كمية الكوليسترول التي ينبغي إنتاجها من خلال مراقبة الكمية الموجودة من الكوليسترول في الدم، فكلما تناولت المزيد من الكوليسترول قل إنتاج الكبد له إذا كانت الكبد سليمة. وتعد الكبد فلترًا يساعد على تنظيف مجرى الدم، ويمنع الكثير من الدهون من التجمع فيه، وهذا الفلتر لا يعمل بكفاءة لدى من يعانون مرض الكبد الدهنية، ومن ثم تُختزن الأنسجة الدهنية في الكبد، وتتراكم الدهون الزائدة في مجرى الدم. وهكذا يرتفع مستوى الكوليسترول والدهون الثلاثية في الدم، ويعرضنا لخطر متزايد للإصابة بأمراض القلب والسكتات الدماغية، أما عندما تكون الكبد سليمة، فإنها تتخلص من الدهون الزائدة من الجسم، وتنقلها إلى العصارة الصفراوية، حيث تغادر الجسد عبر حركة الأمعاء.