التصنيفات
الغذاء والتغذية

القمح ودرجة الحموضة | استهلاك الحمض

جسم الإنسان عبارة عن وعاء من الحموضة يخضع إلى رقابة مشددة. وإذا انحرف عن درجة الحموضة العادية وهي ٧.٤ بمقدار ٠.٥ فقط لأعلى أو لأسفل، فسوف تموت.

يتم ضبط الوضع الحمضي القاعدي في الجسم والحفاظ عليه بدقة أكثر إحكاما من ضبط بنك الاحتياطي الفيدرالي لمعدل الحسم. فالالتهابات البكتيرية الحادة، على سبيل المثال، يمكن أن تكون قاتلة لأن العدوى تؤدي إلى طغيان منتجات الحمض على قدرة الجسم على تحييد عبء الحمض. كما أن أمراض الكلى تؤدي كذلك إلى مضاعفات صحية بسبب ضعف قدرة الكلى على تخليص الجسم من منتجات الحمض.

في الحياة اليومية، تكون درجة الحموضة في الجسم ثابتة عند نسبة ٧.٤، وذلك بفضل دقة أنظمة التحكم في موضعها الصحيح. فجميع منتجات الأيض، كحمض اللاكتيك، عبارة عن أحماض. والأحماض تقلل من درجة الحموضة، ما تثير نوبة من الذعر بداخل الجسم لتعويض ذلك. ويستجيب الجسم عن طريق استخلاص أي قلويات متاحة لديه، سواء كانت من البيكربونات في مجرى الدم، أو أملاح الكالسيوم القلوية مثل كربونات الكالسيوم، أو فوسفات الكالسيوم في العظام. وبسبب أن الحفاظ على درجة الحموضة الطبيعية أمر بالغ الأهمية، فإن الجسم سيضحي بصحة العظام للحفاظ على درجة الحموضة مستقرة. وفي منظومة تحديد أولويات الخطر العظيمة التي هي جسدك، سيتم تحويل عظامك إلى عصيدة قبل أن يسمح جسدك لدرجة الحموضة بأن تنحرف عن مسارها. وعندما يتم الوصول إلى صافي الرصيد القلوي المناسب، ستكون العظام بخير، وستكون المفاصل بخير.

وبينما يكون تطرف درجة الحموضة في أي من الاتجاهين أمرا خطيرا، يكون الجسد أكثر سعادة عند وجود تحيز قلوي طفيف. ولكن هذا أمر دقيق ولا ينعكس على درجة الحموضة في الدم، بل يكون واضحا باستخدام بعض الطرق مثل قياس المنتجات الحمضية والقلوية في البول.

كما أن الأحماض التي تؤكد درجة الحموضة في الجسم يمكن أن تنتج كذلك من خلال اتباع نظام غذائي. وهناك مصادر غذائية واضحة للأحماض كالمشروبات الغازية الكربونية التي تحتوي على حمض الكربونيك. كما تحتوي بعض المشروبات الغازية، مثل كوكا كولا، كذلك على حمض الفوسفوريك. إن الكميات الحمضية المتطرفة من المشروبات الغازية الكربونية تصل بقدرة تحييد الجسم للحمض إلى أقصاها. فالسحب المستمر للكالسيوم من العظام، على سبيل المثال، يرتبط بزيادة قدرها خمسة أضعاف في نسبة التعرض للكسور لدى فتيات المرحلة الثانوية ممن يستهلكن كميات أكبر من مشروبات الكولا الكربونية.

ولكن بعض الأطعمة يمكن أن تكون مصادر غير واضحة للأحماض في هذه البيئة التي تخضع فيها درجة الحموضة لرقابة مشددة. وبغضّ النظر عن المصدر، فعلى الجسد “التصدي” لهذا التحدي الحمضي. إن مكونات النظام الغذائي يمكنها تحديد إذا ما كان الأثر النهائي تحديًا حمضيًّا أم قلويًّا.

وتعتبر بروتينات المنتجات الحيوانية هي التحدي الرئيسي في توليد الحمض في النظام الغذائي عند الإنسان. لذا فإن اللحوم مثل لحم الدجاج، واللحم المشوي، وشطائر لحم البقر تعتبر مصدرا رئيسيًّا للحمض في النظام الغذائي الأمريكي العادي. ويحتاج الجسد إلى إيقاف تلك الأحماض التي تتولد بسبب اللحوم، كحمض اليوريك وحمض الكبريتيك (وهو الحمض نفسه الموجود في بطارية سيارتك وفي المطر الحمضي). كما أن ذلك المنتج المتخمر الناتج عن الغدد الثديية للبقر (الجبن!) يعتبر مجموعة غذائية أخرى عالية الحمضية، وخاصة الجبن قليل الدسم، عالي البروتين؛ أي أن الأغذية المشتقة من مصادر حيوانية، باختصار، تعتبر تحديًا حمضيًّا، سواء كانت طازجة، أو متخمرة، أو نيئة، أو كاملة الطهو، مضافًا إليها صلصة خاصة أو لا.

ومع ذلك، المنتجات الحيوانية قد لا تكون على القدر نفسه من الضرر بالنسبة لتوازن درجة الحموضة الذي تبدو عليه في الوهلة الأولى. تشير الأبحاث الحديثة إلى أن اللحوم الغنية بالبروتين لها تأثيرات أخرى تلغي العبء الحمضي جزئيًّا. إن البروتين الحيواني له أثر على تقوية العظام من خلال تحفيز هرمون عامل النمو الذي يشبه الأنسولين (١- IGF)، والذي يؤدي إلى نمو العظام وتشبعها بالمعادن. (وعبارة “يشبه الأنسولين” تعني تشابه هيكله مع هيكل الأنسولين، وليس تشابها في التأثير). ويكون الأثر النهائي للبروتينات من المصادر الحيوانية، على الرغم من قدرتها على توليد الأحماض، هو زيادة صحة العظام. إن الأطفال والمراهقين وكبار السن، على سبيل المثال، ممن يستهلكون البروتين الحيواني بدرجة كبيرة يتمتعون بزيادة نسبة الكالسيوم في العظام وتحسن نسبة قوة عظامهم.

أما الخضراوات والفواكه، من ناحية أخرى، فتعتبر الأطعمة القلوية المهيمنة على النظام الغذائي. فجميع منتجاتها تقريبا تدفع درجة الحموضة نحو الاتجاه القلوي بداخلك. فارتفاع معدل استهلاكك من الخضراوات والفواكه كاللفت والملفوف سيعمل على تحييد العبء الحمضي الذي تتسبب فيه المنتجات الحيوانية.

كاسر العظام

إن الوجبات الغذائية في أثناء مرحلة الصيد والالتقاط التي تكونت من اللحوم والخضراوات، والفواكه، بالإضافة إلى المكسرات والجذور المحايدة نسبيًّا، كانت تسفر عن تأثير قلوي صاف. وبطبيعة الحال، كان النضال من أجل الصيد وجمع الثمار ليس لتنظيم درجة الحموضة، ولكن لتفادي سهام الفاتحين الغزاة أو لتجنب ويلات الغرغرينا. وربما لذلك السبب لم يكن للتنظيم الحمضي القاعدي دور رئيسي في صحة الإنسان البدائي ومتوسط عمره، حيث كان من النادر أن يعيش أحدهم بعد بلوغه الخامسة والثلاثين. ومع ذلك، فإن عادات أسلافنا الغذائية هي التي مهدت لظهور المرحلة البيو كيميائية كي يستطيع الإنسان الحديث التكيف مع النظام الغذائي.

منذ حوالي عشرة آلاف سنة، تحول النظام الغذائي البشري من قلوي ذي درجة حموضة متوازنة إلى حمضي عند دخول الحبوب في النظام الغذائي، وخاصة الحبوب الأكثر هيمنة، أي حبوب القمح. إن النظام الغذائي الخاص بالإنسان الحديث وهو تناول المزيد من “الحبوب الصحية الكاملة” والذي يفتقر إلى الخضراوات والفاكهة يعتبر نظاما عالي الحمضية، الأمر الذي يؤدي إلى الإصابة بحالة تسمى بالحماض. وبمرور السنوات، يؤثر الحماض بالسلب في عظامك.

مثل بنك الاحتياطي الفيدرالي، فإن العظام من الجمجمة إلى العصعص تعتبر بمثابة مستودع، ليس من المال ولكن من أملاح الكالسيوم. والكالسيوم، المطابق للموجود في الصخور وأصداف الرخويات، يُبقي العظام صلبة وقوية. وتكون أملاح الكالسيوم في العظام متوازنة ديناميكيًّا مع الدماء والأنسجة وتوفّر مصدرا جاهزا من المواد القلوية لمواجهة التحدي الحمضي. ولكنه، مثله مثل المال، كميته محدودة.

وفي حين أننا نقضي السنوات الثماني عشرة الأولى من أعمارنا تقريبا في إنماء وبناء العظام، فإننا نقضي بقية حياتنا في تدميرها، وهي عملية تنظمها درجة الحموضة في الجسم. ويتفاقم الحماض الأيضي الطفيف المزمن الذي يولده نظامنا الغذائي مع تقدمنا في العمر، حيث يبدأ في مرحلة المراهقة، وحتى عقدنا الثامن. وتقوم درجة الحموضة بسحب كربونات الكالسيوم وفوسفات الكالسيوم من العظام للحفاظ على درجة الحموضة في الجسم، بحيث تبقى عند ٧.٤. كما تحفز البيئة الحمضية خلايا ارتشاف العظام داخل العظام، والمعروفة باسم الخلايا ناقضة العظم، إلى العمل بقوة و سرعة أكبر على إذابة النسيج العظمي للإفراج عن الكالسيوم الثمين.

وتحدث المشكلة عندما تقوم بصورة اعتيادية بتناول الأحماض في وجباتك، ثم تسحب الكالسيوم مرارا وتكرارا لتحييد هذه الأحماض. وعلى الرغم من احتواء العظام على الكثير من الكالسيوم المخزّن، فإن هذا المخزون قابل للنضب. وتصبح العظام في نهاية المطاف منزوعة المعادن – أي مستنفدة الكالسيوم. وعندئذ تبدأ قلة العظم (إزالة التمعدن المعتدلة) وهشاشة العظام (إزالة التمعدن الشديدة)، وترقق وتكسر العظام في الظهور (وعادة ما يترافق كل من ترقق وتكسر العظام؛ لأن كثافة العظام والكتلة العضلية توازي بعضها بعضا). وبالمناسبة، إن تناول مكملات الكالسيوم لا يعتبر أكثر فاعلية في توقف فقدان العظام أكثر مما قد يكون الرمي العشوائي لأكياس الأسمنت والطوب في فنائك الخلفي فعالا في بناء فناء جديد.

واتباع نظام غذائي مفرط في الحمضية تظهر توابعه في نهاية المطاف على هيئة كسور في العظام. وقد أثبت تحليل مثير للإعجاب حول الإصابة بكسور في عظام الفخذ في جميع أنحاء العالم وجود علاقة ملفتة للنظر: كلما ارتفعت نسبة البروتين النباتي عن الحيواني، قلت احتمالية وقوع كسور في عظام الفخذ. وكان حجم الاختلاف كبيرا: في حين أن نسبة استهلاك البروتين النباتي إلى الحيواني من ١:١ أو أقل كانت مرتبطة بما يصل إلى مائتي كسر في عظام الفخذ لكل مائة ألف نسمة، كانت نسبة استهلاك البروتين النباتي إلى الحيواني التي تتراوح بين ٢:١ و ٥: ١ ترتبط بأقل من عشرة كسور في عظام الفخذ في الحوض لكل مائة ألف نسمة -انخفاضا بنسبة تصل لأكثر من ٩٥٪ (وعند أعلى استهلاك للبروتين النباتي، كان وقوع كسر في عظام الفخذ قد اختفى تقريبا).

إن الكسور الناتجة عن هشاشة العظام لا تنشأ فقط عند التعثر بينما تهبط درجات الدرج، بل يمكن أن تكون على هيئة كسر في العمود الفقري بسبب عطسة بسيطة، أو كسر في الورك ناجم عن خطأ في تقدير موضع قدمك على حافة الرصيف، أو كسر في الساعد بسبب استخدامك النشّابة.

ولذا فإن أنماط الأكل الحديثة تؤدي إلى الإصابة بحماض مزمن، والذي بدوره يقودنا إلى هشاشة العظام، وترقق وتكسر العظام. يتوقع أن تعاني نسبة قدرها ٥٣.٢٪ من النساء في سن الخمسين من الكسور في المستقبل، بينما تكون النسبة لدى الرجال ٢٠.٧٪. قارن بين ذلك وبين خطر إصابة النساء في سن الخمسين بسرطان الثدي بنسبة قدرها ١٠٪ وخطر الإصابة بسرطان بطانة الرحم بنسبة قدرها ٢.٦٪.

حتى وقت قريب، كان يعتقد بدرجة كبيرة أن هشاشة العظام حالة تنفرد بها الإناث بعد سن اليأس ممن فقدن آثار هرمون الإستروجين في المحافظة على العظام. ومن المعلوم الآن أن الانخفاض في كثافة العظام يبدأ قبل سنوات من انقطاع الطمث. في دراسة كندية متعددة المراكز عن هشاشة العظام شارك فيها ٩٤٠٠ شخص، بدأت النساء في إظهار انخفاض كثافة العظام في الورك، والفقرات، والفخذ في سن الخامسة والعشرين، بصورة حادة؛ ما أدى إلى تسارع في فقدان العظام في سن الأربعين. أما الرجال فقد أظهروا انخفاضا أقل وضوحا ابتداء من سن الأربعين. وأظهر كل من الرجال والنساء مرحلة أخرى من تسارع فقدان العظام في سن السبعين وما بعدها. وفي عمر الثمانين، كانت نسبة ٩٧٪ من الإناث تعاني هشاشة العظام.

ولذلك فحتى الشبان لا يضمنون الحماية من فقدان العظام. في الواقع، إن خسارة قوة العظام أصبحت هي القاعدة مع مرور الوقت، وذلك إلى حد كبير يرجع إلى درجة انخفاض الحماض المزمن التي تتأتى عن طريق اتباع نظام غذائي.

ما الذي يجمع بين الأمطار الحمضية وبطاريات السيارات والقمح؟

خلافا لجميع الأطعمة الأخرى المشتقة من النباتات، فإن الحبوب تؤدي إلى توليد حمضية المنتجات، وهي المنتجات النباتية الوحيدة التي تقوم بذلك. وبسبب أن القمح، إلى حد بعيد، هو نوع الحبوب الرئيسي في النظام الغذائي لدى الأمريكيين، فإنه يسهم بدرجة كبيرة في زيادة الحمض عند متبعي الأنظمة الغذائية التي تحتوي على اللحوم.

يعتبر القمح بين مصادر حمض الكبريتيك الأكثر فاعلية، بحيث ينتج كمية من حمض الكبريتيك في كل جرام بدرجة أكبر من أي نوع من اللحوم.

(لا يفوق القمح في كمية حمض الكبريتيك المنتجة سوى الشوفان فقط). وحمض الكبريتيك مادة خطيرة. وإذا وضعتها على يدك، سوف تتسبب في حروق شديدة. وإذا دخلت عينيك فيمكن أن تصيبك بالعمى. (ألق نظرة على التحذيرات المدونة بوضوح على بطارية سيارتك). ويؤدي حامض الكبريتيك في المطر الحمضي إلى تآكل الآثار الحجرية، وقتل الأشجار والنباتات، والإخلال بالسلوك الإنجابي للحيوانات المائية. إن حامض الكبريتيك الذي ينتج عن استهلاك القمح خفيف بلا شك. ولكنه حتى بأقل كميات ممكنة وفي شكله المخفف، يعتبر حمضًا قويًّا جدًّا حيث؛ إنه يتغلب سريعا على آثار تحييد القواعد القلوية.

وتعتبر الحبوب مثل القمح مسئولة عن نسبة قدرها ٣٨٪ من العبء الحمضي للمواطن الأمريكي العادي، وهي نسبة أكثر من كافية لترجيح كفة الميزان نحو الاتجاه الحمضي. وحتى في اتباع نظام غذائي محدود باستهلاك قدره ٣٥ ٪ من السعرات الحرارية من المنتجات الحيوانية، فإن إضافة القمح تغير النظام الغذائي من قلوي صاف لحمضي صاف تماما.

ويعتبر حساب الكالسيوم المفقود عن طريق البول إحدى الطرق التي تستخدم لتعيين مقدار الكالسيوم الذي يتسبب الحمض في استخراجه من العظام. وتناولت دراسة بجامعة تورنتو تأثير زيادة استهلاك جلوتين الخبز على مقدار الكالسيوم المفقود في البول. إن زيادة استهلاك الجلوتين تفضي إلى زيادة فقدان الكالسيوم في البول بمقدار غير معقول وهو ٦٣٪، بالإضافة إلى زيادة أعراض ارتشاف العظم -أي المؤشرات في الدم التي تدل على ضعف العظام ما يؤدي إلى أمراض مثل هشاشة العظام.

ماذا يحدث إذن عندما تستهلك مقدارًا كبيرًا من منتجات اللحوم ثم تفشل في موازنة عبء الحمض بتناول الكثير من المنتجات النباتية القلوية كالسبانخ، والملفوف، والفلفل الأخضر؟ تكون النتيجة هي زيادة العبء الحمضي. وماذا يحدث إذا لم تتوازن الأحماض الناتجة عن استهلاك اللحوم مع النباتات القلوية، ثم تزداد درجة الحموضة بدرجة أكبر حين يتم استهلاك منتجات الحبوب مثل القمح؟ عندئذ يسوء الوضع فعلا. سيتحول النظام الغذائي بحدّة لأن يكون غنيا بالحمض.

والنتيجة: عبء حمضي مزمن يستنزف صحة العظام.

قمح وشعر مستعار وسيارة مكشوفة

هل قرأت عن “أوتزي”؟ لقد كان رجلا من عصر الجليد يعيش في “تيرول”، وتم العثور عليه مدفونا ومحنطا في الأنهار الجليدية في جبال الألب الإيطالية، حيث ظلت جثته محفوظة كما هي منذ وفاته قبل أكثر من ٥٠٠٠ سنة، حوالي عام ٣٣٠٠ قبل الميلاد. وبرغم اكتشاف بقايا من خبز القمح وحيد الحبة الخالي من الخميرة في جهاز “أوتزي” الهضمي، فإن معظم محتويات جهازه الهضمي كانت من اللحوم والنباتات. وقد عاش “أوتزي” ومات بعد مرور ٤٧٠٠ سنة على بداية إدراج البشر للحبوب، كالقمح وحيد الحبة الذي يتحمل البرودة، في نظامهم الغذائي، لكن القمح بقي جزءا بسيطا نسبيًّا من النظام الغذائي في ثقافة العيش في الجبال. كان “أوتزي” في المقام الأول يعتمد على الصيد وجمع الثمار في معظم أيام السنة. في الواقع، فإنه من المرجح أنه كان يقوم بالصيد بقوسه وسهامه عندما مات ميتةً عنيفة على يد رجل آخر كان كذلك يقوم بالصيد والالتقاط.

لقد أدى النظام الغذائي الغني باللحوم إلى تحميل البشر الذين كانوا يعيشون على الصيد وجمع الثمار أمثال “أوتزي” عبئًا حمضيًّا كبيرًا، وبالتالي كان استهلاك “أوتزي” الأكبر للحوم من معظم البشر المعاصرين (٣٥٪: ٥٥٪ من السعرات الحرارية من المنتجات الحيوانية) يسفر عن زيادة نسبة الكبريت والأحماض العضوية الأخرى.

وعلى الرغم من الاستهلاك المرتفع نسبيًّا للمنتجات الحيوانية، فإن وفرة النباتات التي لا تحتوي على الحبوب في النظام الغذائي لدى هؤلاء – الذين كانوا يعيشون على الصيد وجمع الثمار، والتي أسفرت عن كميات سخية من أملاح البوتاسيوم القلوية، مثل سيترات البوتاسيوم وخلات البوتاسيوم – قد استطاعت أن توازن العبء الحمضي. ويقدر معدل القلوية في الوجبات الغذائية البدائية لتكون أكبر بنحو من ٦ إلى ٩ أضعاف منه في الوجبات الغذائية الحديثة نظرا إلى المحتوى النباتي المرتفع. وأدى ذلك إلى ارتفاع درجة الحموضة في البول القلوي من ٧.٥ وحتى ٩.٠، مقارنة بالمعدل الحمضي الاعتيادي في العصر الحديث وهو من ٤.٤ وحتى ٧.٠.

ولكن حين يدخل القمح والحبوب الأخرى في الصورة، يتحول التوازن نحو الحمضي، وذلك يرافقه فقدان الكالسيوم من العظام. إن استهلاك “أوتزي” المتواضع نسبيًّا من القمح وحيد الحبة يعني على الأرجح أن نظامه الغذائي بقي قلويًّا صافيًا معظم العام. في المقابل، في عالمنا المعاصر، الذي تتوافر فيه الكثير من المؤن غير المحدودة من الأطعمة الرخيصة التي تحتوي على القمح في كل زاوية وعلى كل مائدة، يميل الحمل الحمضي بشدة نحو أن يكون حمضيًّا صافيا.

إذن، فإن القمح والحبوب الأخرى هي المسئولة عن ترجيح ميزان درجة الحموضة نحو الحمضية. ماذا يحدث إذا لم تقم بشيء سوى إزالة القمح من النظام الغذائي الحديث، والاستعاضة عن السعرات الحرارية المفقودة بالأغذية النباتية الأخرى كالخضراوات، والفواكه، والبقوليات، والمكسرات؟ حينها تتغير النسب مرة أخرى نحو الاتجاه القلوي، محاكية درجة الحموضة التي كان يتمتع بها الصيادون جامعو الثمار القدماء.

يمكننا إذن أن نطلق على القمح الحبوب سيئة السمعة. فالقمح يقوم بتحويل نظام غذائي كان يحمل أملا في أن يكون قلويًّا صافيا إلى حمضي صاف، ما يتسبب في الاستنزاف المتواصل للكالسيوم من العظام.

وقد كان الحل التقليدي للحمية الحمضية من “الحبوب الصحية الكاملة صحية” وتأثيرها على زيادة هشاشة العظام هو وصف العديد من الأدوية مثل فوساماكس وبونيفا، وهي عقاقير يُزعَم أنها تحد من مخاطر الكسور، خصوصا في منطقة الورك. وقد ارتفعت إيرادات سوق أدوية هشاشة العظام إلى عشرة بلايين دولار في السنة، وهو مبلغ طائل من المال حتى بالمعايير المتراخية للصناعات الدوائية.

ومجددا يدخل القمح في الصورة، مضيفا آثاره الغريبة المخلة بالصحة، حيث تقبلته وزارة الزراعة الأمريكية، موفرة فرصًا جديدة لشركات الأدوية الكبرى لتحقيق إيرادات وفيرة.

وركان تعانيان بسبب القمح

هل سبق لك أن لاحظت كيف أن الأشخاص الذين يعانون من كرش القمح في معظم الأحوال يعانون كذلك التهاب المفاصل في مفصل أو أكثر؟ إذا لم تلحظ ذلك من قبل، فراقب كم مرة يمر بك شخصا لديه كرش مميز من القمح، وستجده كذلك يعرج أو يجفل بسبب آلام الورك، أو الركبة، أو الظهر.

وتعتبر هشاشة العظام هي الشكل الأكثر شيوعا لالتهاب المفاصل في العالم، أكثر شيوعا من التهاب المفاصل الروماتويدي، أو النقرس، أو أي نوع آخر. وقد أسفرت الخسارة المؤلمة للغضاريف “احتكاك العظام بالعظام” عن قيام ٧٧٣ ألف أمريكي بعمليات استبدال لمفاصل الركبة والورك، وذلك في عام ٢٠١٠ فقط.

وهذه ليست مشكلة بسيطة؛ فهناك أكثر من ست وأربعين مليون شخص، أو واحد من كل سبعة أمريكيين، تم تشخيصهم بهشاشة العظام من قِبَل أطبائهم. وهناك عدد أكبر مصابون بالعرج دون تشخيص رسمي.

كان الفكر التقليدي منذ سنوات أن التهاب المفاصل الشائع في الوركين والركبتين كان مجرد نتيجة لكثرة الاستعمال اليومي، كأن تقطع الكثير من الأميال بسيارتك. وامرأة وزنها ٤٩ كجم: من المرجح أن ركبتيها ووركيها سيستمران في العمل مدى الحياة. وامرأة وزنها ٩٩ كجم: ستصاب ركبتيها ووركيها بالإنهاك ويبليان مع الوقت. فالوزن الزائد في أي جزء من الجسم – في المؤخرة، أو البطن، أو الصدر، أو الساقين، أو الذراعين – يسبب إجهادا للمفاصل.

وقد ثبت أن الأمر أكثر تعقيدا من ذلك. ذاته الالتهاب الذي ينتج بسبب الدهون الحشوية في كرش القمح ويؤدي إلى الإصابة بالسكري، وأمراض القلب، والسرطان، يمكنه كذلك أن يؤدي إلى التهاب المفاصل. وقد ثبت أن الهرمونات المحفزة على الالتهابات، مثل عامل نخر الورم ألفا، والإنترلوكين، واللبتين، تعمل على إصابة أنسجة المفاصل بالالتهاب والتآكل. وقد أثبت هرمون الليبتين، على وجه الخصوص، أن له آثارا مباشرة مدمرة للمفاصل: فكلما ازداد معدل زيادة الوزن (ارتفع مؤشر كتلة الجسم)، ارتفعت نسبة هرمون الليبتين في السائل المفصلي، وساءت كذلك إصابة الغضروف وتلف المفاصل. إن مستوى هرمون الليبتين في المفاصل يعكس بدقة مستواه في الدم.

وبالتالي فإن خطر الإصابة بالالتهاب يزداد لدى الأشخاص الذين يعانون الدهون الحشوية في كرش القمح بأنواعه المختلفة، ويتبين ذلك في أن الأشخاص الذين يكون محيط خصورهم أكبر يكون احتمال خضوعهم لعملية استبدال مفصل الركبة أو الورك أكبر بثلاث مرات؛ وهذا ما يفسر كذلك السبب وراء أن المفاصل التي لا تتحمل الوزن الزائد للسمنة، مثل تلك الموجودة في اليدين والأصابع، تصاب كذلك بالتهاب المفاصل.

إن فقدان الوزن، وبالتالي فقدان الدهون الحشوية، يحسن من حالة التهاب المفاصل بدرجة أكبر مما يمكن توقعه من مجرد انخفاض في الوزن. ففي إحدى الدراسات أظهر المشاركون الذين عانوا السمنة المفرطة وهشاشة العظام تحسنا بنسبة ١٠٪ في أعراض المرض وفي وظيفة المفاصل مع انخفاض الدهون في الجسم بنسبة ١٪.

إن تفشي التهاب المفاصل، والصورة المعتادة لأشخاص يدلكون يديهم أو ركبهم بألم، يقودك إلى الاعتقاد أن التهاب المفاصل هو مرض يصاحب الشيخوخة بصورة حتمية، مثله مثل الموت، والضرائب، والإصابة بالبواسير – هذا غير صحيح. فالمفاصل لديها بالفعل القدرة على القيام بوظيفتها لنحو ثمانية عقود من حياتنا… حتى ندمرها نحن بإيذائنا المتكرر لها، مثل فرط الحموضة والجزيئات الالتهابية كاللبتين التي تنشأ من خلايا الدهون الحشوية.

وهناك ظاهرة أخرى يمكنها أن تضيف إلى الأذى الذي يسببه القمح وتتحمله المفاصل على مر السنوات: وهي التسكّر. عليك أن تتذكر أن منتجات القمح تزيد نسبة السكر في الدم، أي نسبة الجلوكوز في الدم، أكثر من بقية الأغذية تقريبا. وكلما استهلكت منتجات أكثر من القمح، ارتفع معدل السكر في الدم بصورة متكررة، ما يؤدي إلى المزيد من التسكّر. ويعتبر التسكّر تعديلا لا رجعة فيه في البروتينات في مجرى الدم وأنسجة الجسم، بما في ذلك المفاصل مثل الركبتين والوركين واليدين.

الغضاريف

إن الغضاريف في المفاصل عرضة بصورة لا لبس فيها للتسكّر، بما في ذلك خلايا الغضروف المعمرة إلى أبعد الحدود وغير القادرة على التكاثر.

وبمجرد تلفها، لا يمكن استعادتها. وخلايا الغضروف نفسها التي تكون في الركبة في سن الخامسة والعشرين هي نفسها التي (نأمل) أن تكون موجودة عندما نصبح في الثمانين. لذلك تتعرض هذه الخلايا إلى جميع التقلبات الحيوية في حياتك، بما في ذلك مغامرات السكر في الدم. إذا أصبحت بروتينات الغضروف، مثل الكولاجين والأجريكان، متسكّرة، فإنها تصير متصلبة بشكل غير طبيعي. ويعتبر الضرر الناتج عن عملية التسكّر عملية تراكمية، حيث يجعل الغضروف هشًّا،

وقاسيًا، ثم يتهالك في نهاية المطاف. ويعتبر كل من التهاب المفاصل، والألم، والتدمير، هي السمات المميزة لالتهاب المفاصل.

لذلك، فإن ارتفاع السكر في الدم الذي يشجع على نمو كرش القمح، إلى جانب النشاط الالتهابي في خلايا الدهون الحشوية، وتسكّر الغضروف، تؤدي جميعا إلى تدمير أنسجة العظام والغضاريف في المفاصل. وبمرور السنوات، يؤدي ذلك إلى الألم والتورم المألوف في الوركين والركبتين واليدين.

قد يبدو رغيف من الخبز الفرنسي بريئا أمامنا، ولكن أثره على المفاصل أصعب بكثير مما تعتقد.

المعدة ومفصل الورك

مثلما يؤثر فقدان الوزن على وظائف المخ، يمكن لمرضى الداء الزلاقي تعليمنا بعض الدروس حول آثار القمح على العظام والمفاصل.

تعتبر هشاشة العظام وترققها أمراضا شائعة لدى مرضى الداء الزلاقي، سواء صاحب ذلك أعراض معوية أم لا، حيث تصيب ما يصل إلى ٧٠٪ من الأشخاص الحاملين لأجسام الداء الزلاقي المضادة. وبسبب شيوع الإصابة بهشاشة العظام بين مرضى الداء الزلاقي، ينصح بعض الباحثين أي شخص مريض بهشاشة العظام بإجراء فحص لمعرفة إذا ما كان مصابا بالداء الزلاقي أم لا. وقد كشفت دراسة أجرتها عيادة العظام بجامعة واشنطن أن نسبة قدرها ٣.٤٪ من المشاركين المصابين بهشاشة العظام يعانون الداء الزلاقي ولم يتم تشخيصهم بعد، وذلك بالمقارنة ب ٠.٢٪ غير مصابين بترقق العظام. وقد أدى تخلص المشاركين مرضى الداء الزلاقي وهشاشة العظام من الجلوتين إلى حدوث تحسن فوري في نسب كثافة العظام من دون استخدام أدوية خاصة بهشاشة العظام.

وتشمل الأسباب التي أدت إلى انخفاض كثافة العظام امتصاص المواد الغذائية وخاصة فيتامين د والكالسيوم، وزيادة الالتهاب الذي يؤدي إلى إفراز السيتوكينات التي تزيل التمعدن من العظام، مثل الإنترلوكينات. لذلك فإن التخلص من القمح في النظام الغذائي يؤدي إلى تقليل الالتهاب، بالإضافة إلى تحسين امتصاص المغذيات.

وما يضيف إلى شدة آثار ضعف العظام هي القصص المرعبة عن المرضى كالمرأة التي عانت عشرة كسور في العمود الفقري والأطراف خلال واحد وعشرين عاما ابتداء من سن السابعة والخمسين، كلها بصورة عفوية. وبعدما شلت في نهاية المطاف، تم تشخيصها أخيرا بمرض الداء الزلاقي. وبالمقارنة بالأشخاص الذين لا يعانونه، فإن مرضى الداء الزلاقي مهددون بخطر الإصابة بالكسور أكثر بثلاث مرات.

تنطبق القضية الشائكة لاحتواء بعض الأشخاص على أجسام الجليادين المضادة دون وجود أعراض معوية على هشاشة العظام كذلك. ففي إحدى الدراسات، ثبت أن ١٢٪ من مرضى هشاشة العظام لديهم أجسام الجليادين المضادة ولكن دون ظهور أية أعراض أو علامات على إصابتهم بالداء الزلاقي، أي عدم تحمل القمح، أو داء زلاقي “صامت”.

يمكن أن تظهر آثار القمح من خلال حالات التهاب في العظام بعيدا عن هشاشة العظام أو الكسور. ويمكن لمرضى التهاب المفاصل الروماتويدي، وهو التهاب المفاصل المؤلم والمعوق الذي يمكن أن يؤدي إلى تشوه مفاصل اليدين، والركبتين، والوركين، والمرفقين، والكتفين لدى المريض، أن يعانوا حساسية القمح. وقد أظهرت دراسة عانى المشاركون فيها التهاب المفاصل الروماتويدي، ولم يكن أحد منهم مصابا بالداء الزلاقي، أنهم حين اتبعوا نظامًا غذائيًّا نباتيًّا خاليًا من الجلوتين ظهرت على ٤٠٪ من المشاركين علامات تحسن التهاب المفاصل، فضلا عن انخفاض مستوى أجسام الجليادين المضادة. ربما يكون تماديا مني إن أشرت إلى أن جلوتين القمح كان السبب الأولي وراء التهاب المفاصل، ولكنه يكون، ربما بطريقة مبالغ فيها، آثار التهابات في المفاصل التي صارت أكثر حساسية بسبب أمراض أخرى كالتهاب المفاصل الروماتويدي.

من واقع خبرتي، فإن التهاب المفاصل غير المصحوب بأجسام الداء الزلاقي المضادة غالبا ما يتحسن بالتخلص من القمح. وكانت بعض التحولات الصحية الأكثر دراماتيكية على الإطلاق التي شهدتها هي الشفاء من آلام المفاصل المعوِّقة؛ لأن أجسام الداء الزلاقي المضادة التقليدية لا تظهر عند معظم هؤلاء الناس، وبالتالي كان أمرا يصعب تحديده والتحقق منه، فيما عدا التجارب الذاتية التي تحسن فيها بعض المرضى. ولكنها قد تشير إلى الظواهر التي تحمل فرصا واعدة لشفاء الجميع من التهاب المفاصل.

هل يمثل الخطر المتزايد بإصابة مرضى الداء الزلاقي بترقق العظام والتهاب المفاصل خطرا مماثلا على الأشخاص المستهلكين للقمح ممن لا يعانون الداء الزلاقي أو يحملون أجسام الجلوتين المضادة؟ أظن أنه نعم، القمح لديه آثار مدمرة مباشرة وغير مباشرة على مفاصل أي مستهلك للقمح، ولكن أثره يكون أكثر قوة فقط لدى مرضى الداء الزلاقي وحاملي أجسام الجلوتين المضادة.

ماذا لو، بدلا من إجراء استبدال لمفصل الورك أو الركبة في سن الثانية والستين، قمت باختيار استبدال القمح تماما بدلا من ذلك؟

إن الآثار الصحية الأكثر وضوحا لاضطراب التوازن الحمضي القاعدي لم يتم إدراكها سوى في الآونة الأخيرة فقط. فأي شخص حضر دروسا في الكيمياء الأساسية يدرك أن درجة الحموضة تعتبر عاملا قويًّا في تحديد كيفية سير التفاعلات الكيميائية. فأي تحول طفيف في درجة الحموضة يمكن أن يكون له تأثير عميق على توازن رد الفعل – ويصدق الشيء نفسه على جسم الإنسان.

“الحبوب الكاملة الصحية” مثل القمح هي السبب في ارتفاع معدل حمضية النظام الغذائي الحديث. وإلى جانب تحسن صحة العظام، تشير التجارب الناشئة إلى أن اتباع النظام الغذائي المحابي للأطعمة القلوية يؤدي إلى تقليل حالات تلف العضلات المرتبط بالعمر، بالإضافة إلى حصوات الكلى، وارتفاع ضغط الدم، والحساسية للملح، والعقم، وأمراض الكلى.

تخلص من القمح وستجد أن التهاب المفاصل قد خف، كما سينخفض مستوى السكر في الدم والذي يؤدي إلى تسكّر الغضروف، وسيحول توازن درجة الحموضة نحو القلوية. أنا متأكد من أن ذلك سيتغلب على تناولك عقار فيوكس