لقد تحدث العديد من الرياضيين عن الحالة البدنية والذهنية المرتفعة التي يصلون إليها من خلال الرياضة التي يمارسونها. ويمكننا أن نرى نظرات البهجة في عيونهم والتي تُنبئ بأنهم كسبوا أكثر من مجرد التنافس والفوز. فنحن نرى الشعور بالنشاط والخفة يمتزج بألم اختبارات القوة والتحمل. ونحن نعلم أن ذلك أكثر من الرضا الذهني. إنه يصل إلى المستويات العاطفية والروحانية.
وهناك أمثلة على أشخاص موهوبين بصورة طبيعية بحيث يبدو وكأنهم قد ولدوا لممارسة المهنة التي يمارسونها. فهم يتعلمون هذه المهنة بصورة شبه فورية، وتشعر بأن أمامهم مستقبلاً مضيئاً يتلألأ. فنحن نستمتع بغناء الأشخاص الذين يبدءون في الغناء وهم صغار في السن جداً ويستمرون في ذلك حتى الكبر. ونحن نندهش بقدرة العلماء على التوصل إلى حلول للمشكلات المعقدة، ونتساءل كيف توصلوا إلى تلك النظريات التي غيرت حياة البشر للأبد. الكثير من هذا النجاح الطبيعي يمكن أن نعزوه إلى شكل من أشكال التأمل.
الرياضي المدهش جيم ثورب يعطينا مثالاً جيداً على الدور الذي يمكن أن يلعبه التأمل في النجاح الطبيعي. وُلد ثورب في عام 1887، وحضر المدرسة الهندية الأمريكية بدءاً من عام 1904. كان ثورب يلعب كرة القدم، ولكنه أصبح نجماً في العدو. وذات يوم، طلب من مدربه أن يجرب الوثب العالي. كان البار موضوعاً عند 5 أقدام و9 بوصات، وبدون تسخين تقريباً، تمكن من الوثب فوقه بسهولة.
كان ثورب عداءً بالفطرة، وقد تمكن من الفوز بكل من المباريات الخماسية والعشارية في الألعاب الأوليمبية عام 1912. وقبل ذلك، كان قد جرب لعبة البيسبول لمدة عامين، وجرب كرة القدم أيضاً. بالطبع، قليل من البشر هم الذين يتفوقون في هذا العدد الكبير من الرياضات. إذاً، ما الذي فعله ثورب لكي يتفوق في كل هذه الرياضات، بالإضافة إلى امتلاكه موهبة فطرية؟
يقول الرياضيون القدامى إن ثورب كان يتعلم أي رياضة بمجرد أن يشاهد أحد الرياضيين يمارسها فقط. وكانت لديه رغبة شخصية شديدة في اختبار نفسه ضد الرياضيين الآخرين، وكان ينتصر عليهم بشكل دائم. وكان أسلوبه يحتوي على شكل من أشكال التأمل بكل تأكيد. كان قادراً على مشاهدة أي حدث رياضي، ثم يفكر في كيفية أدائه، ثم يقوم به بشكل أفضل من الرياضي الذي تدرب عليه لفترة طويلة. إن هذه الظاهرة تُسمى “الانتباه الصريح”. لقد كان ثورب قادراً على التخلص من أي مشوشات في البيئة التي يوجد بها وفي عقله أيضاً، وكان قادراً على التركيز على المجهود البدني المطلوب، ثم يقوم به.
كان الموسيقي “موتسارت” يتمتع بهذا الانتباه الصريح أيضاً. لقد كانت لديه القدرة أن يستمع إلى القطعة الموسيقية مرة واحدة فقط ثم يقوم بكتابتها على النوتة الموسيقية. وكانت لديه القدرة أيضاً أن يستمع إلى الموسيقى مرة واحدة ثم يقوم بعزفها بنفسه.
بعض الناس لديهم القدرة على تذكر ما يقرءونه كلمة بكلمة. وآخرون يستطيعون سماع الأغنية مرة واحدة ثم يغنونها بدون خطأ. والكثيرون من الناس لديهم شيء يستحوذ انتباههم بالكامل بحيث لا يستمعون إلى ما يحدث حولهم. ونحن نلاحظ هذا النوع من الاستغراق في الانتباه في الأطفال الصغار وهم يلعبون.
ومن الممكن أن نطوّر قدرتنا على الانتباه الصريح من خلال التأمل. فعن طريق التركيز على التنفس أو التأمل في شيء ما، وعن طريق الشدو بالمانترا، والممارسة، يمكننا أن نزيد من هذه القدرة. فمن خلال الممارسة المنتظمة للتأمل، نتعلم أن ندخل إلى هذا الإطار الذهني بسهولة أكثر فأكثر. وحتى في الأوقات المشحونة بالضغط يمكننا أن نتخلص من المشوشات الموجودة حولنا ونجلس ونركز على لا شيء تقريباً.
ولتحسين أدائنا، نحمل هذه الحالة الذهنية المسترخية التي نكتسبها من التأمل إلى الرياضات والأنشطة الأخرى التي نمارسها. فعندما نكون مركزين في مهمة ما، يصبح من الصعب تشتيتنا عنها. فعندما تشاهد الرياضية “ماريون جونز” مثلاً، تجد أنها تقوم بنفس مجموعة الحركات بدقة. وقد لا تلاحظ ذلك إلا إذا أعادوا السباق مرة أخرى. فهي تسير للأمام والخلف بينما تجهّز نفسها ذهنياً للسباق، ثم تخلع ملابس التسخين التي ترتديها، تربت فوق عضلات ساقيها، ثم تثني جسمها. وهي تضع نفسها عند نقطة البداية بنفس الطريقة بدقة في كل مرة. وبينما هي تركز، تجدها تنظر إلى أسفل إلى المسار الذي ستجري فيه ثم ترفع عينيها حتى ترى الشريط الموجود في نهاية المسار ثم تعيد عينيها إلى أسفل مرة أخرى. وهذا التحضير الذهني والجسدي هو نوع من التأمل.
ومن الممكن القيام بهذا التحضير ذهنياً فقط بدون أي نشاط جسدي. فالتفكير في تحدٍ قادم يوفر قدراً كبيراً من التحضير لأي نشاط. فبغض النظر عن النشاط الذي تستغرق فيه -سواء كان في العمل أو في الرياضة أو حتى الترفيه- فإن التركيز الكامل يقودك إلى أداء أفضل. بعض الناس يقولون إنهم يستغرقون بالكامل في اللحظة. وهذه علامة على أنهم أبعدوا كل المشتتات جانباً وسمحوا للتركيز الخالص في أن يسيطر عليهم.
الممارسة لتحسين المهارات
قبل أن تبدأ في التأمل، فكر في النشاط الذي تعمل عليه حالياً. فكر في كيفية أدائك له، وفكر فيما قاله لك معلمك أو أستاذك.
1. اجلس في وضع مريح.
2. ابدأ في التنفس البطيء العميق.
3. تصور النشاط كما لو أن شخصاً آخر يقوم بأدائه بصورة متقنة للغاية. لاحظ تفاصيل أدائه. حاول أن تتعرف على نقاط التوازن في ذهن أو جسد هذا الشخص.
4. الآن تصور نفس النشاط وكأنك أنت الذي تؤديه. انظر إلى طريقة الأداء من منظورك. إذا كنت تلعب البيانو، فتصور أصابعك وهي على المفاتيح. وإذا كنت رياضياً، فتصور نفسك وكأنك في الحلبة الرياضية. تصور نفسك وأنت تسير إلى البيانو، أو تقف عند خط البداية، أو أي شيء آخر بحسب النشاط الذي تمارسه.
5. استشعر الإحساس في جسمك وأنت تبدأ في ممارسة النشاط. لاحظ شعورك وأنت في حالة توازن رائع بين جسمك وعقلك. لاحظ السمة العاطفية لأدائك.
6. إذا حدث انقطاع في تركيزك، فأعد تخيل هذا الجزء. هل يمكن أن تعرف ما الذي حدث وسبب انقطاع تركيزك؟
7. الآن، قم بالنشاط، وتخيل أنك تقوم به بصورة متقنة للغاية. تخيل أنك تبدأ من مركز هادئ، وتبذل القدر المناسب تماماً من الطاقة الجسمانية والذهنية والعاطفية اللازمة لتحقيق أداء متقن للغاية.
8. الآن تخيل أنك تستجيب لهذا الأداء الرائع الذي قمت به.
9. أكمل تأملك.
قد يتطلب هذا التدريب قدراً هائلاً من المجهود للوصول إلى الإتقان. فكما يحدث عند ممارسة النشاط الفعلي، فإن التأمل يمكن أن يمتلئ بالمشتتات. وكلما كان تركيزك أثناء التأمل أفضل، كان أداؤك أثناء ممارسة النشاط الفعلي أفضل.
لقد حافظت على خطوات التدريب السابق أبسط ما يكون. ربما ترغب في تضمين خطوات أخرى إذا كان النشاط الذي تمارسه معقداً. تذكر أن تتصور أداء التدريب من زاويتين: الأولى وأنت تشاهد شخصاً آخر يقوم به بإتقان، والثانية وأنت تشاهد نفسك تقوم به، أي ترى نفسك بعينيك، وتسمع نفسك بأذنيك، وهكذا. هناك سبب لهذا. نحن نتعلم بمشاهدة الآخرين وهم يقومون بالنشاط، أو بالاستماع إلى أدائهم. ونحن نتعلم أيضاً من ممارستنا للنشاط. وعندما تحين اللحظة للأداء المتقن، فإنك ستدمج ما رأيته بما تفعله، وستكون نقطة التوازن في داخلك، كما ينبغي أن تكون.
الأداء كتأمل
الآن، دعنا ندر المنضدة وننظر إلى أداء الأنشطة على أنه تأمل. عندما يقترب أداء نشاط معين من الإتقان الشديد، فإنه يصبح خبرة مبهجة. فأنت تقدم كل ما لديك، جسمانياً وذهنياً، في هذا الأداء، وهذا ينقلك إلى أعلى مستوى من الأداء الفائق.
ولكي تقدم كل ما لديك في النشاط الذي تقوم به، فإن عليك أن تدخل في مساحة لا يوجد فيها شيء آخر. ليس لأن ما يحيط بك غير مهم بالنسبة لك، وإنما لأنه غير موجود في تلك اللحظة. لقد تعرفت على مثل تلك اللحظات في أثناء ممارستك للتأمل، وربما أنك عرفت أن تلك اللحظات تأتي دون إعلام مسبق. وبالرغم من أنك بصفة عامة لا تستطيع أن تستدعيها بناءً على طلبك، فإنها تأتي. ومن خلال الممارسة، يمكنك إيجاد لحظة زمنية ومساحة مكانية حيث يمكنك أن تقدم أفضل وأقوى وأتقن أداء لديك.
وهناك هدوء رائع في وسط كل هذا المجهود الذي تبذله. وبدلاً من أن يكون النشاط الذي تقوم به هو شيء تفعله خارج نظامك المعتاد -حدث- فإنه يصبح أنت بكل ما فيك في تلك اللحظة، وتصبح أنت هو. وعن طريق تطوير تركيز عميق، ستتمكن من التخلص من كل المشتتات طوال فترة أدائك. إن السبب في كفاحك للوصول إلى هذا الأداء الفائق لم يعد مهماً. فكل ما هناك هو أنت وأنت تؤدي. وحتى منافسوك سيصبحون خافتين في تلك اللحظة. وعندما تنتهي، ستعرف أنك قد قدمت أفضل ما لديك.
تقديم أفضل ما لديك
1. افعل ذلك. في كل وقت، وكل يوم، وكل لحظة.
ملخص
في الواقع، أنا أؤمن بأننا جميعاً نقدم أفضل ما لدينا طوال الوقت. فرغم كل شيء، من سيرغب في خلاف ذلك؟ هل سنفكر في أفضل الخيارات ثم نقوم بشيء آخر؟ على الأرجح لا. إن التأمل هو ممارسة تساعدنا على التعرف على أفضل الخيارات في حياتنا. والتأمل يساعدنا على التخلص من السلوكيات الذهنية المتكررة، والتي قد لا تكون مفيدة دائماً. وبدلاً من هذه السلوكيات، يتكون لدينا استرخاء بدني ووضوح ذهني وهدوء عاطفي؛ مما يسمح لنا باتخاذ قرارات جيدة.
في الفصل التالي، سنتحدث عن الأحلام، وهو مصدر للمعلومات يأتي من داخل أنفسنا، وهو من الموضوعات المناسبة للتأمل.